التسجيل قائمة الأعضاء



 
القدس لنا - سننتصر
عدد مرات النقر : 137,866
عدد  مرات الظهور : 162,386,053

اهداءات نور الأدب

العودة   منتديات نور الأدب > مـرافئ الأدب > هيئة اللغة العربية > أقسام الهيئة > اللغة العربية و قواعد الكتابة
اللغة العربية و قواعد الكتابة لغةٌ إذا وقعت على أكبادنا كانت لنا برداً .. على الأكبادِ ... وتظلُّ رابطة تؤلِّفُ بيننا .. فهي الرَّجاءُ لناطقٍ بالضَّادِ

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 13 / 10 / 2009, 25 : 07 PM   رقم المشاركة : [1]
د.حسين جمعة
كاتب وأديب ، رئيس اتحاد الكتاب العرب

 الصورة الرمزية د.حسين جمعة
 





د.حسين جمعة is a jewel in the roughد.حسين جمعة is a jewel in the roughد.حسين جمعة is a jewel in the roughد.حسين جمعة is a jewel in the rough

Post فـي جمالية الكلمة ( دراسة جمالية بلاغية نقدية ) - د.حسين جمعة

[align=justify]
فـي جمالية الكلمة ( دراسة جمالية بلاغية نقدية )- د.حسين جمعة - اتحاد الكتاب العرب

مقدمة

إن دراسة جمالية الكلمة بهدف الوصول إلى حقيقتها ومعرفة أطوارها الجمالية والدلالية على مر العصور؛ إنما يعني أن ندرس نشأة الإنسان ذاته؛ فهو كلمة الله الكبرى في الأرض...، وهو صورتها الفكرية والبلاغية.‏
هذا يعني أن الكلمة مرتبطة بالإنسان والكون والفكر والفن... لتدل على أنسنة الإنسان وتجلي الروح الخالدة في الكون، وتحقق الوجود الحي بالفعل الروحي الثقافي والجمالي... فالكلمة صورة العالم الأكبر، وإن عبرت عن ذات الإنسان في مشاعره وأفكاره وما يجري حوله... وما يتلقى من معارف وآراء...‏
ويصبح للكلمة وظيفة هامة في كل زاوية من زوايا الذات والوجود... ويغدو لها مغزى خاص في الفن يرتبط بالإمتاع والفائدة... وحين تنحصر دائرتها في فن البلاغة فإنما تتجه بشكل مباشر إلى الجمال... فالبلاغة في عناصرها كلها إنما تبنى على الجمال وتخلق بدائعه، وتتصيد مقاصده، وتحقق في الذات والمجتمع وظائفه...‏
فليس هناك أحد في الوجود ينفر من الجمال، أو يمج طرائقه وقسماته... بل هناك سعيٌ حثيث منذ الأزل إليه؛ وشغف في النفس إلى آفاقه... وهو يتشكل داخل الإنسان باعتبار المقولة الذائعة الصيت: (كن جميلاً تر الوجود جميلاً). وهو يتشكل في الوسط الموضوعي أيضاً؛ لترتقي ذائقة الجمال من الشكل الحسي إلى العقلي فالروحي؛ فتسمو النفس وتصفو...‏
وبهذا التصور نرى أن البلاغة حاجة جمالية للإنسان لا غنى له عنها؛ وتتحقق بالكلمة المعبرة المثيرة. لهذا كان بحثنا... الذي سميناه (في جمالية الكلمة البلاغية)... وهي بلاغية لأنها مستندة إلى أبحاث في البلاغة العربية وتهدف إلى إبراز الكلام البديع وتحصيل الإمتاع والفائدة... وقد اختزنت الذاكرة البلاغية العربية ذلك كله بصور فريدة؛ وقواعد توجه العقل والفهم؛ وتؤجج بؤرة الشعور في أمثلة استقيت من ديوان العرب ونثرهم.‏
وقدَّمت الدراسات اللغوية والأسلوبية والبلاغية القرآنية للدرس البلاغي ما لم تقدمه أي دراسات أخرى. فقد تلقى البلاغيون الكلمة القرآنية بكثير من الانجذاب الروحي والعقلي لأنهم أدركوا ما تختزنه من عجيب التأليف، وبديع التصوير، وعمق التحليل في المستويات كلها؛ كما نراه على سبيل المثال في قول الزمخشري في الكشاف (3/236) عن قوله تعالى: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يَمُدُّه من بعده سبعة أبحر ما نَفِدَت كلمات ربي( (لقمان 31/27): "فإن قلتَ: لِمَ قيل: من شجرة على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت: أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة؛ حتى لا تبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا قد بُرِيت أقلاماً".‏
هذا هو سر بقاء الكلمة حية على عظمة ما لحقها من أهوال؛ لتخلُّف أبنائها في فترات متعاقبة، وهذا ما يجعلها هدفاً للدراسات الجمالية والبلاغية على الدوام دون النظر إلى تأخر أهلها؛ أو تراجعهم تراجعاً مؤقتاً...‏
ولعل المثال السابق وما يسوقه البحث بين أيدينا يثبت أن البلاغيين العرب حرصوا على الجمال وفتشوا عنه في الجملة اللغوية والنحوية؛ وجعلوا الكلمة أساسه وأصله؛ وهفت نفوسهم إليه عند المتكلم والمخاطب... وأدركوا أن وراءه يكمن معنى وهدف.. لهذا بحثوا في الأثر النحوي، فانتهوا إلى علم المعاني... فسبقوا بذلك الغرب... فالأثر النحوي نتاج بلاغي جرجاني صِرْف سبق به رومان جاكبسون ورولان بارت وجاك دريدا... فعبد القاهر الجرجاني أول من أشار إلى المعاني الأُول والمعاني الثواني المنبثقة من معاني النحو... وهذا عينه ما تقوم عليه الدراسات البنيوية الغربية هذه الأيام... فهو لم يكتف بالحديث عن ذلك ليخترع فقط نظرية (النظم) وإنما استطاع أن يربط بدقة بين الصورة والدلالة في الجملة فاخترع له مصطلح (الهيئة) وتحدث في ذلك عن علم البيان في كتابه (أسرار البلاغة).‏
لهذا كله فرض علينا المنهج إجراء أشكال تقاطعية بين ما قدمه البلاغيون واللغويون العرب وبين ما نجده لدى علماء الغرب؛ علماً أن منهج المقارنة لم يكن هدفاً لنا، ولا هو سبيل هذه الدراسة... ولكن إذا اقتضت الحاجة إليه في بعض الجوانب البلاغية لم نكن لنهمله. وقد أبرزت بعض الوقفات عنده أن البلاغيين العرب وصلوا إلى نظرات بلاغية وجمالية ولغوية لا تختلف كثيراً عما نراه في الدراسات الحديثة... بل كان بعض منها أساساً لنظريات معاصرة غير قليلة وفي اتجاهات عدة.‏
والمنهج نفسه فرض علينا عدم تخريج الأشعار من مظانها لأنها تحتاج إلى صفحات وصفحات، ويكفي أن نقول: إنها مستمدة من كتب البلاغة التي عدنا إليها؛ علماً أننا راجعناها في دواوين الشعراء المذكورة أسماؤهم... وكذلك أثبتنا اسم السورة ورقمها ورقم الآية بجانب الآية المختارة؛ لأن الحواشي تضيق عنها هي الأخرى لكثرتها.‏
وقد يلوح في ذهن سائل ما سؤال: ما الغاية من العزوف عن منهج تخريج الشاهد الشعري؟‏
ونقول- عزيزي القارئ-: إن المقام يضيق دون ذلك؛ فضلاً عن أنه ليس مقصوداً لذاته... فالهدف دراسة الأسلوب البلاغي... ولما استُمد من كتب البلاغة غالباً دون أن يخرّجه أصحابها؛ للسبب ذاته، فقد تأكدنا من نسبته ومظانه، وأخذناه من الشعر القديم والحديث على السواء... لنتصيَّد منه وجهاً بلاغياً وجمالياً.‏
أما حجم المادة المدروسة في إطار درس بلاغي جمالي جديد قائم على التنظير والموازنة والتحليل والتوضيح والشرح... فإنه فرض علينا مبدأ الاختيار والاصطفاء والتفضيل.‏
وحينما كان الهدف من دراستنا إظهار جمالية الكلمة مفردة ومركبة في جملتها لزمنا الانحياز إلى الجوانب البلاغية المتعلقة بالجملة والكلمة... ومن ثم رأينا عظمة ما تقوم عليه الأبحاث البلاغية التي تناولت الجملة والكلمة فاصطفينا منها ما يُبرز روح جمال الكلمة والجملة البلاغية فضلاً عن جمال نمطيتها في ذاتها وسياقها؛ ثم أثبتنا ما تثيره في أنفسنا من اتصال بأحدث الدراسات الجمالية والأسلوبية.‏
لهذا كله فنحن تحفزنا الرغبة الجادة على صناعة دراسات بلاغية جمالية متوالية؛ مما يفرض علينا أن نضع لها الأساس الذي تبنى عليه باعتبار أصولها ونشأتها وتطور أساليبها... فكانت البداية بالكلمة (فصاحة وبلاغة) وبالجملة بنية وأركاناً وأحوالاً... وبما تتصفان به من مفاهيم وجماليات.‏
وقد رأينا من القدماء من يردُّ الجمال ( البلاغة) ( الفصاحة) كله إلى الكلمة مفردة؛ ومنهم من يرده إلى نظام التأليف وحده؛ ولم ير القيمة الجمالية والدلالية إلا فيه؛ لا بمعزل عنه؛ كالإمام عبد القاهر الجرجاني الذي أبدع نظريته الموسومة بنظرية (النظم).‏
وهناك من توسع بمفهوم الكلمة فجعلها للفظ المفرد وللمؤلف، وللبيت الشعري وللقصيدة كما نراه عند ابن سلام والجاحظ وابن قتيبة وابن طباطبا وقدامة بن جعفر وغيرهم... وجاؤوا بنظرات جمالية ونقدية تتوافق وأحدث النظريات النقدية الحديثة في ميادين شتى.‏
وأياً كان الرأي فقد اخترنا عنوان البحث في ضوء الدراسة الجمالية للكلمة- على التغليب في الدلالة العامة- وقدَّمْنا له بكلمة (في) لأنه لا يتصف بالشمولية من جهة؛ ولأنه قائم على الاختيار في أساليب الكلمة وأحوالها من جهة أخرى.‏
لهذا عقدناه على مفهومها وموقعها من اللغة عامة والعربية خاصة، مما حدا بنا إلى توضيح مفهوم اللغة؛ وفصاحة الكلمة العربية وبلاغتها كما وردت عند القدماء... ثم عززنا ذلك بتوضيح مفهوم الجملة، في بنيتها وأركانها من جهة الإسناد ثم من جهة بعض أحواله.‏
ولما كان علم المعاني جزءاً أصيلاً في مفهوم الجملة البلاغية فإن المنهج العلمي يفرض علينا أن نتبع هذه الدراسة بدراسة أخرى في مشروعنا الشمولي تتناول (جمالية الخبر والإنشاء)؛ ومن بعده (أساليب بلاغية وجمالية)...‏
وفي ضوء ذلك لزمنا أن نقسم دراستنا هذه (في جمالية الكلمة البلاغية) إلى ثلاثة فصول؛ عنوان الأول (مفهوم الكلمة وجمالياتها في الفصاحة والبلاغة) وفيه قسمان؛ الأول توقف عند حدود ومفاهيم، والثاني تناول فصاحة اللفظ وجماليته... والفصل الثاني بعنوان (مفهوم الجملة وجمالياتها) وفيه قسمان؛ الأول عالج مفهوم الجملة الاسمية والفعلية، وأركانها، ومواضع الإسناد فيها؛ ولم يهمل ذكر الفضلة والأداة... بينما وقف الثاني عند بعض أحوال الإسناد في الجملة مما يبرز فيه الجمال والروعة وهو (أسلوب الذكر والحذف) المتعلق بالمسند إليه والمسند والفضلة، وقد عني به القدماء كعبد القاهر الجرجاني.‏
أما الفصل الثالث فقد بحث في (جمالية التعريف والتنكير) في قسمين انعقد الأول على (التعريف وجمالياته) في المفهوم والأقسام؛ حين عرض لأنواع المعارف السبعة. وهي الضمير والعلم واسم الإشارة والاسم الموصول والمعرف بأل، والمعرف بالإضافة، والمعرف بالنداء...‏
ثم خص تعريف المسند بالحديث، وبيّن فيه رتبته مع المسند إليه من جهة التقديم والتأخير، وما يكتنـز من جماليات في هذا الشأن كان عبد القاهر الجرجاني قد أسس لها.‏
أما القسم الثاني فإنه لم يغادر (التنكير وجمالياته البلاغية) لأنه يقف في مقابل قسم (التعريف)... ودرسنا فيه جملة من المفاهيم، وتوقف عند تقديم الاسم النكرة وجمالياته، ثم طفق يوضح المقاصد البلاغية من التنكير وجمالياتها في المسند إليه والمسند والفضلة؛ ليستقر أخيراً عند توضيح مفهوم التنكير والتنوين؛ والصلة بينهما.‏
وأخيراً كانت خاتمة البحث التي اختزلت العديد من النتائج مرتشفة إياها ارتشافاً، لأن المرء يعتقد بضيق موضعها عن ذكرها كلها...‏
ومن ثم كان فهرس المصادر والمراجع ثم فهرس المحتوى...‏
وبعدُ، فإنه لا بد من كلمة في مقدمتنا هذه؛ تفيد بأنه لما أيقنا بجمال الكلمة والجملة في لغتنا العربية البديعة؛ وأساليبها الثرة، وما قدمته من أفكار كبرى للقدماء في الاتجاهات كلها كانت منطلقاً للدراسات الكثيرة... فإنه كان علينا أن ننبه مرة أخرى على أن الكلمة القرآنية ظلت نسيج وحدها جمالاً وأداء ووظيفة وغاية... فاستحقت بذاتها الإعجاز الفني والأدبي واللغوي... بل كانت مصدراً غنياً للدراسات البلاغية قديماً وحديثاً...‏
ولما كان ذلك كذلك لزمنا ألا نعتسف الطريق على وعورته... فسعينا إلى التمسك بما قاله البلاغيون في كل بحث عالجناه، وعرضناه على المذهب الفني الجمالي للدراسات الحديثة في بعض الأحيان، ونظرنا إليه بروح التذوق والمنطق دون أن نخرجه عن المنهج التحليلي... فانتهينا إلى بيان غرض كل أسلوب وأظهرنا جماله البلاغي والفني واللغوي، واتكأنا في ذلك على جملة غير قليلة من الآيات القرآنية وأقوال المفسرين فيها؛ وعلى عدد من الشواهد الشعرية...‏
إن الهدف الذي نتطلع إليه هو تقديم صورة جمالية جديدة للكلمة البلاغية، وتحدونا الرغبة إلى بناء منهج جمالي في دراسة أساليب البلاغة يُفيد من فضاءات القديم بكل أطيافه اللغوية والأدبية والبلاغية؛ والدراسات النقدية والقرآنية... وفي الوقت نفسه ينطلق إلى كل ما هو حديث فيفتح عينيه على الدرس البلاغي واللغوي والجمالي الجديد... شرقاً وغرباً... فالدرس البلاغي الجديد الذي نرمي إليه لا ينغلق على الماضي ويرتمي في أحضانه، ويتكبل بنظراته... ولا ينصهر بالجديد انصهاراً يشعرنا بعقدة النقص أو الذنب، والتنكر لما نملك؛ لأنه سيغدو تابعاً أو أسيراً لنظريات لا تتسق في بعض اتجاهاته عما بين أيدينا من أبحاث أدبية وبلاغية...‏
لهذا كله كنا نتوقف عند آراء القدماء، والمحدثين؛ ونواجه ذلك كله متأملين بدقة في الرؤى والأفكار؛ لنبرز جمالية كل أسلوب وأثره في إطار من الموازنة تارة؛ وفي إطار من بيان خصائصه وأشكاله الجمالية تارة أخرى... وكان الإعجاز البلاغي القرآني يظهر في كل موضع عرضنا لـه على أنه يملك جمالية فريدة وبديعة تدل على النمط الإعجازي فيه.‏
هكذا حاول منهجنا المستند إلى الاستنباط والتحليل أن يربط بين الماضي والحاضر لإدراك جمالية الكلمة البلاغية... ولإثبات قدرة العربية على توليد أساليب جمالية متنوعة لا تتوقف عند حدود معينة... ومن ثم فإن البلاغة العربية ليست تحفة فنية وضعت في متحف تاريخي يتردد إليه الزوار للتمتع بجماليتها السكونية... وإنما هي مادة جمالية حية فاعلة يتفاعل معها المتلقي فيستبطن دلالتها، ويعتصر وظيفتها، ليستمد خصائصها الجمالية المتجددة؛ والمرتبطة بالكلمة القرآنية المعجزة، وبالكلمة الشعرية الراقية البديعة، والمنفتحة على أحدث الدراسات البلاغية والأسلوبية واللغوية.‏
ومن هنا فإننا ندعو أصحاب السلائق السليمة؛ وأهل الذوق المرهف؛ والعقول المؤاتية التي تمتلك سعة في المعرفة القديمة والمحدثة، وتحوز وعياً أصيلاً لمناهج القدماء والمحدثين... إلى تحقيق نقلة نوعية في الدراسات البلاغية العربية الجديدة، وأن يكونوا أحفاداً بررة للجاحظ وابن قتيبة ولعبد القاهر وابن سنان، وللزمخشري وحازم القرطاجني، والزركشي والقزويني...‏
وفي ضوء ما تقدم كله نقول: كل من ملك حضارة الأمس؛ وكانت قامات أجداده فيها شامخة، ثم دارت دورتها وانتقلت إلى غيره يمكنه أن يملكها من جديد إذا صمم على تجاوز التخلف الحضاري الذي يشل تفكيره ويتعب جسده ويصيبه بأزمات نفسية شتى... وعلى كل فرد في أمتنا أن ينطلق من موقعه الذي هو فيه ليصبح الفعل فعلاً جماعياً... ومن ثم ليتجسد هذا الفعل سلوكاً وعملاً؛ بدلاً من أن يظل مأزوماً ومهزوماً من الداخل، وينعى حظه العاثر، وحظ أمته المنكوبة به وبأمثاله...‏
وكل ما أرجوه من الله العلي القدير أن يكون بحثنا هذا في عداد الأبحاث التي تتطلع إلى مكانتها في الدراسات الجمالية والبلاغية، وأن يسد ثغرة ما في المكتبة العربية، راجياً من الله العون على إكمال ما وعدت به.‏
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى؛‏
والله ولي التوفيق.‏
دمشق مساء الجمعة 15/6/2001م‏
حسين جمعة‏



يتبع
[/align]

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
د.حسين جمعة غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 15 / 10 / 2009, 14 : 08 PM   رقم المشاركة : [2]
د.حسين جمعة
كاتب وأديب ، رئيس اتحاد الكتاب العرب

 الصورة الرمزية د.حسين جمعة
 





د.حسين جمعة is a jewel in the roughد.حسين جمعة is a jewel in the roughد.حسين جمعة is a jewel in the roughد.حسين جمعة is a jewel in the rough

رد: فـي جمالية الكلمة ( دراسة جمالية بلاغية نقدية ) - د.حسين جمعة

[align=justify]
الفصل الأول:مفهوم الكلمة وجمالياتها فـي الفصاحـة والبلاغـة - القسم الأول: حدود ومفاهيم

