التسجيل قائمة الأعضاء



 
القدس لنا - سننتصر
عدد مرات النقر : 137,847
عدد  مرات الظهور : 162,311,004

اهداءات نور الأدب

العودة   منتديات نور الأدب > رابطة نـور الأدب (مسجلة ومرخصة) > الأقسام > مكتبة نور الأدب
إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 22 / 12 / 2009, 30 : 08 PM   رقم المشاركة : [1]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

Hasri لقاء مع ملك الموت .. رواية الأديب د. يوسف جاد الحق

لقاء مع ملك الموت


رواية الأديب الكبير يوسف جاد الحق


منشورات اتحاد الكتاب العرب
2009


مهداة من الكاتب لنور الأدب

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 22 / 12 / 2009, 31 : 08 PM   رقم المشاركة : [2]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: لقاء مع ملك الموت .. رواية الأديب د. يوسف جاد الحق


إشارة




يعرف ملك الموت لدى عامة الناس بعزرائيل وقد ورد ذكر ملك الموت في القرآن الكريم في قوله تعالى:
((قل يتوفاكم ملكُ الموتِ الذي وُكّلَ بكم ثم إلى ربِّكُم تُرجعون)) "سورة السجدة، الآية (1)".
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 22 / 12 / 2009, 33 : 08 PM   رقم المشاركة : [3]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: لقاء مع ملك الموت .. رواية الأديب د. يوسف جاد الحق

الإهداء

إلى أسرتي الحبيبة
إلى وطني الغالي
إلى قومي وإن جاروا
إلى الإنسان وإن تجبَّر وتكبَّر



يوسف

طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 22 / 12 / 2009, 36 : 08 PM   رقم المشاركة : [4]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: لقاء مع ملك الموت .. رواية الأديب د. يوسف جاد الحق

كلمة



هذا النص ليس جنساً روائياً خالصاً تنطبق عليه مواصفات النص الروائي، حسب التعريف التقني المحدد والمتعارف عليه لهذا الجنس من الأدب. ذلك أن الحوار المكثف والمباشر بين الشخصيتين المحوريتين في هذا النص هو الغالب على الحيِّز الأعظم من صفحاته، بحيث يكاد يطغى الحوار على السرد الذي هو، في العادة، العنصر الأكثر بدوّاً في الرواية. كما إن هذا النص ـ من ناحية ثانية ـ ليس نصّاً مسرحياً صرفاً يقوم على الحوار من بدايته إلى نهايته، حسبما هو معروف ومألوف في النص المسرحي، إذ إنه ينطوي على سرد حكائي، ووصف للمكان والشخوص بوفرة تشغل حيِّزاً لابأس به من مساحة هذا النص. كما إن هنالك عناصر أخرى مشتركة بين الجنسين تدخل في نسيجه كالمونولوج الداخلي، وتيار الوعي، والحلم، والاسترجاع، وما إلى ذلك من تقنيات وآليات معروفة يقوم عليها النص القصصي. من ثم فإن أيّاً من مواصفات هذين الجنسين منفرداً لا تسود هذا النص بحيث تمكن نسبته بوضوح كافٍ إلى أيٍّ منهما. وإذ نجد هنا، في ثناياهنسيجاً متواشجاً بين تقنيات متعددة فإن هذا يضعنا أمام ضرورة البحث عن صيغة جديدة أو تسمية جديدة كي لا نتجاوز الحدود والقيود للمواصفات والمعايير المحدِّدة للأنواع الأدبية وأجناسها التي استقر عليها النقد والنقاد.
وإذا كان الكتَّاب والنقاد عامة يدعون إلى التجديد والتحديث (لكل منهما مواصفاته ومحدّداته) ويسعون إلى الإبداع والابتداع، ففي رأيي أن ابتكار جنس أدبي جديد يتباين مع الدارج والمألوف، بل يضيف إليه، ليس خطأ أو نقيصة، وإنما هو محبَّذ ومستحب، والمبدع مدعوٌّ إليهبلا جدال، فلماذا لا يكون نصّنا هذا من هذا القبيل، نصّاً مبتدعاً يجمع بين مواصفات الجنسين في نسيج واحد لجنْس جديديمكننا أن نطلق عليه مصطلح (الرواية ـ المسرحية) أو (المسرحية ـ الرواية)، ثم نشير إليها اختصاراً بتعريف تقني هو (مسرواية) من باب الاقتراح مبدئياً.
ألم يكن النقد، حتى وقت ليس ببعيد، يفرق بين الرواية والسيرة الذاتية على أن كلاً منهما جنس قائم بذاته له صفاته ومقوماته؟ وعندما حدث التداخل بينهما في أعمال كتّاب كثر، لاسيما في أدب الغرب، وفي أماكن أخرى من العالم كأمريكا اللاتينية، جاءت السيرة تحمل شيئاً من سمات الرواية ـ كأعمال ماركيز ـ التي تتبدى شخصية كاتبها واضحة في مكونات إحدى شخصياتها التي غالباً ما تكون محورية مركزية، كما بدت الرواية، من الناحية الثانية، تحمل شيئاً من سمات السيرة الذاتية، منطوية على ملامح تشير إلى تماهي الكاتب مع الشخصية الساردة، لاسيَّما إذا حفلت بأحداث عاشها الكاتب بنفسه أو عايشها.
عندما حدث هذا لم يعدم النقاد القدرة؛ ولم تعوزهم الفطنة فأطلقوا عليها مسمى (رواية السيرة الذاتية). من هنا نرى إمكان إطلاق هذه التسمية الجديدة، أو لنقل هذا التعريف ـ المصطلح عنواناً لهذا النص وتصنيفاً له.

2
في ثنايا هذا النص، وفي مواضع كثيرة منه، سيجد القارئ تناصّاً بادياً في سياقه مع الموروث من أدبنا وثقافتنا، إذ إن هذا من طبيعة عمل من هذا القبيل، ليس دخيلاً عليه أو مقحماً في بنائه. مردُّ ذلك يعود إلى الفارق الطبيعي بين منطق البشر ومنطق الملاك وأسلوب كل منهما في التعاطي مع القضايا المطروحة، فالملاك له منطقه الخاص المباين للمنطق البشري بالقطع، حسب كينونته ونهجه الرباني، فضلاً عن فيض علمه ومعرفته واطِّلاعه على خفايا غيبية وأسرار كونية بالنسبة إلينا كبشر محدودي العلم والمعرفة فيما هي ليست كذلك نسبة إليه. فلا ينبغي، من ثم، أن يُستغرب ورود التناص هنا وهناك في السياق العام لنصٍّ يصدر عن الملاك تحديداً، إحدى الشخصيتين المحوريتين في النص. وقد نذهب إلى أبعد من ذلك لنؤكد حتمية حضور التناص ـ من التنزيل خاصة ـ فيما يتعلق بالملاك ذلك لأن النص لا يملك مصداقيته ولن يستقيم الأمر فيما لو استخدمت الشخصيتان (الملاك والإنسان) اللغة ذاتها والمنطق نفسه وأسلوب الخطاب عينه وكأنهما كائنان بشريان من جبلَّة واحدةٍ وخَلْقٍ متماثل.
ولما كان بطل الرواية قد سيطر عليه هاجس الموت منذ لحظة تواجده في المشفى والإعداد لإجراء عملية جراحية له، يتوجس المرء من تبعاتها في العادة، فمن غير المُستبعَد ولا هو بالمستغرب أن تجيء رؤاه على هذا النحو، كأن يرى نفسه في مواجهة مع ملك الموت (عزرائيل) يحاوره ويداوره ويناوره متشبثاً بالأمل في الخلاص من ربقته على النحو الذي نرى في الحوار المتصل الجاري بينه وبين الملاك كلٌّ حسب منطقه وطبيعته، ويا له من فارق هائل بينهما.
رُبَّ قائل هنا ـ وهذا القائل قد يكون كاتباً أو ناقداً أو قارئاً ـ يرى أن الحلم أو الرؤيا لا يأتيان في حوار على هذا النحو من الانتظام الدقيق والتنظيم المحكم والتسلسل المنطقي في أخذٍ وردٍّ منضبطين حتى في المستوى اللغوي. هذه الرؤية للكاتب أو الناقد أو القارئ قد تكون صحيحة في الإجمال، ولكننا هنا أمام السارد الذي يلجأ إلى التأويل للرؤيا ـ الحلم لكي يصل إلى القارئ فيما ينقله من وقائع حقيقية أو موهومة أو متخيلة؛ وهذا ليس غريباً على التقنيات الأدبية التي يلجأ إليها الكاتب أحياناً، منها الفنتازيا والأسطورة والحكاية الشعبية والخيال العلمي. وإذا كنا نقبل (اللامعقول) في هذه جميعاً واللامنطقي كحقائق ووقائع، فعلينا أن نقبلها بالمثل في الحلم والرؤيا والغيبوبة الناجمة عن الموت المؤقت، وحالات النزع، والخوف، والغضب..وتجدر بنا الإشارة هنا إلى أن الهواجس والمخاوف التي ألمت بمريضنا، خشية الموت قبيل العملية وإبان الإعداد والاستعداد لها، ومنذ دخوله غرفة (العناية المشددة) هي كذلك أمر طبيعي إلى حدٍّ كبير، وإن يكن في حالتنا هذه يبلغ به الخوف حدود رعب عصابي هستيري، ربما كان ناجماً عن حساسية زائدة ومفرطة هي عادة من سمات المبدع تميزاً ـ ولا أقول امتيازاً تفضيلياً أو استعلائياً ـ عن جمهة الناس وسوادهم.

3
تجدر بنا الإشارة هنا كذلك إلى أن كاتباً،أو ناقداً قد يذهب إلى القول إن صاحب هذا العمل الأدبي ربما كان متأثراً برسالة الغفران لأبي العلاء المعري أو بالكوميديا الإلهية لدانتي ألليجيري، بيد أن أياً منهما ـ الكاتب والناقد ـ سوف يرى إثر الفراغ من قراءته للنص أن استنتاجاً من هذا القبيل يجافي الواقع، ذلك لأن رسالة الغفران تنحو إلى الخوض في مسائل اعتقادية متأثرة بالقصص الديني الذي يزخر به تراثنا، بعيداً عن (ثيمة) هذا النص الذي نحن بصدده التي هي في جوهرها الخوف الإنساني الأزلي من الموت، وسيطرة هاجسه عليه في معظم سني عمره لاسيما عند حالات المرض والتعرض لاحتمالاته في أحوال وظروف شتى من حياته.
أما فيما يتعلق بالكوميديا الإلهية التي أولاها (ول ديورانت) عنايته الخاصة في موسوعته (قصة الحضارة) فقد اتخذ منشؤها نهجاً مخالفاً للمعتقد الديني الإسلامي الذي يسود أجواء رسالة الغفران. وقد ذهب العديد من الدارسين الأوربيين أنفسهم إلى القول بأن دانتي الليجري ابن فلورنسا كتب كوميدياه متأثراً بالفكر الإسلامي بعامة وبرسالة الغفران خاصة؛ بيد أن دانتي ربما استوحى شكلها دون مضمونها؛ بل هو ذهب إلى مخالفتها ومعارضتها تماماً، حين عمد إلى إنطاق (بياتريس) التي توفيت في ريعان شبابها ـ حبيبته وبطلة عمله ذاك ـ بعبارات وأوصاف تضمنت بالغ الإساءة إلى الرسول الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. كما إنها ذهبت إلى وصف المسلمين بالملحدين (Infidels) وما إلى ذلك من أوصاف تجافي الحقيقة وتتجنى على الواقع؛ ناهيك عما حفلت به من تجديف بحق الذات الإلهية في أمور ننأى عن الخوض فيها بطبيعة الحال، بل إننا نستنكرهاوندينها. نصُّنا هذا، من ثم، بريء من شبهة الأخذ أو التأثر بأي من العملين المذكورين.
وجدير بالذكر أن عمل دانتي كان هادفاً وعامداً إلى الإساءة للإسلام والمسلمين، متأثراً بالمفاهيم المتخلفة التي سادت ذلك العصر (عصر النهضة Renaissance في أوربا) من آثار حروب الفرنجة الغربيين المعادين للإسلام كدين، وللمسلمين كأمة، فلا سبيل إذن إلى الظن بتأثر عملنا هذا بذلك العمل المغرق في التقوقع والانغلاق على مفاهيم عصره المغرضة الحاقدة، والتي مازلنا نرى آثارها فيما يجري في عالمنا في زمننا الراهن.ولا يستقيم الأمر، قطعاً، مع العقل والمنطق بأن يذهب كاتب هذا العمل إلى محاكاة عمل أدبي هو على خلاف واختلاف وتناقض تام معه فكراً وتوجهاً الأمر الذي سوف يلمسه القارئ بنفسه إبان قراءته لهذا العمل.
وبعد، وتبعاً للقول الماثور قديماً (لكل مجتهد نصيب)، فإن ما ذهبنا إليه محض اجتهاد متواضع يحدونا الأمل في أن يجد له موقعاً مرضياً من نفس القارئ وعقله.

والله من وراء القصد.



طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 22 / 12 / 2009, 50 : 08 PM   رقم المشاركة : [5]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: لقاء مع ملك الموت .. رواية الأديب د. يوسف جاد الحق

[align=justify]

ــ 1 ــ

خوف صاعق يلمُّ بي فيذهلني عما حولي، على الرغم مما يبذله ذلك الطبيب الكهل من محاولات لإدخال الطمأنينة إلى قلبي، مؤكداً لي بابتسامته الهادئة الرصينة أنها عملية سهلة لا خطر منها على الإطلاق. شعره الأشيب والسماعة الطبية تتدلى على صدره، ونظارتان ذهبيتا الإطار تبدو من ورائهما عينان واثقتان لمَّاحتان مما يضفي على سمته وقاراً، ويكسبه ثقة ومهابة. ها هو ذا ينبئني بأنه قد أجرى مئات العمليات الجراحية مثلها من قبل، وأن نسبة النجاح فيها ما كانت بأي حال لتقل عن تسع وتسعين في المائة..! عملية واحدة منها تحتمل الفشل. صحيح أن ذلك الواحد الأخير سوف يلقى حتفه، بيد أنها نسبة لابأس بها بالمعايير الطبية السائدة. المسألة عندئذٍ قدرية لا يد للطب فيها. بل إنه ـ الطب ـ يقف عاجزاً حيالها. هي قضاء الله الذي لا يرد كما ترى. ثم أردف قائلاً، وهو يقطب جبينه، محدِّقاً في وجهي بعينيه الضيقتين الواثقتين:
ـ نحن مؤمنون أيها السيد بالقضاء والقدر خيرهما وشرهما من الله تعالى. أليس كذلك..؟
ثم مضى.
لكم لمتُ نفسي. يا إلهي.. هل أراهن على واحدٍ في المائة فارقاً بين الموت والحياة؟ لا أدري لماذا داخلني التشاؤم عند ذكره الرقم تسعة وتسعين بالمائة. عندها ذهب بي التفكير إلى من ربط هذا الرقم بقضيتنا على أنه في يد السيدة أمريكا. وإلى أين وصل بنا الحال بسببه..! هذا نذير شؤم بحق. لمت نفسي حقاً. إذ وافقت على إجراء هذه العملية التي بتُّ أرى الآن أنها لم تكن ضرورة قصوى إلى حدِّ المخاطرة بحياتي،ولو بهذه النسبة الضئيلة للغاية، ولكنها قد تغدو، على الرغم من ضآلتها المؤكد الوحيد المرتقب. لقد يمَّمت شطر هذا المشفى طائعاً مختاراً، سعياً على قدميَّ هاتين، ومن تلقاء نفسي. ما من أحدٍ أكرهني على ذلك. إنه إذن قدري الذي ساقني إلى حتفي ها هنا، وإلا فكيف لي أن أفسِّر موافقتي المتسرعة الطائشة على اقتراح ذلك الجرّاح المتحمس لإجرائها، هكذا دونما تدبُّر أو تفكُّر؟ ألا تكون هذه ساعاتي الأخيرة على هذه الأرض؟ ألن أرى الشمس غداً ولا القمر؟ أيختفي هذا الكون بما فيه ومن فيه عني بعد الآن..!؟
عما قليل كان الأمر بيدي، أما الآن فها أنذا بين أيديهم، يملكون من أمر حياتي ما لا أملك.. هذا السرير البغيض،برغم نصاعته المراوغة، فكأنه يحدِّق فيوجهي شامتاً بعينين ماكرتين. النوافذ موصدة،والستائر محكمة الإغلاق، والإضاءة باهتة. آلات وأجهزة صمَّاء مخيفة.. مشارط ومقصات ومباضع ذات بريق مثير. هذه كلها تتأهب فرحة لتقطيع جسدي وشيكاً. وفي السقف عدد من العيون الزجاجية الضخمة، تشعُّ منها أضواء ساطعة، تبدو معادية متربصة. مزيج من روائح الأدوية والمعقمات ومواد التخدير توشك أن تكتم أنفاسي وتثير غثياني. تبّاً لي، ما هذا الذي صنعتهبنفسي..؟ وأيّ وبالٍ جلبته على الأولاد وأمهم.. إنهم هناك في الصالة ينتظرون مع الأصدقاء والأقارب وزملاء العمل والحرفة لا يحول بيني وبينهم غير هذا الجدار الفاصل بين عالمين مختلفين تماماً، وهذا الممر المفضي إلى حيث لا أدري. إنني الآن أحسدهم حيث هم. لكم أتمنى لو أكون بينهم. بعد ساعة أو اثنتين، وحين أغادر هذه المشرحة سوف يهبُّون وقوفاً وجلين مذعورين،يقومون قومة رجلٍ واحد، يهرعون نحو (النقَّالة) المتهادية بحيادية مثيرة عبر الطرقة من قبل أحدهم. يحبسون أنفاسهم المتسارعة، يحاولون الاقتراب للاستفسار في وجل، فتوقفهم نظرة صارمة من الطبيب المرافق لجسدي الهامد، وهم بعد لا يعرفون شيئاً عن نتيجة العملية.
التساؤلات في عيونهم الممتلئة رعباً وجزعاً، أملاً ورجاءً أيضاً. حيٌّ أم ميتٌ لا يدرون. عيونهم وآذانهم شاخصة معلقة على شفتي الطبيب ذي الأعصاب المفرطة برودة وحيادية. لكأن حياتي ومماتي لديه سيَّان. ولكن ما الفائدة الآن أيها المتذاكي دائماً.. يبدو أن السيف قد سبق العذل هذه المرة. كان عليك أن تكون أكثر فطنة. وكان حرياً بك أن ترفض مشورة ذلك الجرّاح الذي ربما كان دافعه غير بريء، إذ هو سوف يجري عملية يتقاضى عليها أجراً مجزياً، أيّاً كانت النتيجة المترتبة عليها. سوف يسرُّه نجاحها بلا ريب، بيد أنه لن يكترث كثيراً إذا لم يتحقق ذلك. والأطباء لا يسائلهم أحد في جميعالأحوال، حتى حين يخطئون، ولو كان الخطأ مميتاً، فالأعذار جاهزة، والمسوِّغات متوفرة، أسهلها (القضاء والقدر) و(الأعمار بيد الله)..! الشماعة التي يعلقون عليها أوزارهم. وقد عرف عنهم أنهم يشد بعضهم أزر بعض، فهم من ثم لا يخشون عقوبة ولا ينتظرون مساءلة أو محاسبة. كائناً من تكون أنت رقم مجرَّد ليس إلاَّ..!
لا ريب إذن في أن العملية بالنسبة إليه تجارية بحتة، أم تراني نسيت تجاربي الكثيرة المريرة معهم؟ متى استشرت طبيباً ـ جرّاحاً على مدى السنين المنصرمة في شأن وكانت نصيحته شيئاً آخر غير إجراء عملية.. و.. (على الفور وقبل فوات الأوان..!؟)، حتى لو كانت اقتلاع ظفر..؟ بسبب من مخاوفي المفرطة آنذاك كنت أعمد إلى المراوغة أو إرجاء البت في المسألة متذرعاً بسفر طارئ مثلاً، تفادياً للوقوع في المحظور، ثم تمرّ الأيام، وتنسى المسألة برمتها، وكأن مرضاً لم يكن..! لماذا رضخت لرأي واحدٍ منهم هذه المرة إذن؟ أنا الذي لم يكفَّ يوماً عن المباهاة أمام أقرانه بفطنته وذكائه..؟ كانوا ينكرون عليَّ ما أزعم، وها أنذا الآن أجدني عند حسن ظنهم حقاً..! أهي المنية قادمة والتي إذا ما أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع..؟
والدتي، رحمها الله، وأدخلها فسيح جناته كانت تقول لا يغني حذر من قدر. آه هذه هي المسألة. القدر. وقدر الإنسان أن يلقى الموت مهما امتد به العمر، فما أحياء اليوم، وأنا منهم حتى اللحظة ـ إلا أموات الغد، وأموات الماضي كانوا أحياء الأمس. ويمضي مركب الزمن فإذا الكل سواء: لقد تساوى في الثرى راحلٌ غداً وماضٍ من ألوف السنين. حكمة الشاعر هذه تنطبق عليَّ في السويعات القليلة القادمة.. كانت لأحياء الأمس تطلعات وأحلام وآمال مثلنا الآن تماماً. ثم مضوا حتى دون أن يدركوا أن ما عاشوه ما كان غير ركام من الأوهام الخادعة. سلسلة آمال متصلة ما إن يتحقق واحدها حتى تمسي واقعاً انتفت عنه صفة الأمل. وتمضي الحياة مع سلسلة الآمال المتصلة هذه منذ البداية حتى النهاية. نكدُّ ونكدح سعياً وراءها العمر كله.. ثم هي في النهاية ذلك الركام الخادع من الأوهام ما مضى من عمري أراه الآن سراباً.. هل عشته حقيقة أو تراني حلمت به..؟ أين هو ذلك العمر المزعوم..؟ قبض ريح.. سراب في سراب.. حلم يقظة كان أم تراه كان مناماً..؟ يا لوجودنا العارض على ظهر هذا الكون والذي سرعان ما يزول.وما بال الصراعات المحتدمة بين البشر مذ وجدوا. (كل صراع في هذه الدنيا يدور بين الموت والحياة.. بين الفناء والوجود.. وفوق هذا الوتر المشدود عاش البشر عبر القرون..).
هل للوجود الإنساني وجود حقاً؟ أم تراه عارض لا يلبث أن يزول..؟
ما العمر إلا ساعةً.. أو سويعات عابرة لكنها تمضي بسرعة الضوء.. يا إلهي.. لم أفكر هكذا من قبل. هذه المحنة خلقت مني فيلسوفاً.. أين مني سقراط وأفلاطون وأرسطو..؟ ولكن (فيلسوف) ما بعد فوات الأوان أيضاً..!
عندما يخرج الطبيب النطاسي ليقول لهم، بعد أن يهزَّ رأسه أسفاً، مرتين أو ثلاثاً.. متردداً في البداية.. متمهلاً.. متلعثماً.. ثم مغمغماً: (العوض بالله يا جماعة..!). وفي هنيهات انعقاد ألسنتهم سوف يضيف بثقة بالغة ونغمة متعالية ـ شأن الأطباء دائماً مع سائر خلق الله ـ (ألم أقل لكم منذ البداية الفشل وارد بنسبة واحد في المائة؟ هو ذا الواحد في المائة، وللمصادفة المحضة نصيب رجلكم. ألا تؤمنون بأن الأعمار بيد الله يا جماعة وأن لكل أجلٍ كتاب.!؟). سيقول ذلك وكأنه سعيد بتحقق نبوءته..!
تضجُّ الردهة دفعة واحدة عندئذ، بالصراخ والعويل، ويسود هرج ومرج، وهم ما بين مصدِّق ومكذِّب، بل إن صديقي طلعت يوشك أن يمسك بتلابيب الطبيب ناسباً إليه التقصير والإهمال. ويتحمس الصديق محمد بوصفه قانونياً فيعلن أنه سوف يقاضيه على جريمة قتل موصوفة "لقد كان صاحبنا قوياً كالحصان.. فما الذي حدث بربكم". أبداً لن يتوانى أيٌّ منهم في الحملة على الأطباء والمشفى أيضاً..! أتراهم يفعلون ذلك كله من أجلي..؟ مدهش هذا حقاً على الرغم من كل شيء. لسوف يدمغون إدارة المشفى أيضاً بالجشع والمتاجرة بأرواح العباد. ولكن ماذا يجديني كل ذلك؟ النتيجة هي هي.. وها أنذا أفارق الحياة والأحياء بهذه البساطة دونما سبب سوى غبائي وقلة حيلتي.. تسرعي وطيشي. ولكن ما نفع هذا أيضاً..؟ سوف أمضي للقاء وجه ربي وكأني لم أكن يوماً على ظهر هذا الكوكب. بل سوف أغدو نسياً منسياً في غضون أيام أو أسابيع قليلة. وشيكاً سوف أكون هناك في العالم الآخر، ويقوم بيني وبين أحبَّتي هؤلاء برزخ أزلي يستحيل على أيٍّ منا.. أنا وهم، عبوره نحو الآخر..!
أما العزاء فلسوف يقام في منزلي هذا المساء، ولثلاث ليالٍ متتاليات. منزلي هذا لن يتاح لي دخوله مرة أخرى ومنذ الآن. آه كم أشتاق إليه.. إلى غرفة المكتبة.. إلى تلك الكنبة التي اعتدت الاضطجاع عليها أتصفح ما أقرأ. ولسوف يغصُّ هذا المساء بالأقارب والصحاب. يجلسون هناك حيث كنت أجلس تماماً مع زواري ورفاقي الأدباء، بصورة خاصة، نمضي سهراتنا في سفسطة مستحبة، ومناوشات كلامية فارغة ـ لا تسفر عن طائل في المحصلة، بيد أنها كانت جميلة الآن.فقط أرى أنها كانت جميلة. أجل، يمكن الآن لأي كان، إلآَّي، أن يحظى بالجلوس في الصالة على الأرائك ذاتها التي دفعت ثمنها نقداً لا تقسيطاً. أنا الذي لم يدَّخر وسعاً في تأثيثه. لكأني فعلت ذلك من أجل هؤلاء ولا أكون بينهم. لسوف يمعن المعزُّون النظر إلى هذا كله بعيون ناقدة مدققة إبان صمتهم يستمعون إلى تلاوة الذكر الحكيم، من قبل رجل سوف يتقاضى أجراً على ذلك برغم صوته الأجش الذي لا يوحي بالخشوع الذي تقتضيه المناسبة. صمتهم المطبق يوحي للناظر إليهم بأنهم محزونون إلى حدٍّ كبير، فيما هم في واقع الحال ليسوا كذلك، إذ إن واحدهم يسرح بعيداً عن المكان، يفكر في شأنٍ ما، قد يكون لقاءً مع رفيق أو رفيقة، أو دعوة إلى غداء أو عشاء. لسوف يدور الحديث همساً فيما بين بعضهم حول الذوق الفني لمن اختار طلاء الجدران، أذكر أن (رشيدة) زوجتي هي التي فعلت، وعن سقم ذوق من اختار الستائر والمقاعد.. ذلك أنا العبد لله.. فأنا ملاقٍ وجه ربي وشيكاً وقول الحق حريٌّ بي الساعة..!
أنت في هذا الصباح حيٌّ ترزق.. تغادر منزلك هذا سعياً على قدميك، ولكنك في المساء ومنذ هذا اليوم ذاته، وقبل أن تغرب شمسه سوف تكون في رحاب الأبدية عند مليك مقتدر. أتُرى وجودك على الأرض كان بلا معنى؟ أوَلست أنت مجرد عابر سبيل مادام الموت هو المحطة الأخيرة؟ أترى هذا الذي كان حياتي أم كان حياة إنسان آخر تبددت كما الرؤى والأحلام..؟ أيهما هو الحقيقة؟ الواقع أم الأحلام..؟
حبذا لو أنهم درجوا على أن يدخلوا إلى القبر مع المتوفى مصباحاً يضيء ظلمته الرهيبة. سوف أقترح هذا لو استطعت أن أكلم اليوم إنسيّاً، فأكون أول المبادرين لهذا العمل الجليل لصالح موتى المستقبل..! ولسوف تحفظ لي الأجيال القادمة سبقي إلى هذا الابتكار المدهش.. أو قل الاختراع العظيم.. بماذا يفضلني نيوتن..؟ تفاحة سقطت عن شجرتها فصنعوا من الرجل أسطورة فذة لقوله إن سقوطها بفعل (جاذبية) للأرض..! يا سلام.. الإنسان الأول على ظهر هذه الأرض عرف هذه الظاهرة قبل نيوتنهم هذا. عرف أن الأرض تجذب إليها أي شيء يتنزل من الأعلى..!
أتراهم يبخلون عليَّ بهذا أيضاً بعد أن أفنيت عمري أحمل لهم الشمس على كفي..؟ ليتهم أيضاً يودعون القبر راديو (ترنزستور)، أو هاتفاً خليوياً يؤنس الميت في وحشته. ماركوني نفسه لم تخطر له هذه الفكرة الخلاقة الفذَّة..! ومن بعده المدعو بيل جيتس..! أتحسبهم وحدهم من يخترع..!؟ ولكن لماذا نتعب أنفسنا وهم موجودون!؟ حسبنا أن يفكروا نيابة عنا..!
صحيح أن هذا المكان مستقرٌّ لكل كائن في النهاية. ولكن أليس الوقت مبكراً..؟ أنت لم تحقق بعد من أحلامك غير القليل الذي لا يؤبه له حسب المعايير المعاصرة. البيت الجديد لن يتاح لك السكن فيه وما كنت تنتظر من فرحة الأسرة عند الانتقال إليه.. زفاف سلوى من المحتَّم أن يؤجل، وأنت السبب في تعكير صفوها وعريسها وآله وصحبه.. أليس الأولاد جميعاً مازالوا في حاجة لرعايتك؟ ألست أنت من اختار توقيت العملية والقرار المتعسِّف المتسرع بشأنها..؟آه.. لكم أتوق إلى تقبيل ياسمين قبيل ذهابها إلى المدرسة.. ياسمين أثيرتك التي تشيع في نفسك بهجة وحبوراً كلما أطلَّت عليك. تمكث على قلقك وتوترك إلى أن تعود.. وها هو ذا موعد فحوصها الوشيك.. من سوف يشاركها السهر هزيعاً من الليل غيرك..؟ أوَ نسيت الديون.. مالك وما عليك؟ الأولى سوف تضيع هباءً منثوراً بلا ريب. بدداً سوف تذهب. فرصة سانحة يعفي بعضهم نفسه منها، حامداً ربه على ما حلَّ بك. ولسوف يدَّعي سدادها في وقتها بما جبل عليه من صدق في أداء الأمانة لأهلها..! وأما الثانية التي لهم فلسوف يبادر أصحابها إلى المطالبة بها حتى قبيل انتهاء أيام العزاء، خشية ضياعها في خضم خلافات الورثة. ولربما ذهب الأمر بأحدهم أن أضاف إليها ما وسعته ذمته. وقد يذهب بعضهم إلى احتساب فوائد وغرامات لا أصل لها ولا حقيقة.. ترى لماذا لم أفكر في هذه القضايا قبل أن أبلغ هذا المكان اللعين..؟ لمَ أرجأت الكثير مما كان عليَّ إنجازه في وقته تحاشياً للمتاعب المرتقبة، وإثارة الخصومات بين خلفي وأيٍّ من خلق الله هؤلاء..!؟
وما شأن سيرتك الذاتية الحافلة بكل ما هو عجيب، التي كنت تنوي أن تتحف الأجيال الصاعدة بوقائعها المثيرة..!؟ روايتك الأخيرة التي تعكف على كتابتها ولم تنجزها بمماطلتك المعهودة.. والأمسية الأدبية القادمة؟ لسوف يعتذرون عنها للحضور بسبب من غيابك الطارئ. كنت تزمع أن تطبع أعمالك الكاملة فهي الآن ناقصة..! الكتابات النقدية الجمَّة والتقريظية حول أعمالك التي شقيت في جمعها بغية نشرها في أكثر من كتاب لتطبق شهرتك الآفاق..!أين أنت من ذلك كله الآن.؟ ألم تكن سباقاً إلى فكرة هذا النوع من النشر..؟ بيد أنك في ترددك أرجأت المبادرة إليها وكأنك تملك زمام الزمن القادم فجاء من سبقك إليها. أكان أولئك أقدر منك على التصرف أم كانوا أجدر..؟
وأين هي أحلامي في تحرير الأرض والعودة إليها مع الظافرين..؟ أيوارى جسدي في غير ثراها..؟ ألا ما أفظع هذا.. ما هو متاحٌ لغاصبها ليس متاحاً لي..يا لسخرية القدر.. أأمكث بعيداً عنها حتى في موتي.. وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..!؟ عائدون عائدون.. أين ولَّت.. أناشيد العودة ومواويل الرجوع.. يا إلهي.. أتحرق شوقاً إلى يافا شجناً إلى بحرها عند شاطئ العجمي.. حنيناً إلى المنشية.. إلى النزهة.. ها هي ذي الأمواج الهائجة تتلاطم مندفعة نحو الشاطئ.. تبحث عنا.. لا تجدنا هناك فتنحسر خائبة منكسرة.. يافا أراك رأي العين.. عشت ما عشت من أجلك أرتقب لقياك.. حلمت طوال ما مضى من عمر بأني عائد إليك. لأرقد هناك.. عندك إلى جوار أبي.. حتى هذه.. أمنية الموت على ثراها يا مالك الملك لا تتحقق!!؟ رأيتك في اللاذقية وطرطوس وطرابلس وبيروت.. أناجي الموج القادم من هناك بعد أن قبَّل رمال شطآنك.. أستسلم سابحاً في عباب الموج مبتهجاً، أستقبل النسيم الغربي منتشياً.. تلامس الأمواج من لدنك جسدي بعد أن لامست رمال شاطئك.. تلال الذهب المتلألئة تحت أشعة شمس العصاري الواهنة..
حلم ساعاتي الأخيرة تراه أم هي روحي محلِّقة هناك..؟ أتراها بوادر اللقاء الوشيك..!؟
حركة دائبة ما برحت قائمة في الردهة وغرفة العمليات.. يخرج الطبيب.. تدخل الممرضة.. يدخل آخر يرتدي زيّاً أخضر اللون، فاقعاً مثيراً للكآبة.. يغادر فتدلف ممرضة أخرى. تلقي نظرة حائرة هنا وهناك ثم تمضي.. ترى ماذا عساهم ينتظرون؟ ربما نتيجة الفحص المخبري لدمي، كما يقولون، أو تقرير ما يسمونه (المرنان المغناطيسي).. علمت من آخر ممرضة أطلَّت أن التقرير الأخير لم يعجبهم، ومن ثمّ سوف تتأخر العملية بعض الوقت ريثما تعاد الفحوص..
آه لكم أتوق إلى لقيا الأصدقاء جميعاً.. حتى أولئك الذين كنت أستثقل ظلَّهم دون أن أفصح لهم عن شعوري نحوهم.. لسوف تكون فرصة مواتية لهم للتعبير عن عواطفهم الجياشة نحوي.. ولن يتوانوا عن تدبيج مقالات تليق بالمناسبة، واختيار مفردات وعبارات رصينة للرثاء اجتذاباً للتصفيق.. وربما الهتاف..! كلمات كنت أحبذ لو أني حظيت بها من قبل لما تحفلبه من أوصافٍ يضفونها على شخصي. أما في حفل التأبين، بمناسبة الأربعين، فلسوف يتداعى الأصدقاء وآخرون للتباري في تعداد مناقبي التي أشك في أني كنت أملكها. بعض (الآخرين) هؤلاء لم يسبق له معرفة بي قط. ولكن لابأس فهي فرصة مجانية متاحة، عليه أن يهتبلها، لكي يقف ـ ربما لأول مرة ـ على منصَّة، متصنعاً الحزن، متهدِّج الصوت، من غير مبرر في الحقيقة، سوى الرغبة في الظهور، وإضفاء قدر من الأهمية على شخصه هو أكثر منه على المناسبة في حدِّ ذاتها وصاحب الشأن فيها.. فقيد الأمة..! لسوف يتمُّ هذا على حسابي أيضاً، ولن يسع ذويّ إلا أن يزجو له الشكر العميم عرفاناًبالجميل..!
بعد أن ينفض السامر سوف يعمد هؤلاء، ولبضعة أيام إلى الحديث عما جرى في المناسبة، وليس عن الفقيد الذي لابد أن ينسى تماماً قبل صياح الديك.!
قد يشيدون بكلمة الصديق أمين في حضوره على أنها "كانت رائعة.. حافلة بالصور الجمالية واشتقاق المفردات اللغوية.." وفي غيابه سيقولون فيها ما قال مالك في الخمر..! أما الرفيق حكمت فقد كانت قصيدته ـ هكذا يقولون ـ "فياضة بالمشاعر الحزينة الدفينة المفجعة الموجعة، ولولا أنها كانت عمودية مقفاة لقلنا أنه بزَّ السيّاب ودرويش معاً..". أظلَّهما الله برحمته وأسكنهما فسيح جنَّاته. هذا في حين جاءت قصيدة الشاعر ناظم من البحر الطويل بقوافيها العويصة المقحمة، وقد ذكرتنا بأبي العتاهية والحطيئة وصفيّ الدين الحليّ. ولقد نيَّفت على المائة بيت أو تزيد، في تعداد مناقب الفقيد وسجاياه الحميدة، التي ندر أن تحلى بمثلها أحد في أيام القحط الأدبي والإدقاع الفني التي نعيش.. ولما كان الصديق حسنلا ينظم شعراً ولا زجلاً فقد ألقى كلمة ".. جامعة مانعة في الأدب والسياسة المحلية والعالمية ومشكلة (كلينتون) مع اليهودية (ليفنسكي) وعنجهية المتصهين (جورج بن جورج بوش)..!! ناهيكم عن عدد آخر من الرفاق والأصدقاء مثل صالح والياس وخليل، وقد تناول هؤلاء شؤون البيئة وطبقة الأوزون وما لهذه من آثار سلبية حتمية على العمليات الجراحية، التي لابد أن لها دوراً كبيراً فيما حلَّ بفقيدنا الغالي.!. أما ذلك الرجل المجهول الذي برَّح به الوجد إلى حدّ أن يمضي مبشِّراً الجمع باحتمال رجوعي إلى هذا العالم في وقت ليس ببعيد عن طريق الاستنساخ والـ DNA بعد أن تطور العلم إلى حدود غير مسبوقة، وأنه من الحريّ بهذا الحشد من أصدقاء وأهل وورثة أن يحتفظوا بقطعة من جلد الفقيد كمصدر للخلايا والحمض النووي والجينات وما إليها حين تدعو الحاجة لاستعادة نسخة من الفقيد يزدهي بها الوجود من بعد..! ومن يدري فقد تكون عودته مقدمة لظهور المهدي المنتظر..!!
.. هذا ما سوف يحدث.. أو ما هو من قبيله. وإن ينسى الأصدقاء فلن ينسوا آخر غداء لهم مع الفقيد، أو آخر سهرة لدى أحدهم. يذكرون ذلك فيما هم يتناولون القهوة، وربما (النسكافيه) الأثيرة لبعضهم،وفيما هم يتسلَّون بتناول المكسَّرات من لوز وجوز وبندق.. إبَّان ذلك لن يفوتهم أن يمطُّوا شفاههم بين الرشفة والأخرى، تعبيراً عن الحزن والأسى، وما يسمونه كأدباء بلغاء (الإحساس بالفقد والشعور بالفراغ) للراحل العظيم. (سأصبح هكذا بعد أن فارقتهم)..!
ولن يكون بدعاً من القول أن يشير أحدهم إلى أنه كان يفضِّللو أني قضيت شهيداً بانفجار سيارة مفخخة أسوة بما حدث للزميل المرحوم غسان، شهيد الكلمة والرأي، عوضاً عن الموت على فراش وثير في مشفى يغصُّ بالممرضات الجميلات وأجهزة التكييف الحديثة. هذا النوع من الموت الرهيف المترف الممتعلا يليق بمغترب عن وطنه السليب..!
وأنت يا ليلى.. سكرتيرة المكتب.. لك الله.. لا جدال في أن ليلى سوف يُمضّها الحزن ويبرِّح بها الوجد، إن لم يكن من أجلي شخصيّاً، فمن أجل عملها الذي سوف تخسره، هي التي تعيل أسرة من سبعة أنفس.. من لهم غير الله أيضاً..؟ بيد أنهملن يتضوروا جوعاً أبداً، فهي جميلة بحق ولن تعدم مَنْ يلحقها بعمل عنده، إن لم يكن من أجل كفاءتها فلجمالها الذي يضفي على المكان حيثما حلَّت رونقاً وبهجة، الأمر الذي لابدَّ أن يسفر عن زيادة ملحوظة في أعداد عملائه..!لسوف أفتقدك يا ليلى حقاً. يقيناً سوف أشتاق إليها هناك وقد أتمنى أن تلحق بي سريعاً كي تكون في رفقتي في عالمي الجديد.!. لكم أتوق لفنجان القهوة إياه من يدها الآن وراء مكتبي، فيما شعرها المرسل حول جيدها ومحياها ينسدلعلى ظهرها وكتفيها. لكم أحنُّ إلى مكتبي نفسه. لم أدرك قبل الآن أن جلستي هناك، في حدِّ ذاتها، كانت شيئاً رائعاً. ربما كان يحسدني عليها كثيرون دون أن أدري، لاسيما جاري بائع الملابس الرياضية. لا أدري من ذا الذي تفلسف ذات يوم فقال بأننا لا ندرك قيمة الأشياء قبل أن نفقدها. وقول آخر بأن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى.
ولكن بارقة أمل تلوح لي مقتحمة عليَّ تصوراتي الكئيبة. لم لا أنتظر الاحتمال الآخر.. نجاح العملية (واحداً) من الـ 99% هذه. ومن ثم خروج الطبيب إليهم مبشِّراً ومهنئاً، على سيماه معالم الفرح بالنجاح، فيهبون جميعاً يرقصون فرحاً ويشدون طرباً، يشكرون ذلك الجراح الفذ (هكذا سيكون في نظرهم). وربما أنقض عليه من بينهم مَنْ يوسعه قبلاتٍ ودعواتٍ بطول العمر ومزيد من النجاح والفلاح..! والمكتب يفتح أبوابه، والآنسة ليلى فرحة بعودتي إليها سالماً غانماً. سأحدثها والآخرين عما حدث لي وكيف واتتني الشجاعة في مواجهة موت كان أقرب إليَّ من حبل الوريد..! يتقاطرون فرادى وجماعات يحملون باقات الزهور أو علب الشوكولا.. نقدم لهم المرطبات والحلوى.. نضيء الشرفات، ونعلق حبالاً من المصابيح حول مدخل البناء. تماماً كما يفعل الحجيج لدى عودتهم من الديار المقدسة..! هذا إضافة إلى تكليفنا اختصاصياً بتشغيل أجهزة (ستريو) على الشرفة تصدح بأغاني أم كلثوم... (عادت ليالي الأمل)، وعبد الوهاب (هليت يا ربيع هل هلالك).. و(رجعت ليالي زمان).. وغيرها وغيرها فيبدو الشارع حيث نقيم شعلة من النور، يذكر بعروض الصوت والضوء عند الأهرامات في مصر الحبيبة، حيث درست سنواتي الأولى في جامعتها. صورة مبهجة حقاً. ألا ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل..!
أقول الحق، اعتراني إحساس غريب وممض بالخجل من نفسي ذاتها لما سبق أن اكتنفني من روع وفزع.
فها أنذا يتحقق فيَّ قول ذلك الشاعر العتيق: إذا لم يكن من الموت بدٌّ / فمن العار أن تموت جباناً..! ألا يتربص الموت بنا في كل لحظة من حياتنا؟ مع كل حركة وفي أي مكان وزمان حتى ونحن رقود في مضاجعنا. تنقطع كهرباء القلب لثوانٍ فنموت وقد كنا في أحسن حالاتنا صحة وعافية. تهيم الروح في عوالمها إبَّان نومنا ولا تعود فنموت.. كيف نسيت حوادث الطرق على هولها وقد أوشكت أن تنقلني إلى العالم الآخر، مرات ومرات، لولا سنتمترات في المكان أو ثوانٍ من الزمن حالت دونه؟ وكيف نسيت تلك الطائرة comet التي سقطت بنا فوق مدرج مطار هامبورغ إثر عاصفة هوجاء مفاجئة أرغمتها على العودة قبل بلوغها مرساها في فرانكفورت؟ وفي فندق مطارها كانت ليلة كرنفال ليلاء.. شاركنا الساهرين احتفالهم.. شهدنا عجباً.. معانقات وقبلات ومخاصرات.. وغمزات وهمزات وقد نالني ورفيقي نصيب منها دونما جهدٍ أو عناء.. وهل نسيت حادث الباخرة concord في مرفأ بورسعيد، حين أوشكت على الغرق لولا أن لك عمراً تعيشه.. ربما حتى هذه الساعة فقط. لقد ذهبت نفسي شعاعاً يومذاك. وأوشكت أن أقضي نحبي رعباً وهلعاً.. أجل لقد بلغت روحي الحلقوم ساعة أعلن كابتن الباخرة أمره لركابها بالاستعداد للهبوط إلى زوارق النجاة.. زوارق الموت..!

