العهد
[frame="10 98"]
[align=justify]
منذ سنوات عمره الأولى، كان مسكوناً بالحلم. فالزوجة ستكون من هناك وهذا ما جعله يرفض بإصرار وعناد، حين طلبوا منه بعد مرور الزمن أن يبحث عن زوجه له.. قال: "فاطمة بنت مخيم الدهيشة ستكون زوجتي.. سواها لا أريد..".. كانوا يعرفون أن فاطمة استشهدت في الشهور الأولى من عمر الانتفاضة.. لكنه أبى أن يصدق.. كذب كل الأخبار والأنباء، واتهم من جاء بالخبر اليقين، انه مختلق.. جاؤوه بصحيفة نشرت اسمها مع أسماء خمسة شهداء آخرين.. فهزّ رأسه غير مصدق.. قال بعناد "فاطمة تنتظر، لا زوجة غير فاطمة.." بكت أمه واستبكت..أعلنت أمام الأقارب والجيران في المخيم أنها تريد أن تفرح به قبل موتها.. وطلبت أن يقنعوه بالأمر.. ولكن هيهات.. فالولد الذي اشتدّ عوده وكبر، يحمل رأساً لا يعرف التراجع..كان يحكي للأطفال عن شجرة تنتظر شامخة في الوطن.. كل يوم، وقبل أن يبدأ في إعطاء الدرس الأول، كان يخصص خمس دقائق للحديث عن الوطن.. عرف الطلاب ذلك وأحبوه، حتى أصبح حديث الوطن فاتحة نهارهم التي لا يعرفون لذة للعيش بمعزل عنها.. كانوا يسمعون ويسمعون.. وارتبط اسم المعلم أمجد في أذهانهم بهذه الدقائق الخمس.. وكان لشدة شفافيته في الحديث عن الوطن، يرسم عالماً مليئاً بالحلم والنبض والحياة. وكانت الصور تطل رائعة خصبة..
كم من السنوات مرت.. كيف انزرعت فاطمة إلى هذا الحد في الوجدان.. كيف استطاعت أن تكون في القلب والكريات والدماغ.. ثم لماذا يريدون الآن أن تغيب عن حياته؟؟.. كان يرسم الأسئلة في ذهنه وهو يسير على رصيف من أرصفة الشارع الرئيسي في مخيم اليرموك.. كان الشارع مليئاً بالوجوه والأصوات والألوان. التقطت أذناه جملاً متداخلة "ها هي الانتفاضة مستمرة" "سنبقى معكم يا أهلنا في الوطن المحتل".. "ما في خوف.. ما في خوف.. الحجر صار كلاشنكوف". وفاطمة هناك.. مخيم الدهيشة يستوطن في الذاكرة ويفرد شعر البنت على كفيه.. أراد أن يطلق صرخة تعبر عن حبه لفاطمة.. فتح فمه وهتف للوطن.. ضاع صوته وغاب في زحمة الأصوات وارتفاعها.. تابع السير بشرود.. وقف الطلاب ثم جلسوا.. حرك يده طالباً منهم الهدوء.. كتب على اللوح بخط عريض "الانتفاضة مستمرة وستبقى" نظر إلى الوجوه.. انقطعت الهمهمات وساد السكون.. فجأة حضر وجهها من البعيد.. فاطمة التي لا يعرفها وقفت ضاحكة مثل شجرة سنديان أمام عينيه.. نسي الطلاب والصف والمقاعد.. وأخذ يتحدث بانفعال.. قال: "أعرف أنك في غاية الحضور.." لمعت عيناها ببريق غريب وابتعدت، لتظهر وجوه الطلاب من جديد.. قال: "يا أحبائي كان هناك فتى أحب وعشق فتاة اسمها فاطمة.. فاطمة هذه بنت حلوة من مخيم الدهيشة.. زرعوها في قلبه منذ سنوات عمره الأولى.. فكانت شجرة رائعة، وحلماً دافئاً.. ولكن فاطمة هذه استشهدت.. كانت الانتفاضة في بدايتها.. أقنعوه أن يبحث عن واحدة أخرى.. أن يصدّق أنها ماتت. وكان يرفض.. عدة مرات صاح بهم فاطمة لا يمكن أن تموت.. فاطمة التي زرعت الأرض بالحنطة الطيبة والشمس الدافئة لا يمكن أن تموت.. ظنوا أن العاشق قد جن، ولكنهم كانوا مخطئين.. لم يعرفوا أن واحدة من مخيم الدهيشة اسمها فاطمة لا يمكن أن ترحل هكذا دون أن تزرع فاطمة في كل شبر.. كان الفتى العاشق يدرك تماماً أن فاطمة استشهدت ولكنها لم تمت.. والفرق كبير.. يا أبنائي بالله عليكم من منكم يعشق فاطمة.. من يعشقها فليرفع يده.. وارتفعت كل الأيدي.. واستدار المعلم ليداري دمعة ساخنة.. وبثقة وضع خطاً عريضاً تحت الجملة المكتوبة على اللوح..
[/align]
[/frame]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|