1-مفهوم الكلمة واللغة:‏
الكلمة من حيث هي وجود تمثل النشأة الإنسانية لقوله تعالى في خطابه لمريم: (إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح ابن مريم( (آل عمران 3/45)... ومن هنا تكون شهادة بالوجود ذاته؛ لا تكذيباً به لقوله تعالى: (كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كذباً( (الكهف 18/5).‏
فالكلمة موضوعة لإحقاق الحق والعمل من أجله لقوله تعالى: (ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون( (يونس 10/82)... ولكن بعض القوم يجعلون الكلمة في الباطل، ولن يفلحوا؛ لقوله تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها... ومثل كلمة خبيثة اجتُثَّت من فوق الأرض ما لها من قرار( (إبراهيم 14/24-26).‏
فالكلمة وجود وضرورة إنسانية؛ تعبر عن قيمتها وأهميتها بذاتها من دون تباطؤ، أو انحراف. وهي بهذا المفهوم الصورة المثلى لمقاصد القوم ومشاعرهم من أجل إثبات الحق... وبها تحفظ مجموعة القيم التي يتواضع عليها الناس؛ ومن ثم تقيد القوانين التي قد توافق النشأة الأولى والحق أو تخالفه... وتبقى الكلمة وحدها هي الفاصلة والفيصل بين الخبيث والطيب لقوله تعالى:‏
( وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته( (الأنعام 6/115).‏
وقد كانت في بدء النشأة واحدة ثم تبلبلت على الألسنة في إطار عملية الاصطفاء وتلبية التعبير عن الحاجات والمشاعر... وحين استمرت العملية الإجرائية في صميم التطور الاجتماعي والارتقاء الفكري كانت الكلمات تتابع تطورها في البيئات كلها حتى تباينت ونشأت منها اللغات العديدة... فصارت الكلمة جزءاً من اللغة، وصارت اللغة ألفاظاً يعبر بها كل قوم عن مشاعرهم وحاجاتهم ومقاصدهم. وإذا كانت اللغات قد اختلفت من جهة التلفظ بالكلمات فإنها ظلت متشابهة من جهة المعنى... إن لم نقل متحدة فيه.‏
واللغة العربية تلك اللغة المختصة بجنس العرب ينطقون بها ويعبرون عن مشاعرهم وحاجاتهم ومقاصدهم بأساليبها المتنوعة.‏
وفي صميم العملية الاجتماعية والفكرية والنفسية والطبيعية وفي إطار عملية الاصطفاء كانت اللغة العربية مستمرة بالتطور حتى انتهت إلى احتواء القدرة على الإبداع، وتمثل بها البيان في أشكاله الجمالية التي ورثناها من لغة العصر الجاهلي...‏
وكانت الكلمة الفطرية العربية في ذلك العصر تواكب متطلبات التعبير وصيغه في أشكال شتى، في الوقت الذي حافظت على ذاتية خاصة بها... وجعلت لنفسها نمطاً من التركيب القائم على الاسم مرة، والفعل مرة أخرى؛ فجمعت بين الذات والحركة... وظلت تتطور من الداخل بفعل قوانينها الفاعلة والمؤثرة كالاشتقاق والتركيب والانفتاح على اللغات الأخرى... فكان الفعل بأشكاله يتنفس في صميم الذات الصانعة ويتحرك للتعبير عنها...‏
لهذا واكبت الكلمة في العربية كل متطلبات الحياة وما نشأ فيها من ضروب النشاط الفكري والفني والاجتماعي... وأصبحت قادرة على التعبير عن أدق ما في الكون من أفكار وعقائد ومصطلحات ومشاعر... ثم استحقت أن يختص بها كتاب الله دون غيرها من اللغات الأخرى...‏
فالكلمة في العربية ذات ظلال وإيحاءات كثيرة؛ وهي- أيضاً- ذات طبيعة علمية، إذ تعبر عن الحقائق كيفما كانت وفي أي اتجاه اتجهت... فكيفما قلبتها لبَّت لك ما تبتغي... وكأنها لا تنفد؛ بل كأن كلام الله تعالى الذي لا ينفد يصدق عليها في قوله سبحانه: (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو جئنا بمثله مدداً( (الكهف 18/109).‏
فالكلمة في العربية تقوم على معانٍ نحوية وصيغ بلاغية لا نظير لها في اللغات الأخرى... وكلما تأمل فيها الباحث العارف والعالم بأسرارها وأدرك إشاراتها وغاياتها البعيدة والقريبة تأكد له ذلك...‏
وحين ننظر إلى مصطلح (الكلمة) ذاته نجد أن المصطلح في العربية يطلق عند اللغويين والأدباء والبلاغيين على اللفظ المفرد تارة، وعلى الجملة تارة أخرى، وقد يقال للقصيدة كلمة... كما يقال للكتاب كلمة...‏
فبلاغة تصميم الكلمة تنتظم التكيف والتهيؤ والتوافق مع التصميم الأولي للكون؛ في الوجود والنشأة؛ وفي التعبير عن الحق والحقائق، ومن ثم تغدو كلمة أدبية جمالية رفيعة... تملك من اللطائف البلاغية ما لا يمكن بلوغه كله... ولا يحيط به محيط.‏
وفي ضوء ذلك كله نقول: قد يتفق عدد من الناس مع ما قلناه؛ وقد يخالفنا عدد آخر... ولكننا سنشد العزم على توضيح مفهوم الكلمة العربية ثم الفصاحة؛ والبلاغة؛ ولا سيما أن أكثر الناس سلموا- منذ القديم- بمفهوم الكلمة باعتبارها الدلالي واختلفوا في تعريفها على نحو ما... ولو راجعنا ما قاله علماء العربية لوجدناهم لم يتفقوا على تصور واحد لها... فعلماء العربية نظروا إلى الكلمة من جهة شكلها المفرد الدال على معنى مرة، ومن الوجه التركيبي المؤلف نحواً وصرفاً مرة أخرى ثم باعتبارها البلاغي المرتبط بالفصاحة والبلاغة مرة ثالثة، ولكنهم قيدوا هذا الاعتبار حين وضعوا له شروطاً في حالة الإفراد وفي حالة التأليف...‏
فالكلمة عندهم- وفي طليعتهم سيبويه والمبرد- أساس الجملة والكلام؛ وهي لفظ دال على معنى مفرد؛ باعتبار أقسامها الثلاثة (الاسم والفعل والحرف)(1).‏
فالاسم: لفظ دال على معنى مفرد؛ غير مقترن بالزمان نحو زيد وشجرة... سواء كان اسم ذات أو اسم معنى... وعلامته صحة الإخبار عنه، أو تنوينه أو نداؤه أو جره بحروف الجر...‏
والفعل: لفظ دال على معنى في ذاته مقترن بالزمان- نحو: جاء زيد، وذهب عمرو؛ وقد يطلق الزمان ويتجدد كقولنا: بئس الكسول، ونعم المجد... وعلامته أن يقبل (قد أو السين أو سوف، أو تاء التأنيث الساكنة أو لن...).‏
والحرف: لفظ يدل على معنى في غيره لا في ذاته... نحو (هل- في – إنَّ- لم) وليس له علامة يتميز بها... وأقسامه ثلاثة:‏
1-حرف يختص بالاسم: نحو (حروف الجر، وحروف النواسخ:‏
إن وأخواتها).‏
2-حرف يشترك بين الاسم والفعل: كحروف العطف (و، أو، ف... ثم...) حروف الاستفهام (الهمزة- هل) وحروف النفي مثل ما، لا...).‏
3-حرف يختص بالفعل: نحو (حروف الجزم، وحروف النصب، وحروف الشرط (إذنْ- إذما)... (2).‏
ونظر علماء العربية إلى دراسة اللغة وأساليبها فما انفكوا يلتزمون بالكلمة ذاتها. فقد جعلها علماء النحو مادتهم في أبحاثهم، فعلم الإعراب لديهم يبحث في الكلمة المركبة وفق ما يقتضيه آخرها من تغير في الحركة أو ثبات فيها... وعلم الصرف عندهم يتوقف عند الأصول؛ ليعرف صيغة الكلمات وأحوالها فيما ليس بإعراب ولا بناء... لهذا كله فإن الكلمة مفردة ومركبة أساس علم النحو؛ وبه تعرف أحوال الكلمات العربية.‏
إن دراستنا تقوم على الكلمة المفردة والمركبة من جهة أحوالها البلاغية والدلالية معاً (أسلوباً ومضموناً)، وما تتركه من أثر في المتلقي... مما يجعلها تحتاج إلى علم النحو ومعانيه، لما يقدمه من عظيم الفائدة لعلم البلاغة؛ بل إن معاني النحو؛ هي البناء الأساسي لمعاني البلاغة...‏
لهذا سنسوق العديد من الآراء لمفهوم الكلمة من جهة أنها قيمة دلالية وجمالية وصوتية عند القدماء ثم نسوق بعض آراء المحدثين فيها شرقاً وغرباً، لنتبين قيمة ما لدينا.‏
فابن جني- مثلاً- بيَّن لنا اللغة والكلام والقول؛ فاللغة مجموعة أصوات للتعبير عن مقاصد القوم؛ والكلام كل "لفظ مستقل بنفسه مفيد لمعناه، وهو الذي يسميه النحويون الجمل... وأما القول فأصْلُهُ إن كان لفظاً مذل به اللسان تاماً كان أو ناقصاً، فالتام هو المفيد، أعني الجملة، وما كان في معناها، والناقص ما كان بغير ذلك... فكل كلام قول، وليس كل قول كلاماً"(3).‏
فابن جني سبق أصحاب اللسانيات الحديثة الذين فرقوا بين اللغة التي تكون استعداداً للبشر كلهم؛ بينما يكون للكلام وجه فردي واجتماعي متفاعلين كما قال دوسوسير، وتشومسكي.(4)‏
وكان سيبويه قد وقف عند ماهية الكلمة المفردة دون أن يعرفها، وكذلك فعل المبرد، بعد تقسيمها إلى الاسم والفعل والحرف، بينما قال ابن الحاجب: "حد اللغة كل لفظ وضع لمعنى"؛ و"الكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع".(5) وقال الزمخشري: "اعلم أن الألفاظ التي يتهجى بها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم".(6)‏
فالكلمة بما تحمله من خصائص بنائية تؤدي وظائف صوتية ونحوية وصرفية ومن ثم تعبيرية وفنية... واتصالية... ولهذا عرفها الدكتور حلمي خليل بقوله: "الكلمة هي مجموعة من الوحدات الصوتية المؤلفة بطريقة معينة لكي ترمز للأشياء الحسية والأفكار المجردة."(7) ونحو هذا التعريف ذهب إليه الدكتور صلاح فضل.(8)‏
وهو بهذا التعريف يوفّق بين القدماء والمحدثين ولا سيما أصحاب اللسانية الغربية الحديثة... فاللغة عندهم مرتكزة على الكلمة والكلمة مجموعة أصوات (فونيمات)؛ بينما الجملة تمثل عدداً من الأصوات ذات الدلالة الإشارية... فالكلمة عند العالم الأمريكي (بلوم فيلد Bloom Field) "هي أصغر صيغة حرة"؛ على حين عرَّفها (ماثيسيس Mathesius) بأنها "أصغر وحدة صوتية متتابعة لا يمكن أن ترتبط بأي وحدات أخرى"، بينما قال (تُرنكا Trnka): إنها "عبارة عن وَحْدة يمكن إدراكها عن طريق الفونيمات (الصوائت phonemes) وهي قابلة للإبدال ولها وظيفة دلالية (semantic).(9)‏
فالكلمة من حيث هي صوت تحمل دلالة ما، وتتصف بجمالية معينة على مستوى اللفظ المفرد والمؤلف عند ابن سنان الخفاجي؛ فسبق بذلك الغربيين، ولكنه نظر إليها من جهة الفصاحة والبلاغة... فهي ذات ماهية خاصة على المستويين السابقين، فما تتخذه الكلمة في حالة الإفراد لا تتخذه في حالة التركيب النحوي المباشر وغير المباشر... وهي في نهاية المطاف (مبنىً ومعنىً)... إنها تتخذ لنفسها ماهية متعددة كتعدد السياق الذي تدخل فيه... ولهذا فهي تظهر وتُحذف، وتُقدَّم وتؤخر، وتقحم في مكان لا تقحم في غيره، ويُستعاض عنها بكلمة في مكان لا يمكن أن تقع كلمة أخرى في مكانها... فهي تتسم بخصائص فنية بنائية مستمدة من جنسها اللغوي الذي تنتمي إليه أولاً ومن صياغة حروفها في تقاليبها المميزة لعمق دلالتها وتنوعها ثانياً، ومن التركيب النحوي الذي تغدو جزءاً منه ثالثاً؛ ومن الاستعمال الحقيقي أو المجازي الذي تبنى عليه رابعاً، وقد تحدث عنه القدماء ثم دخل في الدراسات البلاغية عند المتأخرين.(10)‏
لذلك كله فالكلمة عند الإمام عبد القاهر أعظم بكثير مما انتهى إليه ابن سنان الخفاجي- على معاصرتهما- فقد تقدم خطوات كبرى في معالجة أصوات الكلمة عما انتهى إليه ابن فارس، وكذلك فعل في البنية الصرفية ودلالتها، وفي التركيب النحوي وثرائه الدلالي... فدرس علاقة التركيب بالدلالة الشعورية والفكرية؛ ونظر إلى بنية الكلمة ووظيفتها مفردة ومركبة وما تتركه من أثر في المتلقي... فكان رائداً للدراسة الأسلوبية بكل اتجاهاتها، وإن تطورت كثيراً عما هي عليه عنده.(11)‏
وقبل أن نتناول مسألة الفصاحة والبلاغة في اللفظ المفرد والمؤلف، وما قيل في شأنهما فيما يخص الكلمة، لا بد أن نضع تعريفاً لها نتصوره في ضوء ذلك. فالكلمة صوت دال على معنى ما يحدث في الآذان إيقاعاً معيناً؛ ويتصف بجمالية خاصة تترك أثرها في المتلقي. وهذا التعريف يفرض علينا القول:‏
"إن دلالة الكلمات ليست كلأ مباحاً، الكلمات أنظمة مفتوحة، الكلمات حرية؛ ولكل حرية قيود. بعض التعامل مع الكلمات أشبه بالثغرة، وبعض حرية الكلمات أقرب إلى الإضافة. لقد شعر المدققون بأن الكلمة يجب ألا تكون مطية لكل إنسان لا يلتزم بشرعية التمييز بين الأهداف والتسليم بهدف مشترك يدور في ظله بعض الخلاف".(12)‏
وإذا كان هذا الكلام يثير فينا الممارسة الحرة والمسؤولة فإنه يفرض علينا الحديث عن مسألة تأصيل الفصاحة والبلاغة لدى البلاغيين والنقاد العرب؛ لأنها مسألة لغوية بلاغية أسلوبية تبحث في الصوت والدلالة والأثر. ولعلنا ندرك في ضوء ذلك وفي ضوء ما يأتي من دراستنا أن الكلمة ليست عند العرب مجرد إشارة منفصلة عما تشير إليه؛ بل هي منذ القديم مرتبطة بنظام معياري معين وربما ينزاح عن تلك المعيارية إلى اتجاهات بلاغية مثيرة... ومن هنا فإننا نعترض على ما قاله أحد الباحثين من أن "الكلمات في الاصطلاح القديم في الشرق والغرب جميعاً إشارات منفصلة عما تشير إليه، وعلى عكس ذلك الكلمات في الفكر الحديث رموز أو أدوات ذهنية للتفكير"(13)، فأساليب البلاغة وعلومها- على تطورها- ملتزمة بدلالتها الاصطلاحية ولا تنفك منها...‏
وسيتضح لنا أيضاً أن البلاغة العربية لم تكن "ترى الأفكار الخارجية تطفو على سطح القصيدة، أو ترى هذه الافكار متميزة ثابتة في كل مكان، أو ترى القصيدة تعكس عاطفة شخصية من رغب ورهب وطرب"(14). وتبقى محايدة في التعبير عن ذلك.. إننا نرى أن البلاغة لدى القدماء كانت إرهاصاً لكثير من مفاهيم النقد الحديث؛ وما ظهر فيه من ملامح البلاغة الجديدة، على اختلاف المنهج والرؤية. وإذا كان منهج البحث العلمي يفرض علينا بيان مفهوم البلاغة والفصاحة فإن التدرج التاريخي- على أهميته- لن يقيدنا في ذلك... ومن هنا سنبدأ بإجلاء ما يتعلق بالمفهوم اللغوي والاصطلاحي للفصاحة والبلاغة في الكلمة والجملة... ومن ثم نتوقف عند شروط فصاحة اللفظ المفرد والمؤلف كما وردت عند ابن سنان الخفاجي- غالباً- في كتابه (سر الفصاحة)، دون أن نهمل الإشارة إلى المتأخرين الذين أخذوا منه كالسكاكي والقزويني وابن الأثير... وكلهم حاولوا التوفيق بين ما اقتفوه من طريقة الإمام عبد القاهر الجرجاني؛ وبين ما وجدوه عند ابن سنان الخفاجي. ورأوا في الفصاحة أنها مطابقة مقتضى الحال؛ وهو ما عبر عنه الإمام عبد القاهر بتوخي معاني النحو، ولكنهم فصلوا على نحو ما بين الفصاحة والبلاغة... وهذا غير قادح لما ذهب إليه الإمام...‏
أما ما يتعلق بالمتقدمين عليه كالجاحظ وابن قتيبة والمبرد وأبي هلال العسكري... أو بمعاصريه كابن رشيق فإن البحث سيشير إلى ما ذهبوا إليه وتبنوه من مفاهيم.‏