أذكر أني قلت لرفيقي وفيق يومئذ: هوِّن عليك يا صديقي. كل ما في المسألة أنك سوف تموت، ولسوف تحظى غداً باهتمام لم تحظ بمثله طوال حياتك الماضية. غداً يتبوأ اسمانا الصفحات الأولى للصحف المحلية، وربما العالمية، في مانشتات حمر تعلن أن باخرة غرقت في البحر المتوسط كان بين ضحاياها عربيان من عندنا يدعيان وفيق ورفيق.. هي فرصة لظهورك اللافت في وسائل الإعلام.. أليس كذلك..؟ صاح بي وهو ما انفك يرتجف هلعاً.. اغرب عن وجهي نذير الشؤم أنت..! أهذا ما فتح الله به عليك..؟ أفرحني انفعاله فأردفت قائلاً: هكذا نحن البشر لا شيء يغضبنا أكثر من قولة الحق فضلاً عن مواجهة الحقيقة..!
أوشكت هذه الذكرى أن تضحكني برغم ما أعاني من كرب.. ألا إن من أمور الحياة ما يبكي ويضحك في آن معاً يا هذا..
لو عرف عني ذلك في حينه لوصفت بالجبن في مواجهة موت سياحي رهيف في الوقت الذي نرى رجالاً لا يرهبهم الموت الزؤام المخيف، بل هم يسعون إلى مواجهته غير هيابين من أجل أوطانهم. تذكرت عدداً ممن أعرف استشهد في مواجهة مع الأعداء في مناسبات مختلفة، وآخرين قضوا ظلماً وعدواناً على أيدي أدعياء الحضارة، الذين لم يبرعوا في شيء قدر براعتهم في اختراع جديد في كل آن من أدوات الفتك بالبشر ووسائل التدمير الأخرقحضارة تعذيب الإنسان حتى الموت.. وماذا يكون موتي إذن إزاء الآلاف المؤلفة من هؤلاء الذين لاقوا وجه ربهم هنا وهناك في كل مكان من بلادنا الممتدة ما بين المحيط والمحيطبل سائر أرجاء المعمورة.
بيد أني، وربما من قبيل التخفيف من عاصفةاللوم التي اجتاحتني وأشعرتني بالصَّغار، لاحت أمامي صورة صديقي فهمي الذي طالما جاهَرنا بإعلان خوفه على الملأ،غير هيَّابٍ ولا وجل. كانت له فلسفته الغريبة.. وربما المنطقية.. ما من أحد في وسعه أن يقطع برأي حاسم في المسألة. كنا نعيِّره بخوفه الذي اشتهر بهفي مناسبات لا حصر لها، واصفين مواقفه بالجبن المفرط،والحرص الشديد على نفسه اتقاء خطر الموت الذي كان هاجسه على الدوام في كل آن ومكان. فإذا ما قيل لصديقنا فهمي بأن الموت هو النتيجة الطبيعية والحتمية لكل كائن حي على ظهر البسيطة،وأن المرء محكوم بالإعدام منذ ولادته،وكل ما في الأمر أنه يجهل ساعة التنفيذ. رد عندئذٍ قائلاً: هذا هو ما يحزنني بالذات. لماذا نموت بعد أن جئنا إلى هذا العالم، بهذه البساطة والسرعة أيضاً، فما إن يعي أحدنا بعض حقائق الكون والحياة حتى يدهمه الموت طال الوقت أو قصر. ولكن الموت يا أخانا أبا الفهم لا يأتي إلا مرة واحدة.. أنت لا تموت مرتين.. هي مرة واحدة فلم هذا الجزع أيها الحبيب..؟ يرد منفعلاً بأن هذا السبب بالذات هو ما يزيد من عدائه للموت.. لو كان للمرء أكثر من عمرٍ واحد لهان الأمر.. لو كان للإنسان فرصة للحياة مرتين أو ثلاثاً لما خشينا الموت، لضحَّينا بالمرة الأولى لأن هناك عودة. مادمت سوف تعيش مرة واحدة فعليك أن تحرص بأقصى ما تستطيع على تجنُّب الموت، الذي حين يحدث فلسوف يلغي وجودك مرة واحدة وإلى الأزل. فرصة الحياة الوحيدة هذه عليك أن تعض عليها بالنواجذ..! من ثم كان الرفاق يتندرون على فلسفة صديقنا فهمي.. وجبنه المفرطكلَّما التأم جمعهم.
بيد أن صديقنا فهمي لا يسلِّم ولا يستسلم فيضيف شارحاً بإسهاب يُحسد عليه قوله:
حين نبلغ من العمر أرذله تكون عقولنا في ذروة نضجها وخبرتها وحكمتها ويمكن لعطائها عند ذاك أن يكون باهراً إبداعياً أو نافعاً علميّاً.. عندها، يا سبحان الله، تكون أجسادنا وسائر أعضائنا الفيزيولوجيةفي تدهور وانحدار
نحو النهاية. أي أننا حينما نغدو أحوج ما نكون إلى ذلك العقل العظيم، بعد ذلك العمر المديد ومنجزاته ومكتسباته ومحصلاته يخذلنا الجسد.. يذوي فيموت ليضيع ذلك كله أدراج الرياح.. إذن ذهب العمر سدى بكل ما جنى ثم تطلبون إليّ ألا أبالي بالموت..؟هو ذلك الثالوث الخصم لنا نحن البشر التعساء: الحياة والقدر والزمن أنا أعرفكم جيداً تعجبون بالشعارات الطنَّانة حتى تلك الخطيرة منها على الحياة نفسها، كقول أحدهم غير مبالٍ بالحياة: لنا الصدر دون العالمين أو القبر.. القبر يا هذا..! القبر يا أصدقائي وما أدراكم ما القبر.. معذورون لم تجربوه..!

يأخذ اليأس منا مأخذه مع صديقنا الأثير فنسكت عن الكلام المباح تماماً كالسيدة البارعة شهرزاد مع أميرها الصموت شهريار عندما أدركها الصباح..!
غير أن هذه الأفكار المريحة نسبياً سرعان ما تختفي ليعود إليَّ قلقي.. هواجسيوأفكاري الأكثر سواداً من ظلمة الليل البهيم. لكأن هاتفاً في داخلي يقول لي ساخراً: أنت يا هذا توحي إلى نفسك بما يريحها، بيد أن ساعتك قد حانت. إذ ليس من قبيل المصادفة أن توافق أنت، بل أن تسعى أنت سعياً لإجراء عملية غير ضرورية.. ظروف عديدة تضافرت من حولك كي تصلإلى حيث أنت الساعة.
أوشك أن أجهش باكياً فأنا ما زلت في شرخالشبابفي ربيع الحياة.. أجل أنا لم أبلغ الثمانين التي تسوِّغ لي التأسي بقول ذلك الشاعر سئمت تكليف الحياة فمن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم. مع أني وأيم الله لن أسأمها حتى لو عشتها ثمانيناً ومائة فوقها..! بل إني لفي دهشة من قول آخر (يا موت زر إن الحياة ذميمة..) فلو أنه مرَّ بمثل ما يمرُّ بي الساعة لأقلع عن هذا القول يقيناً.. ما نفع هذا كله ومنهو ذاك الذي أعلن بأنه غير مجدٍ في ملَّته واعتقاده نوح باكٍ مثلي.. وأين هو ذلك الشادي المترنِّم..!
هذا السرب من الممرضات.. ما انفككن غاديات رائحات دون أن أرى أياً منهن تصنع شيئاً.. كلما مضى الوقت خلتُ العاملين هنا يعدُّون لمذبحة حقيقية. العيون الزجاجية ما برحت ترمقني بحيادية صارمة كأنها تهزأ بمخاوفي.. تقول لي ما أنت سوى واحدٍ من بين أعداد لا حصر لها مرَّت من هنا. بعضها مضى إلى غير رجعة، حيث يستقر بها المقام في رحاب منزل دائم لسكنٍ أبدي تحت الثرى. هو النزل الحقيقي.. المقر الأخير للإقامة الدائمة. عنَّ لي بغتة أن أنفض عني تلك الأردية البيضالبغيضة لأنطلق عدواً في الممر، فالردهة، فإلى الشارع، فإلى الفضاء العريض. لكني تذكرت أولئك القاعدين هناك، فأحجمت سريعاً خشية نظراتهم المندهشة، ناهيك عن فيض من الظنون التي سوف تساورهم في أمري، حتى الزوجة والأبناء خشيت سوء ظنهم في شجاعتي. هؤلاء إذن.. أحبائي أولئك هم الذين يرغمونني، من حيث لا يعلمون، على مواصلة السير حثيثاً نحوالنهاية. ولكن أيفقد المرء حياته هكذا من أجل اعتبارات كهذه ينبغي ألا يؤبه لها، وإلا فقل لي بربك أي شيء آخر يرغمني على ألا أفعل!؟
اقتحمت ذاكرتي قراءاتي فيما مضى في شأن الروح عقب الموت ومغادرتها الجسد الفيزيقي ـ الأرضي. تشبثت بما أسعفتني به الذاكرة لتوِّي وكأنه جاءني في الوقت المناسب كيما أعرف مصيري المرتقب وشيكاً. يقول هؤلاء الذين جابوا تلك الآفاق بأن الموت كما نعرفه بالمشاهدة العيانية حالة عابرة ليس إلا. هي انتقال الروح إلى عالم آخر. ذلك العالم واضح المعالم بالنسبة للروح إذ تنتقل إليه، له ذبذبات أثيرية خاصة أعلى من ذبذبات الأثير التي تكوِّن عالمنا. الاهتزازات الأثيرية تحسب بالملايين في الثانية الواحدة. وهو غير الأثير الذي نصطلح عليه، ويستخدمه البشر في الاتصالات اللاسلكية والفضائية وما إليها. الكون كله مكوَّن من ذبذبات أثيرية مختلفة السرعات بحيث تجعله يبدو صلباً محسوساً في كل من تلك السرعات ولمن هم في كنفه كما نراه نحن بالنسبة لعالمنا وفي درجة اهتزازه وهو سبع درجات متداخلة كما يعرِّفها ألبرت آينشتاين. إذن العالم الآخر الذي يلي عالمنا بذبذباته الأثيرية الأعلى هو المكان الذي تذهب إليه الأرواح البشرية غبَّ الموت، أي عند مغادرتها الأجساد الترابية. لم أكن قادراً على فهم ما يقولون أو إدراك أغواره. لكن هذا ما يقولون بوصفه علماً قائماً بذاته. وهم يقولون أيضاً أنه ليس من اليسير علينا بالفعل إدراك هذه الحقيقة بعقولنا المحدودة، بيد أنه ليس شرطاً لازماً بالضرورة أن كل ما لا نستطيع إدراكه غير موجود في عالمه وواقعه. والروح في عالمها الجديد تستقبلها أرواح الذين انتقلوا إلى ذلك العالم من بين أقاربهم ومعارفهم ممن هم في نفس المستوى الأثيري. وفي الوقت الذي يملأ أقارب الميت عندنا وذووه الدنيا حزناً وصراخاً وعويلاً، وربما لطم خدود وشقّ جيوب لرحيل عزيزهم المجتبى، تحلُّ على الأرواح المستقبلة هناك سعادة وبهجة بمجيء الروح الوافدة التي سوف تمضي بعض الوقت حتى تتكيف مع وضعها الجديد وتتفهمه. يحدث هذا تماماً كما في حالة السفر والفراق في عالمنا الراهن. المودعون في مطار المغادرة يذرفون الدموع في حين يفرح المستقبلون في مطار الهبوط ويقبلون على القادم مهللين مبتهجين يوسعونه عناقاً وقبلات.
ترى لماذا جيء بنا إلى هذا العالم ما دمنا مجرَّد عابري سبيل إلى عالم هو بدءٌ لحياة جديدة خالدة، مع اختلاف المصائر طبقاً لما كان عليه كل منا في عبوره الخاطف لحياته الأرضية؟ اللهم لا اعتراض على أحكامك وسننك في كونك وكائناتك.. هي تساؤلات وخواطر تقتحم عقولنا..؟ ولا جواب عنها لديها؟ عبور يحولنا إلى تراب تذروه الرياح أو تدوسه الأقدام أو يسهم في بناء سكن مشاد نظل بشراً آمنين ينامون ملء جفونهم لا يدرون أن ذراته بقايا أجساد بشر عابرين.. ويلاه من هذا المصير.. ولكن ما الضير في أن يحدث هذا لأجسادنا المتحللة.. فهل لجرح بميت إيلام مادمنا قد فقدنا الإحساس والشعور.. والحياة.. وهل يضير النعجة سلخها بعد موتها!؟ "يخيل إليَّ أن الحياة ما هي إلا مدرسة تأتينا مع مشرق كل شمس بجديد من الدروس. وأننا لا نغادر مقاعد الطلبة إلا عند التخرج.. والتخرج هو مغادرة المدرسة ـ الحياة.. وما المقبرة إلا قاعة الخريجين..! نموت ببطء نضمحل بالتدرج معتقدين أننا نحيا".

إذا حدث ما أتخوف منه سأراهم قريباً إذن.. إذا ما كان لهذه المسألة من حسنة فهي أني سوف ألقى والديَّ وأخويَّ ورهطاً من أصدقائي الراحلين وشيكاً. لسوف نسعد معاً باللقاء.. ترى كيف يعبِّرون عن الأفراح هناك!؟ ولكن.. ولكني لست في عجلة من أمري لو أمكنني إرجاء ذلك اللقاء، فهو حتمي الوقوع أولاً وأخيراً فلمَ تعجُّله..!؟ سوف يأتي يوماً.. شهقة هي الفاصل ما بين العالمين.. شهقة تغادر معها الروح دنيانا إلى عالم رحب بلا حدود ولا قيود ولا حواجز ولا موانع ولا جوازات مرور ولا موافقات سلطات.. يا إلهي إنها الحرية المطلقة إذن.. أنخشاها تشبثاً بهذا العالم البائس؟ أم ترانا ألفنا سجن دنيانا الكبير أم ترانا أدمناه..؟ أليست أرواحنا الأثيرية حبيسة في أجسادنا الترابية؟ أترانا نخشى الحرية لأرواحنا..؟ أم ترى أن خوفنا الدائم مما هو قادم عوَّدها الإلفة والرضى حتى عن سجنها..؟ ولكن برغم هذا ما أشد رغبتي بالبقاء فيه زمناً أطول.. يا لتناقضي العجيب.. ترى ما الذي دهاني ؟ دوائر رهيبةمتشابكة.. خوف ماحق ساحقيكتنفني من سائر أقطاري..
قطع عليَّ تأملاتي الروحية التي أوشكت أن تخفف عني بعض ما بي مجيءالطبيب المباغت، وفي أثره تدلف الممرضة الرشيقة إياها. كان هادئاً تماماً، فيما بدا لي، لا يساوره خوف أو قلق. ولكن علام يخاف الرجل فليست روحه هي المعلقة بين الاحتمالات التي ربما كان أحدها الموت الزؤام، الأمر الذي تعوَّده فأمسى لديه هيِّناً عادياً غير ذي بال. هذه هي مهنته التي يكسب من ورائها عيشه ويكوِّن بفضلها ثروته، ولو كان عليه أن يحمل همَّ كل مريض مثلي لهجر مهنته هذه، ولربما أحجم عن الإقبال عليها منذ البداية وأنشأ مكتباً عقارياً يدر عليه ربحاً وفيراً لقاء جهدٍ يسير، وربما دون جهد يذكر. حتى لو كان أميّاً كما هو حال بعض أصحاب هذه المكاتبمن العاطلين العاجزين عن القيام بأي عملٍ مجدٍ..! مرضاه ليسوا أكثر من حالات عابرة. عمله هذا.. حياته هذه يمضيها بين أناس تكتب لهم النجاة وأناس يلقون وجه ربهم. الناس عنده مجرد أرقام.. أجساد ملقاة على أسرة تحمل أرقاماً قلما يعرف أسماءهم أو حالاتهم الأسرية والمجتمعية.. كأنهم ليسوا بشراً يحلُّ اليتم بأبنائهم، والترمُّل بنسائهم، والثكل بوالديهم حينما يقضون نحبهم بين يديه، وأمام ناظريه، دون أن تطرف له عين،أو يرف له جفن،أو تتحرك في صدره نبضة حزن،أو ومضة إحساس بالأسى.
برغم تقديري هذا لظروفه وحالته التي هو عليها فقد غاظني منه ذلك الهدوء المثير البادي على وجهه وفي حركاته. انتابني الإحساس بغتة بعداء حقيقي نحوه. قلت في نفسي: هذا وأضرابه جزَّارون حقيقيون ولكن للبشر وليس للخراف والعجول.. جزَّارون ولكن بموجب رخصٍ حكومية، وشهادات أكاديمية يفاخرون بها أيضاً، ويعلِّقونها على الجدران في عياداتهم ومنازلهم كإعلانات عن بضاعتهم وتجارتهم التي لن تبور!!. فيا لبجاحة هؤلاء..!!
لكأنما أدرك الطبيب بحدسه، أو بخبرته المديدة ما يدور في خلدي، فرأى بثاقب بصره أن يريحني منها دونما ريث أو إبطاء. همس بكلمات تعمَّد ألا يسمعنيها في أذن الممرضة التي لاحظتُ ـ على الرغم مما أنا فيهمن كربـ أنها جميلة بلونها الحنطي، وتقاطيعها الدقيقة، وجسدها الرشيق. لم يفتنيكذلكأن ألحظ ما تملكه من قوام بديع التكون، وعينين سوداوين يشع منهما بريق ساحر، حتى أنني رحت أحسد ذلك الطبيب حين راح يحدثها عن قرب، وبحميمية مشهودة وقد أوشكت شفتاه أن تلامسا خدها وشعرها. تمنيت لو أني درست الطب وليس الأدب حيث يحظى هؤلاء بهذا النعيم المقيم، فضلاً عما تضفيه مهنتهم على أشخاصهم من وقار ومهابة لا أدري ما الباعث عليها. لم يفتني أيضاً أن أحسده على إجرائه العمليات المميتة أحياناً للآخرين ولا تُجرى له.. ناهيك عما تدرُّه عليه المهنة المرموقة من أرباح لا يتسنى لأمثالنا أن يحلموا بها.. لا بل هم يحلمون بها في حقيقة الأمر..!
ما لبثت الممرضة أن اختفت لدقائق معدودة بدت لي ثقيلة طويلة. عادت لتقترب مني في رشاقة مدهشة.. بيدٍ خفيفة تحقنني في الوريد، فيما يشرق محياها الهادئ بابتسامة بارعة، مغمغمة بكلمات لم أفهمها. أتواهن فتوراً.. أمضي الهوينى بعيداً.. إلى آفاق ضبابية سحيقة المدى...

