لمَ سفكت دمي؟ تأليف فاطمة يوسف عبد الرحيم
لِمَ سفكت دمي ؟!
قادته قدماه إلى سور المقبرة. بعد أن مضى يومان على خروجه من السجن ،الذي أمضى فيه خمسة عشر عاما من العذاب والقهروالندم على فعلته الفظيعة، ما أقبح أن يكون الإنسان ظالما لأغلى أحبته، أخبرته زوجه أنها ترقد في الصف الثالث بعد السور، سار بين القبور باحثا عن صرخة طوّحت به إلي مهاوي الذل والقهر، خال آهاتها تعلو فوق الأصوات في غابة الموت، تناول غصنا جافا من إحدى شجرات السرو،أخذت أصابعه تكسّره، نزف دمويّ تراءى لبصيرته، سرح بنظراته فوق القبور لعله يستدل على قبرها, وكأنه سمع رنين صوتها يناديه : أبي ، أبي ،أنا هنا، وقف عند القبر، وقرأ اسمها" سلمى العلي "صدى صوت آلامها يرنّ في الآفاق، ضبابية كثيفة تلف مدى الرؤيا،حروف اسمها تحولت إلى أشباح تمزق مسامات جسده، امتدت أصابع يده النازفة لتكتب فوق الشاهد " المغدورة"ابنتي الغالية.
اختنق صوته بالدمع والنشيج المخنوق أيقظ حسرات الزمان، يرجوها :سامحيني يا ابنتي، طوفان الدمع حاصرالمآقي، خُيَّل إليه أن ّ طيفها انساب من القبر ورفيف أجنحتها يُصفِّق بانسيابية ناعمة،جلست في مواجهته، في ثوبها الأبيض وعلى رأسها إكليل من الورود البيضاء.
مدّ يده ليصافحها، تراجعت: لا يا أبي، يداك ملوّثة بدمائي، لا يمكن ملامستك, لن أنسى صورة الوحش الذي خرج من داخلك في تلك اللحظات الرهيبة حين قطَّّّعت أوصالي .
تحدث بقهر: اعترف الحقير بعد فوات الأوان أنّ كلامه افتراء وادعاءاته كانت انتقاما لرجولته؛ لأنك رفضت الاستسلام له
الفاسق خدعني،ملأ رأسي بصور خطيئتك، أبلغني أنك خليلته، تصاحبينه يوميا إلي شاطئ البحر وإلى بيته، كلامه أطار صواب عقلي، وبلا تفكير قررت استباحة دمك لغسل العار .
: أبي، لم تتبين قول الفاسق، نداءاتي الصادقة وتوسلاتي المذعورة لم تخترق عطفك، هان عليك صباي، ألم تذكر شلالات السعادة الهائلة التى أدخلتها على قلبك منذ طفولتي؟، كيف تحوّل هذا الحبّ إلى بركان من الحقد؟، رجوتك حين رفعت ساطورك
أنا لم أفعل شيئا، بريئة يا أبي،أقسم بالله أني لم ارتكب ذنبا حتى تستبيح دمائي وتطلق روحي من عقالها،اسمعني... تحقق من صدقي من براءتي، لكن الغضب الطاغي أصمّ أذنيك وحجّر قلبك .
انسحقت ذرات حجر الشاهد بين أصابعه وأطلق زفرات الندم , لكنّ صدى صوته كان يعلو فوق ارتجافات توسلاتك. خلت صوته يقهقه ساخرا: استبحت عرضك ، سمعتك مهانة،ابنتك تضيء بجمالها غرفة نومي، لم احتمل وقاحته, طار صواب عقلي وأنا الذي يهابه كلّ أهل الحي،إذا تنحنحت يختبيء الشجعان في أوكارهم، وأنت يا صغيرتي تلطخين شرفي وتلوثين سمعتي، لم أحتمل أن أسير ذليل العار منكسرا بعد أن طاولت بشموخ كبريائي عنان السماء.
قالت بحنين جارف : أبي، حبي لك لا حدود له، رغم هيبتك التي يُحْسَب لها ألف حساب أراك حَمَلا وديعا، كنت الأمان الذي تتمناه كل ابنة، لا أنسى ذلك اليوم المشؤوم،عند عودتي من المدرسة أبلغتني أختي الصغرى برغبتك في قتلي، اعتبرتها مداعبة، لم أصدق أن أبي يقتلني وأنا ابنته المدللة.
دمعت عيناه: آه، كنت المدللة، لن أنسى سواد عينيك النجلاوين ولا جديلتك الحمراء المهدهدة على صدرك وابتسامتك التي حملت أصدق حب لي .
:- كنت صادقة، لا أفعل ما يغضبك
كيف صدقته ولم تصدقني؟، كيف هانت روحي عليك لتزهقها كأي كبش من خرافك؟، أتذكر ساعة هويت بالساطورعلى يدي اليمنى وبترتها ؟ودمائي لطّخت جبينك مددت يدي اليسرى لأمسح الدماء عن جبينك "صرخت بلؤم
يا ساقطة،تمسحين دماءك النجسة عن جبيني وهويت بساطورك على اليد اليسرى " ذبيحتك أنا ,أنا ،أنا ،أنا، لحظتها استنجدت بأمي التي كانت تقف عند الباب، افترش الغضب قسمات وجهها، نظراتها شاردة، لم تلون ملامحها أيّة شفقة ،أيّة صرخة خرساء، عيونها جامدة لم تنزّمنها دمعة واحدة, شلال الدمع انفجر في داخلي، كلّ جدران الغرفة اصطفت لتكون حاجزا بيني وبينها، لؤم صوتها وصل إلى أذنيّ: أرحنا من عارها،وسلّم نفسك للشرطة وقل لهم مفتخرا بأنك مسحت عارك بيدك، وكأن كلماتها بددت روحي قبل أن يهوي ساطورك على عنقي ليفصل رأسي عن جسدي .[/color]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|