2-مفهوم الفصاحة والبلاغة
انطلق العرب القدماء في درسهم اللغوي للفصاحة والبلاغة من مفهوم تنظيري ذوقي، ومن ثم مارسوه تطبيقاً عملياً في الكلمة المفردة والمؤلفة قبل أن يعرفوا مرحلة الترجمة عن الثقافة اليونانية... وكان النص الذي يشتمل على الكلمة أساس توجيههم إلى دلالتها المباشرة وغير المباشرة...‏
وحين نشأت نظرات بلاغية فطرية في العصر الجاهلي ثم تطورت في العصور التالية كان النص وحده صاحب السيادة في التحليل؛ فتوقفوا عند الدلالة الحقيقية والدلالة المجازية... وأدركوا أن هذه الكلمة أفصح من تلك في هذا الموضع دون ذاك؛ علماً أن العرب يتميزون بسليقة فطرية ذات قدرة عالية على براعة الكلم حتى قال (صلى الله عليه وسلم):" أنا أعربكم: أنا من قريش، ولساني لسان بني سعد"؛ أي أفصحكم؛ وقال [ عليه السلام] [أُعطيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصاراً].(15)‏
ولعل الدرس البلاغي للفصاحة والبلاغة وغيرهما يدين بالفضل للدراسات القرآنية... واللغوية في وقت واحد؛ ومن ثم تطور على يد من تأثر بالثقافة اليونانية... وانتهى إلى تقعيد سافر؛ ذهب ببهاء الذوق البلاغي والنقدي واللغوي المرهف والواعي الذي سما به الإمام عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ)، بينما أضرَّ به كثيراً ابن سنان الخفاجي (ت 466هـ)، ومن حذا حذوه كالسكاكي في تقنينه بقواعد صارمة.‏
فابن سنان تحدث مطولاً عن فصاحة الكلمة وبلاغتها باعتبارها المفرد المُوَقَّع الدال على معنى، وباعتبارها المؤلف وحدد لهما شروطاً خاصة... ظلت مدار الباحثين بعده؛ وإن كان هو قد استمدها ممن سبقه، وأطَّرها في أشكال محددة.‏
وهذا ما سنكشف عنه فيما بعدُ؛ إذ اتضح لنا أن للفصاحة مفهوماً لغوياً واصطلاحياً؛ وقد استعمل في اللغة قبل استعماله في النقد والبلاغة؛ وتعددت معانيه في ذلك كله. ومما جاء في اللسان (فَصح) أن الفصاحة- في اللغة-: البيان. فصُح الرجل فصاحة فهو فصيح من قوم فُصحاء وفِصاح وفُصْح، وامرأة فصيحة من نسوة فِصاح وفَصائح. ورجل فصيح وكلام فصيح، أي بليغ، ولسان فصيح: طَلْق.‏
وأفْصح يُفصِح إفصاحاً: أبان وأوضح... وفَصُح الأعجمي فَصاحة: تكلم بالعربية وفُهم عنه... وتفَصَّح: تكلَّف الفصاحة... والفصيح في كلام العامة: المُعَرَّب. والفصيح في اللغة: المنطلق اللسان في القول، الذي يعرف جيد الكلام من رديئه.‏
وبهذا فإن الفصاحة- في الاصطلاح- تعني الإبانة والظهور والإيضاح والبراعة والبلاغة في اللفظ المفرد والمؤلف...(16)‏
وقيل: جميع الحيوان ضَرْبان: أعجم وفصيح، فالفصيح كل ناطق، والأعجم كل ما لا ينطق. وقال الجاحظ: "الفصيح هو الإنسان، والأعجم كل ذي صوت لا يفهم إرادته إلا ما كان من جنسه."(17) وبذلك فسر قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): [غفر له بعدد كل فصيح وأعجم].(18)‏
فالأعجمي في ضوء ذلك من لا يفصح في كلامه، ولا يفهمه أقوام آخرون حتى غدا الفصيح معادلاً لكلمة عربي، والعجمي مقابلاً للعربي بينما يقال الأعجمي للسان غير العربي.‏
فالفصاحة ملكة يقتدر بها على التعبير عن المشاعر والحاجات... وهي لذلك تمام آلة البيان.‏
ويعد الجاحظ أول من قصَر مفهوم الفصاحة على العرب على اعتبار أنهم أفصح من غيرهم؛ في الوقت الذي يكون أحدهم أفْصح من الآخر؛ كما يستفاد من كلمة لأبي بكر (رضي الله عنه) حين جعل النبي أفصح العرب: [لقد طفت في العرب وسمعت فصحاءهم فما سمعت أفْصح منك](19). لكن بعض المتأخرين عنه حصر الفصاحة في العرب دون غيرهم من الأمم كالنويري (ت 733هـ) في قولـه: "ولا توجد الفصاحة إلا في العرب" بينما البلاغة لهم ولغيرهم.(20) وقال يحيى بن حمزة العلوي (ت 749هـ) في كتابه (الطراز): "اعلم أن الفصاحة في الألفاظ المفردة يجب أن تكون مختصة بخصائص: الخاصة الأولى؛ أن تكون اللفظة عربية قد تواضع عليها أهل اللغة؛ لأن الفصاحة والبلاغة مخصوصان بهذا اللسان العربي دون سائر اللغات من الفارسية والرومية والتركية، فلا مدخل لهذه الألسنة في فصاحة وبلاغة"(21).‏
ونرى أن الفصاحة ليست ملكاً لأمة دون أمة؛ وإن كانت تقع لفرد دون فرد؛ ويقع الفرق فيها في الأحسن والأبرع والأكثر إثارة وجمالاً... ويؤكد هذا قولـه تعالى: (وأخي هارون هو أفصح مني لساناً( (القصص 28/34). وإذا كانت كلمة (أفصح) هي الكلمة الوحيدة في القرآن الكريم من مفردات الفصاحة، فإن الآية تثبت وجودها في أمم أخرى غير العرب... ولكن العربية في طبيعتها ومفرداتها وأساليبها التي انتهت إلينا، وفي إطار ما عرفناه من لغات الآخرين تدل على أنها "أوسع مناهج؛ وألطف مخارج؛ وأعلى مدارج؛ وحروفها أتم، وأسماؤها أعظم، ومعانيها أوغل، ومعاريضها أشمل، ولها هذا النحو الذي حِصَّتُه منها حِصَّة المنطق من العقل. وهذه خاصة ما حازتها لغة على ما قرع آذاننا، وصحب أذهاننا من كلام أجناس الناس؛ وعلى ما ترجم لنا أيضاً من ذلك".(22)‏
وهذا ما نلمحه عند ابن الأثير (ت 637هـ) في قوله: "فإن كل لغة من اللغات لا تخلو من وصفي الفصاحة والبلاغة المختصين بالألفاظ والمعاني؛ إلا أن للغة العربية مزية على غيرها، لما فيها من التوسعات التي لا توجد في لغة أخرى سواها"(23).‏
بهذا كله قد نكون أوضحنا مفهوم كلمة الفصاحة التي تعني البيان والظهور والبلاغة في الكلام وعند القائل، وفي صفة الأشخاص كما يوضحه قول عبد الله ابن رواحة في مدح النبي الكريم:‏
لو لم تكن فيه آياتٌ مُبَيَّنةٌ‏
كانت فصاحتُه تنبيك بالخبر‏
وقد بيَّنا في الوقت نفسه أنها ملازمة لكلمة البلاغة التي دار معناها غالباً على معاني الفصاحة عند كثير من البلاغيين القدامى... حتى أصبحتا صنوين في الدراسات البلاغية عند كثير منهم... ثم أخذوا يفرقون بينهما فيما بعد...‏
ولعل الدرس البلاغي في التفريق بينهما قد أفاد كثيراً من الدراسات التي بدأت تظهر لخدمة القرآن الكريم؛ ابتداء من كتاب (معاني القرآن) للفراء (ت 206هـ) وكتاب (مجاز القرآن) لأبي عبيدة (ت 210هـ)، وكتاب (نظم القرآن) الذي لم يصل إلينا حتى الآن للجاحظ (ت 255هـ).‏
أما ما وصل إلينا من كتب الجاحظ فكلها تؤكد أنه لم يضع حداً فاصلاً بين الفصاحة والبلاغة على الرغم من أنه ساق جملة من تعريفات البلاغة في كتابه (البيان والتبيين)، ولم يُعرّف البلاغة، وكأنه ارتضى بتعريف ابن المقفع لها بعد قولـه: "لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظُه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك" ثم أورد تعريف ابن المقفع لها حين سئل: "ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسم جامع لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة"(24). وعلى الرغم من ذلك فالفصاحة لديه مرتبطة بسلامة النطق وصحة مخارج الألفاظ، ونقاء اللغة.‏
وكذلك كان ابن قتيبة (ت 276هـ) فلم يشر إلى الفصاحة، وتوقف كالجاحظ عند قضية اللفظ والمعنى، واتفق معه على أن الألفاظ أحق بالرعاية والاهتمام وإن لم يهمل العناية بالمعاني؛ ولكنه نحا بدراسة الألفاظ والأبنية منحىً تطبيقياً جاعلاً النص الأدبي مدار حديثه في ضوء أشعار بعينها في‏
كتابه (الشعر والشعراء) ثم اتجه بها اتجاهاً بلاغياً في كتابه (تأويل مشكل القرآن).(25)‏
ولو تتبع المرء ما كتبه القدماء كالمبرد (ت 285هـ) في كتابه (الكامل في اللغة والأدب) وغيره، وثعلب (ت 291هـ) في كتابه (قواعد الشعر) وابن المعتز (ت 296هـ) في كتابه (البديع) لما ظفر بشيء واضح ودقيق يفرق بين الفصاحة والبلاغة. كما أن الفصاحة ظهرت مرادفة للبلاغة عند قدامة بن جعفر (ت 338هـ) في كتابه (نقد الشعر)؛ بل لم تأخذ المعنى الدقيق عند إمام البلاغيين عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ) فضلاً عن أنه لم يرَ في أسلوب المجاز فصاحة ولا هو رأس البلاغة عنده كما في كتابه (أسرار البلاغة)، بل لم يختلف مفهومهما عند بعض المتأخرين كالرازي (ت 606هـ) في كتابه (نهاية الإيجاز) والقرطاجني في (منهاج الأدباء).(26)‏
ومن هنا يفرض البحث علينا أن نتبين معنى البلاغة قبل أي شيء آخر لغة واصطلاحاً لإدراك حقيقة الأمر. فالبلاغة- لغة-: الانتهاء والوصول، وبلغ الشيء يبلغه بلوغاً وبلاغاً: وصل وانتهى، وتبلَّغ بالشيء: وصل إلى مراده. والبلاغ: ما يُتَبَلَّغ به؛ ويُتَوَصَّل إلى الشيء المطلوب، والبلاغ: ما بلغك. والإبلاغ: الإيصال... بلغت المكان بلوغاً: وصلت إليه... والبَلْغ والبِلْغ: البليغ من الرجال، ورجل بليغ: حسن الكلام فصيحه؛ يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه، والجمع بُلَغَاء(27) وقيل: البلاغة: الفصاحة.‏
ولذا لم يتفق الناس على مفهوم البلاغة؛ فقيل: "للفارسي: ما البلاغة؟ قال: معرفة الفصل من الوصل، وقيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام. وقيل للرومي: ما البلاغة: قال: حسن الاقتضاب عند البداهة، والغزارة يوم الإطالة. وقيل للهندي: ما البلاغة؟ قال: وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة"(28).‏
ثم يسوق الجاحظ جملة من الأقوال التي تدل على اتساع مفهوم البلاغة تبعاً للمقام ومقتضى الحال؛ فأثبت أنها الإيجاز، أو الانطلاق بالكلام على الفطرة، أو أن تجيب فلا تبطئ وتقول فلا تخطئ...‏
وإذا كان مقام البحث لم يوضع لهذا الجانب يمكنه أن يلم ببعض الآراء اللازمة لـه... فالبلاغة تقع- في مفهومنا- على الشخص وعلى الكلام نفسه، فنقول: رجل بليغ وكلام بليغ، والبلاغة لكليهما، وهي الفصاحة للقائل؛ وهي الكلام البديع المؤثر المفيد الصائب في موضوع لغته المطابق لمعناه المقصود حقيقة ومجازاً، الصادق في ذاته، المطابق لمقتضى الحال والمقام.‏
وإذا كان الزمخشري قد ذهب إلى أن بلاغة الكلام المؤثر تتجه اتجاهاً نفسياً(29) فإن الراغب الأصبهاني يجريه على القائل وعلى الكلام ذاته حين فسر قولـه تعالى: (وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً( (النساء 4/63). وذهب في تفسيره لكلمة بليغ إلى وجهين:(30)‏
1- الكلام بذاته بليغ لأنه صواب في لغته، مطابق لمعناه المراد منه، وصادق في طبيعته ومضمونه؛ وإذا فقد إحدى هذه الصفات كانت بلاغته ناقصة.‏
2- الكلام بليغ باعتبار قائله والمقول له... فالقائل يورد أمراً على وجه يقبله المقول له..(31)‏
وكان عمرو بن عبيد (ت 144هـ) قد فسر البلاغة تفسيراً دينياً فقال:ما بلغ بك الجنة وعدل بك عن النار، وما بصَّرك مواقع رشدك وعواقب غيّك(32)‏
أما أبو هلال العسكري (ت 395هـ) فقد عرَّفها بقوله: البلاغة كل ما تبلغ به قلب السامع فتمكنه في نفسه؛ كتمكنه في نفسك، مع صورة مقبولة ومعرض حسن.‏
يذهب أبو هلال إلى أن البلاغة من صفة الكلام لا من صفة المتكلم؛ بدليل أنه لا يجوز أن نصف الله بقولنا: الله بليغ؛ ووصف الرجل بأنه بليغ إنما يكون على التوسع.‏
واتجه أبو هلال العسكري إلى إثبات رأيين للفصاحة والبلاغة معاً:‏
الأول: تَرْجِعُ الفصاحة والبلاغة إلى معنى واحد؛ فكل منهما للإبانة عن المعنى والإظهار له.‏
الثاني: الفصاحة والبلاغة مختلفتان، فالفصاحة من تمام آلة البيان؛ مما يجعلها مقصورة على اللفظ، والبلاغة إنما هي إنهاء المعنى إلى القلب، فهو مفهوم مقصور على المعنى. ولا شيء أدل على ذلك عنده من أن الببغاء يسمى فصيحاً ولا يسمى بليغاً، وليس له قصد إلى معنى يؤديه... ومن هنا نفذ إلى حديث بديع عن النظم المستمد من ماهية فصاحة اللفظ وبلاغة المعنى.(33)‏
ولا يشك أحد في أن ابن سنان الخفاجي قد أفاد من أبي هلال العسكري حين قرر أن الناس قد اضطربوا في كُنْه الفصاحة والبلاغة ثم رأى أن "الفصاحة مقصورة على اللفظ، والبلاغة لا تكون إلا وصفاً للألفاظ مع المعاني... وكل كلام بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغاً."(34) ثم وضع شروطاً لفصاحة اللفظ المفرد، وفصاحة اللفظ المؤلف حتى يغدو بليغاً، وتابعه فيها عدد من البلاغيين بعده، فقال القزويني- مثلاً-: "والبلاغة في المتكلم ملكة يُقْتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح والبلاغة في الكلام مطابقته لمقتضى الحال مع فَصاحته"(35).‏
إننا لنلحظ أن هناك اتجاهين اثنين في تفسير البلاغة والميل بها إلى فصلها عن الفصاحة، اتجاهاً ينطلق من القرآن ويفسرها تفسيراً دينياً؛ ومن ثم يقدم في إطاره بحثاً لغوياً، وأسلوبياً رفيعاً يضاهي به الدراسات اللسانية والأسلوبية الحديثة كابن قتيبة والزمخشري؛ واتجاهاً آخر يفسرها تفسيراً أسلوبياً صرفاً بعد أن أفاد من أسلوب القرآن، واعتمد فيه على اللغة في سياقها النصي، وعلى الذوق المرهف والنزعة الوجدانية المتأصلة في النفس العربية، ويمثله الجاحظ وابن سنان الخفاجي وعبد القاهر الجرجاني... وغيرهم...‏
ولعل هذا كله كان وراء عدم وجود تعريف جامع مانع للبلاغة عند العرب؛ وهذا ما توصل إليه ابن خلدون في مقدمته إذ قال: "ليس في تعريف القدماء ما يعطي صورة واضحة للبلاغة."(36) فهناك كثير من التعريفات لها عندهم ذكرنا شيئاً منها؛ وعرض لعدد كبير منها صاحب كتاب (التفكير البلاغي عند العرب) الذي رأى أن كثيراً منها لا يحقق الشروط الدنيا للمعنى المنطقي الاصطلاحي وإن توافر فيها جملة من الخصائص الأسلوبية المستمدة‏
من النص... وقد قرر أن البلاغة لم تخرج عن معناها اللغوي (الفصاحة والإبانة).(37)‏
أما تعريف البلاغة عند اليونان فقد كان واضحاً، واتجه ثلاثة اتجاهات من جهة الهدف؛ فإذا كان هدفها أصول الكلام الرفيع الذي يقتضي الإفهام والتصرف وتأكيد الاعتقاد والإقناع فهي (فن الكلام الرفيع)؛‏
وإذا كان هدفها الكشف ضمن الخطابات المتعددة، عن الطرق القابلة للتعليم وإيصالها إلى الآخرين بحالات مختلفة فهي (تعليم فن الخطابة)؛‏
وإذا كان هدفها "دراسة الخطاب ليس لاستعماله ولكن لفهمه" من جهة أنها تفسيرية لا معيارية فهي (نظرية الخطاب المقنع).(38)‏
ومن هنا قد يكون الفارق الحضاري اللغوي والفني والفكري سبباً في بروز الفرق في الدرس البلاغي بين العرب وبين اليونان.. ويؤكد ذلك اتصال الدرس البلاغي في مستوياته كلها ونتائجه بالدرس اللساني واللغوي الغربي الحديث.‏
وقد رأى منذر عياشي أن هناك تعريفين لدى العرب يقتربان من تعريفات اليونان؛ تعريف ابن المقفع ويقول فيه: "البلاغة كشف ما غمض من الحق في صورة الباطل" وتعريف خالد بن صفوان، ويقول فيه: "البلاغة إصابة المعنى والقصد في الحجة".(39)‏
ولا بأس أن نقرر هنا ما قرره ابن عبد ربه في تعريفها "البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته ومقام الكلام عند تفاوته."(40) "ذلك أن هذا القول إنما هو تعريف لغوي ولساني لعمل الأسلوب في انسجامه مع السياق المعبر عنه، ومراعاته للمتغيرات عند تفاوت أصناف الخطاب ومستويات المتكلمين".(41)‏
وبذلك كله فإن الدرس البلاغي عند العرب ظل منشداً إلى الدراسات الإعجازية في القرآن وإلى الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية القائمة على الشعر العربي وبيان خصائصه...‏
وما أحرانا نحن العرب- اليوم- أن نتمسك بمنهج القدماء ورؤيتهم، وإن انفتحت أعيننا على الدرس الغربي الذي أخلص لتراثه البلاغي وغيره. فاللغة العربية متفردة بما تملكه من خصائص ذاتية، وأساليب بلاغية وتبرز طاقات هائلة من الإشارات والإيحاءات البلاغية والجمالية.. وتؤكد نصوصها الأدبية مستويات أسلوبية رفيعة لا توجد في أي نصوص أجنبية..‏
ومن ثم فإن التصور البلاغي عند العرب إنما هو نتيجة لما يمتلكونه من نصوص كثيرة ومتنوعة دينية وأدبية ولغوية... وهي نصوص معرفية تعبر عن مجمل قضاياهم بل تفكيرهم وحضارتهم... وهي التي كانت وراء عدم وجود تعريف بلاغي شامل لمفهوم البلاغة.‏
وإذا كانت أي حضارة تلتقي مع أختها في بعض العموميات فإن (لكل حضارة مكوناتها الخاصة). وهذا يجعلنا نؤمن بلا أدنى شك بأن الدرس البلاغي عند العرب القدماء كان درساً متميزاً، وسبق في كثير من قضاياه ما عرفته الدراسات الحديثة اللسانية والأسلوبية وفي طليعتها البنيوية.(42)‏
وبعدُ، فإن الدراسة البلاغية النصية عند العرب اعتمدت على الأبيات المفردة حتى مجيء الباقلاني (ت 401هـ) وابن شرف القيرواني (ت 460هـ) فدرسا النص كاملاً منطلقين في ذلك من التأثر بالنص القرآني... فقد كانت الدراسات القرآنية سابقة في هذا المجال، وقد قامت على النص الكامل لا الأبيات المفردة... وكلاهما تناول شعر امرئ القيس عامة ومعلقته خاصة ووازن بينها وبين النص القرآني... وما يعاب على الباقلاني أنه انحاز مقدماً إلى أسلوب القرآن، ولذلك أجحف في كثير من الأحكام بحق امرئ القيس.‏
ومهما كان من انحراف المنهج عند الباقلاني فقد سبق في دراسته للنص المتكامل ما عرف لدى الغربيين بالدراسة النصية... واستطاع أن يتوقف عند كثير من الأساليب البلاغية اللافتة للنظر؛... وكأنه في ذلك يحذو حذو أبي عبيدة وابن قتيبة في دراسة النص الكامل ممثلاً في القرآن الذي كان وحده سبيل الدراسة لديهما...(43)‏
فإذا ما أتى عبد القاهر الجرجاني وجدنا الدراسة البلاغية تقوم على النص القرآني الكامل والنص الأدبي واللغوي.. لتقدم نظرات رائعة في إطار الأساليب البلاغية تنظيراً وتطبيقاً سبق بها أصحاب الدراسات الحديثة...‏
وهنا يتوقف بنا المقام لئلا نخرج في بحثنا عن تعريف البلاغة وأساليبها لنؤكد من جديد أن أي واحد من هؤلاء لم يضع تعريفاً نظرياً للبلاغة أو الفصاحة وإن مارسوها عملياً في أبحاثهم؛ ويظل ابن سنان الخفاجي فرداً في ذلك حين سعى جاهداً إلى وضع حدود للفصاحة والبلاغة؛ فالفصاحة في اللفظ المفرد؛ والفصاحة والبلاغة في اللفظ المؤلف. وهذا ما نتبينه فيما يأتي.‏
[/align]
د.حسين جمعة غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 15 / 10 / 2009, 36 : 08 PM   رقم المشاركة : [3]
د.حسين جمعة
كاتب وأديب ، رئيس اتحاد الكتاب العرب

 الصورة الرمزية د.حسين جمعة
 





د.حسين جمعة is a jewel in the roughد.حسين جمعة is a jewel in the roughد.حسين جمعة is a jewel in the roughد.حسين جمعة is a jewel in the rough