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 22 / 12 / 2009, 21 : 09 PM   رقم المشاركة : [6]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: لقاء مع ملك الموت .. رواية الأديب د. يوسف جاد الحق

[align=justify]

ــ 2 ــ

وجهاً لوجه أجدني أمام كائن ضخم ذي هيئة عظيمة لا عهد لي بمثلها من قبل. منكبان عريضان على نحو غير مألوف في دنيانا. صدر هائل الاتساع يسدُّ الأفق من أمامي. لحية عريضة سوداء كثَّة، مكلَّل الرأس بهالة من شعر غزير طويل شديد السواد. أشيح بوجهي ذات اليمين فأراه وذات الشمال أراه. هالني مرآه حتى أوشكت أن يغشى عليّ. يحدجني بنظرات حادة، تطلقها عينان واسعتان على نحوٍ مرعب. يتفحصني جيداً من قمة رأسي نزولاً حتى أخمص قدميّ، لكأنني شيء يريد ابتياعه، ولكن بطريقة أشعرتني بأنني بضاعة رديئة لم تعجبه كثيراً..! غير أن ما خفف عني بعض ما انتابني من فزع أن بادرني،محاولاً أن يبدو باشّاً،وإن كان صوته انطلق هادراً كهزيم الرعد في ليلة عاصفة ليقول:
ـ مرحباً أيها الشاب..
رددت جزعاً أكاد لا أعي ما أقول والكلمات تخرج من فمي متقطعة، أو كأني غير قادر على النطق:
ـ أهلاً.. أه.. أهلاً بك يا عم..
ثم أردفت متلعثماً:
ـ هل لي، يا سيدي أن أتشرف بمعرفة من تكون..؟
أرسل ضحكة مجلجلة اهتزت لها الأرجاء قبل أن يقول، وفي لهجته نغمة سخرية بادية:
ـ ألم تعرفني يا هذا؟ حسناً كلكم هكذا لا تعرفونني إلا حين ألتقيكم عند نهاية حياتكم الأرضية.. ولكنكم معذورون، فهي مرة وحيدة أولى وأخيرة.. ها أنذا أقدم لك نفسي.. أنا ملك الموت..!
صحت مرتعباً وسخونة هائلة تجتاح جسدي:
ـ من..؟ من تقول..؟
ـ قلت لك وكفى..
ـ لعلك السيد عزرائيل كما أرى من هيئتك..
ـ أنتم تسمونني هكذا..
ـ يعرفك البشر بهذا الاسم.. أحقاً هو أنت..؟
ـ من تراك تحسبني أكون.. ابن عمه مثلاً..؟
وجيب قلبي أسمعه بأذنيّ. قلت والكلمات تتقطع على لساني:
ـ أهذه مناسبة للمزاح يا سيدي الفاضل..؟
ـ ليس كمثل هذا الجدّ جدٌّ يا هذا. إنها الحقيقة الأزلية الفريدة الوحيدة في حياتكم الأرضية. وأنتم تعمدون إلى تجاهلها طول حياتكم. تنسونها أو تتجاهلونها تماماً برغم معرفتكم بحتميتها وأن أحداً لم ينج منها. وإذا ما حانت ساعتكم التي لا بد أن تحين تصيبكم الدهشة والرعشة ويلمُّ بكم الروع وكأن الأمر جديد عليكم، أو كأن واحدكم لم يكن متوقعاً لها لأنه هو حالة استثنائية لا يجور عليها ما يسري على سائر خلق الله.. أو كأن قوافل الموتى التي شهد في حياته لا تعني شيئاً... لم تثر في عقله فكرة.. لم تنر بصيرته.. لم تقل له بعبارة جليَّة إن دورك قادم لا مناص ولا مفرّ..
ـ تأخذنا الغفلة ومشاغل العيش والحياة يا سيدي فننسى هذه الحقيقة.
ـ إلى أن آتيكم بغتة وأنتم عني غافلون..
ـ نتذكرك لماماً وفي حالات نادرة هي التي تذكرنا بسيادتك، كأن يقضي جارٌ لنا نحبه، أو يرحل عنا صديق، أو قريب نواريه التراب وندعو له بالمغفرة.. إذن أنت السيد عزرائيل أم تراني واهم أو في حلم..!
ـ بلى أنا من تقولون عنه عزرائيل. أنا ملك الموت..
ـ وما الذي جاء بك الآن يا سيدي ملك الموت..؟
ـ ومتى كنت تريدني أن أجيء..؟ بناء على موعد مسبق ربما.. أليس كذلك..؟
ـ في أوان غير هذا.. قد يكون مناسباً لي أكثر مما أنا عليه الساعة.
ـ ومتى تحسب أن الأوان يكون مناسباً..؟ هيه.. متى..؟
ـ لا أدري ولكن..
ـ مثل هذا الأوان كما تريده وعلى هواك أنت لن يأتي أبداً، ولو كان الأمر بأيديكم لأرجأتموه إلى ما لا نهاية.. بل إن ذلك الأوان ما كانليجيء عندئذ أبداً.
ـ على أية حال ليس الآن. سوف أخبرك في حينه.. أعني حينما أكون مُهَيّأً للقائك..!
ـ أرسل الكائن الماثل أمامي كالجبل ضحكة مدوية أخرى قبل أن يقول:
ـ إذن عليّ أن أنتظر ريثما تتصل بي.. أو لنقل إلى أن ترسل إليَّ بطاقة دعوة..!
أدركت أنه يتهكم على ما بدر مني، أو هو يسايرني ويأخذني على قدر عقلي، فهو يدرك دوافعي وأسبابي وأي نوع ينتاب المرء في مثل هذا الموقف وهذه الحال. غير أني ارتحت شيئاً ما لسبب لا أدريه. بل إن إحساساً خفيّاً ساورني بأني ربما أفلح في النجاة من براثنه لبعض الوقت، وإلا فلماذا يمضي في محاورتي، وهو الذي بوسعه إنهاء الأمر في لحظة خاطفة. بيد أنه بغتة عبس في وجهي وباتت هيئته مخيفة أكثر قبل أن يصيح بي بصوته المجلجل:
ـ ماذا يا هذا..؟ أتحسبني طوع بنانك..؟ أم تراك تحسب أنك أنت مَنْ يقرر في هذه المسألة..
ـ ولكنها حياتي يا سيدي.. أقول إنها حياتي أنا.. ألا أملك أمر حياتي..؟
ـ حياتك وموتك أمران لا يد لك فيهما على الإطلاق. قُدِّر لك أن تجيء إلى هذه الدنيا في زمن ما في مكان ما وعندما وعيت ألفيت نفسك موجوداً.. هنا.. هكذا.. وحسب. لم يكن لك رأي أو علم أو اختيار في المسألة. وموتك كذلك لن يكن لك فيه خيار أو رأي أو علم. ستجد نفسك أمامه في أي لحظة كما هو حالك الآن. حياتك كانت منحة إلهية وُهِبْتها حين شاء الله وستنتهي حين يشاء. أتفهم هذا..؟
ـ معذرة يا سيدي. أنا لم أقصد شيئاً مما ذهبت إليه..
ـ ما الذي قصدته إذن..؟
ـ ما عنيته هو أنني لست على استعداد للأمر الآن كما ترى. لقد فاجأتني تماماً. آخر ما كنت أتوقع قبل مجيئك هو مجيؤك هذه الساعة..!
ـ ستقول إنك كنت غافلاً ومغفلاً طول الوقت.. وأنك لم تؤدِّ واجباتك كما ينبغي.. وأنك لم تنجز أعمالك.. ولم تشبع هواياتك ورغباتك.. وأن لك ديوناً ترغب في تحصيلها.. وأنك كنت تنوي أن تعمل الصالحات فيما بعد عندما يعتريك الكبر. كنت تحسب أن العمر مديد أمامك ليتحقق لك ذلك كله.. أليس ذلك كذلك...؟
ـ بلى.. بلى.. إنه هذا الذي تقول. لقد علمتَ ما في نفسي وأصبت كبد الحقيقة..!
ـ لكنك تغفل عن حقيقة كونية أزلية هي أنك إن كنت تستطيع برمجة أمور حياتك المعاشية أو هكذا يخيل إليك، فأنت غير قادر بالقطع على برمجة موتك وتوقيت أوانه، إذ أنه لا يأتيكم إلا بغتة. متى؟ وأين؟ وكيف؟ بل إنك لا تدري بأي أرض تموت. أسئلة من هذا القبيل لا تملكون من أمرها شيئاً ولا تملكون الإجابة عنها برغم الشأو الذي قطعتم في كثير من العلوم، إلا هذه فلسوف تظل عصية عليكم معرفتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. هي في علم الغيب وعلمه ليس متاحاً للبشر.. بل إنكم لفرط غفلتكم تأتيكم النذر فلا تأخذون منها عبرة. يلهيكم عنها تكاثر الأموال والأولاد ومتاع الدنيا بأشكاله وألوانه. ما الشيب الذي يخط فوديك، ثم تمتد ساحاته يوماً بعد يوم إلى أن يشتعل الرأس منك شيباً إلا نذير. وما عظامك التي تبدأ آلامها هينة أول الأمر، ثم تتفاقم إلى أن يهن العظم منك حتى لا تقوى على المشي أو الوقوف على قدميك إلا نذير. وما خفقات قلبك التي تتسارع حيناً وتتباطأ حيناً فيضيق صدرك حرجاً وتنبهر أنفاسك إلا نذير. تلك نذر وإشارات بادية مبكرة ومتأخرة تنبئك بأني في طريقي قادم إليك وأن أوان هذا القدوم يقترب مع كل ثانية تدور في عقرب هذه الساعة الذهبية في معصمك متخذاً منها حلية وهي التي تقص الزمن قصّاً. زمنك ذاته. إن واحدكم ليمضي سادراً في غيِّه وغفلته عن النهاية المقتربة حثيثاً حتى أمسي قاب قوسين منه أو أدنى. قد يذكر الموت أحدكم إذ يشارك في موكب جنازة، لكنه سرعان ما ينسى غبَّ الفراغ من مراسيم التشييع والدفن.
هنالك الميتة الصغرى تلمُّ بكم في نومكم في كل يوم تذكيراً بتلك الميتة الكبرى القادمة، فتمضون عن دنياكم كأن لم تكونوا فيها بالأمس. حتى ذكراكم تخفت عند من عرفكم من أهل وصحاب شيئاً فشيئاً إلى أن تتلاشى. تأتي أحقاب تنسون فيها تماماً. خيال مضى وانطوى كأن واحدكم لم يكن شيئاً مذكوراً.
ـ لقد أصبت يا سيدي كبد الحقيقة مرة أخرى. لكنها الحقيقة المرة التي تحزن النفس.. تدمي الفؤاد وتصدع القلب. لا يغضبنَّك هذا فما نحن إلا بشر.. ولا يؤرق نومنا ويقضُّ مضاجعنا شيء أكثر من تذكُّرك..!
في كل مرة يفحمني.. بل يخرسني. ولكن فلأسايره قليلاً عسى أن أكسب ودَّه..! ولعلي من ثم أحتال على الأمر لكي ينصرف عني أو يرجئ مهمته إن لم تكن عاجلة ملحَّة.. قلت مؤمِّناً على أقواله من قبيل المجاملة، متظاهراً بالإعجاب بما يقول:
ـ ما تقوله صحيح تماماً يا سيدي.. بل هو جُماع القول الصادق الرصين. وها أنتذا تعرف مكنونات نفسي بحيث لا أستطيع أن أخفي عنك شيئاً. حقاً وصدقاً كنت أزمع التوبة والإنابة في بضع سنين. حبذا يا سيدي أن يتجلى كرمك في أن تمهلنيها...
ـ هه.. بضع سنين..! أمهلك بضع سنين.. يالجشعك أيها الرجل..!
ـ إنني ما زلت شاباً في مقتبل العمر، ولم أحسب أن الموت قريب هكذا وأنه سوف يداهمني دونما سابق إنذار في شرخ شبابي.
ـ هذا دأبكم أيها الآدميون. ولكن من تخادعون..؟ ما أراكم تخدعون إلا أنفسكم، تعلِّلونها بالأماني العذاب التي لا تنتهي والتي إذا ما تحقق بعضها فجلُّها لا يتحقق.. وأنتم لا تزهدون في الدنيا، إن زهدتم، إلا في أخريات أيامكم قبيل ارتدادكم إلى أرذل العمر. أي حين تزهد الدنيا نفسها فيكم. هي التي تنصرف عنكم عندما تفقدون القدرة على اجتناء ملذاتها وإشباع رغباتكم منها.
إذن عزرائيل هذا، ملك الموت، يعرف الكثير عني بوصفي من البشر،هؤلاء الذين لا يفتأ عن التحدث عن جوانب ضعفهم. رباه.. ماذا تراني فاعل إزاء هذا البلاء الذي ألمَّ بي على حين غرة؟ ما الحيلة في أمره.. إنه يسدُّ عليَّ الآفاق جميعاً فلا أجد لي مهرباً. كلما حاولت الفرار منه ألفيته يلاقيني. بيد أني كالغريق المتشبث بقشة في عباب بحر لجيّ متلاطم الأمواج علَّها تنجيه. بادرته قائلاً في وجل وضراعة، كرمية رامٍ قد تصيب ولا تخيب رغم بدوِّ المراوغة فيما أقول:
ـ ألا تكون يا سيدي قد أخطأت العنوان؟ قل لي أولاً كيف عرفت أن هذا هو عنواني، بل وعرفت أيضاً أني متواجد هنا الساعة..؟
ـ ليس مهماً أين تكون.. فإني ملاقيك أنَّى تكون..
ـ أأنت واثق أنك لا تريد جارنا أبا مهيب في الطابق الأعلى منا؟ أعذرك لو أخطأت وجهتك ففي مثل هذه المباني الشاهقة المكتظة بسكانها قد يخطئ المرء في العنوان.. من ذا الذي لا يخطئ يا سيدي هل أدلَّك على سكناه..!؟
وإذْ لم يحر جواباً وإنما طفق يحدق في وجهي بإمعان ألفيتها فرصة كي أحاول من جديد.. فلا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس يا هذا..! عدت إلى القول:
ـ أرأيت يا سيدي.. هو جارنا أبو مهيب إذن.. وأنا على أهبة وضع نفسي في خدمتك.. قد أصعد معك إليه.. سأقرع لك جرس الباب أيضاً.. لكم يسعدني ذلك..!
هنالك بادرني بقوله:
ـ ولماذا جارك هذا بالذات أيها المحترم..؟
ـ لسبب بسيط ومنطقي سوف تقرُّني عليه. هو مريض منذ سنين.. وهو شيخ هرم بلغ من العمر أرذله. بل ربما يتمنى الرجل أن يدركه الموت اليوم قبل الغد جرَّاء ما يعتريه من أسقام تنهش جسده وتنكد عليه عيشه.
ـ هب أن هذا الذي تقوله صحيحاً غير أن للرجل بقية من عمر على وجه من الوجوه يعيشه. ليس من حق أحدٍ إنهاء حياة لم يحن أجل صاحبها، والأجل في علم الغيب.
ـ صدقني أنك تسدي إليه جميلاً، بل خدمة جُلىَّ لو بادرت من فورك إلى نقله للعالم الآخر لكي يستريح ويريح. أما حرمه السيدة أم مهيب فقد لا يهمها كثيراً انتقاله إلى الرفيق الأعلى إذ إن لديها بوليصة تأمين على حياته توفر لها دخلاً جيداًتقيها الحاجة والعوز إلى أن تحظى بلقائك..! ناهيك عما يكبدها الرجل من عناء في خدمته..!
مضى يتأملني ملياً. فيما هو مطبق في صمته، فأردفت متشجِّعاً:
ـ أرأيت يا سيدي أن السيد أبا مهيب هو بغيتك في هذا المبنى دون غيره..؟ لن يتعبك الصعود إليه. هي بضع درجات إن لم تشأ استخدام المصعد، وهذا ما أنصح به،فهو كثيراً ما يتعطل..!
لا أدري لماذا يمعن التحديقفي وجهي هكذا. لكنه بغتة يقطب جبينه ويزمُّ ما بين حاجبيه بعينيه المرعبتين اللتين بدا لي أنهما غيرهما قبل ثانية، قبل أن يقول:
ـ أنا أعرف يا هذا من أريد تماماً. إني أريدك أنت بعينك. أنت بغيتي..
ـ ولكن مرضي ليس عضالاً. وحبذا لو أنك دعوت لي بالشفاء..!
ـ لتعلم أن شؤوناً كالمرض والسنّ ليست وحدها عامل تحديد ساعة الموت، أم تراك لا تعرف المثل الذي لا تنفكون عن ترديده: كم من حملٍ سبق أمه إلى المذبح؟ أو كأنك لم تقرأ أن لكلٍّ أجل كتاب.
ـ كنا نتحدث عن العنوان والمكان يا سيدي. الخطأ وارد ما دمنا نقطن في المبنى نفسه. ألا توافقني على ذلك..؟ جلَّ من لا يخطئ.. كلُّ ابن آدم خطّاء.. أليس كذلك..؟
ـ ولكني لست ابناً لآدم عليه السلام.
ـ أنا لا أقصد أن أنسب إليك الجهل وإنما الخطأ..!
ـ أترى الملائكة يخطئون أيها الأحمق، على أية حال عنوانك مرسوم على جبينك وليس على المبنى حيث تقيم..
تحسست جبيني مندهشاً.. فزعاً أيضاً.. لأقول فيما يشبه الاستنكار:
ـ عنواني على جبيني ولا أراه وأنا أنظر في المرآة كل صباح..؟ كيف..؟
ـ لن تراه.. فهو مرسوم بأشعة كونية لا ترى.. هي هالة من أشعة غير التي تعرفون من أنواعها في دنياكم وتعطونها أسماء عجيبة رونتجن.. جاما.. باتا.. هذه الهالة تحيط بجسدك كله تسجل عليك دقائق حياتك أياً كانت قولاً أو فعلاً أو نيَّة في سريرتك..
ـ وأين تكون تلك الأشغة.. داخل الجسد أم خارجه..؟ وكيف لا نشعر بوجودها معنا وفينا.. فضلاً عن أننا لا نراها ولا نحس لها أثراً في أجسادنا..!؟
ـ برغم خفائها عنكم.. لأن الله أرادها هكذا أن تكون. هي كتابكم الذي ينطق بأعمالكم يوم الحساب شاهداً عليكم. كتاب تراه بعد الموت مسطوراً..!
ـ عسير عليَّ يا سيدي فهم ما تقول.
ـ ما أكثر الأشياء التي لا تحسونها ولا ترونها مع أنها موجودة في عالمكم.. ومنها ما هو مؤكد الوجود أكثر من تلك التي تدركها حواسكم المحدودة.
ـ أليس غريباً هذا الذي تقول يا سيدي..؟ ولكن وعلى الرغم من عجزي المطلق عن الفهم.. قل لي ما كنهها..؟
ـ هي أشعة أثيرية كونية ترافق الجسد طول حياته على الأرض كي تسجل عليه كل شيء يأتيه.. يقوله أو يفعله كما أسلفت. ثم تنتقل مع الروح إلى العالم الآخر إثر مغادرة الروح للجسد بالموت. علماً بأن الروح تغادر الجسد في حالة النوم أيضاً لكنها حالة مؤقتة فتعود إلى صاحبها عند صحوه.. يبقى الأمر كذلك إلى أن يحين الأجل المسمى فتمضي عن صاحبها بلا عودة.
ـ أكذب عليك لو قلت لك أني فهمت شيئاً.
ـ سأعمل على تقريب المسألة إلى عقلك، خذ على سبيل المثال. الأثير الفضائي في كوكبكم. هذا الأثير ينقل إليك الصور والأصوات من شتى أطراف الأرض هل تراه أو تحسُّه؟ أنت تدرك أثره وفعله وحسب. وهذه الفيروسات والجراثيم التي تغزو جسدك وبعض منها هو الذي تسبب في مرضك أنت وفي موت بشر لا حصر لهم على مدى الزمان. هل رأيتها أو أدركت وجودها لولا اكتشاف العلم لفعلها ولأثرها على البشر؟ يقتل واحدكم الملايين منها كلما ألمَّ به عارض مرضي بما يتناوله من أدوية تحمل مسميات تبتكرونها لها، إلا أنها تتغلب على الأدوية والمضادة المعادية لها وتعود إلى قوتها.. وهي في نهاية المطاف أقوى منكم على صغرها المتناهي وضآلتها في نظركم إذ هي لا ترى من قبلكم. وهي سابحة فوق جلودكم مستكنَّة في حلوقكم. وهي متواجدة في سائر أرجاء كوكبكم برِّه ومائه وهوائه. كذلك حال الحشرات، منذ ملايين السنين وقبل تواجدكم عليه بأزمنة ودهور.. وهي التي تقضي على واحدكم إذا ما غزته جيوشها دون أن يستطيع لها دفعاً. وفي النهاية آتي لأجني حصاد عملها.. قبض روحه. قدره أن يموت هذه الميتة.. أرأيت كم أنتم ضعفاء أمام الموت.. إزاء هذه المخلوقات غير المرئية؟
هل أزيدك علماً..؟ أتدري أن هذه الجراثيم والفيروسات يمكنها العيش في درجات برودة بمئات تحت الصفر، وأن تعيش كذلك في حرارة فوق درجة الغليان..! أتستطيع أنت الكائن البشري الجبار ذلك..؟ ليذهب خيالك يا هذا إلى أنك وضعت في قدر ماء يغلي.. أو أنك غرست فوق ثلوج القطب عارياً مثلها فهي لا تعرف الكساء والغطاء مثلكم..! فأيكما الأقوى أيها السيد..؟ ألا إنكم أضعف خلق الله في حالات وأشدهم جبروتاً في حالات غيرها. في الأخيرة هي ما وهبتم من عقل وقدرة على التفكير والإدراك الذي يدلكم على الخالق ويهديكم إلى معرفته.
ـ أحسنت يا سيدي بهذا المثل إذ تضربه.
ـ هذه الجراثيم تقاوم الفناء وتحرص على البقاء تدافع عن وجودها كدفاعك عن وجودك. أضف إلى علمك أنها حريصة على بقائها عن طريق التناسل والتكاثر إبقاء على الذرية التي تسعى دائبة إلى الفتك بكم..
ـ ألا إنك لتثير فضولي.. ألا منحتني وقتاً إضافياً يتيح لي تقصِّي هذه المسألة الهامة التي عرضت لها. ألا تذهب عني الساعة إلى حيث ينتظرك جاري أبو مهيب بفارغ الصبر . أو حتى أيّ أحد غيره إن شئت أو إن لم تكن حانت ساعته حسب رؤيتك.
ـ إنها المماطلة التي تلجؤون إليها.. أعرفها جيداً عنكم.
ـ إذن دعني وشأني.. جزاك الله عني خيراً.. وأحسن إليك..
ـ هذه الزيارة خاصة بك أنت كما أنبأتك لتوي فهيا بنا.. هيا بنا يا هذا بلا مزيد من وناء.. هيا..
قلت غاضباً إذ أدركت إخفاق سائر محاولاتي مما أفقدني أعصابي وأخرجني عن طوري وعن اللياقة في الخطاب:
ـ إذن لا أهلاً حللت ولا سهلاً نزلت ما دمت مصرّاً على موقفك مني ولم تُجْدِني شيئاً سائر توسلاتي إليك.
أثار دهشتي أنه لم يغضب. خيل إليَّ أنه ابتسم قليلاً ثم قال في هدوء وإن كان بلهجة تشي بالتأنيب:
ـ ألم يكن خليقاً بمثلك، من يزعم أنه مثقفٌ يفاخر بتمتعهبعضوية اتحادات عديدة أن يكون أكثر تهذيباً..؟ ألم يكن حرياً بك وأنت تزعم بأنك تكتب القصة وتقرض الشعر أن تستقبلني بطريقة أفضل..؟ أم هي كلمات أنتم قائلوها.. تلوكونها تجمُّلاً ومفاخرة ولا أثر لها ينعكس على سلوككم وأفعالكم..؟
ـ أوَ ينتظرمني أن أرحب بمن هو قادم لاستلاب روحي وإنهاء وجودي في هذه الدنيا.. أي بعبارة أكثر تحديداً.. قاتلي..!
ـ أنت تهذي لفرط جزعك.. أعهدكم على الدوام هكذا تفقدون صوابكم حال رؤيتي. استثني من ذلك الرسل والصالحين المؤمنين من عباد الله في كل عصر مرّ على أرضكم. بعضهم خيَّر بين البقاء في الدنيا ما شاء من الزمان وبين لقاء وجه ربه فكانت الأخرى خياره.. على أية حال إني أعذرك فأنت في حالة هذيان فلا تثريب عليك..!
ـ ومن ذا الذي يراك ويعرف ذلك الهدف البغيض الذي من أجله أتيت ثم لا يفقد صوابه..؟
ـ هل تحسب يا هذا أني أقبض روح أحدكم اعتباطاً من تلقاء نفسي ولرغبة ذاتية مني في ذلك. إنه أمر إلهي لا أملك سوى الانصياع إليه.. هذا هو عملي.. قل هي وظيفتي حسب مصطلحاتكم.
ـ لعلك تريد أن تقول أيضاً أنك تنال أجراً على عملك هذا..
ـ أجل فلكل عمل أجر.. إنما أجري ليس من نوع أجوركم..!
ـ لن تعدم عذراً على أية حال. شأنك شأن مقترفي الجريمة دائماً..! هم أيضاً يبتدعون المسوِّغات لأفعالهم. وسواء كانت مسوِّغاتهم وتبريراتهم وذرائعهم مقبولة أو مرفوضة فلن يغير ذلك من حقيقة الفعل شيئاً، فالقتل هو القتل مهما ابتكر له من أسماء ومسميات، أو حاول مقترفوه إضفاء الشرعية على مقارفته.كأولئك الذين يقيمون المذابح الجماعية ثم يسمون ذلك (تطهيراً)..!
شرع يتأملني بإمعان من جديد فيما مضيت أفكر في حيلة أخرى. خطر لي أنه ربما كان يعيد النظر في شأني، ولعله يرضى أن يرجئ الأمر إلى وقت آخر. بضعة عقود مثلاً. من يدري لعلي أفلحت في إقناعه وهو من هو. حبذا لو كان أصدقائي الغيارى هنا يشهدون الموقف بأم أعينهم لكي يروا قدرتي على الإقناع. وجودهم معي كان من شأنه أيضاً أن يشدَّ من أزري.. فالصديق وقت الضيق. لاحت صورهم أمامي للحظات خاطفة.. منهم من بدت عليه الشماتة. ومنهم من لاحت على محياه سيما العطف والتعاطف. ما لبثت وجوههم أن اختفت بمثل السرعة التي ظهرت فيها. ساءني ذلك. عراني إحباط وأسىوكآبة. بيد أني لن أتوانى عن المباهاة أمامهم بهذا كله عندما يحين أول لقاء لي معهم في مطعم المحاربين القدماء أو الرواق.. ولكن سرعان ما قطع عليَّ المشهد والتأملات معاً قوله فيما هو يهزُّ رأسه الضخم في شتى الاتجاهات، فتتمايل الجدران، وتموج الأرض من حولي. قال دون أن يرفع عني تلكما العينين الرهيبتين:

ـ لقد عرفت الكثير من هذه الحالات على مرّ العصور.
ـ على مرّ العصور.. نعم.. نعم.. كيف لا..؟
ـ أعني العصور كما تعرفونها أنتم معشر البشر وحدكم. أما الزمن فيما يعنينا نحن فلا حساب له بمقاييسكم أنتم. السنة الواحدة والألف سنة ليست سوى لحظة في زمن الكون. ألست تعلم هذا أيضاً؟ الأيام الكونية مختلفة المقاييس والمقادير والأعداد بعيداً عن مقاييسكم وحساباتكم بقدر ما أنتم مهيئون له خلْقاً. لكل فلك دورته من أيام الكون ما يقدر بخمسين ألف سنة من سنِّيكم التي تعرفون وتعدُّون. أعرف أنكم عاجزون عن استيعاب هذه الحقائق في حياتكم على الأرض. لكنكم ستعرفونها عندما ينكشف عنكم غطاء الجسد..!
ساورني الإحساس أكثر فأكثر برهبة الموقف. فالأمر جدٌّ وما هو بالهزل. أوشكت أن أدخل في عملية حسابية معقدة. ولكن عبثاً أحاول والكائن الضخم كما أراه أمامي يستعجلني. ليس لديَّ متَّسع من الوقت لهذا الترف. ثم إني لا أريد الانشغال عنه، ومن الخير لي المحاولة من جديد.. فلأْواصل محاولاتي البائسة لعلي أفلح في ثنيه عما يعتزم، ومن ثم إرجاء مهمته. قلت في تودُّدٍ أقرب إلى الملق:
ـ أوافقك تماماً على ما تقول. أعرف أن سائر الحالات في مثل هذا الظرف تمر بك بطبيعة الحال يا سيدي، ما دمت أنت الوحيد الذي يتمتع بهذه الصلاحية من غير حدود، تزهق فيها أرواح البشر في كل زمان ومكان دون أن يسعى أحد لمحاسبتك أو تقديمك إلى محاكمة جزائية أو حتى مدنية..!؟
ـ ماذا تقول يا هذا؟ هل ذهب الروع بعقلك يا غلام.؟ هل أفقدك الخوف رشدك..؟
ـ غلام..؟ أتدعوني غلاماً بعد أن تزوجت وأنجبت أولاداً.. بنات وبنين ... و..
قاطعني بحدة:
ـ كلهم للموت ذاهبون عندما تحين آجالهم.
ـ برغم ما أصابني من رعب فوق ما أنا فيه من قبل عدت أقول:
ـ لعلمك.. ولعلك تعلم من قبل أني رجل مرموق في المجتمع والأوساط العامة.. الثقافية على وجه الخصوص. لك أن تسأل عني من تشاء.. أوَ يقال لي برغم ذلك يا غلام..؟ ألا أنك لمجحف بحقي يا سيدي..
ـ لم أقصد إهانة رجل مرموق مثلك كما يرى نفسه.. أهذا يرضي غرورك..؟
ـ بلى هذا أفضل. ولكن قل لي كيف تعلمت هذه المهنة التي لاشك أنك تتقنها على نحو مدهش بحيث نرى لكل ميتة وسيلة مختلفة لا ينقص الكثير منها الابتكار والإبداع..!أم تراها موهبة..!؟
ـ الموت واحد في سائرالأحوال. المسألة هي مغادرة الروح للجسد لتنطلق إلى عالم الروح.
ـ لماذا تختلف طرائقه ووسائله إذن؟ إنا نرى لكل ميتة سبباً، وكل منها تختلف عن أختها. أليس هذا مثيراً للإعجاب..!؟ تماماً كما يفعل فنان في رسم لوحاته بحيث لا تأتي واحدة منها مثل الأخرى..!وقد يفعل ذلك عامداً خشية اتهامه بتكرار نفسه..
قال ساخراً:
ـ ثق أني لم أدرسها في معهد مختص.. ولا في جامعة. أنا لا أحمل شهادة في أي اختصاص..!! أتقن عملي بالفطرة.. بالسليقة إن شئت. قل بما علمني الله.
ـ ولكن هل أنت من يقرر طريقة موت هذا أو هذه أو موت ذاك أو تلك..؟
ـ لا.. فكيفية موتك أمرٌ مقضي منذ الأزل قبل خلقك. قبل مجيئك إلى هذا العالم..
ـ حسناً.. ولكن قل لي من فضلك. هل تجد متعة في عملك الكئيب هذا؟ أعني إماتة سائر المخلوقات بلا استثناء لكبير أو عظيم.. لحقير أو صغير فيما أنت تسلبها حياتها رغم أنفها في وقت ربما تكون حينها في أوج سعادتها وذروة عطائها حين يأتيها الموت على يديك!؟.
ـ تماماً كما تستمتع أنت بالاستماع إلى الموسيقى، أو بتأليف قصة ناجحة، أو مشاهدة فيلم سينمائي.
ـ ولكنها أشياء جميلة هذه التي تتحدث عنها.
ـ إنها وسائل تبتدعها مخيلاتكم احتيالاً منكم على الزمن الذي هو رصيد أيامكم المحدودة المعدودة.
ـ وهذا شيء جميل أيضاً.. أعني أن تستمتع بإزهاق أرواح البشر. شيء يدعو إلى البهجة..! أليس كذلك يا سيدي..؟
ـ إنه عملي يا هذا.. وإن الله يحب من المرء أن يتقن عمله..؟ أتراك لا تحب عملك..؟
ـ كيف لا..؟ غير أني أملك من الأسباب الوجيهة ما يدعوني إلى محبته، ليس بينها إزهاق الأرواح..!
ـ بلى.. إنك تزهق أرواحاً بلا عدد في كل حين دون أن تدري أو تدرك.. بل لعلك تدري أحياناً.
ـ هذه تهمة ظالمة.. لا أذكر أني أقدمت على عمل من هذا القبيل.
ـ ماذا إذن عن الحشرات والجراثيم؟ ألست تقتلها عامداً في كل حين؟. بل وأنت تقتل الحيوانات الأليفة التي تتخذ من لحومها وشحومها غذاء لجسدك. وقل مثل ذلك في الطيور والدواجن والأسماك. ومنها ما تذبحها ذبحاً دونما رحمة لكي تقتات عليها وتولم لضيوفك المقربين زلفى ومباهاة ادعاء الكرم والجود..! أرأيت يا من يزعم المثالية وحسن الطوية إلى أي درك تذهب بكم شهواتكم..؟
أحسست أني قد أسقط في يدي. وفيما كنت أفكر بحثاً عن مخرج باغتني بقوله:
ـ أرأيت كم أنتم قساة نحو مخلوقات الله هذه. ولا تنسَ كذلك، وهذا هو الأدهى والأمر، أنكم تقتلون بعضكم بعضاً أيضاً منذ قتل قابيل أخاه هابيل مروراً بسائر الحقب والعصور وحتى ساعتك هذه. ومن البشر الذين عاصروا رسلاً وأنبياء من قتل الرسل والأنبياء.
ـ كان ذلك فظيعاً حقاً: قتل الأنبياء الذين ما جاءوا إلا لهدايتهم والأخذ بأيديكم إلى سبل الخير والرشاد.
ـ قتل جماعة منهم نبياً. ثم قدموا رأسه على صينية من ذهب تنفيذاً لأمر سيدهم من أجل راقصة تصور أيها الآدمي أي نوع من البشر عاشوا بين ظهرانيكم.. رأس نبي من أجل نزوة عابرة.. رخيصة ودنيئة...
ـ تعني سالومي الراقصة وجماعتها اليهود يا سيدي. أنت على حق في كل ما ذكرت عدا ما جاء على لسانك في شأن حيوانات البر والبحر فهذه حلَّلها لنا الله سبحانه. أليس كذلك..؟
ـ ومن أدراك أن لحومكم ليست حِلاًّ للضواري والكواسر..؟ على أية حال هذا لا ينفي نزعة العنف والقسوة لديكم، في حين سوف ترى، وقد تعلم هذا من قبل، ما ينطوي عليه عملي من إيجابيات ليس وسعكم نكرانها. كما أنه لا يخلو من الرحمة في جوانب منه.
يحدثني عن الرحمة..! وانطواء الموت.. الموت ذاته على إيجابيات.. هذا منطقه.. أليس هو عزرائيل..!؟ على أية حال هذا مدخل مناسب لمخاطبة عواطفه علها تنطوي على قبس من رحمة كما يقول. فلأحاول متوكلاً على الباري عزَّوجل. لن أيأس مادمت حيّاً. وأنا حيٌّ حتى الساعة، وهاهي عروقي ما برحت تنبض كما لم تنبض من قبلوخفقات قلبي تتسارع كما لم تتسارع من قبل. ولكن كيف؟ ماذا عساي أن أقول؟ ماذا أفعل؟ من أين أبدأ ثانية؟
قلت: مادمت تتكلم عن الرحمة فهل لي أن أرجوك الرأفة بأسرتي.. ابنتي لمى لعلك تعرفها.. من يدريني.. هي ابنة سنتين وشهرين، شديدة التعلق بي إلى درجة أتصور معها أن غيابي آهٍ آه.. وأي غياب.. إن موتي يا سيدي سوف يفضي بها هي الأخرى إلى موت محقق.. وعلى يديك..
ـ سائر الآباء يرون هذا في أبنائهم. لو كنت سأقبل عذراً من هذا القبيل لما قبضت روحاً لأبٍ أو لأم..
ضجراً قلت وقد أعيتني الحيل:
ـ أما من سبيل قط لإرجاء مهمتك لديّ إلى وقت آخر..؟ ماذا يضير هذا الكون العظيم لو أنك غضضت الطرف عني زمناً..؟
ـ لا مندوحة عن إنهائها الساعة ما لم يردني في شأنك أمر بغير ذلك..
ـ ألا ترى أن صنيعك هذا من القسوة بمكان..؟
أوشكت أن أضيف: وأحملك المسؤولية عما سيحدث للمسكينة لمى فيما لو نفذت بي مهمتك. لسوف تلحق بي الصغيرة البائسة في وقت ليس ببعيد لوعة وأسى. ولكني سرعان ما أحجمت عما أزمعت قوله تفادياً لمزيد من الإشكالات المحتملة التي قد تحدث للأسرة من بعد.
لم ينقطع في هذه الأثناء عن التحديق في وجهي فيما هو يهز رأسه، ويمسِّد شعر لحيته الكثَّة. مضيت أتفحصه من جديد بمزيد من الهلع والرهبة إلى أن قال، كمن يحدث نفسه، فيما هو يمطُّ شفتيه الغليظتين امتعاضاً:
ـ ما يصدر عنك وما أراه قد حل بك من روع ليس جديداً عليّ. كما قلت لك من قبل، لن أؤاخذك على ما يبدر منك فلقد عرفت هذه الحالة فيكم مذ أنشأكم الله في الأرض. كأني بواحدكم يحسب أنه سيخلد أبد الدهر حيّاً على ظهر هذا الكوكب. لكأنه ملكيته الخاصة، فكيف له أن يرضى عن مغادرته..؟ هل تساءل أحدكم عما إذا كانت الطيور تملك السماء أو تدعي ملكيتها، أو كانت البحار ملكاً للأسماك..؟ ما أنتم على الأرض إلا ضيوفاً عابرين. خيالات وظلال ليس إلا.. تماماً كظلال الأشجار تحتفي غبَّ انحسار الشمس عنها.
وإذ رآني أغرق في صمت مهيب كئيب أتملّى أقواله الحكيمة.. بيد أنها لا تلقى لدي قبولاً برغم حكمتها.. عاد إلى مواصلة ما انقطع من خطابه وكأنه لا يتحدث إليّ:
.. ألا يكفي واحدكم أن يمضي عمره، طال أو قصر ينال من خيرات الأرض طعاماً وشراباً، ويحظى مجاناً بنور الشمس ودفئها.. بضوء القمر والنجوم والكواكب.. بالمطر يتنزل من السماء.. بالبحار والمحيطات يمخر عبابها طولاً وعرضاً يغترف من خيراتها طعاماً ولآلئ وزينة.. بالهواء يتنفسه.. بالفضاء يطير في أجوازه.. تستخرجون من الأرض معادن شتى من عناصرها، وشجر وحجر تصنعون منها مساكنكم وسائر شؤون حياتكم وأدوات زخرفها وزينتها. ألا تتفكرون في آلاء الله وأنعمه هذه التي أفاء عليكم..؟ ألا تلقون بالاً إلى صنع الله الذي أتقن كل شيء..؟
ألا أضرب لك مثلاً آخر مما منَّ الله به عليكم ولا تكادون تأبهون لها أو تدركون قيمتها لا لشيء سوى أنها في متناولكم فغدت وكأنها تحصيل حاصل. إليك الحديد مثلاً.. أتعرف شيئاً اسمه الحديد..؟ قل لي إنك لا تعرفه..!
صحت مستغرباً دهشاً:
ـ الحديد؟ وما شأن الحديد بنا وفي هذا المقام..؟ لعلك تحدثني، بعد الحديد، في شأن النحاس والزنكوالخشب والألمنيوم..!؟
ـ الحديد الذي أنزل من السماء على أرضكم. ترى هل فكرتم كيف يكون حالكم لو خلت أرضكم منه؟ كنتم ستعيشون في العراء بلا بنيان أو عمران، بلا مركبات في البر أو البحر أو الفضاء، بلا طرقات ووسائل اتصال، بلا أدوات ولا أنوار كهرباء. هو عنصر أول وأساس في خدمتكم لعيشكم وبناء مدنيَّتكم وحضارتكم، بل لوجودكم عينه. ولعل بعضكم يسخر إذا ما ذكِّر بقيمته ونفعه، وفي سوء الحال والمآل لو لم يكن له وجود في الأرض، إذ لا تُعرف قيمة الموجود إلا حال فقده.. الذين يفاخرون بناطحات سحاب كما يسمونها هل بوسعهم إشادتها من دونه..؟ أأذكرك بالطائرات والسيارات..؟ ولكن بعضكم أساء استخدامه إذ حوله إلى أدوات فتك ببني جنسه فيما يصنع من سلاح وآليات تدمير.. ألم أقل لك أنكم تجحدون أنعم الله عليكم..؟ بل هو من عناصر تكوين أجسادكميجري في دمائكم..!
ـ حقاً يا سيدي إن الكثير من البشر منصرفون عن التفكير في مثل هذه الشؤون برغم أهميتها وعظمتها والتي هي مقوِّم حياتنا نفسها. ولكن يبدو أننا كذلك لأننا اعتدناها فأمست بدهيات غير ملفتة للنظر، يراها البصر ولا تدركها البصيرة. ماذا نصنع يا سيدي إذا كانت قلوب الناس التي في صدورهم هي التي عميت..!؟
ـ كفى بكم أن تأخذوافي الحسبان لو أن أحداً يتقاضاكم ثمناً لنور الشمس الذي يضيء دنياكم كما تفعل شركات الكهرباء على ضعفها ومحدوديتها ووهنها أمام نور الشمس الساطع الدافئ. أو أن أحداً يطالبكم بثمن لضوء القمر، وثمنٍ للهواء الذي تتنفسون، وثمنٍ للماء الذي يتنزل عليكم مدراراً من السماء ينبت في الأرض زرعاً من كل لون بهيج، فضلاً عن أن يسقيكم أنتم وأنعامكم وحدائقكم ويسهم في إنشاء بنيانكم وعمرانكم.. لو أن أحداً طالبكم بتسديد فواتيره ووضع لكم على مصادره السماوية عدادات تحاسبكم عليه بالمكيال والقسطاس.
حقاً أقول: لولا ما أنا فيه من كربٍ شديدٍ ووصب عظيم لاستدعت أقواله هذه الكثير الكثير من التفكير والنظر والاعتبار. يا إلهي كيف تغيب عنا هذه الحقائق في غمار انغماسنا في معترك الحياة. لو أنا عددنا نعمة الله أكان في وسعنا أن نحصيها. إنها أعظم شأناً وأبعد مدى من قدرات عقلنا البشري على الإحاطة بها.
سرت إلى أعماقي نفحات روحية تشرح الصدر وتنعش الفؤاد، بيد أنها لم تلبث طويلاً، إذ سرعان ما ألفيتني أعود إلى ما كنت فيه. أحسست بغتة بانقباض ثقيل يجثم على صدري كالصخر، ومزيد من الخوف يكتنفني من شتى أقطاري حرارة لاهبة.. وعرق يتصبب من سائر أنحاء جسدي. حلقي يزدد جفافاً.. أوشك أن أختنق. قلت في نغمة تشي بالاعتذار عسى أن تجدي في تحسين موقفه إزائي، ناسياً أنه عزرائيل وكأني أحاور إنساناً:
ـ عذراً يا سيدي على ما بدر مني، ولكنك أثرت حنقي إذ قلت عما قليل أن عملك الذي هو إزهاق للأرواح دون الأخذ بعين الاعتبار لأي من حالات خاصة كحالتي، ثم تقول بعد ذلك أن ما تقوم به ينطوي على رحمة ورأفة.. وسعادة ربما تقول..! كيف؟ قل لي بالله عليك..؟ عندنا يرفضون ما أسموه القتل الرحيم. فكيف يمكن الجمع بين القتل والرحمة إذن..!؟
ـ أفلا تصدق يا هذا..؟ إنني أعني ما أقول. نحن الملائكة لا نلقي الكلام على عواهنه جزافاً مثلكم. في وسعي أن أثبت لك، مع أني لست مضطراً إلى ذلك، بأن ما أقوم به ينطوي على ما لا حصر له من الإيجابيات، طبقاً لمصطلحاتكم، بل إنه عين الرأفة بكم معشر البشر..!
حاولت مقاطعته إلا أنه استرسل في طرحه غير آبه لاعتراضي أو توسلاتي، فمضى يقول:
ـ حسبك أن تتصور كيف يكون عليه حال عالمكم هذا إذا ما تراكم الأحياء فوق ظهر كوكبكم. على مدى العصور والأحقاب، ومنذ هبوط أبويكم إليها، ما الذي كان يمكن أن يفضي إليه؟ هل كان ممكناً أن يحيا أولئك كلهم معاً من قبل ثم معكم أنتم اليوم؟. مَنْ عاشوا قبل آلاف السنين بل مئات آلافها يعيشون حتى الآن.. أي معك أنت وأضرابك من الدواب فوق الأرض..!؟ حسبك أن تتصور هذا يا هذا..
ـ دواب يا سيدي..؟ أيليق بك وصفنا بالدواب..!؟ أليس هذا هو الشطط في القول..؟
ـ ما الغريب في الأمر؟ كل من يدب على الأرض دابة..؟ أتجهل ذلك أيضاً..؟
ـ لن أختلف معك حول هذه المسألة، ولكن دعني أستوضحك إن شئت. هل تعني أن أرضنا ما كان لها أن تتسع لنا عندئذ؟ أو أن مواردها ما كانت لتكفينا طعاماً وشراباً وكساءً وما إلى ذلك من أسباب الحياة إذا ما انتفت مسألة الموت..؟
ـ يا للسذاجة.. أو تحسب أنه من أجل هذا يقصف الله أعماركم بالتعاقب؟ ألم ينبئكم أنبياؤكم بأن مصدر رزقكم في السماء وما توعدون..؟
ـ حسبتك تذهب إلى شيء من ذلك.
ـ ليست هذه هي المسألة الأهم، ففي الأرض برّها وبحرها وفضائها من الموارد ما يفي بحاجات أهلها ويفيض لو أنهم استخدموا عقولهم جيداً. أتعلم أنكم لا تستخدمون من قدراتكم العقلية أكثر من عشرة في المائة؟ بل إن عباقرتكم الأفذاذ لم يستخدموا عقولهم بأكثر من ضعف هذا الرقم وفي حالات نادرة جداً..؟ لو أن البشر يعيشون بطريقة أخرى. لو أنهم تعاملوا فيما بينهم بنهج يختلف عما عهد عنهم في سائر الحقب والعصور. إذن ليست هذه هي المسألة.
ـ لست أفهم ما ترمي إليه يا سيدي.
ـ أليس بينكم من يقضي نحبه جوعاً في وقت يقضي فيه آخرون نحبهم شبعاً؟ ألا ينفق بعضكم من المال على أدوات القتل لبشر من غير جنسه أو لونه أو انتمائه والتدمير لمحيطه ما لو قُدِّم لأولئك البؤساء لاختفى كل ما عليها من بؤس وفاقة وانتفت بالتالي حروب تفتك بالبشر وعداوات وصراعات لا داعي لها لو أنصفوا واتقوا ربهم في إخوة لهم ينحدرون من عين الأبوين آدم وحواء. المسألة هي سوء توزيع وسوء استخدام لموارد الرزق، ما تصطلحون على تسميته بالبيئة في زمنكم الراهن.
ـ إذا كانت هذه ليست هي المشكلة فما هي إذن..؟
ـ أرأيت..؟ ها أنتذا تقرُّ بجهلك من تلقاء نفسك. ألا إنكم لتجهلون الكثير من الحقائق جهلاً مخجلاً، ولكنكم تحسبون أنكم على معرفة بكل شيء. بل إنكم تجهلون أنفسكم التي بين جوانحكم ربما أكثر من جهلكم لأي شيء آخر في الكون. بلى أنتم لا تعرفونها حق المعرفة، كما لا تعرفون عن أجسادكم ذاتها وماهيتها الحقيقية إلا السطح الظاهري المرئي. من ثم فها أنتم أولاء تغوصون إلى أعماق البحار، وتعبرون أجواز الفضاء وتحاولون النفاد إلى أقطار السموات.. ذلك كله تلجؤون إليه بحثاً عن أنفسكم في واقع الأمر، ثم لا تعودون من وراء ذلك بطائل. تهربون من ذواتكم إذ تجهلون كنهها. إن أنفسكم أخفى عليكم من أي شيء آخر كما سبق أن قلت لك أيها المكابر.. إن أكثر الحالات إزعاجاً للإنسان هي ساعة اختلائه بنفسه. ساعات الوحدة ومواجهة الذات هي الأشد على المرء عسراً. قد تهون على المرء مواجهة الضباع والسباع دون مواجهتهلنفسه وحيداً. يعرف ذلك جيداً من أجبرتهم ظروف معينة على الاختلاء بأنفسهم كما في غياهب السجون على سبيل المثال أو الانقطاع عن بني جنسه في صحراء شاسعة أو جزيرة نائية كما حدث للبائسين روبنسون كروزو وحي بن يقظان..!!
ـ لقد زدتني حيرة على حيرتي يا سيدي الفاضل، فما هي المشكلة إذن في بقاء البشر أحياء ما دام في الأرض متسع للجميع من مكان شسيع ورزق وسيع؟ أليس من شأن هذا أيضاً أن يعفيك ويريحك من مهامك الإماتية..!!
ـ هناك أيها الآدمي ما هو أهم مما تقصر عليه فكرك وتضيق عليه آفاقك. إليك مسألة التجانس الفكري والتوافق الاجتماعي والانسجام المسلكي، وإمكان التعايش معاً مع ذلك التفاوت بين الأجيال والأعمار هل هذا ممكن أيها السيد؟ هي قضايا تستحيل معها حياة الأجيال المتعاقبة في وئام وانسجام. وأنت ترى الحروب الفعلية والحروب الفكرية بين ما تسمونها الحضارات حتى بين معاصرين لاختلاف في الجنس أو الدين أو الموقع أو المصلحة، فما بالك لو أضيف إلى مثل هذا الواقع آخرون أعمارهم آلاف وآلاف من السنين..؟ أما عن إراحتي فلا تسل عافاك الله..!
ـ أقول لك الحق إني لا أفهمك. إنك تعمد إلى الخوض في ما يشبه الألغاز والأحاجي شأن من يصدعون رؤوسنا أناء الليل وأطراف النهار وعلى مدار الساعة على شاشات الفضائيات، وفي الصحف والكتب أيضاً أولئك يتكلمون كثيراً، وهؤلاء يكتبون أكثر دون أن يفقه أحد شيئاً في النهاية.
ـ معك الحق في هذه.. الإنسان.. وأنت من هذه الفصيلة، كائن ثرثار بطبعه وطبيعته. يتميز على سائر المخلوقات بقدرته الفائقة على الثرثرة والمماحكة. أنتم الوحيدون من يملك هذه الخصال أرأيت في حياتك أبقاراً أو أغناماً تفعل ذلك..؟ الببغاوات وحدها حاولت تقليدكم غير أنها لم تفلح فبقيتم ملوكاً على عرش الثرثرة..!!
ـ اعتدنا هذا كله على مر الزمان. وعلى الرغم من كل ما ذكرت أؤكد لك أن في وسعنا أن نستمر على هذه الحال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لولا تربُّصك بنا الدوائر..!
ـ كنتم عندئذ ستطلبون الموت لأنفسكم من تلقاء أنفسكم. لسوف تضيقون بالعيش على أرضكم، وسيغدو الموت أمنية مبتغاة وحلماً مرتجى تطلبونه فيعزُّ عليكم نواله. عندها تجدون أنفسكم في مأزق ما بعده مأزق..! هل أضرب لك مثلاً من واقع تعيشه أنت، عسى أن تتضح الصورة أمام عقلك هذا..!

ـ تفضل.. أرشدني.. أحسن الله إليك وبوَّأك موقعاً أرفع..!
ـ انظر إلى الخلاف القائم الآن بينك وبين أخيك الذي يكبرك ببضع سنين.
ـ ما بال أخي وحول أي شيء كان خلافنا؟ لعلك تقصد تركة أبينا. نعم نحن نتقاتل عليها. إن كانت هذه هي المسألة ففيها الرد على وجهة نظرك.
كأنه يضحك ساخراً، ناظراً إليَّ باستخفاف نظرة راشد إلى يافع غرّ مما شجعني على المتابعة:
ـ أقول لك إن هذا ما كان ليحدث أصلاً لأن أبانا ما كان ليترك وراءه عندئذٍ ما يورث لو أنه لم يمت.. بمعنى أدق إذا كان الناس لا يموتون فلن تكون هناك قضية اسمها إرث ووراثة.. وما إليها.. ولن تكون هناك فرص يكذب فيها أحياء على أموات..!
قال في حدة ظاهرة:
ـ كرة أخرى أقول لك إن هذه ليست هي المسألة.
ـ ما المسألة إذن..؟
ـ هي الأفكار التي يحملها كل منكما. هي الآراء والمفاهيم والقناعات التي لكل منكما برغم الفارق الضئيل في العمر بينكما. هذا الفارق يثير بينكما من الشحناء والخصومة ما علمت وخبرت فأحدكما يعجز عن فهم الآخر لكأنما جئتما من كوكبين مختلفين برغم أنكما من ذينك الأبوين..!
ـ ولكن من أدراك بما يقع بيننا أيضاً..؟
ألم تتخاصما بالأمس حول ذهابك إلى السينما مع صديقة لك تدعى هيفاء؟ ألم ينعتك الأخ الأكبر بالطيش والمراهقة فيما وصفته أنت بالرجعية والتخلف والانغلاق..؟ فكيف يكون الحال لو أنك عايشت أجداداً لك بلغوا من العمر آلافاً من السنين..؟
ـ حدث ذلك بيني وبين أخي حقاً، إلا أنني في نهاية الأمر حققت ما أردت.. وضعته أمام الأمر الواقع كما تفعل دول في هذه الأيام، ثم ذهبنا معاً هيفاء وأنا إلى حيث شئنا.
ـ ولكن المشكلة لم تنته يومئذ. لعلك تنكر ذلك أيضاً. مثال واحد سقته إليك عسى أن تدرك ما رميت إليه. بالمناسبة أعلمك بأني سوف أقبض روح هيفائك عما قريب..!
ـ ماذا؟ تقبض روح هيفاء..؟ وماذا فعلت المسكينة لكي تزهق روحها هي الأخرى..؟
ـ ألا يموت المرء إلا إذا فعل ما يستحق عليه الموت..؟ يمكن أن يكون الأمر كذلك في حالات معينة تستوجبه.. يحدث هذا. العجيب أنكم تنظرون إلى الموت وكأنه عقوبة في حدِّ ذاته، مع أنه الأمر الطبيعي كما الشمس والهواء. إنه الطرف الآخر في ثنائية الحياة والموت. حياة ثم موت ثم حياة.. حلقة لا تنتهي إلا حين يشاء الله.
ـ المهم.. لماذا خطر لك الآن أن تقبض روحها.. وعما قريب كما تقول.. ما أحسبك جادّاً فيما قلت.. أليس كذلك..؟ لعلك تبغي إخافتي وحسب.. أنا أقرُّ لك يا سيدي أنني سأموت رعباً حتى قبل أن تعنِّي نفسك بالإقدام على إزهاق روحي..
يهدر بصوته المجلجل مردداً صداه في شتى الآفاق وكأني به يقول:
ـ أولاً.. لا مزاح لدي مع كائن مثلك. ثم إني لن أقبض روحها هكذا اعتباطاً ودونما أسباب موجبة. إن دافعها ذاتي محض.. هي التي سوف تستدعي ملك الموت من تلقاء نفسها..!
ـ ماذا تعني..؟ أنا أعرف هيفاء المفعمة بالأمل في حياة طويلة عريضة قادمة.. في مستقبل زاهر باسم.. بل إنها من النوع الذي ربما لا يخطر له الموت ببال..
ـ قد يكون صحيحاً بعض ما تقول ولكنك نسيت أنك أنت مقضيٌّ عليك بالموت وشيكاً.
ـ عدنا.. وما شأن هذا بهذه..؟
ـ هذه الهيفاء لأنها بلهاء حقيقية تزمع أن تنتحر من أجلك أنت حين يبلغها نعيُك..!
يا إلهي.. هيفاء حلوتي الرشيقة الرقيقة.. المتدفقة حيوية ونشاطاً.. متوقدة الذكاء.. خفيفة الظل.. بهية الطلعة.. بارعة الجمال.. هيفائي الحبيبة. ضربنا معاً موعداً ليوم قادم في آخر مرة التقينا فيها، وها إننا لن نلتقي.. لماذا أنت أيتها المسكينة؟ ماذا عن تخرجك القريب في الجامعة..؟ والأفراح التي تنتظرين..؟ العرس.. البيت.. الأولاد.. ألن يكون لك شهر عسل..؟ زهرة تقطفين قبل الأوان.. تغادرين الحياة قبل أن تحققي من أحلامك شيئاً.. أي شيء. ولكن.. لعل هذه الـ (عما قريب) التي أومأ إليها تعني قريبه هو وليس قريبنا نحن.. ستعني عندئذ عقوداً من السنين على أية حال عليَّ أن أحذِّرها.. سأنبهها إلى ما ينتظرها.. سريعاً سريعاً سوف أفعل.. لكن ها هو ذا أمامي يحجب عني الأفق.. يقترب مني أكثر.. يحدجني بنظراته المرعبة التي حسبت للحظات أني ألفتها. عدت أحاوره وأداوره في عزم من لا يعرف القنوط إلى قلبه سبيلاً. قلت له دون أن أجرؤ على النظر إليه:
ـ لكن الفتاة ليست مريضة.. وهي لا تشكو من علة.. إنها قوية فائرة كالمهرة النافرة.. فهل مثلها تنتحر..؟ ثم هي فتاة عاقلة ومؤمنة أيضاً.. ليس مثلها من يقدم على ذلك..!
ـ هذا ما تظنه أنت.. عندما يقدم امرؤ على الانتحار يكون قد فقد رشدهوإيمانه وثقته في نفسه فاختلت عنده الموازين واضطربت الحسابات. ثم لا تنس ما يوسوس به الشيطان للإنسان فيدفعه إلى إيقاع الأذى بنفسه دون أن يدري، ولربما يحسب أن يحسن صنعاً.
ـ إذن سوف أبادر إلى تحذيرها..
ـ لن يجديها تحذيرك إذا ما وطدت نفسها على أن تنتحر.. ثم أين هي منك الآن.. وأين أنت منها؟
رباه.. أي مأزق هذا..؟ ماذا يمكنني أن أفعل للخروج من هذه الورطة..؟ أنفاسي تضيق.. أختنق.. كأن أحداً يقبض على عنقي.. يجثم على صدري.. قشعريرة تسري في كياني كله. بمن أستغيث..؟ لمن ألجأ..؟ رباه.. كم أنا الآن بحاجة إلى عنايتك.. أفْرِغ اللهم عليَّ صبراً..
ـ الآن عرفت مدى حاجتك إليه..؟ هي كلمة أنت قائلها.. هل عرفت الآن لماذا كان الموت رحيماً بكم.. وكان ضرورة لا غنى لكم عنها..؟
قال ذلك وهو يهزني من كتفي. قلت في إعياء واضح وكأني أدلي بكل ما لدي:
ـ على أية حال.. أيَّاً كانت خلافاتنا وتناقضاتنا ففي وسعنا إيجاد الحلول الملائمة لها دون تدخل من سيادتك..! أليس من حلٍّ لأزماتنا سوى الموت..؟ أهذا ما تعنيه في نهاية الأمر..؟ أهو الخلاص الأخير..؟
ـ أنت الذي يقول هذا. كأنك لم تقرأ تاريخاً للبشر على ظهرها حفل على مدى الزمان بالحروب المدمرة الظالمة غالباً، لأسباب جديرة بالاعتبار حيناً كالدفاع عن نفسٍ أو وطن أو مبدأ أو عقيدة، ولأسباب واهية لا معنى لها في أحايين كثيرة. ناهيك عن أسبابٍ منشؤها خلافات فكرية وثقافية وحضارية وما إليها.. أليس هذا هو دأبكم..؟ لعلّها سنة الحياة على ظهر هذا الكوكب الشقي ولسوف تظل كذلك ما بقي لكم عيش فيه.
ـ ألا ترى أنك تبالغ يا سيدي..؟
ـ بلى إنها الحقيقة.. بل إن من الحروب ما يقع لا لشيء سوى استقواء طرف على آخر حيناً بالعدد البشري المتفوق فيذهب هذا الفائض بدداً يشغلني جمعه زمناً مضافاً إليه ما يماثله، أقل أو أكثر من الطرف الآخر. ومنها حيناً آخر استعراض القوة بالسلاح الذي يتفنن طرف في إيجاده ليحقق مزيداً من الفتك والتدمير، بل ومباهياً بصنيعه الشرير هذا.. ومنها ما يصدر عن رغبة في استبداد أناس بأناس آخرين.. ومنها ما يجري افتئاتاً واغتصاباً لحقوق الغير ظلماً وعدواناً وغطرسة، أو جشعاً وطمعاً فيما لدى آخرين بدافع الحسد والأثرة والأنانية المفرطة.
ـ لا تؤاخذني يا سيدي لو أنني قلت بأني ما زلت عند موقفي منك وهو أن كل شيء يهون أمام الكائن منا دون رؤية وجهك الكريم تحديداً. حتى أولئك الذين يثيرون الحروب يظنون أنهم يدفعون الموت عن أنفسهم بإماتتهم الآخرين كي تظلأنتبعيداً عنهم.
ـ ملك الموت يا هذا لا مفر لهم من مواجهته، عاجلاً أو آجلاً.. ألتمس لك العذر على أية حال فما أنت إلا شاب لم تعركه الأيام بما فيه الكفاية.
ـ لم تقل يا سيدي ما هو أبلغ من هذا حقّاً. إذن دعني وشأني إلى أن تعركني الأيام جيداً. امنحني فرصة إذن لذلك، وستجدني عندئذ كما تحب وترضى إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. أجل يا سيدي إن الأيام لم تعركني جيداً إذ إني مازلت في ميعة الصبا وريعان الشباب.. ها أنت ذا تقولها بلسانك.
ـ ألم أقل لك أنك فتى يتميز بضيق الأفق..وإن تكن ذلق اللسان!؟
ـ لن أستجيب لدواعي الاستفزاز هذه. بل سأتحلى بضبط النفس، ملتزماً وصايا بعضهم الحكيمة السائدة في زمننا الراهن مادمت تزمع صرف النظر عني في الوقت الحاضر وإلى أجل مسمى أو غير مسمى يأتي فيما بعد.. هل أقول أننا اتفقنا على هذاأيها الملاك الكريم..!؟ هل نتعاهد على هذا..!؟
يردُّ هازئاً وحاسماً في الوقت عينه قائلاً:
ـ لم نتفق على شيء.. أتحسب يا هذا أنك ندٌ لي يحاورني طمعاً في ثنيي عن أداء مهمتي..؟
ـ معاذ الله أن تذهب بي الظنون في هذا المنحى فمن أنا لكي أقدر على الحؤول بين ملك الموت وأداء عمله..؟ لكننا نحن البشر، كما لا ريب تعلم نحب أن تطول أعمارنا، وإنا لنمضي العمر كله لا شغل لنا غير الحفاظ على ذواتنا وإبعاد حضرتك عنها. بل قل إننا لا نرغب أن يدركنا الموت إطلاقاً. هذه الظاهرة هي العامل الأكبر في تنغيص عيشنا، سواء للميت نفسه أو لمن يخلِّفهم وراءه. صفوة القول إننا لا نحب أن نحظى برؤيتك أبداً..!
بعد فترة صمت خلت إبّانها أنه يعمل فكره بحثاً عن رد مفحم آخر بادرني بقوله:
ـ هب أنك أعفيت الساعة من مغادرة روحك لجسدك. هب أنك منحت مائتي سنة تعيشها منذ الآن. قل لي ماذا أنت فاعل بذلك العمر الطويل غير فيض هائل من تفاهات وحماقات لا حصر لها، غير سعي وراء سراب كاذب وآمال خائبة.. غير دأب على جمع المال الذي تحبونه حباً جماً.. تكدسونه بغير داعٍ وحاجة. تحسبون أنكم مخلَّدون وأنتم تعرفون أنكم لا محالة ميتون.. مخلِّفون ما جمعتم وراء ظهوركم. وهناك تحاسبون عليه حساباً عسيراً..؟ وستكوى جباهكم على ما كنزتم، إذ كان حرياً بكم توظيفه فيما ينفع الناس. في جعله دولة بينكم. هاه قل لي أيها المناكف ماذا أنت صانع بعمر إضافي تُمنَحه..؟
قلت في لهفة وكأن هذا سوف يحدث بالفعل:
ـ لنجرب يا سيدي. ولسوف ترى مني ما يسرك..!؟
ـ وهل في وسعك قضاء هذه السنين متحملاً وعثاء الحياة ومتاعبها التي لا تنتهي..؟
ـ لمَ لا..؟ سوف أتكيَّف مع كل جديد وأتأقلم مع كل طارئ. أعطني المائتي سنة هذه وارتقب ما أنا فاعل فيها..!!
ـ ليس هذا صحيحاً. يقيني أن البشر لو أنصفوا لأقاموا للموت الأفراح والليالي الملاح كلمَّا ألمَّ بواحدٍ منهم تماماً كما يفعلون في حفلات الزواج وأعياد الميلاد، بدلاً من النواح والنحيب، وشق الجيوب ولطم الخدود، برغم أنهم يعرفون بالتجربة أن ذلك لن يجديهم نفعاً. هل حدث، ولو مرة واحدة في عمر البشرية أن أعاد ذلك روحاً واحدة إلى جسد ميت واحد..؟
ـ ما من أحدٍ سوف يقتنع بأن في الموت خيراً يمكن أن يجنيه لنفسه، أو لذويه وأحبائه وخُلَصائه..
ـ الشهداء يفعلون.. بل تراهم فرحين بلقاء ربهم.
ـ ولكني وها أنتذا أمامي لن أموت شهيداً كما ترى.
ـ ولن تكون شهيداً يا هذا.. لسوف تموت على فراشك هذا الوثير كما يموت البعير..
ـ يا للتشبيه الوجيه المثير..! ولكن البعير، وإن لم يعجبني التشبيه لا يموت في المشفى عادة.
ـ في هذا امتياز للبعير..!
ـ يبدو أن الأمر كذلك. فهذه المخلوقات تعيش حياتها مع الطبيعة إلى أن تموت بين أحضانها لا تذهب إلى مشفى ولا تقصد عيادة طبيب أو مستوصفاً حكومياً قد ينشر الأمراض، بدلاً من القضاء عليها، بالحقن الملوثة تارة، والبكتريا والجراثيم المعششة في أرجائه تارة أخرى.
ـ ها أنتذا تتحدث بحكمة وقلَّما تفعل..!
ـ ستُنظرني إذاً.. ولن آلو جهداً وراء مطلبي إلى أن تستجيب لي مشكوراً..
ـ لن يجديك نفعاً أن تكون من المنَظرينإبليس وحده كان من المنظرين. كما لن تجديك المماطلة مهما تعددت أساليبك وإن طال مسعاك إلى مبتغاك. أولاً وأخراً لا يسعني إلا أن أبادر إلى استلال روحك من بين جنبيك شئت هذا أم أبيت. لا حيلة لك في الأمر ولا مفرّ.. فإلى أين المفر..؟
ـ أجزم بأنك اتخذت مني موقفاً يدفعك إلى إزهاق روحي بسبب من معارضتي لك في الرأي..
ـ لك أن تفسر الأمور كيفما تشاء ولن يغير هذا في النتيجة النهائية شيئاً، سيما إذا كان الأمر بشأنك مبرماً.أوَ تسمي هذرك هذا رأياً..!؟
ـ ألا يكفينا ما نعاني من ذلك في حياتنا اليومية..؟ أعني مسألة عدم القبول بالرأي الآخر..؟ أفلا تتقبل أنت أيضاً، وأنت ملاك لا بشر، النقاش بروح رياضية ورؤية موضوعية دون أن تقحم في المسألة الناحية الشخصية؟ ألا ينبغي ألا يفسد الخلاف بيننا للودّ قضية..!؟
ـ هوِّن عليك يا هذا، فأنا لست آدميّاً كي أتصرف كما يتصرف الآدميون، إذ لا يبغي واحدكم في خضم معركة النقاش مع الآخر سوى إثبات قدرته وتفوقه على ذلك الآخر في القول والكلام والمماحكة، وليس من أجل الدفاع عن حقيقة أو قضية. هي معركة لابد له أن ينتصر فيها إثباتاً للذات، حتى لو كان الطرف الآخر هو الذي على الحق. ولكن الحقيقة أو القضية في النهاية هي الضحية.
ـ على الرغم مما أسلفت من قول ما أراك إلا متحاملاً، فأنت لا تنفك عن التعريض بالآدميين كما يحلو لك أن تسميهم استهانة بأمرهم، وها أنتذا تصنع صنيعهم أيضاً.. وإلا فأين هو الفرق..؟
ـ الآدميون هم الذين يبيحون لأنفسهم سفك دماء بعضهم بعضاً على خلفية فكرية، برغم معرفتهم اليقينية بأن فكر الإنسان لا سلطان لأحد عليه. تستطيع أن تقطع الرأس ولكنك لا تستطيع التحكم بفكرة داخله. بل إن أحداً، أيّاً ما ملك من سلطان لا يقدر على معرفة ما يدور في رأس آخر على وجه اليقين. وهذه من حكم الله في خلقه.
ـ إذا كانت هذه ليست هي المسألة فلمَ تبغي القضاء عليَّ إذن وبإصرار لا هوادة فيه؟
ـ هذه مسألة أخرى. إنها ساعتك التي أزفتأيها الرجل وروحك التي حان وقت قطافها ليس لأي سبب آخر.
ـ ولكن لماذا يجب أن تحين ساعتي الآن والآن تحديداً..؟ وعن قطافٍ لروحي وكأنها ثمرة جنيَّةتثير الشهية..!؟
ـ ذلك سرٌّ غيبي ليس في وسعي إطلاعك عليه.. سرِّي للغاية..!
ـ ترى أيضير الكون شيئاً لو أرجئ الأمر فيما يتعلق بي ردحاً من الزمن..؟ لعلي قلتها من قبل..؟ ما أنا سوى واحدٍ من بين مليارات عديدة على وجه الأرض، فماذا يعنيها إن مكثت حيّاً على ظهرها أو ووريت ميتاً في أعماقها..؟
ـ وماذا يضير الكون لو أنك غادرت الحياة الدنيا الساعة؟ أتحسب أن الشمس لن تشرق غداً؟ أم تحسب أن القمر سيمتنع عن الظهور؟ أم أن الأرض ستكف عن دورانها. أما إخوتك من بني آدم فلسوف يواظبون على أعمالهم المعتادة فيملأون الطرقات والأسواق والمصانع والمزارع، ويصنعون أزمات السير في الشوارع ويقفون طوابير طويلة ـ متشاجرة ـ أمام المخابز والاستهلاكيات. أما التلاميذ فلسوف يواظبون على تلقي دروسهم وانتظار امتحاناتهم. ما من شيء سوف يتغير على الإطلاق. وجودك كعدمه سيان فيما يتعلق بالناس والأشياء ومجرى الحياة ما شاء لها الله.
ـ وهل يضيع سدى ما خططت لمستقبلي؟ أنت الآن تقضي على ذلك المستقبل الذي ما برحت أعدُّ نفسي لبلوغه، وأمنّيها ببوارق نجاحه.
ـ يا لكم من جهلة. عن أي مستقبل تتحدث يا هذا؟ ما المستقبل..؟ الموت مستقبل كل حيٍّ..! إن واحدكم لا يملك غير اللحظة الراهنة التي هو فيها.. حينما يأتي الغد يصبح اسمه اليوم.. الحاضر.. وحين يمضي اليوم يصبح أمساً ماضياً. يكون أحدكم صحيحاً معافى وفي جزء من الثانية التالية يصبح في العالم الآخر ألا ما أقربكم من ذلك العالم، والانتقال إليه أسرع من أي وسيلة اتصال عرفتموها أيها البشر. قد يموت أحدكم قبل أن يزدرد اللقمة التي بين أصابعه، أو يموت قبل أن يقوم من مقامه أو قبل أن يرتدَّ إليه طرفه. حلقة من سلسلة من اللحظات المتوالية هي حياة واحدكم إلى أن آتيه لأوقفها تماماً. عدد محدد من الساعات والدقائق والثواني هي. ما حياتكم نفسها سوى مسرحية يؤدي كل منكم فيها دوراً مرسوماً له منذ الأزل على ظهر الأرض. ثم يمضي عند انتهاء دوره نزولاً عن خشبة المسرح. أفهمت؟ لعلك قد فهمت.. وعند انتهاء دوره ـ كما على المسرح تماماً ـ ينال الاستحسان أو الاستهجان حسب أدائه ثم يمضي وكأنه خيالاً كان أو وهماً. أفهمت؟
ـ وما فائدة أن أكون قد فهمت..؟ هل سيغيّر ذلك في الأمر شيئاً. أعرف أن أيامنا كأوراق الخريف تذبل ثم تتساقط متكسرة تحت ضوء الشمس.
ـ أحمد الله يا هذا أن خلقك إنساناً سويّاً وكان يمكن أن تكون خلقاً آخر.
ـ أكان ذلك وارداً..؟ أعني ألا أكون إنساناً خلقت..؟
ـ ما الذي كان يمنع؟ هب أنك خلقت حيواناً مفترساً في غابة، أو أليفاً في حقل يجري عليه الذبح ليغدو طعاماً يتغذى عليه الإنسان.. أو حتى كلباً أو قرداً. ما عساك كنت فاعلاً. هل كان في وسعك أن تغير واقع خلقك الأدنى إلى خلق أرفع.. إلى الإنسان في أحسن تقويم؟ ما كان لك عندئذ إلا أن ترضى بما أنت عليه مثلها تماماً لأنك لن تعي غير ذلك أصلاً.. وهي لا تتمنى من جانبها أن تكون إنساناً.. هي لا تعرف ما الإنسان غير هذا الشكل الذي ترى أمامها شأنه شأن المخلوقات الأخرى التي تقع تحت بصرها. لا ترى البقرة فرقاً بين الإنسان وأي حيوان إلا في الفارق بين الشكل والشكل..!! وقد يرى القرد نفسه خيراً منك خَلْقاً..! وقد يعجب لتصرفاتك التي قد تبديك أبله في نظره. ما هذا الهباب الذي يخرج من خياشيمكإذ تضع في فيك أنبوباً محترقاً يخرج دخاناً..؟ ما هذه الأدوات المعدنية التي تغرسها في محتويات وعاء ثم تدفعها إلى جوفك؟ أشياء كثيرة تفعلها قد تثير استغرابه.. وربما اشمئزازه..!
ـ يا سلام.. ما شاء الله.. أحسنت التشبيه يا سيدي..!
ـ قد تحسب أن هذه المخلوقات لا تحس بوجودها فلتعلم أن لكل منها جسداً وروحاً وحسّاً.. إنها تتألم وتشقى، تفرح وتحزن، تحب وتكره، تجوع وتعطش مثلك تماماً، تتواصل وتتناسل وتمارس وظائفها الحيوية والبيولوجية كما تسمونها، كاملة كالكائنات البشرية مع فوارق تفرضها الطبيعة حسب التكوين الخاص بكل من الإنسان والكائنات الأخرى... حتى الحشرات والجراثيم تدرك كينونتها وتحس بوجودها. تدافع عنه إزاء خصومها والمعتدين عليها ولكنها لا تتكبر ولا تتجبر مثلكم معشر البشر، إلا أنها لا تتوانى في سعيها للبقاء عن غزو أجسادكم كي تستمد نسغ الحياة من دمائكم وجلودكم وطعامكم الذي تسبقكم إليه ثم تعبر معه إلى داخل بطونكم مستمتعة بالعيش هناك..! هب يا هذا أنك خلقت من صنف هذه أو تلك وهي تعد بالمليارات على وفي جسدك وحده..! ماذا تراك كنت فاعلاً..؟
ـ رحماك يا سيدي.. لمَ تضعني في هذه المتاهة مما يسلبني القدرة على التفكير والتدبير.
ـ هل أزيدك علمِّا؟ لعلك لا تدري أن الكائنات جميعاً حتى الشجر والنبات والحجر تدافع عن بقائها. الشجر والزرع والأزهار تقاوم عناصر الفناء والعدم، فتكافح جاهدة بمدِّ جذورها في باطن الأرض تستمد نسغ الحياة من التربة الرطبة والماء النمير. وتمدُّ أغصانها وأوراقها وسنابلها إلى الفضاء اجتناءً لنور الشمس وأشعتها، والهواء بمكوناته وعناصره. حتى الحجر يا هذا يدافع عن نفسه. سلاحه في صلابته فيضنيكم كسره بغير قوة وأدوات تعينكم عليه. وكم من حجر أودى بحيوات بشر في المعركة بين طراوة الإنسان وصلابة الصخر والحجر.
ـ هب أن ما تقوله حق لا يأتيه الباطل من أي جانب، أتحسب أنه يعفيني من همّ التفكير في أمر أسرتي من بعدي..؟
ـ أسرتك..؟ إن بارئ الكون يتدبر الخلق جميعاً، وأسرتك ليست استثناء.. ثم من أنت حتى تحمل هموم أحياء في الأرض من خلق الله بعدك؟
ـ أعني أمر معيشتهم وتدبير شؤونهم.
ـ هذه ليست مشكلتك. دورك نحوهم إذ تغادرهم ينتهي تماماً. ولن يطول الوقت قبل أن تغدو نسياً منسيّاً، اللهم إلا إذا خلَّفت وراءك آثاراً بيِّنات وأعمالاً صالحاتٍ ذات نفع للبشرية. وما أراك من هذا القبيل..
يا إلهي.. ما العمل؟ إنّه يوصد في وجهي الأبواب، ويسدُّ علي المنافذ جميعاً. أوشك على استنفاد قدراتي كلها. لا طاقة لي باحتمال ما يجري لي. بين اليأس والرجاء جزعاً غاية الجزع أجدني أبادره متسائلاً في نبرة لا تخلو من استياء ورجاء:
ـ أليس لديك من عمل غيري اليوم يا سيدي وأنت المكلف بملايين من البشر تقطف أرواحهم كما الأزهار اليانعة؟
ـ أإلى هذا الحد تبلغ بواحدكم الرغبة في التشبث بالحياة وهي فانية في سائر الأحوال..؟ وأنتم تعرفون ذلك حق المعرفة..؟ كم من مرة عليَّ أن أذكرك بهذه الحقيقة..؟
ـ أنت تسألني.. والمسؤول عنها ليس بأعلم من السائل.
ـ سؤالي استنكاري وليس استفسارياً، فأنا لا أجهل ما تعانون، أو أنكم لا تكفّون عن الشكوى والتذمر ما حييتم. الشكوى من الحياة نفسها، بالحق حيناً وبالباطل أحياناً. وإن منكم من يطلب الموت بلسانه.
ـ أوَتظننا نعني ما نقول دائماً. هل رأيت بخبرتك الطويلة.. طول الدهر نفسه، إنساناً واحداً عشق الموت.. وأحب لقاءك..!؟ ما عهدت البشر يكرهون أحداً مثل كرههم لك حتى أولئك الذين يقدمون على الانتحار لا يقبلون عليه عن رغبة فيه، وإنما يدفعهم إليه ضيق العيش من غير أمل غالباً.
ـ بلى. وإن منكم من لا يطيق الصبر على الحياة ريثما تحين ساعته. ومن هؤلاء من يستدعيني على عجل كي أعمل على تخليصه منها. إنه لا يبغي سوى الانسحاب، بل قل الفرار من حياته.
ـ لم يبقَ إلا أن تقنعني بهذا. أعرف أن الناس تستدعي فرقة الإطفاء إذا ما شبَّ حريق، عربة إسعاف إذا ما وقع حادث. وهم إنما يفعلون هذا لكي تبقى بعيداً عنهم.. أي تفادياً للوقوع بين يديك..
ـ أولئك أكثر مما يخيَّل إليك.. وهم يسببون لي ضيقاً وعنتاً بمسلكهم الأهوج. يحدث أن يقدم أحدهم على الانتحار في موطنه في مكان قصيٍّ في مشرق الأرض بينما أكون في أقصى مغربها أقوم بواجبي في القضاء المبرم على مجموعة بشرية هناك بسبب إعصار أو زلزال أو طوفان أو انفجار بركان.. أو في ميدان حرب أضرم أوارها غبيَّان أو عاقلان دفعا بقطعان من البشر لكي يفتك بعضهم بالبعض الآخر. أجدني عندئذ بحاجة إلى عبور الفضاء بين طرفي الأرض لأقبض روح ذلك المنتحر الفرد الأحمق..!
ـ أيضايقك ذلك حقّاً..؟
ـ ربما.. أنا أعمل عادة حسب قوائم منظمة معدة سلفاً. كما يضايقني أيضاً ما قد يحدث مثلاً عند حالة ولادة متعسرة في مشفى حكومي تفضي إلى وفاة الوالدة أو المولود أو كليهما بسبب تهاون ممرضة مهملة أو طبيب مستهتر. أو ما يحدث من سائق متهور يدوس طفلاً في طريقه إلى المدرسة، أو ما يصدر عن جندي جبان يخشى على نفسه وهو محصَّن في دبابة فيقتل طفلاً أصاب آليته بحجر..! أو معتوهة برَّح بها الوجد لموت مطربٍ مكرب أو ممثِّلٍ مارق فألقت بنفسها من شاهق هاتفة باسمه أو بمقطع من إحدى أغنياته.. وقد يأتي غبيٌّ بعدئذٍ ليطوِّبها شهيدة للفن..! بعضهم يسترخص الشهادة على هذا النحو..بلى إنكم لتسترخصون الشهادة. في الحروب يسمي كل فريق قتلاه شهداء وقتلى الفريق الآخر صرعى معتدين. وإذا ما مات ذو مكانة ـ في فراشه الوثير ـ منحوه صفة الشهادة كذلك فيما الشهيد هو المدافع عن حق أو وطن أو عرض أو مدافع عن النفس أو ساعٍ في طلب الرزق وما إلى ذلك من دواعي سامية رفيعة.
بغتة ينقض عليَّ انقضاض من لا يبغي سوى القضاء المبرم عليّ. لكن المفاجأة كانت أن جذبني إليه وهو يقول بلهجة مختلفة عن ذي قبل:
ـ تعال معي يا هذا. لسوف أريك في ملكوت الله ما لم تره عيناك من قبل ولا سمعته أذناك قط، ولم يخطر على بالك في حياتك الدنيا.. هلمَّ معي.. هلم..
ـ هلم إلى أين..؟ رويدك.. رويدك إلى أين أنت ماضٍ بي.. وما بال العودة حيّاً إلى بلدي يا سيدي.. لم أحدثك عنها.. عشت طويلاً سائر أيام الغربة أحلم يقظاً وفي نومي بالعودة إليها.. وما أرى إلا وقد حمَّ القضاء الآن قبل أن يتحقق الحلم..
ـ ستعود إليها ولكن بالروح لا بالجسد.. أبناؤك سينوبون عنك بالعودة جسداً وروحاً.
ـ أليس ظلماً فادحاً ألا أعود. ألم يخرجنا الغرباء عنها عنوة..؟ وهل تغني عودة أبنائي إليها عن عودتي؟ وأولئك الدخلاء الذين يحولون بيني وبينها عنوة وظلماً ترى ما شأنهم في نهاية المطاف..؟
ـ تجمّعهم فيها إذ يأتونها لفيفاً من كل مكان يعني تحقق الجزء الأول من النبوة توطئة لتحقق جزئها الأخير. من ثم أطمئنك بأنهم لن يمكثوا فيها طويلاً..
ـ كيف؟ قل لي بربك..
ـ لسوف يخرجون منها مذمومين مدحورين. ذلك وعد ربك. ألم تقرأه فيما تنزَّل من السماء على الأنبياء..؟
ـ ولكن ماذا يجديني هذا بعد أن تنقلني إلى العالم الآخر..!؟
ـ أبناؤك سوف يقومون مقامك.. يحررونها ثم يدخلونها آمنين.. ذلك وعد ربك.. ووعد ربك الحق.
ـ أبنائي..؟
ـ أبناؤها جميعاً.. أما أنت فسوف تفعل ذلك للتو.. روحك التي سأقبضها في وسعها التحليق في سمائها وحيثما شئت منها بُعيْد لحظات..!
ـ لكم هفا قلبي إليها على مدى ما مضى من سنيِّ حياتي.. يكاد الآن أن يذوب القلب شوقاً إليها. أريد أن أتنسم هواءها.. وأطعم من خيراتها.. أستظلُّ فيء شجرها.. أسبح في موج بحرها.. أستلقي على رمال شطآنها.. حنيني إليها لظى يستعر في أحشائي لا انطفاء له مذ غادرتها على مرِّ السنين.
ـ هلم إذن ودعني أنهي مهمتي لتراها.. لدي الكثير من أمثالك في سائر أقطار الأرض تنتظرهم مصائرهممرتقبون.

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 22 / 12 / 2009, 28 : 09 PM   رقم المشاركة : [7]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: لقاء مع ملك الموت .. رواية الأديب د. يوسف جاد الحق

[align=justify]

ــ 3 ــ

في فضاء سحيق شاسع وجدتني أحلِّق إلى جواره ـ وربما ملاك آخر غيره من يدريني ـ مواكباً له بين نجوم تتلألأ باهرة الضياء، ذات أحجام كبيرة. ثم تظلم الآفاق من حولنا حيناً وتضيء حيناً بنورٍ طاغٍ. نعبر ركاماً من ضباب كثيف في فضاء مطلق،وأنفاقاً هائلة الأعماق ننتهي منها إلى آفاق رحيبة. جزر كأنها معلقة في الفضاء المطلق، ذات ألوان غريبة، منها زرق لازوردية تشع بريقاً يأخذ بالألباب، ومنها جزر خضر شفيفة، وأكثرها بيضاء تبرق كحجارة ماسية تخطف الأبصار. بغتة تظهر أعداد من البشر أنَّى نظرت. ألا ما أكثرهم.. لكنهم يبدون على بعد يخفي هيآتهم ولا تنجلي لعينيَّ ملامحهم. الملاك الذي يحملني يتوقف أمام بوابات ضخمة فاحمة اللون. فتحت إحداها بإيماءة منه، فكان لها زفير كهزيم الرعد، تهب
من جهتها ريح تلفح
الوجه سخونتها. نيران مستعرة تتصاعد ألسنتها وبخارها إلى ما لا نهاية في فراغ بغير حدود، وعواصف نيرانية سوداء تكتسح الفضاء تعلو وتهبط كأن لها شهيقاً وزفيراً. كائنات غريبة الأشكال والألوان، قميئة كالحة الوجوه، مرآها يثير الهول والفزع، مخلوقات تبدو كأن لها أشكالاً بشرية تستنجد وتستغيث، تضرع بالدعاء، وما من منجدٍ أو مغيث. رثيت لأحوالهم. هممت بسؤاله عنهم. غير أنه بادرني بقوله، وكأنما قرأ أفكاري قبل أن أنطق بها: إنهم يلقون جزاء ما قدمت أيديهم، وما حملت قلوبهم في حياتهم الدنيا. وسيلبثون فيها أحقاباً.

تحيط بهم من كل اتجاه كائنات ضخمة غريبة الهيئة تبدو عليها غلظة وشدة. وقبل أن أبدي تساؤلي المتردد في ذهني بادرني يقول: هؤلاء ملائكة موكَّلون بساكني جهنم. هذا عملهم. عالم شاسع أكبر من دنياكم بما لا يقاس. فريق منهم جاءتهم رسلهم ابتغاء هدايتهم، بيد أنهم أصمُّوا آذانهم ولم يستجيبوا للنداء. بل هم خاصموا من سعوا إلى خلاصهم، ثم حاربوهم جهاراً نهاراً، واستكبروا استكباراً حتى انتهى بهم الأمر إلى قتل الأنبياء والرسل، قابلوا الخير بالشر والتسامح بالعدوان. وفريق من هؤلاء ابتغوا الفتنة في الأرض، واقترفوا من الموبقات في حياتهم الدنيا ما لا يغفره الله لهم؛ فهم مخلَّدون في عذابهم هذا أبداً. تراءى لي أن بينهم من عرفت. أصوات تهتف بي ما الذي جاء بك أنت الآخر؟ ويلك عد من حيث أتيت إن استطعت إلى ذلك سبيلاً. ولكنك إذا ما حللت بيننا فلن تضيرنا ولسوف نبتهج لانضمامك إلينا. قد تحكي لنا حكايتك، بعض ما أخفيت عمن حولك هناك. هنا ينكشف الغطاء يا هذا وتبدو الحقائق عارية كما هي فالأبصار حادة كاشفة. لا ننتظر خلاصنا على يديك حتى لو كنت من الصالحين فلا شفاعة إلا لمن يأذن الله ويرضى، ولا يبدو أنك منهم. لن تستطيع فعل شيء من أجلنا للخروج من هذا الجحيم المقيم.. حيث لا طعام إلا من غسلين ولا شراب إلا من ماء كالمهل يشوي الوجوهبئس الشراب هنا وساءت هذه مرتفقاً.
أسمع أصواتهم الصارخة المعولة آتية من بعيد كهبوب العاصفة دون أن أرى وجوههم على الرغم من محاولاتي الخائبة. خطر لي: أين هم أولئك الذين أمعنوا في ظلمهم وغيّتهم فأنفقوا أعمارهم عاملين على إشقاء إخوة لهم من البشر، طغَوا وبغَوْاوعاثوا في الأرض فساداً..؟
لكأنه سمع تساؤلاتي الخفية برغم أني لم أنطق بكلمة. أجابني دون أن يلتفت إليّ: أولئك الذين حسبوا أن الموت نهاية المطاف وأنهم لن يبعثوا بعد أن يمسوا عظاماً وتراباً. وأنت لست مؤهلاً لأن تراهم في مكانهم ذاك الأكثر سواداً مما رأيت.
ـ أتعني أنني أستحق هذه التي أريتني للتو؟
ـ ...
أشحت بوجهي بعيداً.. ولكن أين البعيد وأين القريب؟ لم أجرؤ على مواصلة النظر. لفحتني حرارة مفاجئة هائلة، ولسعات كالجمر في حلقي وأماكن أخرى من جسدي. صحت به مرتاعاً.. خذني بربك بعيداً عن هذا المكان. ضحك طويلاً بصوت مرعد، ثم بصوت أهدأ طمأنني إلى أنني هنا لمجرد الاطلاع. ولم تفته الإشارة إلى أنه لا يضمن لي ألا أغدو واحداً من هؤلاء فيما بعد إذا لم يكن لديَّ من الحسنات ما يرجح كفَّتي ويضمن لي من ثم أن أظل بعيداً عنها، ذلك أن مسألة مصيري ومنتهاي ليست من اختصاصه، فبادرته بسؤالي:
ـ شأن من إذن..؟
ـ شأن الملائكة ذوي الاختصاص.
ـ وهل الملائكة فئات وكوادر لكل منها اختصاص..؟
ـ ماذا تحسب..؟ أليس غريباً ألا يكون الأمر كذلك؟ إليك اختصاصي وهو غير اختصاص أخي جبريل.. أو أخي ميكائيل.. غير اختصاص خزنة النار وهؤلاء غير أولئك الموكلَّين بأهل الجنة وقبل هؤلاء وأولئك حملة العرش. نعم لكل ملك وظيفة يقوم بها.
قلت ملحفاً في الرجاء:
ـ هل لك أن تقدم لي عوناً لدى المختصين من الملائكة في شأني لكي يرأفوا بشخصي الضعيف الذي ترى فلا أردُ هذا المورد المفجع..!! أتحسبني أطيق صبراً على النار؟
ـ لا توسط ولا وساطة هنا. وأنتم الذين بأيديكم توردون أنفسكم موارد التهلكة أو موارد النجاة. أنتم تصنعون مصائركم بأنفسكم، فكل امرئ على نفسه بصير. من يحسن منكم فلنفسه ومن يسيء فعليها. المسألة يا هذا بأيديكم باستثناء مسائل القضاء والقدر. ولقد ترك لكم الخيار في حياتكم الدنيا في التصرف بعقولكم وقلوبكم التي وهبكم إياها بارئكم. ما من شيء مما عهدت في دنياك الفانية له أن يسري ها هنا.. هذا مكان مختلف وقوانين الدنيا غير قوانين الآخرة. كم مرة عليَّ أن أنبهك إلى هذا..!؟

اجتاحتني عاصفة من الرعب أكثر من ذي قبل. حلَّ بي إحباط قاتل. وقبل أن أغرق في حالة انعدام الوزن هذه ألفيتني وعلى حين غرَّة، أسبح في الفضاء قرب جناحه. سماء رحبة مترامية الأطراف شاسعة بلا آفاق.. فراغ مطلق بغير أبعاد مكانية كالتي نعرف. فراغ لا نهائي، وأنوار ذات ألوان باهرة متماوجة في حركة دائبة تبادلية كعروض تخطف الأبصار وتأخذ بالألباب.
يمتد بصري إلى أجواء بعيدة سحيقة وهي قريبة في الآن ذاته. تلك مباني غريبة الهندسة في أشكالها، متناثرة على مسافات متباعدة، بيض وزرق وخضر وألوان أخرى غريبة، تكتنفها أشجار ملونة باسقة وارفة الظلال، سامقة لا ترى نهاياتها، تجري من تحتها أنهار يترقرق ماؤها متلألئاً.. يتطاير رذاذه في الفضاء ينشر عطراً ندياً عبقاً.. وهنا مواقع أخرى ذات نور خفيف واهٍ شفيف يحيط بمدى الرؤية فلا هو ضوء الشمس ولا هو نور القمر.. وهناك أناس يظهرون بغتة في ظلال أشجار كالغابات وعلى شرفات تتبدى أشكالها المهيبة، والأنوار الهادئة التي تضيؤها تأخذ بالألباب، أحس أني اقترب منهم. مشرقة وجوههم بالنور، تلتمع البهجة في أعينهم. لكأني ببعضهم ينظر إليَّ مستبشراً. يشيرون إليَّ بالاقتراب أكثر. أحاول.. أهمُّ بالانطلاق نحوهم.. إلا أن شيئاً ما يمنعني.. حركتي مكبَّلة، تشدها قوة خفية. يدفعني شوق جارف لملاقاتهم لكني لا أبرح حيث أنا عند جناحه. يسخر الملاك من محاولاتي الفاشلة. لا بدَّ أنه حدس ما في ذهني كما كان يفعل طوال الوقت.. وكأني أسمعه دون صوت في أذني: لن تستطيع.. لن تستطيع.. لسوف يتبين فيما بعد إن كنت جديراً بهذا المقام..!
أمعن النظر حولي مشدوهاً مذهولاً.. مشاهد ساحرة باهرة تشدني إليها قوة جذب غريبة. تجذب وتصدّ في الوقت عينه. أنهار وجداول تترقرق بين ضفافها سوائل لا أتبين ما هي. يتناول منها بعض ساكني المقصورات الباديات كالخيام، فيما هم يقتعدون الضفاف في آنية لامعة لها بريق أخَّاذ، كأنها من ذهب ومن فضة وغير ذلك مما لا عهد لي به ويعجزني وصفه. لمحت بينهم أصدقاء قدامى أعرف أنهم غادروا دنيانا، ولكن ها هم أولاء أحياء نضرة وجوههم، موفورو الصحة، ناعمو البال كما يتراءى لي. إشارة الملاك بالمرصاد كما هي دائماً.. تسمِّرني في مكاني حيث أنا منه لا يغفل عني هنيهة. حدَّق بي مليّاً متأملاً حالتي المنذهلة قبل أن يقول:

ـ هذه إحدى الجنان. وهؤلاء أهلها الذين استحقوها عن جدارة جزاء ما قدمت أيديهم من خير، وما حفلت به قلوبهم من إيمان ومحبة لإخوتهم في الإنسانية. بلى هذا ما كسبت أيديهم في الحياة الدنيا.
قلت في ضراعة:
ـ ربِّ اجعلني واحداً منهم واحشرني في زمرتهم.
ـ لعل الله أن يجيب دعاءك. لسوف ترى موقعك المقدَّر لك في وقته والله أعلم.
قلت متشبثاً بالأمل والرجاء:
ـ لقد فعلت غير قليل من الخير في حياتي أنا الآخر. كما أنني أحجمت عن اقتراف الكثير من الموبقات والابتعاد عن مواطن الشر والأذى ما وسعني ذلك. كانت هناك عوامل إغراء شديدة، وكان في وسعي أن أستجيب لها، بيد أني لم أفعل إلا ما ندر.. أصدقك القول..! ألا يكفي هذا لكي أسلك في عداد هؤلاء المتبوئين مقاعدهم هذه من الجنة..!؟
حدجني بنظرة مستريبة، مما حدا بي إلى أن أضيف موضحاً:
ـ لا أزعم أني كنت ملاكاً أمشي على الأرض فلقد وُجدت في زمن فيه من عناصر الغواية والضلال ما يفتن العقول ويثير الغرائز. يكفي أن أذكر منها السينما الملونة وشاشات التلفاز والإنترنت والملاهي والمقاصف والمرابع والشواطئ العامرة تعرض الألوان الزاهية على الأجساد الفارهة. ناهيك عن النوادي الحافلة بكل مثير.. ومسابقات الجميلات الكاسيات العاريات.. وأشياء أخرى لا يحصيها عدّ. أنتم دونما ريب أدرى بها مني فأنا لا أرى إلا نزراً يسيراً من حولي فيما أنتم تحيط رؤاكم سائر أرجاء دنيانا. أغوتني هذه أحياناً ولكني لم أنغمس فيها إلى الحد الذي يجعل مني أسيراً لها كما حدث لغيري من خلق الله.
رشقني بنظرة حادة تومئ بالتأنيب الشديد:
ـ هكذا إذن، ثم تطمع في الجنة..!؟ يالك من مراوغ..!
ـ كنت كالقابض على جمر. ثم إن الله غفور رحيم يا سيدي. بل إن الله يغفر الذنوب جميعاً..
ـ قل لمن يشاء..
ـ أرجو أن أكون واحداً ممن يشاء لهم الغفران.
نظرة صارمة أخرى حدجني بها قبل أن يقول:
ـ على أية حال لسوف يتبين أمرك جليّاً يوم الحساب الوشيك. تأتي يومئذ حاملاً كتابك بإحدى يديك.. وتشهد عليك آنئذ أعضاؤك ذاتها.. كل شيء بميزان قسط. حتى حواسيبكم على دقتها التي تثير اندهاشكم ليست بمثل دقته، وأنَّى لها أن تكون..؟ ما قمت به في دنياك سوف تراه هنا دونما زيادة عليه أو نقصان فيه. فإن خفَّت موازينك تلقى في هاوية، كتلك التي أريتك وإن ثقلت موازينك بالحسنات فأنت في جنة عالية، في عيشة راضية كهذه التي ترى.
ـ لقد أثلجت صدري أثلج الله صدرك وأحسن الله إليك في الدنيا والآخرة.
لكأنما يضحك لسذاجتي فيقول:
ـ حتى الكلام تحفظونه قوالب جاهزة، ثم ترددونها بغير تدبر. نحن لا دنيا لنا. نحن من عالم الغيب الذي لا تدركونه أبداً، إذ أنتم لا تملكون من الوسائل والملكات ما يؤهلكم لاختراق حجب الغيب، إذ هي قاصرة تصلح لشؤون دنياكم ولا تتعدَّاها.انتماؤنا للسماوات السبع الحافلة بأسرار لا حدود لها خفية عليكم لا تنكشف لكم إلا غبَّ انتقال أرواحكم إليها إثر خلاصها من أجسادها الترابية.
ما أعجب هذا.. ترى كيف يعرف عنا دقائقحياتنا الدنيوية فضلاً عما يحيط بنا من أسرار لا ندركها على نحو ما يقول؟ وكما ألفت منه.. يحدس ما في نفسي فيبادرني قائلاً:
ـ ألم أخبرك من قبل بأن أجساد البشر تمتلك هالات من أشعة أثيرية كونية خفية، لا تُحسُّ ولا تُرى، تجهلون كنهها فضلاً عن وجودها. تلك الهالة هي الرقيب العتيد الذي لا يخطئ ولا يحيد. ألا ما أكثر ما تجهلون من أسرار الكون سواء منها ما كان في الدنيا أو ما سيكون بعد الموت. وأنتم برغم ذلك تتيهون في الأرض كبراً وخيلاء، مع أن واحدكم يدري أنه لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولاً. بل ما أكثر ما تأخذكم العزَّةُ بالإثم، فتعمدون إلى المكابرة حتى عندما يتبين لكم الحق وتطلَّعون على أي قدر من الغفلة تنطوي عليه ذواتكم.
لكي أدفع عن نفسي التهمة التي قد تفضي بي إلى جهنم، صحت جزعاً:
ـ ولكني لست كذلك وأيم الله.
ـ أعرف هذا وإلا لما كان لي أن آتي بك إلى هذا المكان لكي ترى. يبدو لي أنك لست على ذلك القدر من السوء.
ـ ولكنك مضيت بي إلى جهنم في البدء..
ـ إنك لمحظوظ حقاً إذ أتيح لك أن تراها رأي العين. فلعلك من أهل الخير. هذه مسألة مؤجلة. على أية حال لا سبيل إلى الجزم في شأنها الساعة.
شوق طاغٍ يهيج بي لرؤية أبويّ. أمي التي قضت نحبها في حالة مخاض عند ولادة توأمين. وأبي الذي مضى شهيداً دفاعاً عن المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله. عن بيت المقدس وأكناف بيت المقدس. وقبل أن أعلن عن رغبتي ما راعني إلا أن أراهما في مواجهتي.. قريبين مني.. بعيدين عني في الآن ذاته.. يقتربان ويبتعدان في موجات متتالية. على كتفي أمي طائران يخفقان بأجنحتهما. في بياض الثلج أراهما حيناً، وفي خضرة شجرة لوز ربيعية حيناً. هممت أن أهتف بأعلى صوتي في لوعة جارفة. إلا أن صوتي لم يغادر حنجرتي التي أحسُّ بها وقد زايلها الاحتراق الذي حلَّ بها من قبل.
ها هما يبتعدان.. ليطلا من شرفة زرقاء لقصر باذخ. طفقا يرمقانني بنظرات حانية مشفقة. غير أن البشر يعلو وجهيهما الرائعي الجمال. أذهلتني الأنوار المتلألئة في شرفات القصر ومن حوله، وقد حفَّت به أشجار عالية زرق من فوقه ومن كل جانب. جدرانه لامعة كالماس الأزرق الشفيف يُري ما وراءه من أفق لازوردي. صامتان لا ينطقان بشيء وإن كانت نظراتهما الحانية تلامس جسدي. أحسست كأن أبي يربت على جبيني فيما يد أمي تمسح صدري. ثم خلتهما، أو كأني سمعتهما يقولان لي، دون أن تتحرك شفاههما:
ـ لا عليك يا بني. عافاك الله. هداك ورعاك. لا تتوان عن صنع الخير ما استطعت إليه سبيلاً كي تنضم إلينا فيما بعد. نلقاك هنا وليس بعيداً عنا في مكان آخر نعيذك بالله منه. نحن لسنا أمواتاً.. نحن أحياء عند ربنا يأتينا رزقنا رغداً.. لا يشحُّ ولا ينضب. وأي رزق لو تعلمون. أما الزمن فلا شأن لنا به هنا. الزمن مواقيت لعالمكم هو حسبان لأهل الدنيا، لكي يعرفوا الفصول وعدد السنين والحساب، الأعمار والمواسم. لا حاجة لشيء من هذا لدينا. نحن لا نخشى موتاً ولا فناءً. خلود سرمدي في نعيم مقيم. اختفيا فجأة كما ظهرا في البداية. أيُّ نوع من الأحاسيس تغمرني.. أبكي.. أبكي.. غير أن ما أرى من حولي في الآفاق الرحيبة سرعان ما يصرفني عن البكاء. يا إلهي ما من شيء أرى يشبه شيئاً أعرفه. ترى في أي جنة سأكون؟ أفي هذه لدن والديّ؟ إذا كان لي أن أختار فلسوف أختار البقاء معهما..!
لقد عرف فيم فكرت فبادرني:

ـ لتعلم أنك إذا ما زحزحت عن النار فقد فزت فوزاً عظيماً، إذ أنك ستدخل الجنة عندئذ.
ـ وهل هذه الجنات كلها مخصصة لأهل الأرض..؟ حدجني بنظرة استخفاف ليقول وكأنه يخاطبني على قدر عقلي:
ـ تحسبون أنكم وحيدون في الكون العظيم. لكأنه خلق من أجلكم وحدكم. ألا تعلم أن كرتكم الأرضية وأنتم مَنْ على ظهرها لا تمثلون أكثر من قطرة في بحر، وأن الكون لا يني عن التمدد والتوسع في كل آن دونما توقف. قل لي أنت. هل ترى أن هذه المجرات التي تشاهد في كبد السماء وما تحوي كل منها من نجوم وشموس وما يدور حولها من كواكب وتوابع تخلو من الحياة والأحياء؟ أيعقل أن تكون جزيرتك الصغيرة وحدها عامرة بالفصيلة العاقلة التي أنت منها، ومَنْ يزاملكم على ظهرها من الكائنات الأخرى من حيوانات وطيور وأشجار وأسماك في البر والبحر والفضاء؟ أتحسب أن الكون العظيم كله قفر يباب؟ أتحسبه خالياً إلا منكم؟ ألا ما أضيق آفاقكم المعرفية.. بيد أنكم لم تؤتَوْا من العلم إلا قليلاً..
ـ عذراً سيدي عما أقيم عليه من جهل بليغ..!
ـ لا بأس.. لا بأس.. أعرف أن عقولكم قاصرة عن إدراك ما في الكون من حقائق..ستمكثون في غياهب الجهل بها ما لبثتم على ظهر ذلك الكوكب.
ـ إذن نحن معذورون إن لم تتسع مداركنا لاستيعاب الكون وإن عجزت قدراتنا الذاتية عن إدراك ما أشرت إليه. لكن مراصدنا العظيمة كشفت لنا أبعاداً سحيقة في الكون المحيط بنا.
ـ لم تكشف لكم مراصدكم المضحكة إلا عن جانب غاية في الصغر والضآلة من الكون لا يعدو قشرته السطحية. بيد أن ما خفي عليكم أعظم بما لا تتسع له مدارككم.
ـ ولماذا لا نستطيع الاتصال بتلك الخلائق إن كانت موجودة في أماكن مأهولة من الكون العظيم؟ أم ترى أن ذلك محظور علينا لأسباب لا ندركها؟
ـ إنها إرادة الله، لحكمة يراها اقتضت ذلك..ولا تنس الأبعاد السحيقة بينكم وبين أيٍّ منها.
ـ وهل حياتهم في الكواكب الأخرى كحياتنا هذه؟.. وهل يشبهوننا في خَلْقهم وممارساتهم ومصائرهم..؟ هل بينهم متعلمون وجهلة؟ فقراء وأغنياء؟ سعداء وأشقياء؟ أذكياء وأغبياء؟ طيبون وأشرار؟ والأخيرون هؤلاء أهم الغالبية.. أعني السواد الأعظم كما هو الحال على ظهر كوكبنا البائس..؟
ـ تلك أسرار كونية لست مخولاً إطلاعك عليها.
ـ وهل سنبقى على جهلنا المطبق بها..؟
ـ سوف تعرفون كل شيء عقب الموت الفيزيقي. من أعجب أموركم خشيتكم العجيبةللموت.. أعني عملية الانتقال التي تنكشف لكم عندها الحجب وتنجلي الأسرار عن كون الله العظيم أمام الروح إثر انطلاقها من سجنها الجسدي. حيث لا حدود ولا قيود زمانية ولا مكانية. لعلي أخبرتك عن هذا من قبل. الموت، يا هذا، هو البوابة الوسيعة المفضية إلى العالم الآخر الأرحب الذي ما إن يلجه واحدكم حتى يعلم بكل ما لم يكن يعلم. الناس إذا ما ماتوا انتبهوا. إثر الموت يصحون من غفلتهم. ألا ترى الآن أنت أنني أقرب إليك من كل من هم حول سريرك غير أنهم لا يشعرون بوجودي؟ أما أنت فيحسبونك نائماً حيث جسدك المسجَّى أمام ناظريهم. هل يعرف أيٌّ منهم أين أنت الآن وبرفقة من..؟ هذا واحد من الأسرار التي أكشفها لك إذ أنك على مشارف الأبدية..!
أغمضت عينيّ أريحهما من وهنٍ حلَّ في سائر أنحاء جسدي، لكأن أحداً أسبلهما برفق.. ها هو ذا أمامي يسرح ببصره في الآفاق. وجدتني أقول متهيباً:
ـ إنك يا سيدي، والحق أقول، تتمتع بقدرة خارقة على الإقناع، فضلاً عن قدرتك الفائقة على إزهاق الأرواح مفرقاً وبالجملة. بل أوشك أن أقرَّ لك بأن منطقك هذا يوشك أن يلقى موقعاً من نفسي لولا أنها مسألة موت.. أعني موتي، فكيف تنتظر مني موافقةً ورضى عما تقول؟ برغم كل ما أفضت في شرحه، فإنا نتشبث، لسبب لا ندريه، بهذه الدار على نحو عجيب مع كل ما نلقى فيها من عنتٍ وضنكٍ وعناء.
ـ ويحك يا هذا.. ألم تشهد ببصيرتك ما ينتظركم هنا من رفاه ورغد ونُعمى لا مثيل لها في دنياكم الخادعة الفانية؟
ـ بلى إي وربي. ولكني أتساءل وحسب، أليس السؤال مشروعاً؟
ـ عمَّ تتساءل؟ لكأن ما ألقيته على سمعك، وما أطلعتك عليه من أسرار علوية قد ذهب أدراج الرياح برغم أنه لا رياح هنا..
ـ أتساءل يا سيدي عما إذا كان ذلك الكم الهائل من المنجزات في حقول المعرفة، وما بلغناه من شأوٍ في ميادين العلم لم يبلغ بنا محراب الحقيقة الكونية وكأنه لا يعني شيئاً. أليس هذا تهويناً من شأننا وما أنجزنا معشر البشر..؟
ـ المعرفة الحقة والحقيقة الوحيدة هنا يا هذا. ثق أنكم لم تؤتَوْا من العلم إلا قليلاً بالفعل. لتعلم أن الكثير مما تحسبونه حقائق ثابتة تلمسها أيديكم، وتبصرها أعينكم لا يعدو أن يكون وهماً وخيالاً. وما تحسبونه وهماً أو خيالاً لأن حواسكم لا تدركه قد يكون حقيقة. ألا ترى إلى الروح التي بها تحيون دنياكم فلا ترونها ولا تلمسونها ولا تدركون وجودها ومكانها في أجسادكم ذاتها هي برغم هذا الجوهر الثابت الذي يبقيكم أحياء والذي لا يفنى بالموت. ولولا أنه قيل لكم أن لكم أرواحاً لما عرفتم أن لكم أرواحاً. الروح تغادر أجسادكم لتعود الأجساد مادة من عناصر الأرض. من التراب إلى التراب تعود. تختلط بأديم الأرض فتغدو كأنها لم تكن لكم على الإطلاق. ثم تمسي طعاماً للأحياء عند اختلاطها بالتربة وإسهامها في إنبات الزرع الذي يغدو بدوره طعاماً للإنسان والحيوان وهذا الأخير يتناوله الإنسان طعاماً أيضاً. صاح خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد..!
إنها إحدى الحقائق التي أدركها أحدكم. أتذكر أولئك الذين كانوا يملأون دنياك.. كانت عامرة بهم ثم انتقلوا.. أحقيقة كانوا على الأرض أم تراهم كانوا وهماً.. أين هم الآن؟ لك أن تذكر ما مضى من حياتك أنت نفسها. لكأنك لم تعش تلك الحياة أوَ تستطيع الإمساك بلحظة مما مضى؟ أوَ تقدر أن تفرق بين حلم رأيته في منامك ذات ليلة وبين أمسية قضيتها ذات يوم في مكان ما مع الرفاق؟ دعني أحدثك، آخذاً في الحسبان صغر عقلك بطبيعة الحال.
أوشكت أن أصيح معترضاً. ولكني إيثاراً للسلامة أمسكت، خشية ورهبة فانحبس صوتي. بصعوبة بالغة وبكلمات متقطعة أحسست أنها بالكاد تخرج من حنجرتي:
ـ حسبي هذا.. ولكني برغم كل شيء لا أجدني راغباً في مغادرة عالمي الأرضي..
رد ساخراً وبحزم من يملك سلطة الحسم والجزم:
ـ ومن قال أن الأمر يتوقف على رغباتك وأهوائك فكما جئت إلى هذا العالم بغير إرادتك هكذا تغادره أيضاً وكما وجدت نفسك موجوداً سوف تجد نفسك مغادراً ولست أنت من حدَّد الزمان والمكان والنوع والشكل والجنس والانتماء والمصير وسُبل العيش على المدى..
ـ وما بالنا نحن أصحاب الشأن في المسألة؟ ألا رأي لنا في أخصِّ شؤوننا.. أجسادنا.. أرواحنا.. لكأننا غرباء عنها فيما هي نحن.. ونحن هي..
ـ هي أقداركم ولا يد لكم في القضاء والقدر.
ـ أقدارنا..!! هذه مسألة حيَّرت يا سيدي الأقدمين والآخرين وما برحت مثاراً للجدل وباعثاً على التفكر. أوجدت مدارس فلسفية وتيارات فكرية شتى..
ـ أزيدك إيضاحاً أيها المكابر ضيِّق الأفق: كان ممكناً أن تولد أنت في زمان ومكان غير هذين. ومن ثم يختلف قدرك ومصيرك باختلاف ذلك الزمان وذاك المكان. كان يمكن أن توجد في عصر الفراعنة، أو عصر الفاطميين أو السلاجقة، أو عصر هولاكو أو يوليوس قيصر، أو تجيء في المستقبل الآتي، أو ألاَّ تكون ولدت بعد لكي تحين ساعتك الآن. أما فيما يتعلق بالمكان فكان ممكناً أن تولد في فنزويلا أو موزامبيق أو في مكان ما من أدغال إفريقيا منذ قرون، فتتخذ عبداً في تجارة الرقيق. أو تولد في أوسلو فتسهم فيما يجري هناك بين الثلوج أو حتى على سطح كوكب آخر. ما من أحد إذن في وسعه اختيار مصيره، حياةً وموتاً.. سعادةً وشقاءً، ثقافة ولغة، ابن من تكون.. لأي أمة تنتمي أو أي فئة من المخلوقات إنساناً تكون أو حشرة.. نبتة أو شجرة.. صخرة أو حجراً.. هذه أقانيم الخلق. فالله هو الذي قدَّر أن تكون أنت أنت دون أيٍّ من الكائنات..
ـ إنك يا سيدي لا تفتأ تأتيني بالجديد الغريب مما يشتت ما بقي لي من عقل..
مضى يقول غير آبه لما يصدر عني:
ـ حتى أسماؤكم لم تختاروها، وما هي إلا عناوين تُلصق بكم، من قبل غيركم، على مدى حياتكم لتكون هوية لكم تُعرفون بها. أبواك أو من حولهما.. وربما القابلة من حمَّلك اسمك وليس أنت الذي فعل أو استشير. ما اسم أحدكم إلا كاللوحة على باب دكان أو واجهة سيارة للدلالة عليه. كان ممكناً لو أرادت مشيئة الله أن يكون لك غير هذين الأبوين لتعيش ظروفاً مختلفة عما أنت عليه الآن. أفضل..؟ أسوأ..؟ ما من أحد يدري. حتى صورتك التي أنت عليها كان يمكن أن تكون أكثر جمالاً أو أشد قبحاً.. أطول أو أقصر.. أسود أو أبيض ولكل حالة نتائج جوهرية مختلفة مؤثرة تؤدي دورها في سيرورة حياتك. ما من شيء إذن لك فيه رأي أو خيار.
ـ زدتني معرفة.. كما زدتني رهبة.. وتشتتاًوأيم الله..!
ـ هذه القدرية القسرية قمينة بأن تدخل الإيمان إلى قلوبكم إذ تدركون أنكم مسيَّرون. وفي العالم الآخر تُعرفون بسيماكم وليس بأسمائكم.
ـ لعلي عرفت شيئاً من هذا يا سيدي قبل تشرفي بلقائك..
ـ إلا أنك ما برحت تجهل الكثير.
ـ أقرُّ بأني ما زلت أجهل أكثر مما أعرف. سقراط قال هذا من قبل بل زاد على ذلك قوله: كلما عرفت جديداً أدركت كم أنا جاهل. لعلك سمعته أنت عندما ذهبت تقبض روحه وهو يحادث زوجته ساعة تنفيذ الحكم عليه بالموت بالسم الزعاف من حكام أثينا الظالمين. كانت شجاعته غريبة. لعلي أذكر أنه سألها عندما بكت قائلاً لها ما يبكيك؟ قالت: أنك تموت مظلوماً. أجابها: وهل كنت تريدين أن أموت ظالماً أيتها الجاهلة..!؟ أصحيح يا سيدي أن هذا حدث؟ أنت كنت هناك ـ أمْ ترانا نصنع الأساطير للذين مضوا في محاولة من الأحياء لتخليد الموتى.. للعيش على وهم الخلود..!!؟
ـ هه.. كأنك تريد استعراض عضلاتك الثقافية أمامي.على أية حال هل خطر لك قبلاً أنه لو قيض لك أن تخلق في عهد المسيح بن مريم أو محمد بن عبد الله ما الذي كان يمكن أن تكون عليه..؟
ـ لم يخطر لي هذا ببال أقول لك الحق.
ـ كان يمكن أن تكون حواريّاً.. أو تكون صحابياً.. ومصيرك الجنة التي رأيت طرفاً منها عند حافتها. وكان ممكناً كذلك أن تكون واحداً من أعدائه الألداء الذين سعوا إلى صلبه ولكن الله العلي القدير رفعه إليه. وفي الحالة الثانية ربما كنت أبا جهل عمرو بن هشام أو أبا لهب ومصيرك آنئذ النار التي شهدت، وتنديداً إلهيّاً أبديّاً يردده البشر آياتٍ في صلواتهم ما بقي على الأرض بشر. أتراك بحاجة لمزيد..؟
الموت.. الحياة.. أتُراني متُّ حقاً.. لا.. ها أنذا أدرك.. أفكر فأنا مازلت حيّاً إذاً. وهذا ملك الموت.. لم لا أسعى إلى مداهنته.. إلى تلطيف الجو المتأزم بيني وبينه.. ألم تثبت المداهنة والملق أيضاً جدواهما في عالمنا عند بعضهم..؟ ولكن هذا ملاك...!
قلت متظارفاً:
ـ ضربت أمثلة يا سيدي بلغت فيها ذروة الحكمة مما حدا بي إلى التفكير في أنه كان ممكناً أيضاً في نطاق ما عرضت أن أكون نابليون أو هتلر.. وإن كنت أوثر لو أنني كنت صلاح الدين الأيوبي..!
هتف مستنكراً:
ـ أنت..؟ صلاح الدين أنت..؟ ما شاء الله..!!
كلما حاولت إصلاح الموقف وقعت في مطبٍّ جديد، كمن يسعى إلى تكحيل العين فيعميها كما كان آباؤنا يقولون. فلأعد إذن إلى الجديَّة التي يصرُّ على مخاطبتي بها. تلك هي طبيعته كملاك فيما يبدو. تساءلت في حذر:
ـ كيف أكون إذن مسؤولاً عن أي شيء مادمت مسيَّراً غير مخيَّر..؟؟
ـ المرء مسؤول عن تصرفاته في حياته الاجتماعية ومسلكه الشخصي والتزامه القيام بواجباته الدينية والدنيوية نحو إخوته في الإنسانية. أنت، بتوضيح أكثر إذ إني ما أراك إلا بطيء الإدراك، أنت مسؤول عن معتقدك وفكرك ونواياك في دخيلة نفسك أي في نطاق ما أنت فيه مخيَّر قادر على التحكم فيه. ومسيَّر فيما عدا ذلك.

ـ أعترف أني عاجز عن الفهم يا سيدي. لقد أعيت هذه المسألة حكماء وفلاسفة ومناطقة على مرِّ العصور فكيف تنتظر من جاهل مثلي كما يحلو لك وصفي، أن يفقه شيئاً منها أو يقطع فيها برأي أو قول..؟من عندنا يا سيدي جماعات المعتزلة والجبرية والغزالي وابن عربي وإخوان الصفا وابن رشد وغيرهم كثير.
ـ هذا ما قلته منذ البداية.. وإنك لن تفقه الكثير مما ألقيته في روعك.
ـ ألا ترى إذن، بثاقب بصرك، أنك تنفق الكثير من وقتك الثمين مع كائن هيِّن الشأن مثلي..؟ بل إني لعلي يقينبأني أعقتك عن مواصلة قيامك بعملك العظيم..! أعني إزهاق آلاف من الأرواح التي حان أوان قطافها في أكثر من مكان في الأرض.
أطلق ضحكته الهادرة المخيفة، ثم قال:
ـ ما تحسبه وقتاً طويلاً أضعته معك ليس أكثر من ثوانٍ في حساباتكم. أما في الحساب الكوني فهو بمثابة اللاشيء. معضلة أخرى لن تستطيع استيعابها كدأبك.. هذا على الرغم من أن عليك أن تتفكر وتتدبر.
ـ حقاً لم أفقه ما رميت إليهالآن أيضاً.
ـ أقول لك. إن أي رؤيا أو حلم يتراءى لأحدكم لا يعدو ثواني قليلة من زمنكم. قد ترى حياة طويلة عريضة مداها عدداً من السنين. قد تتزوج وتنجب ويكبر الأبناء ثم تصحو وتحسب أنك قضيت عمراً بطوله في حين أن ذلك كله لم يطل أكثر مما ذكرت. ثوان قليلة ليس إلا..!
خطر لي أن ألهيه بطريقة ما عسى أن أهتدي إليها، بعد أن سُدَّت السبل جميعاً في وجهي. ولقد أحسست أن ما ألقاه في روعي قد أمَّحى أو أوشك. كيف لي أن أتخلص من هذا المأزق..؟ أما من مهرب..؟ وقبل أن يفاجئني بالرد على تساؤلاتي حتى قبل أن أعلنها، وهاجس الموت يلازمني.. هو شاغلي الذي لا يبرح مخيلتي. بادرته قائلاً:
ـ ربما كان هناك إعصار في غواتيمالا.. أليس هناك عملك الأهم الآن..؟ ستحصد من الأرواح في ذلك البلد ما تشاء.. ألن يفرحك ذلك الحصاد الوفير..!؟
ـ لا عليك.. هذا ليس من شأنك.. سأتدبر الأمر حيثما يكون من أرجاء الكوكب. الإعصار القادم سيكون في كاليفورنيا.. وزلزال بدرجة عالية سيواكبه في بلاد الأناضول والقارة الهندية..!
ـ أعداد هائلة إذن من الأرواح في انتظارك..
ـ أعرفها عدّاً.. الأرواح التي ستصعد إلى بارئها..
ـ وقتك ثمين إذن وليس من الحكمة في شيء إضاعته مع إنسان واحد نكرة مثلي.. لا هو في العير ولا هو في النفير..!
ـ ما زلت تحسب أن مماطلتك هذه سوف تؤتي أكلها أو تجديك نفعاً. إني لا أجهل ألاعيبكم وحيلكم للفرار من مصائركم المحتومة التي لا مناص لكم عن مواجهتها.
ـ عنيت يا سيدي أن هناك من هم أجدر مني برعايتك.. فعلى بركة الله تيسَّر..!
ـ عليَّ أن أنتهي منك أولاً..
ـ ألا ترجئني، كما رجوتك من قبل لكي أصلح من سيرتي بعض الشيء على الأقل قبل أن ألقى وجه ربي وبعد أن شهدت ما شهدت على يديك أحسن الله إليك..؟
ـ أيحسب أحدكم أن في وسعه إصلاح سيرته في ربع الساعة الأخير..؟
ـ ربما.. فلم العجلة والزمان طويل..؟ أليست هي من الشيطان الرجيم؟ ثم ألا يمكنك اعتباري حالة خاصة؟ عندما تعود إليَّ في المرة القادمة ستجدني وقد صليت الأوقات الخمسة من كل يوم، وأديت فريضة الحج مرات عديدة خمساً أو حتى عشراً إن شئت وزدت عليها من العمرة مثلها، وأديت الزكاة إلى مستحقيها، واعتذرت للذين أسأت إليهم أو كذبت عليهم، وما أكثرهم. وسدَّدت ما عليَّ من ديون وأموال استحوذت عليها.. أعني على بعضها دون وجه حق.. وصارحت تلك الفتاة المخدوعة هيفاء بحقيقة أني كذبت عليها واعداً إياها بالزواج.. وما إلى ذلك من شؤون وشجون سهوت عنها فيما مضى.. وأمور أخرى نسيتها وما أنسانيها إلا الشيطان أن أذكرها..
ـ ثق يا هذا أني لو أرجأتك الساعة، مع أن أمر الإرجاء ليس بيدي، فلن يحدث شيء غير عودتك إلى سيرتك الأولى. لقد عُرفتم يا أبناء آدم عليه السلام بالانتهازية. تلجؤون إلى بارئكم وقت الشدة، فتجأرون بالدعاء، وتلحفون في الرجاء والضراعة، تطلقون الوعود، وتُشهدون الله إن نجَّاكم فلسوف تصبحون من عباده الصالحين، وما إن تكتب لكم النجاة حتى تنكثوا العهد وتنكروا الوعد وتنكصون على أعقابكم.. جلُّكم هكذا إلا من رحم الله.
ـ أعدك أني سوف أكون بدعاً من هؤلاء.
ـ لعلك تحسب يا هذا أنه لا عمل لي سواك. ولكن ألا تدري أنه من الخير لك مغادرة هذا العالم اليوم قبل الغد تفادياً لاقتراف المزيد من الخطايا والآثام تضاف إلى صحيفتك فتزيد من رصيد سيئاتك. ولا يكون مقرك في الختام إلا حيث كنا عما قليل.. والعياذ بالله..
ـ لك أن تطمئن يا سيدي بأني لن أكون إلا عند حسن ظنك. وإني لأعدك بأني لن أقترف ذنباً البتة بعد اليوم وقد رأيت ما رأيت.
قال في سخرية بادية.. ولكن في ضيق ظاهر أيضاً:
ـ هذا صحيح ما دمت مغادراً معي الساعة.
رمقني بنظرة خاطفة فوجدني أرتجف هلعاً. فقد أدركت أنها النهاية حتماً فضاق صدري واحترق حلقي فيما جسدي كله يضطرب.
بتهكم واضح عاد يقول:
ـ أنت لم تصنع في حياتك السالفة أي أمر ذي بال. لم تنفع أحداً من خلق الله في شأن ما.. لم تقاتل في سبيل الله والوطن أعداءه. وها أنتذا تموت كما البعير على فراش وثير.. فعلام تأسف؟
ـ ألا ترى، يا سيدي، أنك لا تنفك عن استخدام تعابير غير لائقة في حقي؟ لكأني بك تتعمد إهانتي وتحقير شأني. سمعتك تقول مثل هذا من قبل ولم أعلق عليه آنئذ ولكني الآن أبدي اعتراضي وامتعاضي..!
ـ هو ذا دأبكم.. الشكل هو ما يهمكم وليس المضمون. القشرة لا الجوهر.. بلى إنكم لتخدعون أنفسكم باحتيالكم على الصِّيَغ التعبيرية، والخدع البلاغية اللفظية، فتسمون ذلك تهذيباً وتحضُّراً وتمدُّناً.. وربما إبداعاً.. وأما تسمية الأشياء بأسمائها التي هي جديرة بها فتطلقون عليها أوصافاً من قبيل الوقاحة.. الجلافة.. وما إلى ذلك من صفات وضعتم لها القواميس التي تناسبكم لكل حالة. قائلين إن لكل حالة لبوسها..!
بدا عليه الضيق ونفاد الصبر. خشيت مغبة ذلك، حدثتني نفسي، أو لعلي أنا الذي حدثتها: أليس من الحكمة وسداد الرأي أن أجنح إلى التودد إليه من جديد..؟ ماذا أصنع..؟ إنه الموت وما أدراك ما الموت حين تواجهه..؟ أوَ يأتي هكذا على حين غرة ودون سابق إنذار..؟ بلى إنه لكذلك. ألم يمت معظم أصدقائي على هذا النحو؟ فواز كان يجلس في غرفة الجلوس ينظم شعراً غزلياً لفتاته حين جاءته الزوجة (أم وسيم) بفنجان القهوة لتجده قد فارق الحياة لتوه. وحين قرأت ما كان يكتب قالت حانقة: (تستاهل.. لا ردك الله يا فواز..!) هذا ما صرحت به (أم وسيم) لزوجتي صديقتها..! صديقي عبد الكريم، الوسيم الجسيم، الذي يملك قوة عشرين حصاناً حقيقياً لا بخارياً، دخل حمام منزله لدقائق ولم يغادره إلا محمولاً على محفة. أما عبد الحميد فقد كان يلعب النرد في مقهى مع صديقنا وحيد، مريض القلب منذ أمدٍ بعيد، وحين انحنى عبد الحميد، القوي المعافى، كي يلتقط قطعة النرد التي سقطت على الأرض، لم ترتفع له قامة أبداً. بلى إنه الموت.. إي وربي.. تذكرت سجائري، ها هي ذي العلبة في جيبي. قلت وأنا أبادر لإخراجها، دون وعي مني كمن فقد رشده، فأقدم له واحدة منها، فيما كان الدوار يعصف برأسي فأكاد أفقد القدرة على التمييز، بل كأني في غيبوبة مطلقة. قلت متلعثماً، ولكن الكلمات لا تكاد تغادر لساني:
ـ هل لك في سيجارة، سأقول لفافة إن شئت العربية الفصحى، حيث إن صديقاً لي قارئاً في رقابة الوزارة لم يوافق على طباعة كتابي ذي الأربعمائة صفحة بمحتواه السليم كله، إذ قلت سيجارة بدلاً من لفافة في سطر من الكتاب. أرأيت الحرص على اللغة يا سيدي. هي لفافة من نوع جيد وفاخر أيضاً.. لا تحوي الكثير من النيكوتين..!!