رد: فـي جمالية الكلمة ( دراسة جمالية بلاغية نقدية ) - د.حسين جمعة

[align=justify]
القسم الثاني: فصاحة اللفظ وجماليته

1-فصاحة اللفظ المفرد

في ضوء الدراسات البلاغية التي وصلت إلينا يتضح بجلاء أن الفصاحة تكون للفظ المفرد غالباً، بينما تكون البلاغة في اللفظ المفرد والمؤلف...
ونرى أن فصاحة الكلمة تكمن فيها منفردة ومؤلفة ولكل منها أبوابه، فالفصاحة كما قال ابن سنان الخفاجي نعت للألفاظ إذا وجدت على شروط عدة؛ وكلها تكسبها جمالاً وبهاء وتأثراً في النفس. وهذا يدعونا إلى الحديث عن فصاحة اللفظ المفرد؛ في إطار جمالية الكلمة واستخدامها؛ وسنتحدث عن فصاحة اللفظ المؤلف في إطار جمالية الجملة.
وإذا كان أصحاب البلاغة قد أرجعوا مفهوم البلاغة والفصاحة إلى جوهر اللفظ المفرد(44) في دلالته الوضعية فإنهم ذكروا له ثمانية أشياء؛ عرض لها ابن سنان في كتابه (سر الفصاحة):
1-أن تكون حروف الكلمة متباعدة المخارج... فالحروف أصوات تجري من السمع مجرى الألوان من البصر. فتقارب مخارج اللفظ يبعده عن الجمال كما في كلمة (الهُعْخع)، إذ روي عن الخليل قوله: "سمعنا كلمة شنعاء هي (الهُعْخع) وأنكرنا تأليفها".
ويرجع ابن سنان قبح هذه الكلمة إلى تقارب مخارج حروفها، فهي (حلقية) يستقبح لفظها في النغم والإيقاع، ومثلها كلمة "مستشزرات" في قول امرئ القيس:
غدائره مُسْتشزراتٌ إلى العلا.......تضل العقاصُ في مثنَّى ومُرْسَلِ
فمخارج حروف كلمة (مستشزرات) متقاربة، فأكثرها يخرج من الأسنان...
وعلق على ذلك ابن سنان بقوله: "وأنت تدرك هذا وتستقبحه كما يقبح عندك بعض الأمزجة من الألوان، وبعض النغم من الصوت."(45) وهو في هذا الشرط عالة على الجاحظ وابن جني وآراء الخليل الموزعة في (الكتاب) لسيبويه، والرماني.(46)
2-التأليف المختار لبناء الحروف المتباعدة في الكلمة؛ سواء تساوت
أم لا.
فالتباعد في مخارج حروف الكلمة يعطيها جمالاً بلا شك ولكن التأليف المخصوص لها يمنحها مزية في التصور وفي التأثير النفسي، فلفظ عذب وعُذيب، من الألفاظ المتباعدة المخارج، وهي حسنة الوقع، ولكن تقديم الباء على الذال يفسدها. وكل منا يدرك أن كلمة غُصن وفنن أجمل من كلمة (عُسْلوج)، وإن كانت الكلمات الثلاث متباعدة مخارج الحروف... فالعبرة في التأليف المخصوص لهذه الكلمات.. ومما وقع من الألفاظ الكريهة التأليف في شعر المتنبي (الجِرشَّى) وتعني (النفس) في قوله:
مباركُ الاسْمِ أغَرُّ اللقَبْ.......كريمُ الجِرِشَّى شريفُ النَّسبْ
وقد أفاد بهذا من أبي هلال العسكري والخطابي خاصة.(47)
3-ألا تكون الكلمة غريبة متوعرة أو وحشية.
تقع الغرابة والتوعر في الاستعمال وكثرته، أو في بنية الكلمة، أو بيئتها؛ أو موضوعها، أو ثقافة أهلها...
وقد شغلت الغرابة أذهان علماء اللغة والبلاغة، ومنهم من قسمها إلى قسمين: غريب حسن، وغريب قبيح.(48)
ومهما يكن من أمر فالغرابة في الألفاظ مسألة اعتبارية محكومة بالمتلقي وثقافته وصلته باللغة وآدابها، ومعرفة عصرها وبيئتها...
أما غرابة استعمال كلمة ما فمثالها (كهل) الواقعة في قول بعض الهذليين. فهي ليست كريهة التأليف لكن استعمالها نادر وغريب مما يؤدي إلى احتياج المتلقي إلى المعجمات لمعرفتها. فالكهل في البيت الآتي (الضخم) ولا يعرفها إلا مثل الأصمعي؛ وهو لأبي خراش الهذلي (ت نحو 15هـ):
فلو أنَّ سلمى جارَهُ أو أجارَهُ.......رياحُ بنُ سَعْدٍ ردَّهُ طائرٌ كهلُ
وقد عاب البلاغيون وخبراء اللغة على جرير استعماله لكلمة (بوزع) في قوله:
وتقول بَوْزَعُ: قد دببتَ على العصا.......هلا هَزئتِ بغيرنا يا بوزَعُ
وروي أن الوليد بن عبد الملك قال له: أفسدت شعرك بـ"بَوْزَع".
وقد يكون بناء الكلمة أو مدلولها غريباً عن الاستعمال العرفي أو النحوي، أو الصرفي أو مخالفة القياس كما في قولنا: عَبْشمي في عبد شمس، وجمع غازٍ على غُزًّى؛ أو أن يكون توعرها من اشتقاقها غير الشائع كما في كلمة (مِيْتاء) على وزن مِفْعال من الإتيان... التي وردت في الحديث النبوي [لولا أنه طريق ميتاء لحزنا عليك يا إبراهيم](49) وميتاء؛ أي مسلوكة.
وقد يكون توعر الكلمة من تعدد اللغات في الكلمة الواحدة، كالبُوْع المقابلة للباع؛ الواردة في الحديث الشريف: [إذا تقرب العبد مني بوعاً أتيته هرولة].
(50) والبوع والباع سواء؛ وهو قدْر مد اليدين وما بينهما من البدن.
أما تطور المدلول أو الدلالة المجازية فقد يكون مدعاة للغرابة، كتطور دلالة الزكاة والصلاة والصيام والسلام... في الإسلام عما كانت عليه في الجاهلية؛ حتى غدا المعنى الجاهلي غريباً.
4-ألا تكون الكلمة عامية مبتذلة؛ وينقل ابن سنان الخفاجي عن الآمدي (ت 370هـ) وغيره جملة من الألفاظ العامية كقول أبي تمام:
جَلَّيْتَ والموتُ مُبْدٍ حُرَّ صفحته.......وقد تَفَرْعَنَ في أوصاله الأجَلُ
فالفعل: تفرعن، مشتق من فرعون، وهو من ألفاظ العامة، وعادتهم أن يقولوا: تَفَرْعَنَ فلان، أي تجبَّر وظلم وبغى... فلما كانوا يسمون الجبابرة بالفراعنة تشبيهاً بفرعون موسى حُملت الكلمة على ذلك...
ومن ذلك قول المتنبي في استعماله لكلمة طويلة جداً؛ أدى إلى استكراهها:
إني على شغفي بما في خُمْرها.......لأعفُّ عما في سراويلاتها
فلا شيء أقبح من ذكر السراويلات لديه، ووصفُ عِفَّة سلوك الرِّيَب والتهم أحسنُ من التلفظ بها؛ وكذلك قوله الآخر في استعمال الجورب وما يتركه من رائحة كريهة:(51)
تستغرق الكف فَوْدَيه ومِنْكبَه.......وتكتسي منه ريحَ الجورب الخَلِق
فالجورب من الألفاظ العامية التي يكره إيرادها... ومما كره قوله من استعمالات النساء من الألفاظ العامية ما جاء في قول أبي تمام:
قد قلت لما لجَّ في صدِّه:.......اعطف على عبدك يا قابِرِي
وبعد أن يسخِّف ابن سنان لفظ (القابري) لأنه من ألفاظ عوام النساء وأشباههن يعرض لشواهد أخرى مطروحة في الأشعار ولا سيما أشعار عصره، كما أنها وقعت في أشعار الفحول من قبلُ كزهير بن أبي سلمى في قوله:
وأقسمت جهداً بالمنازل من منىً.......وما سحقت فيه المقادم والقَمْلُ
فإن القمل يجري هذا المجرى من الألفاظ العامية.
وفي ضوء ذلك كله توارثت كتب البلاغة والنقد جملة من الأحكام دون تمحيص لكثير منها... فإذا كنا نرى كثرة الثرثرة بجملة من الألفاظ لدى العامة فلا يعني أن بعض هذه الألفاظ قد خرجت بها عن الاستعمال الدقيق كما في لفظ (تفرعن)... فهي على عاميتها ذات إيحاء دقيق، واشتقاقها اللغوي فصيح ليس فيه خروج عن القياس... وما الفرق بين الشعراء الفحول وغيرهم إذا لم يجددوا في اللغة؟!!
5-جريان الكلمة على المذهب اللغوي الصحيح، وألا تكون شاذة عما تواضع عليه العرب من أبنية.
وقد دخل في هذا القسم كل ما أنكره أهل اللغة، وعابوه على الشعراء من ألفاظ جديدة، أو أنها غير جارية على القياس، أو أنها غير عربية، ومن ذلك قول البحتري:
يشق عليه الريح كل عشية.......جيوب الغمام بين بِكْرٍ وأيِّم
فوضع الأيم مكان الثَّيِّب، وليس الأمر كذلك، إنما الأيم التي لا زوج لها؛ بكراً كانت أو ثيباً... أو كقول أبي الشيص (محمد بن رزين- ت 196هـ):
وجناحٍ مقصوص تحيَّف ريشَهُ.......رَيْبُ الزمانِ تحيُّفَ المِقراضِ
وقالوا: ليس المقراض من كلام العرب، فهو من التصرف الفاسد في اللغة، فلم يسمع عن العرب إلا المثنى كما في (لسان العرب): المقراضان: الجَلَمان، لا يفرد لهما واحد. هذا قول أهل اللغة وحكى سيبويه مِقْراض فأفرد.(52)
وقد يكون مفهوم المخالفة لما تواضع عليه العرب في حذف بعض حروف الكلمة أو زيادة حروف فيها، فمن الحذف قول خفاف بن نُدْبة:
كنواحِ ريشِ حمامةٍ نجديَّةٍ.......ومسحتِ باللِّثَّتين عصفَ الإثمدِ
يريد: كنواحي، وكذلك (ولكن) التي وقد حذفت النون منها في قول النجاشي:
فلست بآتيهِ ولا أستطيعهُ.......ولاكِ اسقني إن كان ماؤك ذا فَضْلِ
أراد: ولكن اسقني.
ومن الزيادة ما يكون بإشباع الحركة في الكلمة حتى تصبح حرفاً، كقول ابن هرمة في رثاء ولده؛ حين قال (منتزاح: أي بعيد عنه) بدل (منتزح):
وأنت على الغواية حين تُرْمى.......وعن عيب الرجالِ بُمْنتَزاحِ
وأوضح الفرّاء أن لفظ (أنظر) أُشبع فصار (أنظور) في قول الشاعر:
وأنني حيثما يسري الهوى بصري.......من حيثما نظروا أدنوا فأنظور
وقد تكون الكلمة شاذة قليلة الاستعمال مثل (اللَّذْ) بدل (الذي) كقول المتنبي:
وإذا الفتى طرح الكلام معرضاً.......في مجلس أخذ الكلام اللذْ عنا
ثم ساق ابن سنان الخفاجي في هذا القسم الشاذَّ الرديء، واستعمال الكلمة بخلاف صنيعها؛ أو في إبدال حرف من حروفها (كالثعالي في الثعالب، والضفادي في الضفادع...) أو إظهار التضعيف في الكلمة، أو صرف ما لا يَنْصرف كجبريل في قول حسان:
وجبريلٌ أمينُ الله فينا.......وروح القدس ليس لـه كِفاءُ
أو منع الصرف مما ينصرف، أو قصر الممدود كقول الأعشى:
والقارح العدَّا وكل طمِرَّةٍ.......ما إنْ تنالُ يدُ الطويلِ قَذالها
أو مَدّ المقصور، وحذف الإعراب للضرورة، وتأنيث المذكر على بعض التأويل، وتذكير المؤنث...
ويلاحظ من قول ابن سنان الخفاجي أنه أدخل ما يتعلق بالضرورة الشعرية في فساد الكلمة وإخراجها من باب الفصاحة؛ لأنه يُؤْثر صيانتها؛ فالفصاحة لديه "تُنْبي عن اختيار الكلمة وحسنها وطلاوتها، ولها من هذه الأمور صفة نقص؛ فيجب اطراحها على أن ما ذكرته يختلف قبحه في بعض المواضع دون بعض على قدر التأويل فيه وحكمه".(53)
وكذلك جعل علماء اللغة يقفون بالمرصاد للشعراء لئلا يخرجوا عما تُعورف عليه من أبنية وصيغ... فخروج الشعراء عنها ينتهي إلى الخروج عما تواضع عليه العرب في القديم.
ونحن نقر لعلماء اللغة بأنهم الحراس لها والمحامون عنها، ولكن الشعراء الفحول ذوي السلائق البليغة والمواهب السنية قادرون على الاستجابة لقواعد اللغة وصيغها ومن ثم التجديد فيها... فالشعراء صناع اللغة، والعاملون على تطويرها وتوليد صيغ ومعانٍ جديدة... وكلنا يذكر مقولة أبي عبيدة عن يونس: "لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب"،(54) وقيل: ثلثاها.
6-ألا تعبر الكلمة عن أمر آخر يكره ذكره؛ ولم توضع له في الأصل. فإذا أوردت ولم يقصد بها المعنى الأصلي قبحت... كقول أبي تمام:
مُتفجرٌ نادمته فكأنني.......للدَّلْو أو للمِرْزمينَ نديمُ
فالدلو معروف؛ وهو لاستخراج الماء من البئر، ولكن أبا تمام استعمله هنا اسماً لبرج من بروج السماء... فهو يمدح رجلاً بالجود فيقول لـه: أنت كالدلو كرماً والمرزم جوداً... وكلاهما من نجوم السماء التي يرتبط بها المطر... ولكن الاستعمال للدلو على هذا الوجه غير مألوف. ولعل قول عمرو بن معديكرب أكثر قبحاً إذا فهمناه على ما هو شائع في معنى (الغائط)؛ بينما أراد أن المطمئن من الأرض ليس به أحد في قوله:
فكم من غائطٍ من دون سلمى.......قليلِ الأُنْسِ ليس به كَتيعُ
وعمرو بن معديكرب معذور كعروة بن الورد في استعمال (الكنيف) حين وصف اصحابه؛ فما عرف في عهدهما للغائط إنما هو البطن من الأرض، ثم استعمل بمعنى (الحَدَث) استعمالاً طارئاً وكذلك (الكنيف) بمعنى الساتر... وهكذا استعمل اللفظ على المعنى الأصيل في قول عروة وعمرو؛ وإن وافق المعنى الطارئ أو المجازي... ولكن كره استعماله لموافقته هذا المعنى الطارئ واستقبح... وهو في الأصل ليس مستكرهاً ولا قبيحاً.
وقد تصدى ابن سنان لنقد التطور الدلالي حين عذر عروة وعمراً... فانكشف لنا ابن سنان الناقد المتفتح العقل على مفهوم تطور الدلالة في الألفاظ، ومن ثم تغير العواطف والأذواق.(55)
فمسألة تطور الدلالة اللغوية، وتعقب تاريخها لا يزال من وسائل الدرس التي لم تنجز؛ ولم تُلحظ بدراسات لغوية وبلاغية معمقة بعد الزمخشري.
7-اعتدال عدد حروف الكلمة؛ فمتى زادت على الأمثلة المعتادة المعروفة قبحت وخرجت عن وجه من وجوه الفصاحة. فكثرة حروف الكلمة إذا استعملت في الشعر خاصة كانت قبيحة جداً، ولو كانت عربية كما في (سويداواتها) من قول المتنبي:
إن الكريمَ بلا كرام منهمُ.......مثلُ القلوب بلا سُويداواتِها
فالمتنبي خرج إلى الشاذ النادر في تركيب لفظ من حروف كثيرة فقبح لطولـه وكثرة حروفه؛ والطول وحده قبيح كما في قول أبي تمام حين استعمل كلمة (حَوْباواتها) وهي جمع حوباء بمعنى النفس:
العِيْسُ تعلم أنَّ حَوْباواتها.......ريحٌ إذا بلغتك إنْ لم تُنْحرِ
وقد تكون الكلمة رديئة قبيحة لكثرة حروفها ولعجمتها مثل (أذربيجان) في قول أبي تمام:
فلأذربِيجانَ اختيالٌ بعدما.......كانت مُعَرَّس عِبْرةٍ ونكالِ
ولا شك في أن اعتدال حروف الكلمة يقربها من أذن السامع فلا يحس بثقل نغمها الصوتي ولكن مسألة الاعتدال ترجع إلى الكلمة ودقة اختيارها، وقبولها لدى المتلقي... فمسألة الاعتدال مسألة نسبية بين الأشخاص والأماكن...
8-تصغير الكلمة في موضع يعبر به عن شيء لطيف أو خفي أو قليل... فكل تصغير ينتهي باللفظ إلى نكتة بلاغية يزيد حسنه ويجمل موقعه، ويوحي بأثر نفسي محبب... ومن ذلك قول عمر بن أبي ربيعة:
وغاب قُمير كنت أرجو طلوعه.......وروَّحَ رُعْيانٌ ونَوَّم سُمَّرُ
فالتصغير هنا مختار بعناية ويوحي بالود والإعزاز والدلال... فإنه جعله قميراً لأنه لم يكتمل؛ فهو هلال غاب في أول الليل...
أما الأسماء التي لا ينطق بها إلا مُصَغَّرة كاللُّجين والثُّريَّا فليس للتصغير فيها حُسْن يذكر لأنه غير مقصود به ما قدمناه... فيحسن التصغير لموقع الاختصار به كما في قول الشريف الرضي:
يُوَلِّعُ الطَّلُّ بُرْدينا وقد نَسَمَتْ.......رُوَيْحةُ الفجر بين الضَّال والسَّلَمِ
"فلما كانت الريح المقصودة هناك نسيماً مريضاً ضعيفاً حسنت العبارة عنه بالتصغير، وكان للكلمة طلاوة وعذوبة".(56)
فأما ما يذهب إليه من التصغير بمعنى التعظيم في مثل قول لبيد بن ربيعة؛ فلا يقبله في (دويهية) وما يجري مجراها:
وكلُ أناسٍ سوف تدخلُ بينهم.......دُوَيْهِيَّةٌ تَصْفَرُّ منها الأناملُ
فابن سنان الخفاجي يقف ناقداً ومحللاً لهذا التصغير مقتفياً أثر أبي العباس المبرد (ت 285هـ) في مفهومه للتصغير. فالتصغير لم يستعمل- كما يزعمان- في كلام العرب للتعظيم، لأنه موضوع للتحقير، فإذا وضع للتحقير والتعظيم فقد زالت الفائدة به، ولم يكن دليلاً على واحد منهما...
ثم يُسْتَشفُّ من متابعته للكلام أنه يقر بأن التصغير يمكن أن يستعمل للتعظيم ويحمل عليه، ولكنه لا يختاره كوجه من وجوه فصاحة الكلمة، كما في قول المتنبي:
أُحاد أم سُداسٌ في أُحادٍ.......لُيَيْلتنا المنوطةُ بالتنادِ
فتصغير (لُيَيْلتنا) تصغير تعظيم...
فابن سنان الخفاجي يقبل بعض التصغير وينفي الآخر في دلالته البلاغية على التعظيم؛ فإذا أدركنا أن التصغير إنما هو المبالغة في التصوير لأمر بلاغي يتوخاه المتكلم أيقنا أنه قد يستعمل للتحقير أو للتعظيم على السواء... فالنظرة النقدية اللغوية حصرت محاكمة ابن سنان في المفهوم اللغوي الصِّرْف لمعنى التصغير... وهذا ما اتضح من تعليقه على بيت أبي الطيب المتنبي:
ظَلِلتُ بين أُصَيْحابي أكفكفُه.......وظلَّ يَسْفَحُ بين العُذْر والعَذْلِ
فقال: "فالتصغير فيه مختار؛ لأن العادة جارية في قلة عدد من يصحب الإنسان في مثل هذه المواضع؛ ولهذا كانوا في الأكثر ثلاثة، وجرى ذكر الصاحبين والخليلين في الشعر كثيراً لهذا السبب"(57) على حين أن العكبري شارح ديوان المتنبي رأى أن (أُصيحابي) تصغير تعظيم... فالتصور اللغوي قاد الخفاجي إلى كيفية خطاب المفرد بلفظ المثنى فأيده بشعر امرئ القيس:
خليلي مُرَّا بي على أم جندب.......نقض لبانات الفؤاد المعذب
فالشاهد (خليلي)... بينما وظيفة تصغير الكلمة في إيحائها الدلالي البلاغي هي التي دفعت بالعكبري إلى تفسيره لمفهوم التصغير...(58)
وينتهي بنا التأمل في كل ما قيل إلى أن التصغير مقترن بقصد المتكلم في التصوير لوجه بلاغي، فقد يوحي بالمبالغة في أي أمر بهدف التحقير، أو التدليل، أو التقريب أو الاختصار أو التعظيم أو التهويل... ويكون تعظيم قَدْر لا تعظيم قدرة.
ومهما قيل في شأن فصاحة اللفظ المفرد فإن صورتها ناقصة إذا لم تقترن بفصاحة اللفظ المؤلف في الجملة... فكلمة (الرب) مثلاً تدل على العزة والعلو والارتفاع والسمو والنمو... ولكنها حين سيقت في النص القرآني الآتي اكتسبت جمالية خاصة بدلالتها على الإله المالك لكل شيء، والذي لا تنفد خزائن كلماته: ]قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفِدَ البحرُ قبل أن تنفَد كلمات ربي، ولو جئنا بمثله مَدداً[ (الكهف 18/109).
ولو قرأنا قوله تعالى: ]إن عدَّةَ الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلَقَ السموات والأرض[ (التوبة 9/36)... لرأينا أن كلمة (العِدَّة) اكتسبت أبعاداً فكرية وجمالية خاصة في سياقها القرآني. فالعدة تشير إلى المقدار والتهيؤ للعملية الإحصائية... ولكنها في الوقت نفسه ارتبطت ببلاغة التصميم للكون منذ بدء التكوين، ثم اتفقت بالدلالة مع ما تواضع عليه الخَلْق في عدد الشهور... فانتظم التهيؤ الكيفي التركيبي للكلمة مع الدلالة في تطورها منذ تصميم الكون حتى خلق البشرية، واتفاقهم على معطيات العدد والعِدَّة في مواضَعاتهم الاجتماعية والفكرية...
ولن نتمكن من فهم فصاحة اللفظ المُؤلَّف قبل أن ندرك طبيعة شروط الفصاحة في اللفظ المؤلف كما انتهى إليها القدماء... وإبراز جمالية ذلك في ضوء ما تحدث عنه ابن سنان الخفاجي خاصة في كتابه (سر الفصاحة).
2 ـ فصاحة اللفظ المؤلف:

مهما قيل في فصاحة اللّ‍فْظ المفرد مما يبين خصائص الكلمة وجماليتها في حال الإفراد فإن أثرها الذي يقع في النفس موقع القبول ويتسق مع دلالته الوضعية يظل دون ما يكون في التأليف. فالوفاء بالمعنى والإمتاع الجمالي شرطان أساسيان يعبران بصدق عن عواطف القائل وأفكاره... وحينما يراعي المتكلم الحال والمقام والمخاطب والدقة في الاستعمال؛ فإن كل كلمة تبقى فصيحة في موضعها على الشروط التي مرت وتكتمل بخمسة أشياء
ذكرها الحكماء كما قال ابن سنان: ((الموضوع والصانع والصورة والآلة والغرض)). (59).
وإذا كان الأمر كذلك فتأمل شروط فَصَاحة اللفظ المفرد؛ وقُسْ عليها ما يَرِدُ من الألفاظ عليك، وإنك تعلم الفصيح منه... على الرغم من أنهم خلطوا بين مفهوم الفصاحة والبلاغة والبيان والجمال كما نراه في قول ابن الأثير: "شيئان لا نهاية لهما، هما البيان والجمال."
وهذا كله لا يكتمل إلا بمعرفة فصاحة اللفظ في التأليف... فالتأليف يؤدي إلى سياق، والسياق يوحي بأشياء كثيرة في فصاحة الكلمة وتأثيرها... وهذا يشكل وعياً جمالياً بالكلمة في نطقها وفي استعمالها... ويصبح الجمال الفني قائماً على معايير الانسجام والتلاحم الدقيق في المعنى والتركيب والتناسب بينهما، مع مراعاة الحالة النفسية.
وقد تجتمع الفصاحة بشروطها الثمانية في اللفظ المفرد لكن التأليف المختار في التركيب وفي موقعه الإيقاعي، واتساقه المعنوي، واتساع دلالته أو ضيقه يقلل من فَصَاحته؛ إن لم يستهجن... وقد تكون الكلمة ثقيلة في اللفظ أو أن مخارجها متقاربة ولكنها في التركيب تستدعيك فلا يؤخذ غيرها؛ فتمد لك الآفاق في التصور، وتجري من الإيقاع مجرى التأثير المتصاعد، كما نراه في كلمة (عسعس)، في قوله تعالى: ]والليل إذا عسعس؛ والصبح إذا تنفس[، ـ (التكوير 81/ 17-18).
فتقارب مخارج (عسعس) في ذاتها لم يُحِلْ دون استعمالها في تركيب تأليفي يشعر ببديعِ التصوير وعظمة التأثير، فالظلام يطول ويلقي بثقله على الإنسان فيرسي فيها هموماً وخيالات شتى فجاءت كلمة "تنفس" لتخرجه من حالته الكئيبة. وكذلك كلمة (ضِيْزى) في قوله تعالى: ]تلك إذاً قِسمة ضِيْزى[ ـ (النجم 53/22). فلو استخدم مكانها أي لفظ لما وقع موقعها.
ولهذا فإننا حين نراعي شروط الفصاحة في اللفظ المفرد كما أثبتها البلاغيون فإن هذه المراعاة تقتضي أن ينظر إليها متكاملة في بلاغة التأليف وفصاحته...
ولاشيء أدل على هذا من أن ابن سنان الخفاجي أعاد الأقسام الثمانية في اللفظة المفردة حين تحدث عن فصاحة التأليف في الكلام إلى التأليف ذاته.. فكلمة (ضِيْزى) التي ذكرناها؛ غريبة في إفرادها، ولكنها تدل أعظم دلالة على الفصاحة في تأليفها. ويرى ابن سنان أن القسم الأول منها "تأليف اللفظة من حروف متباعدة المخارج وهذا بعينه في التأليف ثم يوضح مفهومه فيقول": وبيانه أن يجتنب الناظم تكدر الحروف المتقاربة في تأليف الكلام، كما أَمرناه بتجنب ذلك في اللفظة المفردة بل هذا في التأليف أقبح". (60).
وليس يحتاج إلى معرفة قبحه أكثر من سماعه. فأبو العلاء المعري كان متعصباً للمتنبي، ولكنه لما أنشد بين يديه إحدى قصائده، ووصل القارئ إلى البيت الآتي، قال: هذا والله شعر مُدْبِر؛ والبيت هو:
ولا الضِّعْف حتى يبلغ الضِّعفُ ضعفَهُ.......ولا ضعفَ ضعفِ الضِّعْفِ بل مثله أَلفُ
وطالما استشهد البلاغيون على تقارب مخارج اللفظ ببيت حرب بن أمية وجعلوه مثالاً للتنافر والثقل والضَّعف؛ فالمصراع الثاني يثقل التلفظ به وسماعه...:
وقبرُ حربٍ بمكان قَفْرُ.......وليس قُرْبَ قبرِ حربٍ قَبْرُ
ولهذا كله قال الرماني: التأليف على ثلاثة أضرب: متنافر، ومتلائم في الطبقة الوسطى، ومتلائم في الطبقة العليا..... ثم أرجعها ابن سنان إلى اثنين: متنافر ومتلائم. وحكي عن الخليل بن أحمد أن التنافر هو تباعد مخارج الحروف بعداً شديداً حتى يكون بمنزلة الظَّفْر، فإذا قربت قرباً شديداً كانت بمنزلة مشي المقيد، فكلاهما صعب على اللسان والسهولة في الاعتدال.(61).
وقد فصَّلَ ابن سنان القول في القسم الأول كل ما يتعلق بالتنافر اللفظي لقرب الحروف وتكرار الكلمات التي تؤدي إلى ابتذال في المعنى كقول أبي الطيب:
ومن جاهلٍ بي وهو يجهلُ جهلَهُ .......ويجهلُ علمي أنَّهَ بيَ جاهلُ
فقد ذكر الجهل خمس مراتِ؛ وكرر ـ بي ـ فلم يبق من ألفاظ البيت مالم يعده إلا اليسير....... ثم ذكر أن المتنبي جمع القبح بأسره في صيغة لفظ له في بيتين، وكرر فيهما اللفظ فجاء بالغثاثة كلها، (62)، ثم فصّل القول في مسألة قبح التكرار.
والثاني: التأليف المختار الحسن مع تباعد الحروف تباعداً مناسباً... "فإن هذا إنما يكون في التأليف إذا ترادفت الكلمات المختارة، فيوجد الحسن فيه أكثر، وتزيد طلاوته على مالا يجمع من تلك الكلمات إلا القليل.... فالتأليف المتواتر والمترادف يثير جمالاً قوياً... ويظل القبح في الإفراد أكثر مما هو في التأليف...
والثالث والرابع من فصاحة الألفاظ ما يتعلق بالتوعر والعامية...
وهذان الضربان يقبحان في التأليف إذا كثرا فيه... فالإسهاب في إيراد الكلام الوحشي، أو العامي المبتذل يذهب بهاء التأليف... وهناك من يرى أن التأليف للألفاظ العامية قد تكون بليغة إذا كان غرضها خطاب العامة... وإنما يجب الاحتراز من الصيغ في بعض الوجوه المذمومة.
والخامس أن تكون الكلمة جارية على العُرْف العربي الصحيح، "فللتأليف بهذا القسم عُلْقة وكيدة لأن إعراب اللفظة تبع لتأليفها في الكلام، وعلى الموضع الذي وردت فيه... فإن قال لنا قائل: إني إذا أمعنت النظر وأحسنت النظر واعتبرت قول حسان:
يُغْشَونَ حتى ما تَهِرُّ كلابهم......لا يَسْألون عن السَّواد المُقْبِل
وغيّرتِ الإعراب عن وجهه"، لذهب تأثير الفصاحة ورونق الكلام... ثم يرى أن "تغير الكنايات وعدول الضمائر عن النسق في إيرادها ما يزيل شطراً من الفصاحة وطرفاً من الرونق"، كقول المتنبي:
قوم تفرَّسَتِ المنايا فيكُمُ.......فرأت لكم في الحرب صَبْرَ كرامِ
لأن وجه الكلام قوم تفرست المنايا فيهم فرأت لهم... فإعراب الكلام إنما يدل على معانٍ، وبه يزول اللبس والغموض والجواز والشاذ... فالإعراب يتعلق بالفصاحة العربية ومتى خرج الكلام عن الفصاحة العربية في نظام التأليف انحدرت الفصاحة فيه...
السادس: كراهة وضع لفظ لمعنى آخر قبيح مكروه؛ "فللتأليف فيه تعلق بحسب إضافة الكلمة إلى غيرها"، كقول الشريف الرضي:
أَعْزِزْ عليَّ بأنْ أراكِ وقد خلَتْ .......من جانبيكِ مَقَاعدُ العُوَّادِ
فإضافة (مقاعد) إلى (العواد) إضافة صحيحة، ومعنى (مقاعد)، في البيت صحيح، لكنه موافق لما يكره ذكره في مثل هذا الشأن... فالتأليف زاد قبح الكلام... ولو أفرد لما وجد فيه قبح... فلفظ (العُوَّاد) يذكرنا بالمرض وعيادة المريض.
السابع: اجتناب الكلمة الكثيرة الحروف...
ويرى ابن سنان أن كثرة الحروف تعيب اللفظ المفرد؛ وإنما يظهر قبحه في التأليف إذا تكرر كقول المتنبي:
سَمُجَتْ ونبهنا على استسماجها ......ما حولها من نَضْرةٍ وجمالِ
فكلمة "استسماجها" رديئة لكثرة حروفها، وزاد التأليف من قبحها حين استعمل معها الفعل "سمجت".... فصار اللفظ بهما سمجاً.
الثامن: تصغير الألفاظ...
وكذلك تصغير الكلمات عنده لا عُلْقة للتأليف بقبحه وتدّني فصاحته إلا إذا تكررت ألفاظه أو ترادفت، ثم يقول: "إن تكرار التصغير والنداء والترخيم والنعت والعطف والتوكيد وغير ذلك من الأقسام، والإسهاب في إيرادها معدود في جملة التكرار، ويجب التوسط فيه، فإن لكل شيء حداً أو مقداراً لا يحسن تجاوزه، ولا يحمد تعديه."(63).
وإذا كانت دراسة ابن سنان للفصاحة المثال المحتذى بعده للدراساتِ البلاغية في فصاحة اللفظ المفرد والمؤلَّف فإن معاصره عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ)، قد ركز اهتمامه في التأليف. فهناك ألفاظ حلوة الجرس في موضع ثقيلته في موضع آخر على فَصاحتها في حال الإفراد... لأن المزية التي من أجلها نصف اللفظ في شأننا هذا بأنه فصيح مزية تحدث بعد أن لا تكون وتظهر في العلم من بعد أن يدخلها النظم"(64).
فالفضيلة للفظ تثبت في ملاءمة معناه لما يليه من الألفاظ، وما يسبقه فلفظ (الأخدع)، لا يخفى حسنه في بيت البحتري:
وإني وإنْ بلَّغتني شرف الغنى.......وأعتقت من رِقِ المطامعِ أَخْدَعي
فالأخدعان: عرقان في جانبي العنق قد خفيا؛ ولا يخفى الثقل والتكدير في استعمال أبي تمام لهذا اللفظ في قوله:
يا دهرُ قوِّم من أَخْدعيك فقد .......أَضْججت هذا الأنامَ من خُرُقِكْ
ويستطرد الجرجاني في بيان حسن اللفظ المؤلف، واللفظ المستعار الذي يمثل جمالية التصوير، ويعبر في الوقت نفسه عن فصاحته، فقد تستحق الكلمة الشرف منفردة؛ لكنها في حال مجاورتها لأخواتها في النظم قد تفقد هذه المزية. فالفصاحة لديه تكمن في إطار عملية (النظم) وتوخي المعاني الأُوَل فالثواني، والأديب لا يطلب اللفظ المفرد؛ وإنما يطلب المعنى في اللفظ المؤلف؛ وإن لم ينكر فصَاحة اللفظ المفرد.
وكأني به قد تأثر بعبد الجبار في تفسيره للفصَاحة على أساس النظم الذي يتوخى معاني النحْو.(65).
ثم يذهب الرازي (ت 606هـ)، مذهبه ويركز على مفهوم خلوص الكلام من التعقيد؛ وكذلك يرى ضياء الدين ابن الأثير (ت637هـ)؛ بينما يشرح السكاكي قبله (ت626هـ)، مفهوم خلوص الكلام من التعقيد فيقول: هو أن يعثر صاحب الفكر في متصرفه ويشيك الطريق إلى المعنى (66)، كقول الفرزدق:
وما مثلُهُ في الناسِ إلا مُمَلَّكاً.......أبو أُمِّهِ حيٌّ أبوهُ يقاربُهُ.
أما حازم القرطاجني(ت684هـ)، فقد استلهم ما أتى به عبد القاهر الجرجاني في المعاني الأُوَل والثواني، ونمَّى نظرية ((النظم)) حين أردفها بنظرية التناسب التي أتى بها... فقال: "ومن ذلك حسن التأليف وتلاؤمه، والتلاؤم يقع في الكلام على أنحاء: منها أن تكون حروف الكلامِ بالنظر إلى ائتلافِ بعض حروف الكلمة مع بعضها، وائتلاف جملة كلمة مع جملة كلمة تلاصقها منتظمة في حروف مختارة متباعدة المخارج مترتبة الترتيب الذي يقع فيه خفة وتشاكل ما، ومنها ألا تتفاوت الكلم المؤتلفة في مقدار الاستعمال، فتكون الواحدة في نهاية الاعتدال والأخرى في نهاية الحوشية وقلة الاستعمال، ومنها أن تتناسب بعض صفاتها مثل أن تكون إحداهما مشتقة من الأخرى مع تغاير المعنيين من جهة أو جهات أو تتماثل أوزان الكلم أو تتوازن مقاطعها، ومنها أن تكون كل كلمة قوية كالطلب لما يليها من الكلم أليق بها من كل مايمكن أن يوضع موضعها.
وقد تعدم هذه الصفات أو أكثرها من الكلم وتكون مع ذلك متلائمة التأليف، لا يدرى من أين وقع فيها التلاؤم ولا كيف وقع، ليس ذلك إلا لنسبة وتشاكل يعرض في التأليف لا يعبر عن حقيقته ولا يعلم ما كنهه؛ إنما ذلك مثل ما يقع بين بعض الألحان وبعض؛ وبعض الأصباغ وبعض من النسبة والتشاكل ولا يدري من أين وقع ذلك".(67).
ثم يأتي حازم القرطاجني بشواهد تقوي رأيه في نظرية التناسب في الكلام المؤلف... والمهم لدينا أن العناصر الجمالية في الكلام المؤلف تدخل في فاعلية التوحّد بين الدلالة و الشكل وقدرته على الإمتاع والتأثير النفسي والفكري دون تنافر أو تعقيد أو غموض يسقط من جمالية الكلام... ومن هنا تبرز جمالية التناسب التي تعطي الجملة سحراً أخاذاً.:..
ثم أعاد القزويني (ت739هـ)، آراء السابقين له، وضبط بدقة صفة الكلام الخالي من التعقيد؛ فقال: "ماكان الانتقال من معناه الأول، إلى معناه الثاني الذي هو المراد به ظاهراً حتى يخيل إلى السامع أنه فهمه من حاقِّ اللفظ".(68).
ورأى أن كثرة الإضافات وتداخلها، وكثرة التكرار في التأليف يؤدي إلى التعقيد؛ كقول المتنبي؛ وقد كرر في لفظ (غمرة) وهي بمعنى واحد؛ فأوهم وعقَّد الكلام؛ وأفضى إلى ثقل اللفظ في اللسان:
وتُسْعِدُني في غَمْرةٍ بعد غمرةٍ.......سَبُوحٌ لها منها عليها شواهدُ
فمتى حصل ذلك كله وجب الاحتراز منه في التأليف...
وهذا كله مستمد من آراء عبد القاهر الجرجاني؛ أما حازم القرطاجني فقد أوضح فكرته في التناسب الإيقاعي والتركيبي، ولعل التعقيد في بيت المتنبي جاء من عدم إقامة التناسب بين العناصر اللغوية والفنية... مما أسقط جماليته، ومن ثم وُصِفَت بعض ألفاظه بابتعادها عن الفصاحة.
تلك هي ملامح جمالية الكلمة في المفهوم وما تتصف به في حال الإفراد والتركيب من جهة الفصاحة والبلاغة... وقد عُنِيَ القدماء بإظهار خصائصها الأسلوبية في ذلك كله؛ فكانوا رواداً عظماء في الحديث عن كثير مما تعرفه البلاغة الجديدة.
ولما ظهرت الدراسات الأسلوبية الحديثة لم تفترق في نظرتها لجمالية الكلمة فصاحة وبلاغة عن رؤية القدماء؛ وبقي مفهوم الفصاحة ألصق باللفظ المفرد؛ بينما ربطت البلاغة باللفظ المفرد والمركب.(69).
ومهما قيل في هذا الاتجاه يظل مصطلح (البلاغة) شاملاً لعدد من المصطلحات القديمة كالفصاحة والبيان، والظهور وعلم المعاني وعلم البديع.... وهي جامعة لدلالة الاصطلاحات الحديثة كعلم الأسلوب، أو الأسلوبية، وفن التأليف، أو فن الإنشاء؛ والكتابة؛ أو صناعة الكتابة؛ وفن التعبير....
ولما كان ذلك كله أساسه الكلمة الجميلة الموحية؛ كان عنوان بحثنا (جمالية الكلمة البلاغية)... ليبقى القديم مستمراً في الحديث على نحو من الأنحاء؛ لكن البلاء والداء يكمن في عقل بعض الباحثين الذين يرون أن كل قديم بالٍ.
وإننا إذ نقدم رؤيتنا الجمالية فإننا نسعى إلى إيضاحها وإبراز ملامحها في مفهوم الجملة، وفيما يليها من مكونات البحث. فقد لا نتفق مع جملة من المواضَعات التي رغب فيها القدماء للفصاحة والبلاغة... فما قد يكون غير فصيح من الألفاظ في موضع فإنه كان فصيحاً وجميلاً في موضع آخر؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن تقارب الحروف أو تنافرها، أو ما قيل عن غرابة الكلمة ووحشيتها يكون على غاية من البلاغة والفصاحة في مواضع استعمالها، على وجود شيء في النفس منها. فماذا يقول المرء في لفظ (عَسْعَس)، المتقاربة المخارج من قوله تعالى: ]والليل إذا عَسْعَس[، (التكوير 81/17)، ولفظ (أثاقلتم) في قوله تعالى: ]فما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثّاقلتم إلى الأرض[ (التوبة 9/38)،
فلا يشك أحد حين يردد لفظ (عسعس) و(أثاقلتم) فإنه سيجد ثقلاً على اللسان وضغطاً على الحروف، إما لتقاربها، وإما لتكرارها... ويثور السؤال في الذهن، أيُّ الألفاظ يمكن أن تقوم مقامها في سياقها؟ فيأتي الجواب بأن المرء لا يمكن أن يجد أفصح منها في تأدية الوظيفة التي حملتها، في سياقها... وبهذا تكمن فصاحتها، على تقارب مخارج حروفها...
فالمنهج العلمي الموضوعي هو الذي يسعى إلى استخلاص أبعاد الجمال البلاغية في اللفظ، وما يعبر عنه سياقه من معانٍ نفسية وفكرية... فالألفاظ تشاكل دلالتها وإيحاءاتها سواء كانت غريبة أم مألوفة، واللفظ الغريب إذا استعمل في سياقه الدقيق، يصبح فصيحاً كما في كلمة (ضيزى) المضروبة مثلاً للغرابة... ولكنها في حالة استعمال القرآن لها وهي حالة وحيدة لم يقع في موقعها أفصح منها، ]ألكم الذكر وله الأنثى، تلك إذاً قِسْمة ضِيْزى[ (النجم53/22)...ومثلها لفظ (أغطش) في قوله تعالى:]أأنتم أشد خَلْقَاً أم السماء بناها، رفع سِمْكَها فسوّاها، وأَغطش ليلها، وأَخْرَجَ ضُحاها[، (النازعات 79/
27- 29)....فكلمة (ضيزى) تدل على التعسف في القسمة، فهي غيْر عادلة، و(أغطش) تدل على تقريع المعاندين المنكرين للبعث. فلو اختير غيْرهما للدلالة المقصودة لما وقعنا على هذا الإيحاء الخاص الرائع في جمال الأسلوب وشدة اقتضاء اللفظ لمعناه ودقته... فلفظ (أغطش)، على غرابته أعظم فصاحة في الدلالة على شدة الظلمة في موقعه من كلمة (أظلم)، التي تعد مألوفة عند البلاغيين وأكثر فصاحة....(70).
فالباحث حين يتحدث عن فصاحة الكلمة، فإنه يتوقف عن الشروط التي وردت عند البلاغيين؛ ولكنها شروط غير مطردة، ولا منزهة عن الغلط.. فكل كلمة فصيحة في ذاتها بليغة إذا أحسن استعمالها في سياقها وقامت بدلالة أو وظيفة لا تقدر كلمة أخرى عليها... ومن هنا نرى أن كلمة (غطش) بقيت غريبة في قول الأعشى التالي بالقياس إلى الاستعمال القرآني:
ويَهْمَاءَ بالليل غَطْشَ الفلا.......ةِ يُؤْنِسني صَوْتُ فَيّادِها
فجمالية الكلمة وفصاحتها لا يكمن في ذاتها، ولا تستند إلى الذوق الرفيع؛ ولا دقة أدائها لدلالتها في موقعها المناسب مع أخواتها، وعدم تعارضها مع المنطق والفكر، .... وإنما يعود إلى ذلك كله... فهي لذلك كانت من القرآن الكريم، أكثر سمواً وجمالاً، فكانت اللفظة تؤكد فصاحتها وجماليتها في سياقها الذي لا يكون غيره؛ "ولكل شيء موضع، وليس يصلح في كل موضع، وقد قسم الله الخير على المعدلة" كما قال الجاحظ(71).
وإذا كان كل زيادة في المبنى يعني زيادة في المعنى فإن هذا يجعل عدد الحروف غيرمتساوٍ في الكلمات لفظاً ودلالةً، ومن ثم ترتيباً في البنية والموقع (72). مما يعني أهمية اختيار لفظ دون لفظ لهذا المعنى أو ذاك والدقة في استعماله الوظيفي السياقي.
وهذا لا يعني أننا ننكر جمالية الكلمة أو بلاغتها في اللفظ المفرد، ولكننا نقوي من ذلك في طريقة التخير اللفظي لموضوعه ومقامه، وفق القاعدة البلاغية (لكل مقام مقال) وعملاً بما كان يفعله الرسول الكريم من تغيير كلمات مكان كلمات، أو توجيه السامع إلى ذلك... كفعله حين استمع إلى بعض الشعراء(73)، وكذلك ما يفهم من التوجيه الإلهي: "]يا أيها الذين آمنوا؛ لا تقولوا: راعنا، وقولوا: انظرْنا[، (البقرة 2/104).
فالأصل في جمالية الكلمة ماقام عليه الاستعمال ليدل بدقةٍ متناهية على الوظيفة التي يؤديها .... فكلمة (راعنا) غَيْر مذمومة وهي فَصيحة في ذاتها؛ ولكن لهذه الكلمة معنىً مذموماً عند اليهود، لذلك نُهي المؤمنون عن مخاطبة الرسول الكريم بها.(74). فليست البلاغة إلا حق النظم وحسنه كما يفهم من قول للمبرد: "فحق البلاغة إحاطة القول بالمعنى، واختيار الكلام؛ وحسن النظم حتى تكون الكلمة مقاربة أختها ومعاضدة شكلها"(75). و"لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يُعلَّق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك".(76).
فالبليغ: من يحوك الكلام على حسب الأماني، ويخيط الألفاظ على قدود المعاني". (77). ورحم الله الجاحظ حين قال: "والأسماء في معنى الأبدان والمعاني في معنى الروح. اللفظ للمعنى بدن والمعنى للفظ روح. ولو أعطاه الأسماء بلا معانٍ لكان كمن وهب شيئاً جامداً لا حركة له، وشيئاً لا حِسَّ فيه، وشيئاً لا منفعة عنده". (78).
وعن هذا الكلام صدر ابن طباطبا في (عيار الشعر) لمفهوم اللفظ والمعنى (79). وابن رشيق في (العمدة)(80).
بهذا تلقينا مفهوم الفصاحة في اللفظ المفرد والمؤلف، وأدركنا وجه التفاعل لكل كلمة مع أخواتها وفي سياقها، فتحقق لنا ماهية جمالية بديعة... فالظواهر البلاغية بأشكالها كلها تبرز أن الكلمة الجمالية الأولى حين تتلقانا... وحين نستقبلها، إنما يكون لها هذه الخاصية في إطار تمثل جمالياتها في اللفظ المفرد أولاً ثم المؤلف ثانياً (81)، لأننا نرى أن أسباب تكيف الكلمة في الجملة يعطيها إيحاءات جمالية لا تكمن في إفرادها... فنحن نكتشف العناصر الفنية الجمالية الثرية في التبدل اللفظي التركيبي المناسب للمقام والحال....
ومن هنا نتجه إلى إدراك طبيعة ذلك ووظيفته في الفصل الثاني الذي يتبنى مفهوم معرفة جماليات الجملة، وبعض أحوال الإسناد فيها....
حواشي الفصل الأول:
(1) ـ انظر: الكتاب لسيبويه 1/12 وانظر حاشية (61)، من حواشي الفصل الثالث.
(2) ـ انظر المصدر السابق 1/12 ـ 23 والكشاف 1/76-82 والمزهر 1/11 وبعد.
(3) ـ الخصائص لابن جني 1/17 و33 وانظر المزهر 1/7 وجواهر البلاغة 4-5.
(4) ـ انظر مقالات في الأسلوبية 20-25 وبلاغة الخطاب وعلم النص 194 وبعد.
(5) ـ المزهر 1/8 و40.
(6) ـ الكشاف 1/76 وكلام الزمخشري مأخوذ من الجاحظ؛ انظر رسائل الجاحظ 1/187-188.
(7) ـ بلاغة الكلمة والجملة والجمل 27.
(8) ـ انظر بلاغة الخطاب وعلم النص 194.
(9) ـ انظر بلاغة الكلمة والجملة والجمل 27 وبعد.
(10) ـ انظر مثلاً ما ورد في كتاب: "الحيوان للجاحظ 5/426 وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة 15/21 والعمدة لابن رشيق 1/455 والمثل السائر لابن الأثير 1/343 و348... وغير ذلك مما سنذكره في البحث.
(11) ـ كتاب (دلائل الإعجاز) أعظم دليل على ما ذكرناه، وسيكون معولنا في كثير من الآراء القادمة.
(12) ـ اللغة والتفسير والتواصل 85 وانظر نظرية النص لرولان بارت 23 و47.
(13) ـ المرجع نفسه 131 وهو ينطلق في مفهومه للكلمة من مفهوم صاحب المرجع الثاني نفسه.
(14) ـ المرجع نفسه 135.
(15) ـ الجامع الصغير من حديث البشير النذير (رقم 2696 و1166)، على ترتيب الحديثين والثاني في (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس). 1/145. وانظر مجالس ثعلب 454.
(16) ـ اللسان والقاموس المحيط، والمعجم الوسيط (فصح)، وانظر العمدة 1/129 وسر الفصاحة 58 وبعد، وجواهر البلاغة 6-7.
(17) ـ الحيوان 1/32.
(18) ـ النهاية في غريب الحديث 3/450.
(19) ـ كشف الخفاء 1/72 وانظر الجامع الصغير الحديث رقم 310.
(20) ـ انظر نهاية الأرب 7/ 6 و11.
(21) ـ الطراز 56.
(22) ـ المقابسات لأبي حيان التوحيدي 185-186.
(23) ـ المثل السائر 1/85.
(24) ـ البيان والتبيين 1/15 –20 و 65 و 69 و115 و144 و3/212-213، وانظر العمدة 1/241-250.
(25) ـ انظر الشعر والشعراء 1/66 و103 وكتابه تأويل مشكل القرآن.
(26) ـ انظر على الترتيب الوارد في المتن: الكامل 1/43 وقواعد الشعر 59 ونقد الشعر 96 وأسرار البلاغة 34 و350 ونهاية الإيجاز 9 ومنهاج البلغاء 65.
(27) ـ انظر لسان العرب وتاج العروس والمعجم الوسيط والقاموس المحيط (بلغ) والعمدة 1/249 وجواهر البلاغة 32 وبعد.
(28) ـ البيان والتبيين 1/88 وانظر العمدة: 1/241-250.
(29) ـ انظر الكشاف 1/407.
(30) ـ انظر المفردات في غريب القرآن 60.
(31) ـ انظر ما قاله القاضي عبد الجبار في (المغني في أبواب التوحيد والعدل)، باب إعجاز القرآن 16/197 وبعد.
(32) ـ انظر البيان والتبيين 1/114.
(33) ـ انظر الصناعتين 7-9 و 10 و13-14 و167.
(34) ـ سر الفصاحة 60.
(35) ـ التلخيص في علوم البلاغة 32 و36 وهو منقول بحرفيته من العقد الفريد 2/285؛ وانظر الإيضاح في علوم البلاغة 9 والمثل السائر 1/69.
(36) ـ مقدمة ابن خلدون 117.
(37) ـ انظر التفكير البلاغي عند العرب 113-114 ومقالات في الأسلوبية 196-197.
(38) ـ مقالات في الأسلوبية 181-182 و196و198.
(39) ـ مقالات في الأسلوبية 181-182 و196و198.
(40) ـ العقد الفريد 2/285، وانظر التلخيص في علوم البلاغة 33 وجواهر البلاغة 33.
(41) ـ مقالات في الأسلوبية 196.
(42) ـ انظر المرجع السابق 182 و185.
(43) ـ مثاله من النماذج كتاب (إعجاز القرآن 2/11 وبعد) للباقلاني.
(44) ـ انظر مثلاً: التلخيص في علوم البلاغة 24 وبعد؛ وجواهر البلاغة 7 وبعد.
(45) ـ سر الفصاحة 64.
(46) ـ انظر الكتاب لسيبويه 1/8، والمنصف لابن جني 2/299 –300 والنكت في إعجاز القرآن (ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن)، 72 و87 –88 والمزهر 1/191 –194 وأثر النحاة في البحث البلاغي 56 و259.
(47) ـ انظر الصناعتين 7-13 وبيان إعجاز القرآن (ضمن ثلاث رسائل) 33 والعمدة 1/261.
(48) ـ انظر مثلاً : رسالة التربيع والتدوير للجاحظ 67 والمثل السائر 1/57 و155 و163 وعيار الشعراء 21-22.
وراجع ما قاله شوقي ضيف في: البلاغة ـ تطور وتاريخ 154-155.
(49) ـ النهاية في غريب الحديث 4/378.
(50) ـ المصدر السابق 1/162 وانظر الحديث بلفظ (الباع)، في الأحاديث القدسية 237.
(51) ـ سر الفصاحة 74 و76 وانظر جواهر البلاغة 10-12.
(52) ـ اللسان (قرض).
(53) ـ سر الفصاحة 84.
(54) ـ الأغاني 21/395 وانظر كتابنا: قراءات في أدب العصر الأموي 150.
(55) ـ انظر سر الفصاحة 15-58.
(56) ـ سر الفصاحة 69
(57) ـ سر الفصاحة 92
(58) ـ راجع ما ورد في سر الفصاحة 58 وبعد.
(59) ـ سر الفصاحة 93-96.
(60) ـ سر الفصاحة 97 وانظر جواهر البلاغة 22 وبعد.
(61) ـ النكت في إعجاز القرآن 72.
(62) ـ سر الفصاحة 104.
(63) ـ سر الفصاحة 110.
(64)ـ دلائل الإعجاز 307.
(65) ـ انظر : دلائل الإعجاز 401 والمغني في أبواب التوحيد والعدل 16/197-199م.
(66) ـ انظر المثل السائر 1/41 و45-46 و224 –227 والبلاغة تطور وتاريخ 274-311 و334.
(67) ـ منهاج البلغاء 222-223 وانظر فيه 219.
(68) ـ انظر الإيضاح في علوم البلاغة 1/6 و4-8 و12و73و76-80. والتلخيص في علوم البلاغة 26-27.
(69) ـ انظر البلاغة عند السكاكي لأمين الخولي 303.
(70) ـ انظر من بلاغة القرآن 57-58.
(71) ـ رسالة التربيع والتدوير 67 وانظر رسائل الجاحظ 1/123 و174 و187-188 و236 و2/62-63.
(72) ـ انظر البيان والتبيين 1/65 –66 و72 والخصائص 2/152-163 ومقدمة الشعر والشعراء 1/90 وأسرار البلاغة 8.
(73) ـ انظر مثلاً: العمدة 1/210.
(74) ـ انظر الكشاف 1/302.
(75) ـ البلاغة للمبرد 59 ومثله سبق إليه الجاحظ في (رسالة التربيع والتدوير 61).
(76) ـ دلائل الإعجاز 55.
(77) ـ العمدة 1/128 وانظر فيه 129 و212 –214 و257.
(78) ـ رسائل الجاحظ 1/187 وانظر رسالة التربيع والتدوير 24-25 و55. وانظر ما يأتي 63 حاشية 11-13.
(79) ـ انظر عيار الشعر 18 و21-22 و25 و28.
(80) ـ انظر العمدة 1/124 –128.
(81) ـ انظر عيار الشعر 29-30.
[/align]
د.حسين جمعة غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 20 / 10 / 2009, 33 : 11 PM   رقم المشاركة : [4]
د.حسين جمعة
كاتب وأديب ، رئيس اتحاد الكتاب العرب