أطلق ضحكة عالية مزمجرة كما لم يفعل منذ أول لقائي المشؤوم معه ليقول ساخراً وكأنه يلتقط أنفاسه، برغم أني لم ألحظ من قبل إن كان يتنفس مثلنا..
ـ لعلك نسيت من أكون.. أليس كذلك..؟ لكنك معذور..
ـ إنها من نوع جيد.. ومستورد..!
واصل ضحكه المرعب، أو قل استأنفه دون أن يقول شيئاً.
حسبت للحظة أنني اقتربت من هدفي. ولكن أين أنا الآن؟ ما الذي جاء بي ها هنا..؟ إنه الفندق الفخم الذي تمنيت يوماً النزول فيه وتناول وجبة عشاء في مقصفه. انتهزتها فرصة لأبادره بقولي:
ـ إذن نتناول العشاء معاً في هذا الفندق الفاخر. ومن ثم ينصرف كل منا إلى شأنه.. ما رأي سيادتكم..!؟
لبث صامتاً.. شجعني ذلك.. قلت في إلحاح:
ـ دعوة أرجو قبولها. أصدقائي يتمنون أن يُدْعَوا إلى مثلها.
بشيء من الحدة قال:
ـ ألا تدري أيضاً أننا لا نتناول الطعام إذ لا حاجة لنا فيه..؟
لفرط اضطرابي، وهول جزعي مضيت أقول كلاماً أدركت فيما بعد أنني كنت أهذي، وأن أكثره كان بلا معنى، ولا مبنى. قلت:
ـ ولكنك لست مريضاً.. كما أنك لست في حمية على ما أظن ولك هذه البنية العظيمة، فما المانع لديك إذن من الناحية الصحية..!؟
نظر إليَّ ساخراً ليقول بتهكم واضح:
ـ في حمية دائمة نحن لا نهاية لها أيها الجاهل. هلا تعلمت شيئاً في المدارس والمعاهد؟ ألم يقل لك معلموك شيئاً عن ماهية الملائكة.؟
ـ بلى.. ولكني لا أتصور أنكم تحيون ما لا يعلم إلا الله من قرون ودهور دونما طعام أبداً.. الدهر بطوله هل هذا ممكن..!؟ فمن أين تستمدون الطاقة لكي تتحركوا في أرجاء الكون..!؟
ـ إذن أنت تعرف هذا كمعلومة، ولكنك عاجز عن التصور إذ أنت تقارن الملائكة بالبشر.. وهنا مكمن الخطل وهذا حال كثير من أضرابك في عالمكم.
ـ قالوا لنا شيئاً من هذا القبيل. لكننا لم نصدق.. هذا ما يصعب تصديقه والركون إليه حسب فهمنا، فواحدنا يوشك أن يفقد صوابه إذ ما حيل بينه وبين طعامه بعض الوقت. كم من رجلٍ طلقَّ زوجته بسبب تأخرها في إعداد طعام غدائه قبيل عودته من عمله. بل كم من الحروب والغزوات قامت في عالمنا بين الجياع والمتخمين. بين المحتاجين والمحتكرين.. بين البسطاء والمستغلين.. وكم وكم.. ثم بعد هذا تريد لنا أن تستوعب عقولنا هذه المسألة..؟
ـ تلك طبيعتكم التي جبلتم عليها. نحن وأنتم من عالمين مختلفين. ألم تفهم ذلك بعد..؟ ألا تعقل ما أقول..؟
ـ بلى.. نحن معذورون إذ إنكم من عالم الغيب الذي لا ندركه ولا نعرف خفاياه وأسرارهكما سبق أن أعلمتني.
بيد أني عدت إلى محاولاتي العقيمة التي لم تفترولم تهن .. وتساؤلاتي الحائرة كسباً للوقت. قلت في عجب:
ـ لا تأكلون ولا تشربون.. لا تدخنون أيضاً بطبيعة الحال.. ولا تشاهدون المسلسلات التلفزيونية ولا الأفلام السينمائية.. قل لي أنكم لا تقرأون الصحف أيضاً..؟ كيف لا يعتريكم الملل والضجر..!؟ نحن نفعل هذا كله وغيره أيضاً مما لا يخفى على فطنتكم ومدى علمكم بشؤوننا.. ومع ذلك ترانا نضيق أحياناً بالوقت الذي يصبح رتيباً مملاً، بل عبئاً ثقيلاً تنوء تحت وطأته كواهلنا. نحتال عندئذ على الوقت بلعب النرد أو الورق أو الإنترنت أو غير ذلك كالانغماس في حكاية حب.. ككتابة قصيدة مقفاة أو مرسلة حسب الموهبة، إن وجدت، في التغزل بمن خيِّل إلينا أننا نحب.. كما أن لدينا مَهَرة يبدعون لنا في كل يوم ألعاباً وألهيات لا ندري كيف تتفتق عنها عبقرياتهم. والغاية المبتغاة على الدوام من وراء ذلك هي قتل الوقت.. نعم قتله وكأنه عدونا الألد، على الرغم مما قيل لنا بأننا سوف نُسأل عنه فيم أمضيناه في دنيانا وذلك عندما ننتقل إلى رحابكم.
ـ هذا دأبكم برغم أن الوقت هو العمر نفسه في المحصلة النهائية.. وها أنت ذا تعترف "بعضمة لسانك أيضاً" بضحالة أفكاركم وسخف توجهاتكم وعقمها، فتمضون أعماركم دونما كلل فيما أنتم سادرون فيه بحثاً عن مزيد من وسائل الترفيه واللهو مما يوقعكم في المحاذير والخطايا المؤذية لكم في الدنيا والآخرة.. وقد توردكم موارد التهلكة والوبال..لكأن واحدكم جاء إلى هذا العالم وقد منح عمراً محدداً ليبدده فيما لا طائل وراءه..
أرتجّ عليّ فلم أعد قادراً على قول أو حركة. طفق ينظر إليّ في غضب يشوبه الازدراء. تصورته للحظات متردداً بشأن المهمة العتيدة، وإلا فبماذا أفسِّر صبره الطويل.. وحواره الأطول معي، متقبلاً الإصغاء لما يصدر عني، برغم الفارق العظيم بين عجزي وضعفي إزاء قوته وجبروته الأمر الذي لا يتقبله أحدنا من أخيه ابن أمه وأبيه في معظم الأحوال. ثم ما شأن هذه الجولة التي حُملت فيها إلى تلك الآفاق الغريبة العجيبة. ومن يدريني فلعله ملاك جاءني كي يعمل على هدايتي وليس ملك الموت إياه.. لعلي إذن في حلم.. ولكن لعله حقاً ملك الموت. من أجل الحياة ينبغي على المرء ألا يألو جهداً في الحفاظ عليها. هي فرصة إن هي ضاعت فلن تتكرر أبداً. وإذا ما غادرتُ هذه الدنيا فأنَّى لي أن أعود إليها كرَّةً أخرى؟ وجدتني من ثمَّ، أقول بين اليأس والرجاء:
ـ سيدي الفاضل.. ما الذي يسعني صنعه لكي تدعني وشأني زمناً إضافيّاً؟ أيضيرك هذا في شيء..!
ـ كم مرة تراك ستوجه سؤالك العقيم هذا إليّ..؟
ـ مرات بلا عدد. لن أكلَّ ولن أملّ. لن أتوقف عن طلب ذلك ما بقي فيَّ عرق ينبض.. وما بقي هناك رجاء. المسألة ليست لعبة يا سيدي. إنك الموت.. الموت المريع الذي نفرُّ منه فزعاً ونعمل على تجنبه ما حيينا. هو كما تعلم هاجسنا الدائم حتى لو تجاهلناه أو تناسيناه لكنه مستقر في أعماقنا ولا وعينا..
ـ تقضون أعماركم، فرادى وجماعات، في السعي إلى إبعاده وتفاديه. بل إن الصراع الأزلي بينكم قائم منذ بدء الخليقة بين طرفين كل منهما يعمل على إيقاع الموت بالآخر لكي ينجو هو. يبتهج لموت الآخر في ظلِّ وهم خادع بأنه نجا ناسياً أنني في انتظاره بطريقة أو بأخرى، ونجاته وقتية وإلى حين، فيومه آتٍ.. وكل أتٍ قريب..
ـ ولكن يا سيدي..
ـ أيّ لكن بعد..؟ أتحسب أن منطقك الأفلاطوني أو أقوالك المعسولة قد تنطلي عليّ..؟
ـ سأواصل مسعاي.. من يدري فلعلي أفلح في إقناعك، أحسن الله إليك بأن تمدَّ لي في عمري بضع سنين.. عشرة أو عشرين يا سيدي وليس مائة أو مائتين.. ما الفرق..؟ في عالمنا يمدون للمرء سن الخدمة عند الضرورة.. وبدونها أحياناً..!
ـ لكل حالة لبوسها وظروفها الحاكمة.
يا إلهي. لو كانت المسألة بالنقود ننفقها في السر أو في العلن كما نفعل في حلِّ أزمات كثيرة لهان الأمر.. لو كان بالوساطة لأمكنني الاستعانة بذي نفوذ للتخلص من هذا الموقف العصيب.. لو.. لو..
قاطع أفكاري ليقول:
ـ لو أنك حاولت افتداء نفسك بما في الأرض جميعاً لما نفعك ذلك في شيء. المال في نظركم هو المبتغى.. هو الغاية والوسيلة معاً. هو الداء والدواء. من أجله يقع في دنياكم ما ترون من مآسٍ ورزايا وكوارث لا حدود لها. بل إنه يتدخل في تكوينكم وبالتالي في ممارساتكم ومواقفكم وتصرفاتكم. إنه كفيل بإلغاء ضمائركم ومحو عواطفكم وقتل إنسانيتكم. فينتزع الرحمة من أفئدتكم لتغدو كالحجارة أو أشد قسوة. بسببه عمَّ الفساد في الأرض. تستكثرون منه بغير حدود ودونما داعٍ، حتى إنه يلهيكم عن عمل الخير حتى الموت.. إلى أن آتيكم بغتة وعلى غير انتظار فيمسي جلّ مسعاكم هباء منثوراً.. أكفانكم ليس لها جيوب.. مقولة أطلقها حكماؤكم بيد أن أحداً لا يأبه لهاأو يأخذ بها.. لكأنها محض نكتة.. وهي أثبت الحقائق كالموت نفسه.. وأنتم في غفلتكم إبَّان سعيكم الحثيث بلا هوادة لجمعه وتكالبكم للحصول على أكبر قدر منه تنسون أنكم تجعلون من أنفسكم عبيداً مسخّرين له. هو الذي يستعبدكم ويذلكم إذلالاً ما بعده إذلال. يؤرق أيامكم.. لياليها ونهاراتها، فيفقدكم القدرة على الإحساس بالحياة وادعة هنيئة مطمئنة ويحول بينكم وبين الاستمتاع بمباهج الحياة الهيِّنة الطبيعية في بساطتها الجميلة.إنه لمرض عضال يصيبكم.
في اعتذار صادق نابع من القلب قلت في لهجة أقرب إلى الضراعة:
ـ ما تقوله صحيح تماماً وسديد. وكدأبك دائماً تصيب كبد الحقيقة.. يا سيدي رحماك.. فاعذرني، فلقد نسيت وما أنساني إلا الشيطان مرة أخرى أن أذكر أنك من طبيعة ملائكية مختلفة عنا. أنت لن تشتري معطفاً أو رباط عنق أو حذاء.. كما إنك لست في حاجة إلى جهاز كمبيوتر. ولن تطالبك زوجة بنفقة أو أولاد بمصروف. ولا شأن لضريبة الدخل معك.. كما إنك لن تشتري تلفازاً.. ولن تذهب إلى دار للسينما..!؟
ـ بلى أذهب إلى ما تسمونها السينما..!!
ـ أحقاً يا سيدي..؟ وكيف بالله عليك..!؟ إن هذا لأمر عجاب أيضاً..!
ـ أتحسب أن في الأرض مكاناً لا أرتاده..؟
ـ ولكنك قلت لي..
قاطعني بحدة ونفاذ صبر كما بدا لي:
ـ افهمني يا هذا.. ذهابي إلى السينما لأسبابي الوجيهة شيء وسعيكم أنتم إليها لأسبابكم المتعدّدة الأغراض شيء آخر.
ـ كيف أفهمك..؟ أكاد لا أفهم شيئاً..كدأبي معك دائماً مذ رأيتك.
ـ أذهب إلى السينما عند الضرورة والاقتضاء أيها الـ..
ـ تعني عندما يكون الفيلم جيداً.. يستحق المشاهدة.. وهل تفضله عربياً أم أجنبياً.. أو أمريكياً على وجه التحديد..!؟ فالأخيرون بارعون في ابتداع ما يثير لاجتذاب الجماهير..! هوليوود وما أدراك ما هي.. لا ريب أنك تعرفها..
ـ ليس من أجل ذلك أيها الأحمق ولكن عندما يقتضي عملي الذهاب إلى هناك. ليس من أجل الفرجة..
ـ عملك..!؟
ـ أجل حين يكون في برنامجي قبض عدد من الأرواح في واحدة منها ينجم عن حريق شبَّ أو زلزالٍ وقع.. أو ما شابه ذلك من موجبات حضوري..
ـ وما هي هذه الموجبات غير ما ذكرت يا سيدي في مثل هذا المكان المخصص للترفيه والمشاهدة والاستمتاع بالوقت والصحبة الحلوة.. فالسينما ليست ميدان حرب..
ـ كأن يكون البناء متداعياً بسبب غشٍّ مارسه المقاول من قبل ابتغاء التوفير في مواد البناء لكي يزيد من أرباحه ويشبع نهمه وحان وقت سقوط السقف فوق رؤوس أولئك الرواد التعساء، الذين جاءت بهم أقدارهم في تلك الساعة دون غيرها، وهم دون غيرهم من الناس، وإلى هذه الدار دون غيرها من الدور..
ـ آه.. قلت لي.. مفهوم هذا تماماً..
ـ ألا ينبغي لي أن أكون حاضراً عندئذ..؟
قلت همساً بيني وبين نفسي، وقد تملكني الفزع أكثر فأكثر:
ـ بلى.. بلى.. تلك أسباب وجيهة.. وهل لمثلي أن يجادل فيها..؟
ـ ولربما يممت شطر أخرى لأسباب طارئة أقل أهمية ووجاهة كما قد تقول بعد سماعك إياها.. وقد لا تكون كذلك في نظرك فأنت لا تملك رأياً ثابتاً يركن إليه.
ـ من قبيل ماذا أسبابك الوجيهة.. أفدني أفادك الله..!
ـ كأن يتحرش فتى مراهق بفتاة تجلس في المقعد المجاور مصادفة، مستفيداً مما يغشى القاعة ومن فيها من ظلمة، مستغلاً فرصة انشغال الآخرين بمتابعة الأحداث الجارية على الشاشة، التي ربما تكون وهمية وسخيفة أيضاً أو حافلة بمشاهد الإغراء الشيطانية. يحدث هذا دون أن يتنبه صاحبك إلى أن الجالس إلى جوارها من الناحية الأخرى هو شقيقها الغيور، الذي يبادر إلى طعنه بسكين في مقتل. أجدني أهرع عندئذ إلى المكان. يجيء بي هذا الأحمق من أقصى أطراف الأرض، إذ أكون قد فرغت لتوي من قبض أرواح جمع من ركاب كانوا على متن الطائرة الليبية فوق صحراء سيناء بفعل فاعل.. أو المصرية التي أقلت ضباطاً فوق الأطلسي بفعل جناة مسكوت عن جرائمهم.. أو الغواصة الروسية في بحر الشمال.. أو قتلى في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها على أيدي جناة عتاة. هذه وهذه.. وتلك.. أتيك بهذه الأمثلة لأنك سمعت عنها وقرأت. صورة أخرى أفضي بها إليك قد تكون أكثر هزلاً. قد يحدث أن يجلس رجل طويل أمام آخر قصير، فيحجب الأول الرؤية عن ذاك الأخير. يطلب إليه هذا أن ينحيِّ رأسه قليلاً، لا سيما أنه يرتدي قبعة مفرطحة.. يرفض الرجل.. يتلاسنان.. يتشاتمان.. يطلق الرجل القصير النار على الرجل الطويل. لن يقضي هذا نحبه طبعاً إلا في حضوري، وعلى يدي، وما ذهابهم بالمصاب إلى المشفى في سيارة إسعاف إلا تريثاً، دون أن يدركوا، حتى أحضر. ألا تسمعهم يقولون عندئذ في الإذاعة أو الصحيفة: لم يلبث الرجل بعد دخوله المشفى أن قضى نحبه متأثراً بجراحه.. هذه الـ لم يلبث هي انتظار مجيئي. وقد يصفونه بالشهيد.. شهيد ماذا..؟ قل لي.. هذه إحدى سخافاتكم وتجاوزاتكم..؟ ولكن ما من أحد يدرك مثل هذا السر الذي أطلعك عليه الآن..
ـ ولكن أليست هذه ذروة الحماقة أن يتصرف ذلك الرجل القصير على ذلك النحو..؟
ـ أنا وأنت لا نحاكم المسألة الآن.. ولكنه مثال أضربه لك.. أوَ ليست هناك حماقات أكثر سخفاً وهزالاً ولكنها واحدة من أسباب الموت ووسائله على أية حال.
ـ أرى أنك تطلعني على هذه الأسرار ثقة منك في شخصي الهزيل بعد أن توطدت معرفتك بي أيضاً.. أليس كذلك..؟
ـ إطلاقاً.. فمن تراك تحسب نفسك يا هذا؟ إنما أطلعك على مثل هذا السر حيث إنك لن تتوافر لك فرصة إفشائه إذ أنت راحلٌ عنهم توّاً، ولن تلتقي أحداً بعد الآن كي تباهي أقرانك، كعادتك، زاعماً أنها إحدى بنات أفكارك المصونات..! ألا ترى كم تسبب لي حماقاتكم من متاعب..!؟
إثر صمت ثقيل كالجبال جثم على صدري تجرأت على سؤاله:
ـ ما أحسب أن لك زوجة وأولاداً..!
ـ ها أنتذا كرَّة أخرى.. تقع في حالة تخريف. الملائكة لا يتزوجون. هم خلق آخر لا تعرفون كنهه.
ـ هنيئاً لكم إذ لا زوجات لكم..
ـ ألا ترى أنك تزري بالمرأة فيما تقول؟ بل إنك توجه إليها إهانة منكرة.. مع أنك في حضورها لا تجرؤ على ذلك. بل إنك لتمضي في إغداق فيوضٍ من المديح والإطراء لها جلُّها نفاق متقن الصنعة.. أجل أنت لا تني تنزلف إليها كي ترضى عنك.. بل أنت قلما تقطع برأي في أمر قبل الأخذ برأيها فيه. هل لك أن تنكر ذلك؟
ـ لكننا في أيامنا الراهنة تنازلنا لها مكرهين عن الكثير من الحقوق التي ملكناها طويلاً عبر العصور.
ـ تزعمون ذلك نفاقاً ورياءً..
ـ بلى. لقد أصبح لهن جمعيات واتحادات ونوادي وتنظيمات شتى. وهذه جميعاً لا عمل لها سوى السعي إلى مساواة النساء بالرجال بل والتفوق عليهم في مكتسبات يحصلن عليها.
ـ أتظن أنه قد تحقق لهن ذلك..؟
ـ بل لقد تجاوزنه.. ولكنهن يطمعن بالمزيد شأنهن في كل أمر. بعضهن غدون أديبات.. شاعرات وقاصات..!
ـ بعضكم يزعم أنهن يستكتبن رجالاً..!
ـ قد يحدث هذا لغاية في نفس ذلك الرجل الذي لن يحجم عن فعل ذلك ابتغاء مرضاتها لأسباب تخصه هو وهي.. غالباً ما تكون عن غرضية تجافي النزاهة وتزري بالأدب.. ولكن بعيداً عن هذا يمكنني القول بأنه لن يطول بنا الوقت، قبل أن يصرخ الرجل مستجيراً.. مطالباً بالعدالة الشاملة التي هي في هذه المرة مساواته هو بالمرأة ورفع ظلمها عن كاهله..!
ـ هل ترى أنذلك قد يحدث حقاً..؟
ـ نعم.. إذ هن سوف يجنحن إلى الانتقام تعويضاً عن عصور مضت تعرضت جدَّاتهن فيها للظلم والطغيان والعنف من قبل أجدادنا الأوليين. لقد كنَّ مهيضات الجناح في تلك الأزمنة الغابرة خلافاً لما تنزلت به كتب السماء.
ـ الويل لكم آنئذ. وإن كنت أنت مستثنى مما سيحدث..
ـ لم الويل..؟
ـ لأنها ستنتقم.
ـ وكيف أستثنى من القادم على أيديهن..؟ ألدي حصانة ما؟
ـ لا.. فأنت ذاهب معي الساعة ولن تشهد تلك التطورات القادمة وشيكاً. وما عليك إلا أن تحمد الله إذن على نجاتك..!
وجدتها فرصة سانحة أهتبلها لأقول له متبسِّطاً مترفقاً:
ـ ما دمت يا سيدي الملاك، لا تحتاج لشيء مما تدعونا إليه طبيعتنا البشرية الأرضية، وما دمت، بطبيعة الحال، لا تتقاضى راتباً عن عملك، فما الذي يغريك على مواصلة قتل بني البشر مذ جيء بهم إلى هذا الكوكب ليعمروه،تتربص بكل منهم إما على حدة ليلقى حتفه، كحالتي هذه، أو مع جماعة في وضع ما لتنقض عليه أو عليهم، منهياً حياته أو حياتهم وهم بعد في قمة العطاء وذروة التفتح على الحياة ولو أن العمر امتد بهم لزمن أطول لأعطوا من علمهم المتحصَّل وخبرتهم المكتسبة الكثير لمنفعة البشر. تأتي أنت لتميتهم بهذه الطريقة أو تلك، ولديك من الوسائل البارعة الكثير الوفيروالحق يقال، فلكل ميتة لديك سبب، وإن كانت مفضية كلها إلى النتيجة الواحدة التي عبَّر عنها أحدنا ممن حيرتهم هذه المسألة بقوله:
من لم يمت بالسيف مات بغيره



تنوعَّت الأسباب والموت واحد


ـ هي الصورة البادية لكم، أما ما خفي في مسألة الموت وما وراءه، والحكمة منه، فإنكم تجهلون ذلك تماماً، ولسوف تقيمون على جهلكم في شأنه إلى ما شاء الله.
ـ الذي لا أفهمه، على الخصوص، ذلك التفنن والابتكار في وسائل الموت وطرائقه التي تستخدمها أو أسبابه التي تختلقها وتبتكرها على الدوام، ليكون لكل ميتة سبب مختلف وصيغة مختلفة.
ـ بسبب من جهلكم الموما إليه آنفاً فأنتم تحسبون أن من يقتل بالسيف يشبه كل آخر يقتل بالسيف، ومن يُقتل برصاصة يشبه كل من يقتل برصاصة، ومن يموت مريضاً بداءٍ ما سوف يعاني ما عاناه تماماً كل من مات بالداء ذاته. هذا كله بعيد عن الصواب، منافٍ للواقع. إذ إن لكل كائن ميتته الخاصة به، والتي لا تشبه في المعاناة والتفاصيل الخفية ميتة أخرى لأي كائن آخر إلا في الصورة البادية للعيان.
ـ أصدقك القول بأني لا أشعر إلا بالضياع إزاء ألغاز وأحاجي لا تفتأ تتحفني بها.
ـ أين هي الأحاجي فيما أفضي به إليك؟ أهي في قولي الواضح لكل ذي عقل بأن معاناة كل امرئ عند موته هي حالة فريدة خاصة به. هي حالة موته هو دون غيره من سائر الخلق. هي معزولة عن الآخرين عند وقوعها كانعزالهم هم عنها. لا يحس بها أو يعانيها غيره أيّاً كان قربهم منه وموقعه منهم. لكل امرئ إحساسه الذي لا يشاركه فيه أحدٌ ولا يشبه إحساس إنسان آخر. لعلك قد فهمت الآن..؟ وإن كنت في شك من ذلك..!
ـ على الرغم من تعقيدك للمسألة برمَّتها في الوقت الذي تحاول تبسيطها إلا أنني لا أرى سوى أنك في النهاية، وفي سائر الأحوال، ستقضي على الجميع على حدٍّ سواء. قتلك إياهم أعني..
ـ لقد سبق أن أوضحت لك.. وإن لم أكن مضطرّاً إلى ذلك بأن ما أقوم به لا يندرج تحت مسمى القتل حسب تعريفاتكم ومفاهيمكم. إني أقبض الأرواح قبضاً.. وهذا شيء آخر. أنتم تقتلون وأنا أقبض..!
ـ ما شاء الله.. لكأني بك يا سيدي، تفسِّر الماء بالماء.. أليس سواء أن تسمي ذلك قتلاً أو تدعوه قبضاً أو ما شئت دون ذلك من أسماء ومسميات؟ ما الفرق بالله عليك..؟ كنت أحسب أننا وحدنا، البشر، من يتلاعب بالألفاظ ويتفنن في ابتكار المصطلحات المراوغة ويكيل بأكثر من مكيال..!
ـ الفرق كبير للغاية والبْون شاسع. القتل هو ما تجترحونه أنتم، لأسباب تخصُّكم وهي أبعد ما تكون عن العدل والصواب في الغالب الأعم. يزهق القاتل منكم روحاً بشرية لغاية يرمي إليها حين يقتل. القتل هنا وسيلة لغاية لا تتحقق من دونه. إزهاق الروح في هذه الحالات وراءه نيَّة مبيَّتة ومغرضة.. وهادفة..
ـ مرة أخرى أستميحك عذراً إذا ما قلت بأني لا أستطيع موافقتك على ما تذهب إليه من تفسير وتسويغ لما تفعل.
ـ سأزيدك إيضاحاً إذن. إن القاتل من بينكم يقدم على فعله لكي يحقق نفعاً يعود عليه، أو ليدفع ضرراً عن نفسه، أو ليمنع خطراً سيحيق به.. وربما يكون الباعث على هذا أو ذاك تصورات خاطئة أو حمقاء أو موهومة، وربما تكون صحيحة. المهم أن هناك دافع أو لنسمِّه ذريعة أو مسوِّغاً حسب الحالة وملابساتها وظروفها، كأن يغتصب مالاً، أو يبلغ جاهاً، أو يشفي غليل حقد، أو ينال امرأة غصباً، أو يصون عرضاً. الأسباب كثيرة عصيَّة على الحصر. فهي بكثرة أعداد الخلق الذين يتعرضون للموت بهذه الطريقة، وبكثرة الحالات المفضية إلى عملية القتل. ولا يفوتنَّك كذلك قتل جماعي وسيلته الحروب لأسباب وذرائع مختلفة، ودوافع شتى بعضها مُحقّ، ومعظمها من غير وجه حق. أما أنا، فكما ترى، لا غاية شخصية لي فيما أقوم به. خذ حالتك أنت مثالاً. هل كان بيني وبينك ثأر؟ هل رأيتني من قبل..؟
ـ لا يا سيدي، فلو كنت عرفتك من قبل لما كنا معاً الآن. وليتنا لم نلتقِ أصلاً ولم يتح لي هذا الشرف العظيم. كنت أفضِّل ألا يتاح أصلاً برغم احترامي لك وإكباري لوظيفتك العتيدة..!
ـ على أية حال أنتم لا ترونني أكثر من مرة واحدة ووحيدة، أولى وأخيرة عندما تحين ساعة انتقالكم من داركم الفانية إلى داركم الباقية.
ـ بلى.. بلى إن هذا لأوضح من الشمس في رابعة النهار والقمر في ليلة بدر.
ـ لتذكر يا هذا أن قتل نفسٍ واحدة مؤمنة بغير حق كقتل الناس جميعاً. أي إنها جريمة إبادة بشرية..
ـ لعلك قلت لي شيئاً من هذا القبيل عما قليل يا سيدي.. ولكن.. كيف أذكر وأنا على شفا الموت..؟ من الموت قاب قوسين أو أدنى..!؟

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 22 / 12 / 2009, 31 : 09 PM   رقم المشاركة : [8]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: لقاء مع ملك الموت .. رواية الأديب د. يوسف جاد الحق

[align=justify]