 الصورة الرمزية د.حسين جمعة
 





د.حسين جمعة is a jewel in the roughد.حسين جمعة is a jewel in the roughد.حسين جمعة is a jewel in the roughد.حسين جمعة is a jewel in the rough

رد: فـي جمالية الكلمة ( دراسة جمالية بلاغية نقدية ) - د.حسين جمعة

[align=justify]
الفصل الثاني:مفهوم الجملة وجمالياتها - القسم الأول: مفهوم الجملة وبنيتها وأركانها


1 ـ مفهوم الجملة:

قلنا:
الكلمة لفظ دال على معنى مفرد وأقسامها ثلاثة: الاسم والفعل والحرف.
ويتركب من ذلك كلام يقال له المركب يقوم على التركيب الإسنادي (مسند ومسند إليه)، وهما أصل الجملة وعمادها... وهناك تركيب إضافي (المضاف والمضاف إليه)، والتركيب البياني: (كل كلمتين؛ الثانية توضح الأولى، وأقسامه ثلاثة: وصفي، توكيدي، بدلي)، والتركيب العطفي، والتركيب المزجي، والتركيب العددي.... والخمسة الأَخيرة لا تشكل في بنيتها التركيبية وحدها جملة مفيدة في أغلب الأحيان.
فالجملة تتشكل وفق مفهوم الإسناد المفيد لمعنى، فإذا تم بالمسند والمسند إليه، تمت الجملة، وقد يستدعي أحدهما أو كلاهما كلاماً آخر لإتمام المعنى، يقال له الفضلة، وربما يحتاج ذلك كله إلى أدوات تسمى أدوات الربط.
ولهذا فالكلام:"هو القول المفيد بالقصد. والمراد بالمفيد ما دل على معنىً يحسن السكوت عليه". فإذا لم يُفِد معنىً تاماً مكتفياً بنفسه فلا يسمى كلاماً.(1).
والجملة كما قال د.إبراهيم أنيس: "أقل قدر من الكلام يفيد السامع معنىً مستقلاً بنفسه؛ سواء تركب هذا القدر من كلمة واحدة أو أكثر".(2). وإلا فلا تسمى جملة مفيدة ولا ينطبق عليها تعريف الكلام. ونلحظ في بناء الجملة تقدم الذات الفاعلة على أنها (المسند إليه) دائماً؛ والذات أبداً تأتي اسماً ثابتاً بينما الفعل متغير؛ بمعنى أن (الذات) سبقت (الحدث) في الوجود. ولهذا قُدِّمت الجملة المسبوقة بالاسم على الجملة المسبوقة بالفعل عند البلاغيين، وأهل اللغة في إطار المسند والمسند إليه... ولا عبرة للفضلة في تقسيمها، أو لأدوات الربط بينها وبينهما.
فالجملة إما أن تكون جملة اسمية أو جملة فعلية؛ على حين قسمها ابن هشام باعتبار صدرها إلى ثلاثة أقسام؛ فما صدرها اسم هي جملة اسمية، وما صدرها فِعْل هي جملة فعلية؛ وما صدرها ظرف هي جملة ظرفية... وزاد الزمخشري وغيره الجملة الشرطية.
واستنكر ابن هشام الجملة الشرطية وردَّها إلى الفعلية؛ ونحن نردُّ الجملة الظرفية إلى الاسمية أو إلى الفعلية تبعاً لتقدير المعنى في الكلام؛ فإن قلنا: أعندك زيد؟ وقدرنا الكلام (بكائن أو مستقر)، فالجملة اسمية؛ ويعرب زيد (مبتدأ)؛ وإن قدرناه فاعلاً لفعل محذوف تقديره (استقر) فالجملة فعلية... وقس على ذلك كل كلام يحتاج إلى تقدير سواء صُدِّر بظرف أم غيره.(3).
أما الفضلة فهي اسم يذكر لتتميم معنى الجملة(المكونة من المسند والمسند إليه) إذا لم يتم بهما معنى مفيد...وقد يلزم التركيب وجود أدواتٍ تربط أجزاء الجملة كالشرط والقسم والاستفهام والتمني والترجي... وتقع الأدوات حرفاً واسماً... وتسمى أدوات الربط.
وبناء على ذلك كله تنقسم الجملة إلى قسمين: (الاسمية والفعلية)، باعتبار ركنيها فقط؛ وسنوضح ذلك في إطار مفهوم البلاغة لا النحْو:
أ ـ الجملة الاسمية:
هي كل جملة تصدَّرت باسم، ووضعت لإفادة ثبوت المسند للمسند إليه؛ أو استمراره بالقرائن الدالة عليه؛ أو الثبوت أو الاستمرار معاً...
وموضعها: المبتدأ والخبر؛ والاسم والخبر مع إن وأخواتها، ولا النافية للجنس، واسم الفعل. والأصل في الخبر أن يأتي نكرة مشتقة في ذلك كله، وقد يأتي جامداً؛ نحو: هذا حجر.
وكذلك الأصل في الجملة الاسمية أن تدل على الثبات ودوامه كقولنا: الشمس مضيئة؛ أو كقولنا: الماءُ تجمُّدُهُ في درجة الصفر... فالمبتدأ مسند إليه لأنه لم يسبقه عامل، وهو الشمس والخبر أسند إليه (مضيئة)، وتمت به الفائدة... والإضاءة ثابتة لها على الدوام والاستمرار في الفعل؛ وكذا التجمد. فالجملة الاسمية تفيد الاستمرار بالقرائن إذا لم يكن في خبرها فعل؛ نحو: العلم نافع. فالعلم نفعه مستمر ـ (هذا هو الأصل فيه...) ـ والسياق لا ينكره كما أن المنطق والعقل لا ينكره. وعليه قوله تعالى في وصف رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ]وإنك لعلى خلق عظيم[ (القلم 68/4).
فهذه الصفة من الخلق الكريم مقترنة على الدوام بذكر رسول الله؛ ومدعاة لتمثلها من قبل الناس أجمعين.
ويطلق على هذا النمط من الاستمرار الاستمرارُ التجددي الذي يعرف كثيراً باستخدام الجملة الاسمية للقرائن فيها كما في قول النَّضْر بن جُؤَيَّة يتمدَّح الغنى والكرم:
لا يألف الدرهمُ المضروب صُرَّتَنا.....لكنْ يمرُّ عليها؛ وهو منطلقُ
فالشاهد قولـه: (وهو منطلق) فالدرهم لا يستقر عنده؛ لذلك فهو باستمرار ينطلق كرماً وإغاثة للناس المحتاجين... وقد قدَّم السياق القرائن الدالة على ذلك، وعليه قوله تعالى: ]ولكم في القصاص حياة[ (البقرة 2/179). فالأخذ على يد المجرم حياة للمجتمع واطمئنان له.
وقد يكون السياق في معرض ذم يراد به الاستمرار والثبوت معاً كما في قوله تعالى: ]إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم[ (النساء 4/142).
فالشاهد (وهو خادعهم)؛ فالسياق أن المخادع ما يخدع إلا نفسه ولن يوقعه فعله إلا في الشرور على الدوام والثبات، ولهذا كان الفعل (يخادعون) مفيداً للتجدد مرة بعد مرة، ولم يقيد بزمن وإن كانت صورته صورة المضارع، فقوَّى المعنى في (خادعهم).
وأما إذا كان خبر الجملة الاسمية جملة فعلية فإنها تفيد لفت السامع إلى حدوث الفعل مجدداً في زمن ما؛ وصار على وجه الثبات كقولنا: زيد سافر... وهذا مغاير تماماً لقولنا: سافر زيد... فهنا زيد لم يسافر إلا مرة واحدة في وقت مضى.. فالزمن الماضي المخصوص بالسفر محدد... وكذا نقول في الزمن المضارع، (الحاضر) فهو مخصوص بوقت ما وإن تضمن معنى التجدد والاستمرار من بعدُ، نحو: زيد يدرس، ومحمد يأكل، وعدنان يشرب. فالفعل ليس على جهة الدوام الأزلي... أو الثبات المطلق... فقد يأتي وقت لا يدرس فيه زيد، ولا يأكل فيه محمد، ولا يشرب فيه عدنان... (4).
ومن الشواهد الشعرية على الحَدَث الذي جرى في الزمن الماضي المخصوص ما قاله المتنبي لسيف الدولة في تكثير حساده؛ (أنت الذي صيرتهم....)، وخاطبه بصيغة الأمر في مطلع البيت:
أَزِلْ حَسَدَ الحُسَّاد عني بكبْتهم.......فأنتَ الذي صَيَّرْتَهم لي حُسَّدا

ب ـ الجملة الفعلية:
هي كل جملة صدرها فعل، وتوضع لإفادة الحدوث في زمن مخصوص كالماضي والمضارع مع الاختصار؛ أو تفيد الاستمرار التجددي إذا دلت عليه القرائن.
ومواضعها الفعل التام مع فاعله أو نائبه، والفعل الناقص مع الاسم والخبر؛ والفعل اللازم والمتعدي؛ والجامد والمتصرف....
فمن الجمل التي تفيْد الحدوث في زمن مخصوص قولنا: وصل زيد إلى المدينة. فالمتكلم أراد إفادة السامع بأن زيداً وصل في الزمن الماضي، ويصبح هذا الزمن أكثر خصوصية؛ إذا قلنا: وصل زيد إلى المدينة مساءً، أما إذا قلنا: يصل زيد إلى المدينة فالزمن مخصوص بالحاضر لا الماضي...
وقد يفيد الفعل سواء كان ماضياً أم مضارعاً التجدد والاستمرار إذا وجدت القرائن؛ كقوله تعالى: ]كنتم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناس[ (آل عمران 3/110).
فالخيرية ما زالت مستمرة دوام تجدد هذه الأمة وبقاء البشرية على الأرض.
وعليه قول طريف:
أو كلما وردت عكاظَ قبيلةٌ.......بعثوا إليَّ عريفَهم يتوسمُ
فدأب هؤلاء القوم كلما انعقد سوق عكاظ، وتقاطرت القبائل إليها قبيلة إثر قبيلة أَنَّهم يبعثون خَبيْراً منهم ينظر في وجوه القوم لعله يلقى الشاعر...
فالحدَث هنا اكتسب صفة الاستمرار مع الثبات عليه كما هو عليه الحال في كثير من الجمل الاسمية؛ وعليه قوله تعالى: ]لو يطيعكم في كثير من الأمر لَعَنِتُّمْ[ (الحجرات49/7). وقد أراد لو استمر في إطاعتكم وقتاً بعد وقت لحصل لكم مشقة وَعَنَتٌ... ومنه قول المتنبي في مدح سيف الدولة:
تدَبَّرُ شرقَ الأرضِ والغربَ كفُّه.......وليس لها يوماً عن المجدِ شاغلُ
فتدبير الممالك ديدن ممدوحه وشأنه المستمر الذي لا يحيد عنه فيتجدد حيناً بعد حين... فالجملة الفعلية (تدبرُ....)، وأصلها (تتدبر كفُّه...)، تفيد الاستمرار التجددي بالقرائن المثبتة في الحكم، وفي الشطر الثاني من البيت.
إن كل ما يزيد على الركنين الأساسيين في الجملة وهما (المسند إليه والمسند) غير المضاف إليه وصلة الموصول فهو فضلة أو أداة أو كلتاهما؛ وهما قيد ذو فائدة، كالنفي والمفاعيل والحال والتمييز والتوابع والنواسخ وظن وأخواتها... ولا فرق بينها في التقييد...
وكلما زاد القيد زادت الخصوصية؛ ومن ثم زادت الفائدة بزيادة الخصوصية... ويرى الدكتور شوقي ضيف أن لواحق الجملة الاسمية التي جاء خبرها فعلاً تزيد على الجملة الفعلية... فكل ما يحمله الفعل من لواحق تحمله الجملة الاسمية معه، كقولنا: (زيد كتب مقالة كتابة حسنة)......(5).
ومن لواحق الجملة الاسمية التوابع كالنعت والعطف والبدل والتوكيد...
وهذا كله جعل علماء المعاني لا يتبعون خطوات النحويين كلها فتراهم يقسمون الجملة إلى جملة رئيسية وجملة غير رئيسية.
فالرئيسية مالم تكن قيداً في غيرها؛ وغير الرئيسية ما كانت قيداً في غيرها وليست مستقلة بنفسها...
ويخرجون من ذلك إلى أن المسند والمسند إليه ركنا الجملة وكل ما عداهما يعد زائداً عليها، وهو من القيود التي تقدم فائدة ما تبعاً لنوع القيد وطبيعته....
وبناء على ذلك كله فأقسام المسند والمسند إليه أربعة؛ هي:
1 ـ أن يكون المسند والمسند إليه كلمتين حقيقة، نحو: زيد قائم.
2 ـ أو أن يكونا كلمتين حكماً؛ نحو: لا إله إلا الله؛ فقائلها ينجو من النار؛ لأنها تعني؛ توحيدُ الله نجاةٌ من النار.
3 ـ أو أن يكون المسند إليه كلمة (حكماً) والمسند كلمة (حقيقة) كالمثل المشهور؛ تسمع بالمُعَيْدِي خَيرٌ من أن تراه؛ أي: سماعُكَ بالمعيدي خَيْرٌ من رؤيته.
4 ـ أو أن يكون العكس، المسند إليه كلمة (حقيقة) والمسند كلمة (حكماً) كقولنا: الأمير يحكم بالعدل.
فالحقيقة في المسند أو المسند إليه أن تكون ثابتة لا تؤول ولا تقدَّر؛ بينما الحكم فيهما يقدر؛ أو يؤول على النحْو الذي يحتاج إليه أي منهما، أو كلاهما مع تمام الفائدة في المعنى...
ولذلك كله أصبح لزاماً علينا أن نحدد مفهوم المسند والمسند إليه ومواضعهما باعتبارهما ركني الجملة؛ ومن ثم نبين مفهوم الفضلة والأداة باعتبارهما قيوداً مفيدة ولواحق على غاية من الأهمية في الدلالة والتأثير... ومن هنا سنسوق قبل ذلك ما أثبته الدكتور صلاح فضل حول مفهوم البلاغيين الغربيين للتغير التركيبي في الجمل الناجم عن النَّحو سواء كان النَّحو التحويلي أو الاتجاه الوظيفي في اللغة... فالوصف النحوي المنطقي لا يستبعد القيم الدلالية... ونعتذر ـ مسبقاً ـ عن طول المقبوس إذ لا مندوحة لنا عنه فيقول: "فإن ترتيب الكلمات في معظم اللغات المعروفة يستجيب لعوامل عدة طبقاً لمنطق المعنى. كما يستجيب لتتابع الأفعَال طبقاً لترتيب الأحداث الزمني. ويجعل الأولوية للفاعل على المفعُول؛ فهو بطل الرسالة، إلى غير ذلك من المراتب المحددة.
وهذا يعني كما يقول البلاغيون الجدد أنه بدون أن نتخلى عن تمديد التغيرات التركيبية طبقاً للمنظور التوزيعي (DISTRIBUTIONNEL) لا ننسى أنها تعمل بطريقة ملائمة لارتباط المحتوى بالتعبير. وهنا يطرح هؤلاء الباحثون سؤالاً أولياً عن درجة الصفر النحوية موازياً لما أشرنا إليه من قبل عن درجة الصفر البلاغية. ويقولون: إنه بدون الدخول في مناقشات مطولة عن الجملة والعبارة وقواعدها فإن علينا أن نقيم نموذجاً بسيطاً مقبولاً من غالبية الباحثين يخدم هدفنا كمنطلق أولي. ويرون أن درجة الصفر النَّحْوَية يمكن أن تنحصر في اللغة الفرنسية ـ ومثلها في ذلك العربية بشكل عام ـ في وصف عملي لما يطلق عليه (الحد الأدنى من الجملة التامة) ويتكون من وحدتين إحداهما اسمية والأخرى فعلية، ومن ترتيبهما، بل يكون مبتدأ و خبراً، أو فعلاً وفاعلاً، ومن التوافق الضروري بين علاميتهما. هاتان الوحدتان تعرفان
تركيباً بسيطاً يتمثل في حضور اسم معرف وفعل محدد الزمن والشخص والعدد.
وسواء كان الأمر يتعلق بالمنظور البلاغي أو النحوي فإن ترتيب الكلمات هو المظهر الرئيسي للتركيب وما ينجم عنه من مسائل التقديم والتأخير. وعندما يتلاعب الشاعر بالجملة العادية ليجري على نظامها عشرات التحويلات فإنه يعطينا فكرة واضحة عن التنويعات المختلفة التي يقدمها توزيع الوحدات بعناصرها العديدة. ولا يمكن أن تكون هذه التنويعات دون جدوى. وربما يكون من المثمر على المستوى البلاغي أن نقيم تمييزاً بين النظام العقلي والنظام العاطفي للكلمات".(6)
فنقطة الصفر البلاغية تتمثل في الحد الأدنى للجملة المكونة من المسند والمسند إليه في العربية ثم تأتي التنوعات في الفضلة والأداة لتزيد فيهما تنوعاً آخر وتحول الشكل المعياري إلى شكل بلاغي مثير... فالجملة الصغيرة المكونة من الحد الأدنى (المسند والمسند إليه) على قيمة الانزياح اللغوي فيها تبقى ذات عناصر أولية مكونة للجملة البلاغية؛ في حالة التقديم والتأخير، والحذف والذكر والفصل والوصل... وهو عينه الذي انتهى إليه عبد القاهر الجرجاني فسبق به (جاكبسون) وأمثاله كما تحدث عنهم الدكتور صلاح فضل. فعلم الدلالة البنيوي الحديث؛ على إصلاحه للنظم المعيارية التراكمية ظل متصلاً بالدرس البلاغي والدلالي الذي نشأ في مفهوم الجملة نحوياً وبلاغياً عند العرب... وإن عمد أصحابه الجدد إلى وصف العمليات البلاغية" باعتبارها تحولات أو انحرافات تتضمن تصورات عديدة"، (7)، وتوحي بنظريات متطورة ابتعدت كثيراً عن الأصل.. وهذا كله يدعونا إلى الحديث عن أركان الجملة البلاغية عند العرب.
ج ـ أركان الجملة ومواضعها:

اتضح لنا أن الجملة تتكون من ألفاظ دالة على معانٍ مفيدة لأنها استوفت أركانها؛ فاستقامت دلالتها؛ بمعنى أن كل جملة لابد لها أن تقوم على أركان محددة، وإذا حذف أحدها قُدِّرَ ليستقيم الكلام. وذهب القدماء كسيبويه
(ت 180هـ)، إلى أن الجملة الاسمية أو الفعلية تحتاج إلى ركنين أساسيين اصطلح على تسميتهما (المسند والمسند إليه)، ولا يغني أحد منهما عن الآخر، ولا يجد المتكلم منه بدا.(8).
وحين استعمل أهل اللغة والنحو مصطلح (المسند والمسند إليه) لم يقوما عندهم مقام المبتدأ والخبر والفاعل والفعل، وغير ذلك... وإن كثر دورانهما لديهما؛ بينما أقام علماء البلاغة في دراساتهم (المسند والمسند إليه) مقام ما ذُكر كله؛ وكأنهما أصبحا قانوناً معروفاً ومسلَّماً به كلما درسوا (علم المعاني). وغلّبوا في دراستهم لهما منهج التذوق وتحسس مواطن الجمال والروعة؛ وإن لم يفتهم التأمل الواعي كعبد القاهر الجرجاني وضياء الدين بن الأثير
(ت 637هـ). مثلاً.
وأياً ما يكن الاتهام الذي وجه إلى السكاكي ومدرسته التي قَعَّدت البلاغة فإن هذا التقعيد لم يغفل بنية الكلام؛ وكله مبني على ركنين أساسيين (مسند ومسند إليه) يبرزان معاني كثيرة وأغراضاً شتى مرتبطة بأحوال المخاطب والمتكلم تبعاً للمقام، فضلاً عن الجماليات الخاصة المتعلقة أيضاً بأحوال الإسناد... أو كما قيل في المفهوم الغربي: (المسند والمسند إليه) يكونان درجة الصفر ثم تأتي التحولات الممثلة بأحوال الإسناد.
ولا يشك أحد في أن السكاكي قد كرر أحياناً الكلام على (المسند والمسند إليه) في أبواب علم المعاني كلها. ولعل سبب التكرار اتكاء هذه الأبواب على ركني الجملة (المسند والمسند إليه).... وهذا الأمر نفسه جعله يتحدث عن باب ما في مواضع عدة من (علم المعاني).... فالحذف والذكر، والقصر والوصل والفصل... يدخل أي منها في باب الخبر والإنشاء... وهذا ما أكده القزويني حين قال: "ما ذكرناه في هذه الأبواب السابقة ليس كله مختصاً بالخبر؛ بل كثير منه حكم الإنشاء فيه حكم الخبر".(9).
ولهذا كله يصبح (المسند والمسند إليه) أساس أبواب علم المعاني؛ وتخصّهما بالذكر لهذا الاعتبار، ولئلا يتكرر الحديث عنهما في أي باب منها... مما ييسر على المتلقي فهم أساليب البلاغة واستيعابها... إذ لا يمكن فهم الخبر والإنشاء ـ مثلاً ـ من دون إدراك المتلقي لمفهوم المسند إليه والمسند ومواضعهما... و((القصر كما يكون للمسند إليه على المسند يكون على المسند إليه"(10). وكل ما يعرف ـ اليوم ـ بمجال التغييرات التركيبية والانزياح اللغوي والإيقاعي... لا ينفك عنهما غالباً.
ولهذا سوف نتحدث في مقام الجملة عن مواضع المسند إليه والمسند؛ ثم ما يتعلق بذكرهما أو حذف أحدهما... ومن ثم نتابع بيان أحوالهما في التعريف والتنكير وعلاقة هذا بتقديم أحدهما على الآخر...
1 ـ مواضع المسند إليه:
قبل أن نتعرف إلى مواضع المسند إليه يحسن بنا أن نعرفه. فهو المُخْبَر عنه؛ أو المحكوم عليه؛ وهو الأصل في المعنى وعليه دوران الحدث وعنه يصدر؛ سواء وقع اسم ذات، أو معنىً، أو مصدراً)، وهو معلوم من قبل السامع. ومواضعه هي:
1 ـ المبتدأ الذي له خبر كقوله تعالى: ]نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة[ (فصلت 41-31). وقولـه: ]وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها[ (الشورى
42-40). وقال أبو فراس الحمداني:
ومكارمي عدد النجوم، ومَنْزلي.......مأوى الكرام ومنزل الأَضْيَافِ
وكقول الفرزدق:
وأَنْتَ امرؤٌ لا نايل اليوم مانعٌ.......من المال شيئاً في غدٍ أَنْتَ واهبُهْ
2 ـ ما أصله مبتدأ؛ في:
1 ـ اسم كان وأخواتها، كقولنا: كان زيد مسافراً؛ وكقوله تعالى: ]ما ربك بظلام للعبيد[ فصلت(41-46). وقوله: ]أليس الله بعزيز ذي انتقام[ (الزمر 39/37). وقال المتنبي:
وأصبح شعري منهما في مكانه.......وفي عنق الحسناء يستحسن العقْدُ
فاسم الفعل الناقص (زيد، ربك، الله، شعري) هو المسند إليه.
2 ـ اسم إن وأخواتها؛ كقولنا: إن زيداً مجتهد؛ وكقوله تعالى: ]إن وعدَ الله حق[ (الجاثية45/32). وكقول المتنبي في رثاء أخت سيف الدولة:
فليت طالعةَ الشمسين غائبة.......وليت غائبة الشمسين لم تغبِ
وقولـه تعالى: ]لعل الساعةَ قريب[ (الشورى42-17). فاسم إن وليت(زيد، وعد؛ طالعة...) مسند إليه.
3 ـ المفعول به الأول لفعل (ظن وأخواتها) كقولنا: أظن زيداً قادماً؛ وكقولـه تعالى: ]ما أظن الساعةَ قائمةً[ (الكهف 18/36). وكقوله: ]ولا تحسبنَّ الله غافلاً عما يعمل الظالمون[ (النور 24/57). وقال الفرزدق:
أأجعل دارماً كابنَي دخانٍ.......وكانا في الغنيمةِ كالركابِ
فالمفعول به الأول فيما سبق (زيد، غافل، دارم)، هو المسند إليه، لأن أصلهُ مبتدأ.
4 ـ المفعول الثاني للأفعال المتعدية لثلاثة مفاعيل؛ كقولنا: أريت الطالب الحقَّ واضحاً؛ وأنبأت محمداً الخبرَ صحيحاً. وكقوله تعالى: "أَرأيتَكَ هذا الذي كرمت عليَّ"(الإسراء17/62). فالمفعول به الثاني (الحق، الخبر، هذا)، مسند إليه؛ لأن أصله مبتدأ؛ وقع عليه الحكم كما في الحالات السابقة.
3 ـ الفاعل، كقولنا: نجح الطالب، وكقوله تعالى: ]فاستجاب لهم ربهم[ (آل عمران3/195). وقوله: ]قد جاءتكم بَيِّنَةٌ من ربكم[ (الأعراف 7/73 و85)؛ فالفاعل (الطالب، ربهم، بينة) مسند إليه وكذلك (الدهر وسهام والنصال) في قول المتنبي:
رماني الدهر بالأرزاء حتى .......فؤادي في غِشاءٍ من نِبَالِ
فَصِرْتُ إذا أصابتني سهامٌ.......تكسرتِ النِّصالُ على النِّصالِ
وكذلك الضمير في الفعل (صِرْتُ) مسند إليه، لأنه فاعل قام بالفعل وحكم به.
4 ـ نائب الفاعل؛ كقولنا: قُرِئَ الدرسُ، حُفِظَ الكتابُ، وكقوله تعالى:
]زُيِّنَ للناس حبُّ الشهوات[( آل عمران3/41) وكقوله:" وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا". (الزمر 39/73). وقوله: ]ويوم يُكْشَف عن ساق ويُدْعَون إلى السجود فلا يستطيعون[، (القلم 68/42). وقال الشاعر:
تُعَدُّ ذنوبي عند قومٍ كثيرةً.......ولا ذَنْبَ لي إلاَّ العلا والفضائلُ
وقال آخر:
ولا عَيْبَ فيه لامرئٍ غيرَ أَنَّهُ .......تُعَابُ لـه الدنيا وليس يُعابُ
وقال آخر:
ولو سُئِلَ النَّاسُ الترابَ لأوشكوا.......إذا قيل: هاتوا، أَنْ يَمَلُّوا ويمنعوا
شبه الفاعل: يقع بعد كل اسم قام مقام الفعل المبني للمعلوم؛ كاسم الفاعل مثل: رأيت طاهراً قلبُهُ، أو كالصفة المشبهة؛ نحو: مررت بالكريم نَسبُه، فلفظ (قلبه ونسبه) فاعل، ومنه قول أبي العلاء المعري:
غَيْرُ مُجدٍ في مِلَّتي واعتقادي.......نَوْحُ باكٍ ولا ترنُّمُ شادي
فالمسند إليه (نَوْح) سد مسد الخبر؛ لأنه جاء فاعلاً لاسم الفاعل (مجدٍ).
6 ـ شبه نائب الفاعل: يقع بعد كل اسم قام مقام الفعل المبني للمجهول؛ كاسم المفعول؛ نحو: رأيتُ المحمود خلقُه. (خُلُقه: نائب فاعل). وقال الشاعر:
لعلَّ عَتْبَكَ محمودٌ عواقبُهُ.......وربما صحَّتِ الأَجسامُ بالعِلَلِ
وهنا نشير إلى أن المسند إليه في ارتباطه بالمعنى الدال عليه، ومن ثم في ارتباطِهِ بالمسند؛ كالروح والجسد. وقد قال ابن رشيق: "اللفظ جسم وروحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم."(11)، وكان ابن طباطبا قد سبق إلى هذا حين نقل عن بعض الحكماء: "للكلام جسد وروح، فجسده النطق وروحه معناه"(12). وهذا الكلام مستمد من الجاحظ.(13).
وفي هذا المقام لاحظنا أن مواضع المسند إليه باعتبارها الأصل الذي يبني عليه الكلام كانت تؤسس لإظهار مافي النفس من العواطف والأخيلة والأفكار... وأثبتت تلك المواضع أن وجود المسند إليه ليس وجوداً سكونياً في الجملة ولا وجوداً محايداً وإنما هو وجود فاعل ولازم سواء ذكر أم قُدِّر. وإذا كنا قد ركزنا على المواضع التي ظهر فيها المسند إليه ليكون دليلاً وهادياً للتعرف إليه فهذا لا يعني أنه لا يقدر في مواضع عديدة؛ بل ربما يحذف وتدل عليه قرينة من القرائن... وهذا ما سنتحدث عنه من بعد في أحوال الذكر والحذف... وما ينتهيان إليه من جمالية خاصة.
ونشير مرة أخرى إلى أن المسند إليه وكذلك المسند الذي سنعرض لمواضعه... قد يتكرر، أو يعطف عليه... فأياً كان الأسلوب الذي يَرِد ذكره فيه فإنه يستكمل معاني الجملة في عملية الإسناد؛ ويؤكدها، ليصبح الكلام بحق جسداً وروحاً متناسبين.
ومن هنا ننتقل إلى الحديث عن المسند ومواضعه.
2 ـ مواضع المسند:
تبين لنا تعريف المسند إليه ومواضعه؛ وثبت لنا أنه مدار الحدث والإسناد؛ لكن الفائدة لا تتم به وحده فلابد من مسند. فالمسند هو الذي يحقق مبدأ تثبيت العناصر الفنية بالمسند إليه، ويكسبه الصورة الجمالية الموحية... فالمسند يحتوي على الأجزاء الزمانية والدلالية اللاحقة بالمسند إليه؛ ومن ثم يرتب أجزاء الجملة كلها من اللواحق... وربما الأدوات، وإن كانت الأدوات تقع مسنداً إليه كما سبق الحديث عنه.
ونحن إذ نسوق الكلام على المسند، ومواضعه إنما نسوق توضيحاً شكلياً خالصاً لنتوصل من بعدُ؛ إلى إبراز النواحي الجمالية في العناصر الفنية وما تحمله من متعة وبهجة... فالمسند مع المسند إليه، يحققان تجربة شعورية وفكرية مختزنة عند المتكلم يريد التعبير عنها... بمعنى آخر يحققان لطائف لغوية وبلاغية متنوعة... وليسا حالة سكونية جامدة... وهذا ما سنراه حين نتحدث عن اللطائف الفنية الجمالية لأسلوب ذكرهما؛ ومن ثم حذف أي منهما...
أما الآن فيحسن بنا أن نعرف المسند؛ ثم نتعرف إلى مواضعه.... فهو المخبر به عن المسند إليه؛ أو المحكوم به، لأنه صفة في المعنى، وبه تتعلق الفائدة والتحولات لترتيب الأحداث الزمني، وفق التغير التركيبي في مفهوم البلاغيين الغربيين. ومواضعه كثيرة؛ منها:
1 ـ المبتدأ المكتفي بمرفوعه: الأصل أن يأتي المبتدأ مسنداً إليه كما سبق، وأوضحناه ولكنه قد يأتي مسنداً إذا اكتفى بمرفوع سد مسدَّ الخبر؛ فالمرفوع هو الذي يغدو فاعلاً في المعنى (مسنداً إليه) بينما المبتدأ يحل محل الخبر في عملية الإسناد كقولنا: أقائم زيد؟!... زيد: فاعل سد مسد الخبر وهو المسند إليه، لذلك كلمة(قائم) إن أُعربت مبتدأ فهي مسند، وعليه قول الشاعر:
غَيْرُ لاهٍ عِدَاكَ فاطَّرِحِ اللَّـ.......ـهْوَ ولا تغترر بعارض سلم
(غير) مبتدأ ـ وهو مسندـ لأنه اكتفى بمرفوعه الفاعل (عداك)، الذي جاء فاعلاً لاسم الفاعل (لاه).
2 ـ الخبر الذي يتصف بالمبتدأ في الجملة الاسمية:
كل خبر يتّصف بالمبتدأ يكون مسنداً كالخبر (مفيد) في قولنا: العلم مفيد؛ وكالخبر (بعيدة) في قول العرب: فلانةُ بعيدة مَهْوَى القِرْط؛ والخبر (مثلُ) في قول عنترة يصف ساق أمه وشعرها:
الساقُ منها مِثْلُ ساقِ نَعامةٍ.......والشَّعْر منها مِثْلُ حَبِّ الفلفلِ
ويمكن أن ننبه على حذف المسند إليه ـ وهو ما سيأتي ـ فالخبر يتصدَّر الكلام ويشبه في صورته المبتدأ، والمعوَّل عليه هو المعنى كما في رثاء الخنساء لأخيها؛ فهو طويل النجاد...:
طويلُ النجادِ؛ رفيعُ العمادِ.......كثيرُ الرمادِ، إذا ما شتا
3- خبر (إن وأخواتها): أينما وقع وكيف كان شكله فهو مسند، كقولنا: إن المجدَّ مكرمٌ، فلفظ (مكرم) خبر (إن) وهو مسند، وكذلك (موعدهم وتذكرة) في قولـه تعالى على التوالي: ]إنَّ جهنم لموعدُهم[، (الحجرة 1/43). وقوله:
]إنها تذكرة[ (المدثر 74/55). و(عبس 80/12).
وكلمة (تبسم) في قول البحتري خبر (كأن) وهي المسند:
كأن سناها بالعشيّ لصُبْحِها.......تَبَسُّمُ عيسى حينَ يَلْفظ بالوَعْدِ
والجار والمجرور (منهم) و(بعض) مسند في قول المتنبي:
فإن تَفِقِ الأنامُ، وأَنْتِ مِنْهم.......فإنَّ المسكَ بعضُ دم الغزال
وقد يتساءل إنسان ما فيقول: إن لفظ (بعض) لفظ مبهم؛ فما الجمالية فيه في الإسناد؟...
ونقول: إن إبهامه قد زال بإضافته إلى ما بعده؛ وخُصِّص به... فاكتسب دلالة معينة؛ وأكسب الجملة حركة جمالية مثيرة... وكذلك نراه حين اعترض بين المسند إليه (صبري) وبين المسند (جميل) في قول أبي خراش الهذلي يخاطب امرأته:
فلا تحسبي أني تناسيتُ عهدَهُ.......ولكنَّ صَبْرِي ـ يا أميْمُ ـ جميلُ
4 ـ خبر كان وأخواتها: قد يأتي في خبر الأفعال الناقصة، لأن الأفعال الناقصة تعد من أدوات الربطِ، وليست من المسند إليه كالفعل التام؛ ومن ذلك قولنا: كان زيد حسنَ التدبير؛ وكقول خويلد بن مرة الهذلي:
فإِنْ أَكُ مقتولاً، فكنْ أَنْتَ قاتلي.......فبعضُ منايا القومِ أكرمُ من بعضِ
فكلمة (حسن، مقتولاً، قاتلي) مسند، وكذلك (مستضعفين، جاثمين، قادرين)، في قوله تعالى: ]كنا مستضعفين في الأرض[ (النساء 4/97). وقوله: ]فأصبحوا في دارهم جاثمين[ (الأعراف 7/78 و91)، وقوله: ]وغدوا على حَرْدٍ قادرين[ (القلم 68/25).
5 ـ المفعول به الثاني لفعل (ظن وأخواتها):
لما كان المفعول به الثاني في ظن وأخواتها خبراً في الأصل بقي المسند في الدلالة والحكم وإن نُصِبَ بها وصار مفعولاً؛ كقولنا: ظننت خالداً غائباً، وكقولـه تعالى: ]وإني لأظنه كاذباً[ (غافر 40/37). وقوله: ]وإني لأظنك ـ يا فرعون ـ مثبوراً[ (الإسراء 17/102). وقوله: ]وتحسبونه هيناً[ (النور 24/15). وقولـه: ]وترى الجبال تحسبها جامدة[ (النمل 27/88). وقوله: ]إنا جعلناه قرآناً
عربياً[ (الزخرف 43/3). وقولـه: ]وجعل الشمس سراجاً[ (نوح 71/16). ونلحظ أن المسند منصوب في كل ما ورد وهو منصوب مرة ومجرور بحرف جر زائد مرة أخرى في قول الشاعر:
زعمتني شيخاً ولستُ بشيخٍ.......إِنَّما الشيخُ مَنْ يدبُّ دَبيبا
6 ـ المفعول به الثالث للفعل المتعدي لثلاثة مفاعيل: قد تتعدى بعض الأفعال لثلاثة مفاعيل كالفعل (أرى، وأنبأ ونبَّأَ، واتخذ...). والمفعول الثاني والثالث في الأصل مبتدأ وخبر، أي مسند إليه ومسند؛ كقولنا: أنبأتُ سعيداً الخبرَ صحيحاً؛ وأريتهُ الأمرَ واضحاً، وكقوله تعالى: ]وكذلك يريهم الله أعمالَهم حسراتٍ عليهم[ (البقرة 2/167). فلفظ (صحيحاً، واضحاً حسرات)، مسند، لأنه في الأصل خبر؛ ونصب حسرات بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم.
7 ـ الفعل التام: إذا جاء الفعل تاماً مبنياً للمعلوم أو مبنياً للمجهول وأياً كان نوعه ماضياً أم مضارعاً أم أمراً فهو مسند متصف بالفاعل، فمن المبني للمعلوم والأمر قوله تعالى: ]إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله[ (آل عمران3/31). أو كقول الشاعر:
لأستسهلنَّ الصَّعْبَ أو أُدركَ المُنى.......فما انقادتِ الآمالُ إلا لصابرِ
أما المسند في الفعل المبني للمجهول فهو الفعل (نُتج) في قول الشاعر:
نُتِج الربيعُ محاسناً.......أَلْقَحْنَها غُرُّ السحابِ
8 ـ اسم الفعل العامل عمل فعله:
اسم الفعل كلمة تدل على ما يدل عليه الفعل غير أنها لا تقبل علامته، وإما أن يكون بمعنى الفعل الماضي، نحو (هيهات) بمعنى بَعُد، وإما بمعنى المضارع نحو (أف) أي أتضجر، وإما بمعنى الأمر مثل (آمين) أي استجب.
ولسنا الآن بصدد الحديث عن اسم الفعل وأنواعه وكيفية استعماله على أنه يلزم صيغة واحدة للجميع... إلا ما لحقته الكاف... ولكننا بصدد ذكر أن اسم الفعل إنما هو مسند.
وأسماء الأفعال كثيرة؛ منها ما ورد في القرآن الكريم كقوله تعالى:
]هيهات هيهات لما توعدون[ (المؤمنون 23/36). وهيهات تستعمل للماضي بمعنى بَعُد؛ وكقوله تعالى: ]هاؤم اقرؤوا كتابيهْ[ (الحاقة 69/19). وهاؤم تستعمل للأمر (خذوا) وكقوله: ]يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسَكم لا يضرّكم مَنْ ضَلَّ إذا اهتديتم[ (المائدة 5/105). و(عليكم) اسم فعل أمر بمعنى (الزموا)، وكقولـه تعالى: ]فلا تقل لهما أُفٍّ[ (الإسراء 17/23) و(أف) اسم فعل مضارع بمعنى (أتضجر). وقال الفرزدق:
ومِنْ قَعْنَبٍ، هيهات ما حَلَّ قعنبٌ.......بني الخَطَفى؛ بالمنزل المتباعدِ
فأينما ورد اسم الفعل وبأي صيغة فهو مسند، لأنه حلَّ محل الفعل معنىً.
9 ـ المصدر النائب عن فعله:
وينوب المصدر عن فعله سواء كان أمراً أم مضارعاً؛ فيكون مسنداً؛ ففي الأمر قول قطري بن الفجاءة:
فَصَبراً في مجالِ الموتِ صبراً.......فما نَيْلُ الخلودِ بمستطاعِ
(صبراً) مصدر ناب عن الفعل (اصبر) فحل محله في كونه مسنداً؛ وكذلك قول سُحيم عبد بني الحسحاس:
أشوقاً ولمَّا يمضِ بنا غَيرُ ليلة.......فكيف إذا خبَّ المطيُّ بنا عشرا؟!
(شوقاً) مصدر ناب عن الفعل المضارع (أتشتاق) فحلَّ محله في كونه مسنداً... وقد ينوب المصدر عن فعل يحمل معناه وليس من لفظه؛ كقول أبي ذؤيب الهذلي:
جَمالَكَ أيُّها القلبُ القريحُ.......ستلقى مَنْ تحبُّ فتستريحُ
يقول: لا تنسَ جمالَكَ، وأراد تجمل بالصبر والإرادة.. فالمصدر (جمالك) مسند.
واعلم ـ عزيزي القارئ ـ أن المواضع التي ذكرناها للمسند أو للمسند إليه قد تحققت بالتعبير الفطري؛ وكما رأيت لم يتعمد المتكلم إلى صنعة شاذة؛ وكل ما احتاج إليه في تمثيل مشاعره أو أفكاره ساقه بلغة إسنادية جميلة... وإذا "رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسَّنوها ورققوا حواشيها وصقلوا أطرافها فلا تظن أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ فقط؛ بل هي خدمة منهم للمعاني، ونظير ذلك إبراز الصورة الحسناء في الحلل الموشية والأثواب المحبرة"(14). ومثله نراه في الفضلة والأدوات؛ ومواضعها تدل على كمال الحسن والفائدة.
3 ـ الفضلة والأداة، ومواضعهما:
الفضلة؛ هي كل اسم يذكر مع المسند أو المسند إليه لإتمام معنى الجملة، وليس أحداً منهما... كقولنا: قرأ زيد الكتاب، وأعطينا سعيداً كتاباً.
والفضلة قد يكون وجودها مؤكداً إذا استدعاها المسند أو المسند إليه سواءً في الجملة الفعلية كقولنا: ظننت خالداً مجتهداً، أم الاسمية، نحو أحمد ضارب أخاه... فالمعنى لا يكتمل بغير الفضلة (مجتهداً ـ أخاه) على الرغم من أنه قد يستغني المسند والمسند إليه عنها؛ وإذا وجدت معهما أضافت معنى ما؛ كقولنا: نجح خالد... فإذا أضفنا إليها نجح خالد هذا العامَ.... حدد زمن النجاح بعد أن كان مطلقاً في الزمن الماضي... ومن هنا قيل لها القيد لأنها قيدت المعنى كما سميت بالفضلة لأنها زيدت على المسند والمسند إليه، وأضافت إليهما معنى جديداً.
ويظل القيد أعم اصطلاحاً من الفضلة لأنه يشتمل على الأداة أيضاً؛ ويقال لهما اللواحق أيضاً.
والفضلة ـ في الأصل ـ منصوبة حيثما وقعت كقولنا: نجح الطلاب إلا خالداً ووقفت إجلالاً وتكرمةً، وسافرت يوم السبتِ، وجلست تحت الجسر... أما إذا وقعت بعد المضاف أو حروف الجر فحكمها أن تكون مجرورة كقولنا: وقفت أمام السبورةِ، وكتبت بالقلمِ... وما مررت إلا بسعيد.
وقد تتحول الفضلة إلى عُمْدة في الكلام لأمر بلاغي، وتصبح مسنداً إليه كما هو عليه بعد بناء الفعل للمجهول كقولنا قُرِئَ الكتابُ.. فالكتاب صار مسنداً إليه حين بني الفعل للمجهول بعد أن كان فضلة قبل بنائه للمجهول: قرأ زيد الكتابَ... وكذلك (العلياء) في قول الشاعر بعد أن كان مجروراً بالباء لفظاً؛ فقد تحول إلى مجرور لفظاً مرفوعاً محلاً على أنه نائب فاعل:
لم يُعْنَ بالعلياءِ إلا سيداً.......ولا شَفَى ذا الغَيِّ إلا ذو هُدَى
ولذلك مواضع أخرى توقف عندها أهل اللغة ليس مجالها هنا..., إنما نريد بيان قيمة الفضلة في إتمام المعنى وزيادة تأثير صياغة الجملة... فمتعلقات المسند أو المسند إليه من الكلام الزائد لا يكون لمجرد زيادته وإنما لغاية معنوية وبلاغية، ولعل الأدباء يتمايزون بمدى قدرتهم على توظيف الفضلة في صورهم الجمالية....
ولا يقلُّ قيمةً عن ذلك تميزهم بمدى براعتهم في استعمال أدوات الربط بين الفضلة وبين المسند أو المسند إليه أو كليهما؛ أو استعمالهم لها بين المسند والمسند إليه لغايات بلاغية مثيرة كقولـه تعالى: ]وما محمد إلا رسول[
(آل عمران 3/144).
وأداة الربط: هي كل كلمة تكون رابطة بين جزئين من الكلام، سواء وقعت متصدرة لـه كالاستفهام، أم في صميمه كأدوات العطف، وحروف الجر...
وأدوات الربط كثيرة أسماءً وحروفاً؛ مثل أدوات الاستفهام والشرط والقسم والعطف والحض والتمني والرجاء والنواصب والجوازم وحروف الجر، والنواسخ... والجواب... والأسماء الموصولة...
وأكثر هذه الأدوات مبنية عدا القليل منها... وحركة آخرها هي حركة بناء أو إعراب فأداة الشرط (أي) في قولنا (أيَّ يوم تسافر أسافر)، معربة؛ وكذا في قولـه تعالى: ]أياً ما تدعوا فَلَهُ الأسماءُ الحُسْنَى[ (الإسراء 17/110)، أما في قول زهير:
ومهما تكنْ عند امرئٍ من خليقةٍ.......وإن خالها تخفى على الناس تُعْلَمِ
فأداة الشرط (مهما ـ إن) مبنية على حركة آخرها...
وأدوات الربط تكون حروفاً وأسماءً وتكون أَفْعَالاً؛ فأدوات العطف والقسم والجر ـ مثلاً ـ كلها حروف؛ بينما أكثر أدوات الاستفهام والشرط أسماء....
وكل اسم من الأسماء التي تقع أداة ربط يمكن أن تكون أداة ربط وفي الوقت نفسه تكون أحد أركان الجملة؛ وقد تقع فضلةً... فلو قلنا: مَنْ يقرأ ينجح... لكانت (من) أداة ربط وموقعها فضلة لأنها في محل نَصب مفعول به... بينما لو قلنا: من يقرأ كتبه ينجح.... لصارت (مَنْ) أداة ربط، وموقعها مسند إليه لأنها في محل رفع مبتدأ... وقد تكون مسنداً كقولنا: خيرُ كُتبِك ما قرأته؛ ما: اسم موصول: أداة ربط وقعت في محل رفع خبر للمبتدأ (خير). أما أدوات الربط التي تأتي أَفْعَالاً فهي الأفْعَال الناقصة (كان وأخواتها)، وهذه لا تقع مسنداً ولا مسنداً إليه؛ وإن دلت على حدث وزمن.
بهذا كله اكتملت عناصر الجملة وأركانها؛ وفيها يتميز المبدعون باستعمال اللفظ المؤلف الفصيح والبليغ وفق ظاهرة الإسناد والإثبات والنفي والحذف... كما تحدّث عنها البلاغيون العرب.
وهنا لا يفوتنا أن نشير إلى نزعة الاقتصاد في أساليب القول التي فَضَّلتها العربية، والتي تقوم على أركان عديدة... وفيها تميل العربية إلى التقليل من الفضلة والأدوات إلا إذا اقتضتها البلاغة، واحتاجت إليها الدلالة.... وإضافة أي كلمة إلى المسند أو المسند إليه في الاستهلال أو الوسط أو الختام إنما يكون لاستيفاء العناصر التي تشكل الجملة البلاغية الممتعة والمفيدة... ومن هنا يصبح لترتيب الكلمات في أشكالها النحوية ثم البلاغية غايات كبرى في الدلالة والتأثير...
وبهذا الترتيب تتنوع أساليب البلاغة العربية، فضلاً عن تنوعها بسبب تنوع الكلمة وبنيتها... فالتوزيع في التركيب النَّحْوي ليس إلا شكلاً بلاغياً في الجملة العربية؛ ويتفاوت أصحابه بمدى قدرتهم على امتلاك هذا النسق اللغوي البلاغي في الإمتاع والإفادة... وهو نسق مليء بالمجازات البلاغية والعلاقات الدلالية.
ولم يأت (دو سوسيير saussure,F) بشيء كثير في حديثه عن نظام الجملة اللغوية ونسقِها عما هو موجود في العربية؛ وإن اخترع نظام العلاقات اللغوية القائم على محورين: أحدهما استبدالي، والآخر تركيبي. وبهما تكتسب كل كلمة قيمتها ودلالتها من نظام وضعها في إطارهما وعلاقاتهما... وما تفعله اللغة الأدبية هي أنها تقوم بتكثيف وتوظيف هذه الممارسات المجازية، مما يجعل الاستبدال فيها أصعب منالاً وأعز طلباً. وذلك نتيجة لتوخي العلاقات البعيدة، أو لارتباطها بمنظومات قيمية ثقافية ليست في متناول الجميع"(15).
لعل هذا الكلام الجميل يعد إنجازاً في ذاته حين أدرك طبيعية الجملة الثابتة؛ وعبر عنها بـ(التركيبي) وهو يقابل في العربية ركني الجملة (المسند والمسند إليه)، ويقصر عنهما لما يمتلكانه من خصائص أسلوبية في العربية؛ وحين أدرك طبيعة الجملة المتغيرة بما يلحقها من تحولات في المحور الاستبدالي. وهذا كله موجود في لواحق المسند والمسند إليه في العربية من الفضلة والأدوات، فضلاً عن التبدل الذي يطرأ على ترتيب المسند والمسند إليه وتعريفهما أو تنكير أحدهما...
وأسلوب الجملة في نهاية المطاف لغةً، ولكنه لغة ذات نظام خاص.... وقد تحدث علماء العربية عن ذلك ابتداءً بسيبويه واللغويين وليس انتهاء بالجرجاني والبلاغيين جميعاً. ورأوا في أسلوب الجملة مستويين المستوى الحقيقي المباشر للدلالة والمستوى البعيد غير المباشر وفيه تتكثف دلالات رمزية كثيرة... وتتغير طبيعة المستويين بتغير الإضافات ونمط التأليف وتناسبه كما يقول حازم القرطاجني.(16).
إن المتغيرات الأسلوبية في الجملة ترتبط بالصوت والتركيب والدلالة، وهذا كله مما عني به في البلاغة العربية، والنحْو العربي وصرفه... فكل شكل يظهر للجملة يمكن أن يتخذ وجوهاً عدة نتيجة التحولات التي تطرأ عليه بدخول الفضلة والأداة، فحين نقول: محمد رسول الله؛ فإن دلالة هذه الجملة تختلف عن دلالتها لو قلنا: ما محمد إلا رسول ... وكذا الأمر حين نقول: ذهب محمد؛ فهذا غير قولنا: أين ذهب محمد؟ فأي أداة أو فضلة لا تترك طبيعة التركيب ثابتة في العربية.... فالجملة الأولى جملة خبرية، والثانية إنشائية.(17).
فبلاغة الجملة العربية منذ وجود العربية ليست سكونية وإنما تتجسد كائناً إبداعياً يتجاوز الظرف الوصفي الذي زعم فيه بعض الباحثين أن العربية وصفية.
بقي أن نقول في ختام الحديث عن مفهوم الجملة البلاغية العربية: إنها تستند إلى عناصرها المرتبطة بالكلمة ثم بالجملة... في وحداتها المعنوية الصغرى، ولو اتصلت بالسياق النصي فهو سياق مرتبط بالفضلة والأداة... ومن ثم بوحدة البيت الذي يكون أحياناً جملة واحدة... فمفهوم البلاغة وإن راعى مقتضى الحال والمقام عند المتكلم والمخاطب ظل مشدوداً ـ كما قلنا من قبل ـ إلى نزعة الاقتصاد اللغوي والبلاغي، فالبلاغة الإيجاز عند العرب. لهذا لا تنظر البلاغة العربية إلى النص المتكامل باعتباره وحدة بنيوية عضوية متعاونة. ولا يعيبها أنها بنيت على ذلك التصور لأنها نتيجة فطرية طبيعية وحتمية للبنية الفكرية والنفسية والاجتماعية للذهنية العربية الأصيلة المتجذرة بالاعتزاز الذاتي الفردي؛ وإن اعتز الفرد منهم بجماعته.
وحين يرى بعض الناس ذلك عيباً فإننا نراه فضيلة؛ لأن البلاغة العربية في منطلقها كانت قائمة على مافي النصوص الأدبية العربية من جهة؛ ومن جهة أخرى انفتحت البنى الجمالية البلاغية على مثيلاتها ونظائرها في عدد لا متناهٍ من الأساليب في الجملة المرتبطة بسياق ما... وبتركيب ما.. فمفهوم البلاغة العربية مشدود إلى بنية الجملة والكلمة باعتبارها وحدة معنوية صغرى... ولهذا رأوا أن الكلمة الواحدة إذا أفادت معنىً فهي جملة بذاتها كقولنا: امض، وأفّ، وهيهات، وشتان...وإيه،... بل الحرف يصبح جملة وفق ظاهرة الإسناد، مثل : (قِ) من (وقى)، و(فِ) من (وفى)... , وهكذا.
لهذا يصبح اختيار الصورة اللغوية في حالة الأشكال البلاغية رفضاً مطلقاً للوضوح المباشر الذي يميز العلاقات اللغوية الثابتة في نظام (دوسوسيير) التركيبي. وتغدو الوظيفة البلاغية متنوعة وثرية بثراء أساليب البلاغة العربية؛ بحيث لا نجد نظائر لها في أية لغة من لغات الأمم الحية.
ولا يمكن للبلاغي أن يتجاوز تلك الإشارات الهامة للجملة عند بعض الباحثين الغربيين أمثال (جوليا كريستيفا، وجيرار جينيت وتودورف ورولان بارت)، وقد تخطت إشاراتهم عالم الأسلوبية إلى ما بعدها...
وإذا لم يكن هنا مجال التوسع في تناول ما طرقوه حول الجملة فإننا نسوق ما قاله (تودوروف) في مفهومه للنص: "يمكن للنص أن يكون جملة، كما يمكنه أن يكون كتاباً تاماً، وهو يعرف باستقلاله وانغلاقه".(18).
ونرى أن الجملة في العربية قد تأخذ الموقع نفسه الذي أراده (تودوروف)، في كونها نصاً، وفي كونها تتمتع بالانغلاق، فالمتلقي ليس له الحق في تغييرها، وإن كان له الحق في إثرائها بوساطة تأملها تأملاً واعياً... فالجملة البلاغية العربية تتضمن في ذاتها قيمة أسلوبية؛ ثم تستمد قيماً جديدة متحولة من النص والموقف والبيئة، ومن طبيعة اللغة التي تنتمي إليها؛ وفي إطار العناصر المكونة لها والعلاقات التي تربط بينها.
ومن هنا نقول: إن مفهوم الجملة باعتبارها نصّاً لدى الغربيين يخالف على نحو ما مفهوم الجملة البلاغية عند العرب في أساليبها المتنوعة. وهذا ما نكشف عنه في دراستنا لأسلوب الذكر والحذف، والتعريف والتنكير؛ وكلاهما يتعلقان بأحوال المسند والمسند إليه.
وألحقنا أسلوب الذكر والحذف بمفهوم الجملة وبنيتها لأنهما يدخلان في صميم تركيب الجملة من جهة أحوال الإسناد في التركيب، وفي ذكر أحدهما أو حذفه تتعلق قضايا بلاغية من جهة الذكر والحذف، أما التعريف والتنكير فأعظم؛ لأنه يتعلق بهما من جهة الإسناد واللفظ والمعنى، والتركيب؛ تقديماً وتأخيراً، وذكراً وحذفاً؛ وإثباتاً ونفياً... ولهذا جعلناه في فصل خاص...
[/align]
د.حسين جمعة غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
جمالية الكلمة،د.حسين جمعة/ بلاغية نقدية، دراسة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
محطات جمالية في قصائد المبدع الشاعر طلعت سقيرق د. رجاء بنحيدا نقد أدبي 13 18 / 03 / 2022 33 : 03 AM
اللغة العربية إرث متصل ـــ أ.د.حسين جمعة د.حسين جمعة اللغة العربية و قواعد الكتابة 1 27 / 07 / 2012 23 : 03 PM
دراسة نقدية لـ ديوان. طائر الليلك المستحيل.. دينا الطويل نقد أدبي 4 11 / 11 / 2011 12 : 08 PM
أردوغان وسلَّم الارتقاء ـــ أ.د.حسين جمعة د.حسين جمعة المقالة السياسية 1 18 / 12 / 2009 27 : 09 PM


الساعة الآن 38 : 01 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى

|