- 4-

ها هو ذا ينشغل عني.. يرنو ببصره في اتجاه آخر، إلى أفق بعيد. تجلَّى أمام ناظري شريط طويل لحياتي الماضية، مذ وعيت العالم من حولي. بدا لي فيما يشبه شريطاً سينمائياً.. أو مسلسلاً تلفزيونياً لا نهاية لحلقاته.. المدرسة.. قريتنا.. الرفاق.. نعيم حسين.. سليمان.. إسماعيل.. الأساتذة.. عبد الهادي.. علي.. الشيخ محمد.. الصفوف المتعاقبة.. يوم استشهاد أبي.. بكاء أمي وأخواتي.. استشهاد أخي.. بيارات البرتقال القريبة من منزلنا.. المعارك حول بلدتنا.. الذين استشهدوا يومذاك.. قبة الصخرة والأقصى في زيارتي لها مع خالتي وزوجها. القتلى في الطرقات والأزقة.. دماء الجرحى النازفة حتى الموت.. الصديقات والرفيقات.. المشاهد تتوالى كوميض برق خاطفخلَّب.. وأراني وسطها.. وأمي ترنو إليَّ مشفقة.. حتى تلك التفاصيل الصغيرة هيِّنة الشأن التي لم آبه لها كثيراً في وقتها.. ها هي ذي تتجسَّد أمامي كأنما تحدث الساعة. لكأني أستعيد دقائق حياتي ثانية منذ النشأة الأولى. أفعالي قاطبة تتمثل حيَّة أمامي.. لكأن هذا الشريط لم يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها على المدى الذي حييت. مضيت مع الصور المتعاقبة أتكون هذه الصور هي الهالة تدور بما سجل عليها..؟ أين أنا..؟ أين هو..؟ هل انصرف عني..؟ ضباب كثيف يغطي الأفق.. أنفاق على المدى في مجاهل الكون أعبرها كما الطيور دون عناء.. جسدي ينساب فوق لجة المحيط الأزرق الشفيف.. فوق هواء رقيق رخيّ علوّاً وانخفاضاً.. يهتز كل ما حولي اهتزازاً وانياً رهيفاً. ولكن هو ذاك جسدي.. أرنو إليه عن كثب. مسجَّى على سرير ناصع البياض. أين غاب عني جسدي ذلك الزمن الذي لا أدريه.. أين كان هذا الجسد.. لكأنه ليس لي.. وهو لي.. هو أنا.. يا إلهي.. أناس من حوله بملابسهم البيضاء المتشابهة. يضغط أحدهم هناك على صدري مضطرباً، بكفه صعوداً وهبوطاً.. أستغرب صنيعهم.. لماذا تراهم يفعلون ذلك.. الآخرون ينظرون.. ينتظرون.. عيونهم وحدها شاخصة بادية من وراء أقنعة.. بعضهم يتحرك هنا وهناك في المكان.. أجدني على مقربة من السقف.. أطلُّ من علٍ وجسدي الذي أراه قيد أذرع مني أو أقل إلى الأسفل.. أراه منفصلاً عني.. لا بل هو متصل بي.. في الفراغ ما بين السقف والجسد أجدني.. أيّ حالٍ هذه.. ما من شيء يقينيّ. كل ما أرى غائم وراء غلالة شفيفة.. والجسد بين أيديهم لا يبدي حراكاً.. عدا انخفاض الصدر وارتفاعه تباعاً تحت أيديهم.. يضيق.. ينفرج.. ماذا يفعل بجسدي هؤلاء.. ولماذا هو هناك بعيداً عني.. لم يتصرفون هكذا.. ما من أحد يراني.. هكذا يبدو لي.. كيف يحدث لي هذا.. ألا ما أشدَّ شوقي إليه.. لكم أتوق إلى العودة إليه.. أنساب إلى داخله.. تلك الأعضاء الممدودة تدعوني... تلك الخلايا النابضة تناديني.. أتوق لأن أحتويها شوقاً وحنيناً.. أن نتوحَّد معاً.. فليبتعد هؤلاء عنه.. عني.. أهبط إليه رويداً.. أقترب.. أنسلُّ إلى داخله.. أنساب في الشرايين دون أن يشعر بي أيٌّ منهم.. ولكن.. يا للروع ها هو ذا يعود.. قبل أن يتم التحامي بجسدي.. ينبهني صوته مدوياً في داخل رأسيكصليل أجراسٍ يأتي من بعيد..
ـ تركتك عامداً تمضي في رحلتك نحو ماضيك.. رحلة حياتك عوداً على بدء.. لكي ترى بنفسك إلى صنيعك في أيامك الغابرة.. هذا هو كتابك الذي تقرأ.. مسجَّلٌ فيه كل ما حدث لك، ما بدر منك وما صدر عنك.. كتابك هذا يعرض يوم الحساب. أعضاؤك التي هي لك سوف تكون شاهداً عليك..
قلت منبهراً، بل مأخوذاً تماماً بما رأيت:
ـ أجل.. أجل.. لقد عرَّفتني هذه الرحلة الكثير الكثير مما كنت أجهل.. ولك الفضل وأيم الحق..
ـ لقد أريتك ما قد رأيت.. ما وددت قوله لك.. وما أحسب إلا أنني أضعت معك جهداً فائقاً فهيّا بنا ننتهي منك..
لمحت جسدي أبعد قليلاً مما كان.. ومَنْ هم حوله يضطربون متحركين في كل اتجاه يعرو وجوههم القلق.. اختفى ذاك فجأة عن ناظري.. يا إلهي أين هو؟ هل ذهب عني نهائياً أم تراه سيعود أدراجه ثانية؟ السكينة تنداح في صدري.. كان ظلُّه ثقيلاً.. كاد أن يزهق أنفاسي. أتنفس الآن في عمق.. حياة جديدة تسري في عروقي. ولكن.. ماذا..؟ طنين يتعالى قادماً من مكان ما.. دوي يتصاعد.. يتحول إلى رنين أجراس حاد.. يا إلهي هو ذا يعود من جديد.. يضيق صدري من جديد.. يقترب.. تكاد أجنحته تسدُّ ما بين الأرض والسماء.. إشعاعات ملونة غريبة من حوله تنتشر في الأرجاء.. يهدر صوته المرعد:
ـ ها أنذا أعود إليك يا هذا..
ـ وأين كنت سيدي؟ حسبتك قد مضيت إلى غير رجعة..
قلتها في وجل مخفياً جزعي لعودته واستيائي.. يضحك.. فيهتز الفضاء من حولي، ليقول:
ـ أنت أنت لم تتغير وما يكون لك أن تتغير في اللحظات الأخيرة من حياتك.
ـ كيف لي أن أتغير في مدى برهة وجيزة..؟ التغيير يحتاج إلى زمن.
ـ من قال لك إنها برهة..؟ إنها من عمرك المتبقي.. من رصيد أيامك المعلوم... بل من ساعاتك المعدودة عليك منذ ولادتك.. أما زمنك فقد استهلكته..!
ـ ولكني لم أشعر بعمري كيف مضى وانقضى. لكأنه لحظة عبرت كالطيف.
ـ هذا شأنك.. أنت الذي أضاعه سدى.. وأنت لم تُمنح الحياة والعمر والمكان في أرض الله الواسعة لكي تضيعها عبثاً وتبددها هباءً.. فرصة العمر هي العمر ذاته.. هي حقبة الحياة للكائن ذاتها..
ترددت قليلاً قبل أن أجرؤ على السؤال:
ـ هل أكون فضولياً لو أني تساءلت عن فترة غيابك عني..؟ أعلم أن هذا سرٌّ خفي.. أسكتني كالأبكم حين رشقني بنظرة قاسية.. حدَّق بي.. أحسست بالرهبة أكثر.. يتفَّصد العرق من جبيني، وحريق يشتعل في حلقي.. قشعريرة تسري في أرجاء جسدي. يركَّز نظراته في عينيّ قبل أن يبادرني بصوته المجلجل:
ـ طرقت أماكن في الكون بعيدة عنك.. قبضت في طريقي عدداً غفيراً من الأرواح في زلزال وقع غير بعيد من مسقط رأسك.. كما زرت رفاقاً لي في مكان ما من الكون..
لفت انتباهي ذكره لرفاقٍ له. تجرأت مرة أخرى على سؤاله:
ـ وهل لكم معشر الملائكة رفاق مثل ما لنا..؟
ـ كيف لا..؟ وهم يعملون في كواكب أخرى منها ما هو في مجرتكم ومنها ما هو في مجرات غيرها..
ـ وماذا تراهم يفعلون هناك..؟
ـ ما أفعله هنا.. وشؤوناًأخرى..
ـ تعني أنهم يقبضون أرواحاً أيضاً..؟
ـ بلى..
ـ سبق أن قلت لي أن هناك أحياء غيرنا في أجرام سماوية.
ـ كيف لا..؟
ـ وأنت تقبض أرواح أهلها أيضاً..؟
ـ لا.. فلكل كوكب ملائكته المختصة بأمره.. أنا موكل بكم.. وملائكة أخرى موكلة بغيركم.. ولا شأن لأي منا في نطاق عمل الآخر..!
ـ حقاً أثرت عجبي وحيرتي من جديد.
ـ لك أن تعجب.. وأن تحتار.. فأنتم لا تعلمون عن شؤون الكون إلا قليلاً.. وقليلاً جداً.. ولكنك لن تلبث طويلاً حتى تعرف الكثير من الأسرار الكونية شأنك شأن سائر من يغادر دنياكم...
بغتة تتبدى قصور عن بعد تتلألأ أنوارها المبهرة.. تتهادى في أبهائها وبين جنباتها حوريات بارعات الجمال.. لم أشهد كجمالهن في حياتي الماضية رغم ارتيادي بلاداً كثيرة في شتى أنحاء الأرض. تبدو الحوريات قريبات مني برغم بعد القصور نفسها عني.. أزاهير ورياحين باهرة الألوان تحيط بأرجائها، يتضوع شذى عطرها المتناثر رذاذاً ناعماً فيكاد أن يصيبني بالدوار.. تتعاقب ألوان أنوارها في كل لحظة.. أرجوانية فزرقاء.. فخضراء.. فبيضاء.. وأخرى لم أشهد مثلها من قبل.. تبهر الأنوار عيني.. وتثير فيَّ حنيناً طاغياً للاقتراب منها وتملِّيها والدخول إلى أبهائها الساحرة ومن فيها اللواتي أكسبتهن الأنوار المتعاقبة مزيداً من السحر البديع والجمال الصاعق. يا إلهي.. ما رأيت في دنياي لا يضاهي شيئاً مما أشهد. في كل لحظة أرى جديداً فذّاً مثيراً..
وكدأبه أدرك ما يجول في خلدي فبادرني بالقول:
ـ أرى أنه قد أعجبك ما ترى.. أليس كذلك..؟
ـ أتسألني يا سيدي.. وها أنتذا تدرك لتوِّك ما يدور في نفسي.. هذا الذي أرى يلجملساني عن النطق ويكاد يوقف قلبي عن الخفق..
ـ ربما يكون لك نصيب في شيء منها..
ـ أحقّاً ما تقول..؟ وبهذه البساطة المتناهية..؟ إن واحدنا لكي يملك من الأرض أمتاراً ومن العقار أشباراً عليه أن يمضي شطراً غير يسير من عمره كله بشق الأنفس والجهد الجهيد أيضاً.. وقد لا يفلح في اقتنائه في نهاية المطاف.. فكيف بي أحلم بمثل هذه القصور.. بما فيها ومن فيها..؟ وبدون مقابل يدفع ثمناً لها..!؟ففي ظني أن أحداً هنا لا يتعامل في بيع أو شراء.. لا لا.. عقلي لا يصدق أن هذا ممكن الحدوث..
ـ بلى.. إذا كنت مستحقاً لذلك ستناله..
ـ وما هي ماهية الاستحقاقوموجباته؟
ـ عملك في الدار الدنيا ألا تذكر أني قلت هذا من قبل..؟ العمل هو الثمن ليس إلا..
ـ عمل..؟ أرجئني إذن بربك.. أرجئني كي أعمل صالحاً يؤهلني لنيل واحدٍ منها أو أكثر..
ـ أو أكثر.. أرأيت..؟ يا لكم من مخلوقات عجيبة.. هو الجشع الإنساني المتأصل فيكم إياه.. أطماعكم بلا حدود.. ماذا ستفعل بالأكثر من واحد. لن تؤجره هنا أو تبيعه لتجني مالاً لا قيمة ولا دور له في هذا العالم..
ـ ليكن واحداً وحسب إذن يا سيدي..! ليكن واحداً فقط.. لا بأس.. أهذا الواحد كثير عليّ..!؟
ـ ليس الأمر بيدي على أية حال.. سيُنظر في أمرك.. وهو مقرر منذ الآن بل قبل مولدك في الأرض.
ـ ومن سيعطيني مفتاح ذلك القصر؟
ـ إن القصور هنا بلا مفاتيح ولا أبواب..
ـ كيف بالله عليك..؟ أهي مشاع بين الناس أم ماذا..؟
ـ لماذا يجب أن تكون لها أبواب وللأبواب مفاتيح؟ لا وجود هنا لغير الأتقياء الصالحين.. لا لصوص ولا متطفلون يصلون إلى هذه الرحاب.. فوق ذلك لا حاجة لأحد بما لدى أحد.. هنا تطلب فتعطى.. تتمنى فتنال.. اكتفاء وغَناء..وأمن وسلام.
ـ تقصد أننا نجلس فيها وكأننا في العراء.. كيف؟ ومن وراء هذه الزجاج المضيء الكاشف..؟
ـ أهل هذه القصور كلٌّ في شأنه مكتفٍ هانئٍ وسعيد.
ـ ولماذا الجدران أيضاً إذن. بل ولماذا السقوف إذا كان الأمر كما تصف يا سيدي؟
ـ لا ضرورة للسقوف على نمط ما في أرضكم، فلا أمطار تخشى بللها ولا رياح تخاف عصفها ولا شمس تتقي حرَّها. ولكنكم إذ تعودتم على مثل ذلك في دنياكم فلن يسعدكم إلا الحصول على ما تعودتموه وما اشتهيتموه هنالك.
ـ أعدني إلى دنياي إذن لكي أعيد رسم سيرتي من جديد على ضوء واقع ما أرى وليس لأيّ سببٍ آخر..
ـ هيهات.. هيهات.. كلمات أنت قائلها.. رغبات أنت مبديها..
يختفي ثانية بغتة.. أمد بصري هنا قريباً وبعيداً هناك.. لا أثر له..
لعلَّه مضى لحصد أرواح أخرى في مكان آخر..
إلى متى ألبث على هذه الحال؟ يظهر ويختفي.. يغيب ليحضر بعد لأي.. ما الحكاية..؟أي دوامة هذه التي تلمُّ بي، وجسدي هناك على مرأى مني.. ما انفك المنهمكون في أمره كما كانوا من قبل.. أحسُّ بالجوع والعطش.. ولكن هذا بستان غاصٌ بأشجار شديدة الكثافة ذات أوراق زرق كلون السماء، تتدلى غصونها مثقلة بالثمار.. قطوفها دانية.. لا أعرف كنه بعضها.. وأعرف بعضاً.هذا رمان.. حبة الرمان الواحدة هذه المتدلية عن هذا الغصن في حجم رأس جمل أو بقرة. حبة الكمثرى في حجم بطيخة كبيرة.. حبة اللوز هذه في حجم برتقالة.. والثمار تشف عما بداخلها من رحيقٍ رائقٍ صافٍ كالماء القراح.. لعله ذهب إلى غير رجعة.. سأبقى هنا طويلاً إذن.. ليكن.. ماذا أبغي خيراً مما أنا فيه.. أتراه غادرني بلا عودة هذه المرة..؟
أحاول قطف ثمرة.. أمدّ يدي.. تتراجع يدي.. أشتهي كسرة خبز وحبات زيتون أخضر.. وبرتقالة من بيارة عمي هناك عند أطراف يافا.. آه يافا يا حبيبتي.. لكم أتمنى لقاءك بعد عمر اغتراب طويل.. وها هو ذا يوشك العمر أن ينقضي.. تلك بياراتك النضرة الساحرة الزاخرة.. هو ذا شاطئ بحرك الفوّار.. وتلك الأمواج الهائجة تضرب جدرانك العتيقة عند حوافها.. الطحالب الزرقاء تغزو أساساتها السمراء كما عهدتها من قبل.. أأنت جنة الخلد أم يافا أنت..؟ أضناني حنيني الأزلي إليك.. هذا الشجن القاتل يا حبيبتي.. أماله من علاج غير الرجوع..؟ ودون الرجوع ما تعرفين.. جلُّ ما أشتهي هنا قد أنال.. إلاَّك أيتها العصية الأبيَّة.. يا لحيرتي.. كيف قالوا أنها تهدمت عن بكرة أبيها.. ها هي ذي بروعتها وريعانها كما عرفتها في سالف الأيام.. كيف..؟ وأنت يبناي الحبيبة في الطريق إليك من يافا في باص حمد النمروطي المتداعي..ساعة كاملة في طريق العودة عبر ريشون ورخبوت مستعمرات الأوغاد. ما أنت الآن يا يبنا.. ربوعك اليانعة.. بساتينك الغنَّاء.. مدرسة الطفولة واليفاع والبيارات المترامية يكاد يضيء برتقالها ذهباً.. أحترق شوقاً للتجوال بين حاراتك القديمة.. أزقتك وظلال جدرانك.. وهواء البحر القادم رقيقاً عليلاً من الغرب فوق كثبان الرمال الذهبية يسلم الأعين للكرى في عزّ الظهيرة.. سلام عليك حبيبتي سلام.. وألف سلام...
صوت يتردد بغتة من حيث لا أدري: هي باقية يا هذا برغم ما حدث.. ما من شيء يتبدد إلا في ظاهره.. الطيف يبقى.. الصورة الأثيرية لما كان قائماً تلبث على ما هي عليه وهي ما يُرى في المخيلة. ألست تراها رأي العين الآن من خلال ذاكرتك الباقية "الذاكرة كالأثير من طبيعة لا مرئية وراء المادي المجسَّد.
أصرخ ملء حنجرتي: أباقية هي إذن..؟ ولكن من أنت أيها البشير المؤذن ببقائها ريثما تحين العودة إليها!؟
يختفي الصوت.. يطبق صمت مهيب.. رهيب.. حريق يلهب حلقي أكثر حدة.. ألهبه الصراخ.. عطشٌ مضنٍ يجتاحني.. ولكن هذا ماء نميربلون الثلج وبرودته، ينحدر من أعلى الجدار الزجاجي أو ما يحاكي الزجاج.. وكنبع ينثر الفضة في الفضاء يفور أمامي مصدراً نشيشاً هامساً رقراقاً.. ناشراً رذاذاً نديّاً منعشاً يحيط بجسدي.. أنهل الماء ويبتل ريقي دون أن أقترب أو أغترف.. تجتاحني رغبة طاغية في الانطلاق بعيداً بعيداً إلى مجهول قصيّ لا أعرف له أين..؟
شموس لألاءة تنتشر في الأفق.. أقمار كثيرة تسبح في الفضاء.. في أفلاكها محلّقة كأسراب اليمام.. أجرام غريبة التكوين والتلاويين.. مختلفة الأشكال والأحجام تبدو بعيدة وقريبة أيضاً تكاد تلمسها يداي.. تدور وتدور حول شمس كبيرة جداً بدت كالأم الرؤوم لها جميعاً.. من حولها صغارها ترعاهم بحدب.. كثرة بلا عدد.. أجرام بلا حصر..
إلى أين تراه يمضي عني بين فينة وأخرى..؟ ما إن أذكره في غيابه حتى أراه أمامي.. ها هو ذا قادم.. لكأنما أستدعيه حينما أذكره.. أو كأنه هو مَنْ يبعث برسائله إلى سرٍّ مجهول في كياني.. ألتقطها دون وعي مني.. ألديه جهاز إرسال كوني هائل.. وأكون جهاز استقبال صغير.. أهو بثٌّ كوني يتدفق في شتى أرجائه..!؟ بعض مظاهره تتبدى في عالمنا بين أشخاصٍ موهوبين يتبادلون الرسائل والتخاطر عن بعد.. يسمونها حيناً إلهاماً وحيناً اتصالاً عن بعد أو telepathy عند غيرنا. يبادهني بالقول:
ـ هل أمتعك ما شهدت في غيبتي من هذه الآيات البينات وهذه النعمى التي أعدَّت لكم لدى انتقالكم.. أعني الجديرون بها من بينكم.
أجبته مجاملاً.. ومنافقاً أيضاً:
ـ متعتي في حضورك أكثر..!
ولكن ليتني لم أقلها..
أشاح بوجهه عني وهو يردد بصوت خفيض، على خلاف ما عهدت منه:
ـ يا لهذا الكذاب الأشر..

وإذ سمعت قولته انتابني الغضب وكأني نسيت مكاني ومكانتي منه وإلى من أتحدث فقلت:
ـ أيليق بك يا سيدي اتهامي بالكذاب.. والأشر أيضاً..؟
ـ بلى إنك لكذلك فأنت تجاملني.. أي تتملقني.. وإنك لا تتمنى شيئاً الساعة أكثر من انصرافي عنك عسى أن تعيش على الأرض كرَّة أخرى الأمر الذي يخالف نواميس الكون وقوانينه، هل سمعت بميت عاد إلى الحياة..؟
ـ ولكني لم أمت بعد، فمطلبي إذن ليس مخالفاً لتلك النواميس.. ما أحسب إلا أنك تساهلت معي حقاً لسبب لا أدريه وأيم الله.
ـ ولماذا يذهب بك الظن إلى هذا التصور..؟
ـ ما أظنك تقضي مع كل من تزمع قبض روحه مثل هذا الوقت. وما أحسبك تتبسط في الحوار وتبادل الحديث معه وتطيل الصبر عليه على النحو الذي بدا لي منك وإلا فلن تنجز مهماتك الجُلىَّ الملقاة على عاتقك كما ينبغي..! لن تموت عندئذ إلا قلةمن البشر.
ـ ما زلت على عظيم جهلك وسقيم عقلك. أنا أولاً لدي أعوان من الملائكة يقومون بالمهمات المنوطة بهم. هم رسل الموت. ثانياً وهنا أعيد عليك ما سبق أن أنبأتك به من أن الزمن الذي تحسبه طويلاً مديداً لا يعدو أن يكون ثواني قليلة في أي حلم يرد على أحدكم في منامه أو غيبوبته، وإن بدا لكم غير ذلك.. حتى إنكم إذا ما سئلتم يوم الحساب: كم لبثتم في دنياكم، سيكون جوابكم لبثنا يوماً أو بعض يوم.. بل إن واحدكم يساوره هذا الإحساس في لحظاته الأخيرة.. إنه ليشعر بما يشبه اليقين بأن ما مضى من حياته لم يكن أكثر من ذلك.. يوماً أو بعض يوم..! أما صبري على الحوار معك والتحدث إليك فهو من باب التنوير للإنسان الموشك على الرحيل إلى الدار الآخرة لكي يطلع على ما هو مقبل عليه. وهذا من فضل الله عليكم ورحمته بكم..
وإذ هممت أن أبدي قولاً باغتني بانقضاضه عليّ، انقضاض النسر على فريسة. جثم على صدري وأطبق على عنقي بيديه الضخمتين. أنفاسه اللاهثة المتلاحقة كالفحيح تلفح وجهي. أصرخ مستغيثاً.. ولكن.. أين صوتي..؟ أدفعه عني.. لكن يديَّ لا تتحركان.. جامدتان.. بل مشلولتان.. أحاول النهوض.. أصبحت الآن داخل جسدي. ولكن الملاك يسمرني في السرير بثقله الرهيب فوق صدري. أطلق صرخة مدوية لكنها لا تتجاوز حنجرتي التي أوشكت أن تحطمها قبضته الجبارة.. حريق لاسع يلهبها. ارتفعت قبضتاه عن صدري بغتة.. علا جسده الضخم مبتعداً شيئاً فشيئاً وهو يرمقني قائلاً: عفا الله عنك.. علمت للتو أن لك بقية من عمر في هذه الدنيا مُنحتها لعلّ مبعثها رغبتك الشديدة في التشبث بالبقاء على قيد الحياة.. ربما.. ربما.. وها هي ذي الروح أرسلت إليك ولكن إلى أجل مسمى قد يطول وقد يقصر نسبة لحساباتكم الزمنية الوهمية. عندئذ أعود إليك كرَّة أخرى ولكنها أخيرة وحاسمة.
اختفى في لحظات.. أدرت عينيّ فيما حولي لاهثاً مضطرباً أبحث عن مغيث.. ولكن.. من هؤلاء..؟ أعرفهم.. ها هم أولاء أولادي من حولي.. أعرفهم.. ذويّ وأهلي.. الأولاد والزوجة.. الأصدقاء والأقارب.. الجزع يطلُّ من عيونهم.. ثم بغتة تنفرج أساريرهم فتعلوها بسمات مشرقة رهيفة فاترة مشوبة بالقلق. الحيرة بادية على الوجوه المضطربة المتوترة فيما كانت الممرضة الجميلة التي خيِّل إليَّ أني رأيتها من زمن سحيق تطمئنهم والبسمة ترف على شفتيها تقول:
ـ ها هو ذا يفيق من أثر المخدر.. الحمد لله على سلامته.. ألم أقل لكم حين كان يهذي طول الوقت ألا تجزعوا فكم هي سهلة عملية استئصال المرارة...!!
ثم جاء الطبيب ليتحدث إليهم وكأنه يعقد مؤتمراً صحفياً:
ـ احمدوا الله على نجاة مريضكم.. أيام قليلة يعود بعدها معافى وفي قوة حصان جامح..! لا أكتمكم ولا أخفي عليكم أن اختلاطات حرجة حدثت إبَّان إجراء العملية أوشكت أن تودي بحياته أكثر من مرة كان فيها يراوح بين الحياة والموت..
صمت قليلاً ليستأنف حديثه مبتسماً قليلاً وهو يقول:
ـ كان يوشك أن تتحقق فيه القاعدة.. الواحد بالمائة إياه دون أسباب واضحة للطب والأطباء. بيد أنه، ربما لرغبته العارمة في الحياة، تغلَّب على الأخطار التي أحدقت به إلى درجة أنه كان يهذي بين الفينة والأخرى.. يتخيل أنه يخاطب الموت.. ولا ندري ماذا أيضاً، مع أن هذا أمر غير مألوف في العمليات الجراحية اللهم إلا فيما ندر. أقول الحق لكم لقد كتب لرجلكم عمر جديد اسمحوا لي بباقي الأجور هناك عند المحاسب..!!
كنت أستمع لما يدور من حولي ولا أستطيع قول شيء لما حلَّ بي من إعياء يصاحبه إحساس غريب بأني آتٍ من مكان سحيق.. تخفت الأصوات.. يسود صمت ويعم هدوء.. أغرق في نوم عميق عميق يمضي بي إلى أحلام بهيجة.. إلى أفياء وارفات الظلال.. وأسراب حوريات بارعات الجمال....
[/align]
انتهت
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 22 / 12 / 2009, 34 : 09 PM   رقم المشاركة : [9]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: لقاء مع ملك الموت .. رواية الأديب د. يوسف جاد الحق

[align=justify]
الكاتب

مواليد: يبنا ـ الرملة ـ فلسطين
• عضو اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق.
• عضو اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين.
• عضو رابطة الأدب الحديث ـ القاهرة.
• عضو رابطة الكتاب الأردنيين ـ عمان.
• الدراسة جامعة دمشق.
• رئيس تحرير مجلة صوت فلسطين سابقاً.
• أمين سر جمعية القصة والرواية باتحاد الكتاب العرب لفترات.
• عضو المكتب التنفيذي باتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين سابقاً.
• عضو لجان القراءة والتزكية باتحاد الكتاب العرب منذ الثمانينات.
• مشارك في مؤتمرات الأدباء والكتاب العرب والفلسطينيين في العديد من البلدان العربية.
• مشارك في الندوات والأمسيات والمهرجانات الأدبية.
• يكتب في الصحافة العربية منذ أواسط الخمسينات في الأدب والنقد والقصة والرواية والزوايا والسياسة.
• كُتب عن أعماله دراسات وأبحاث ومقالات نقدية في العديد من البلدان العربية.
• يسهم في الأعمال والنشاطات في الإذاعات والفضائيات.
• ترجم من أعماله إلى: الإنكليزية والفرنسية والفارسية والأرمنية والروسية.
• عمل عضواً في هيئات تحرير مجلات وصحف عربية. (حالياً الموقف الأدبي).
• كرم في اتحاد الكتّاب العرب 21/12/2008.


من مؤلفات الكاتب

• أشرقت الشمس ـ قصص ـ دار ممفيس ـ القاهرة 1961.
• النافذة المغلقة ـ قصص ـ دار طربين ـ دمشق ـ
طبعة أولى 1965.
• النافذة المغلقة ـ قصص ـ دار الجليل ـ دمشق ـ
طبعة ثانية 1991.
• أضواء على المؤامرة الكبرى ـ بحث سياسي ـ
منظمة التحرير الفلسطينية، مكتب دمشق 1965.
• المصير ـ مسرحية ـ دار أطلس ـ طبعة أولى ـ دمشق ـ 1967.
• المصير ـ مسرحية ـ مكتبة الأنجلو ـ طبعة ثانية ـ
القاهرة 1971.
• المصير ـ دار الطفولة والشباب ـ طبعة ثالثة ـ بيروت / الكويت 1983.
• سنلتقي ذات يوم ـ قصص ـ وزارة الثقافة ـ القاهرة 1969.
• قادم غداً ـ قصص ـ اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينين ـ دمشق 1980.
• الطريق إليها ـ قصص ـ دار الجليل ـ دمشق 1990.
• الأرض ترفض الجثث ـ قصص ـ دار الجليل ـ
دمشق 1994.
• وأقبل الخريف ـ قصص (من القصص الساخر) ـ
وزارة الثقافة ـ دمشق 1996.
• قبل الرحيل ـ رواية ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1998.
• المحاكمة ـ مسرحية ـ اتحاد الكتاب العرب ـ
دمشق 1998.
(ترجمت إلى الفرنسية باتحاد الكتاب العرب ـ
دمشق 2007)
• حتى وداعاً لم تقولي ـ شعر ـ دار الفرقد ـ دمشق 1999.
• حواء وأصل الأشياء (من القصص الساخر) اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 2002.
• القرآن ومحمد (ص) ـ دراسة ـ دار المسبار ـ مطبعة اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق ـ 2006.
• المستقبل الذي مضى ـ قصص ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 2007.
• لقاء مع عزرائيل ـ رواية ـ دار المسبار ـ دمشق 2009.

يطبع قريباً
• أقوال النقاد في أدب يوسف جاء الحق ـ مقالات منشورة ومحاضرات.
• قضايا عربية وفلسطينية ودولية ـ كتابات سياسية ومقالات منشورة على مدى خمسين سنة في الصحف العربية (عدة مجلدات).
• مختارات ـ مضحكات ومبكيات.
• بوذا القرن الواحد والعشرين.

[/align]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 27 / 12 / 2009, 37 : 04 AM   رقم المشاركة : [10]
نصيرة تختوخ
أديبة ومترجمة / مدرسة رياضيات

 الصورة الرمزية نصيرة تختوخ
 





نصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond repute

رد: لقاء مع ملك الموت .. رواية الأديب د. يوسف جاد الحق

مع أني لم أكمل قراءة كل الرواية لكن هناك جزءا أبكاني ; كم من فلسطيني يموت خارج وطنه ومعه حلم أن يدفن في تراب بلده ولا يتأتى له ذلك;كم جيلا سيتوالى و على كم من مقبرة عالمية ستتوزع أجساد الفلسطينيين.

دمت مبدعا أخي الكريم و سأواصل القراءة
نصيرة تختوخ غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
من هو الأديب الحق؟ ومن هو الناقد الحق؟ عبد الفتاح أفكوح أدباء وشخصيات تحت المجهر 1 24 / 02 / 2012 27 : 07 PM
بــرغـــي - قصة - يوسف جاد الحق د.يوسف جاد الحق الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. 2 15 / 04 / 2011 33 : 02 PM
أزمنة الغربة ـــ يوسف جاد الحق د.يوسف جاد الحق كلـمــــــــات 2 29 / 08 / 2010 05 : 12 AM
(الخرز الملون) للأستاذ محمد سلماوي رواية نادرة مضموناً وإبداعاً ـــ د. يوسف جاد الحق د.يوسف جاد الحق نقد أدبي 1 08 / 06 / 2010 56 : 03 AM
الأصدقاء ـــ قصة: يوسف جاد الحق د.يوسف جاد الحق الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. 1 08 / 06 / 2010 48 : 03 AM


الساعة الآن 47 : 09 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى

|