مديرة الموقع المؤسس - إجازة في الأدب ودراسات عليا في التاريخ - القصة والمقالة والنثر، والبحث ومختلف أصناف الأدب - مهتمة بتنقيح التاريخ - ناشطة في مجال حقوق الإنسان
الكتابة والوطن.. - الكتاب الفلسطيني - طلعت سقيرق
[align=justify]هو القادم من لغة الوجد حتى الشريان، وهي المغسولة بكل مطر الروح ووجع الانتظار.. يصعب أحياناً أن يمتد جسد اللغة خارج حدود هذا العشق المتجذر فينا لوطن أدمنا حبه حتى صار الهواء جزءاً من تركيب وترتيب أنفاس حروفنا.. من هنا جاء نبع اللغة فيضاً مسكوناً بشوارع وبيوت وشبابيك ووجوه الناس في البلد.. وهل كانت الكتابة على ما هي عليه من طلوع جميل رائع، لولا هذا الهيام المتأجج ناراً ونوراً فينا، وكأن الحروف ما كانت ولايمكن أن تكون، في انفراد الأصابع على الورق، لولا إدمان الوطن عشقاً حتى آخر خفقة في القلب..
من القدس إلى القدس، ومن شارع إلى شارع، نفتح اللغة كي تكون ملامح وجوهنا في التعبير الأسمى عن علاقة الإنسان العربي بأرضه، وعن علاقة الفلسطيني المذهلة بكل حبة تراب.. يصعب على الذاهب في العتمة أن يفهم كيف يتدفق كل هذا الدم ولا تتوقف الضحية رعباً أو فزعاً من آلات البطش والقتل والدمار.. ويصعب أن يفهم سارق البيت لماذا يقدم الفلسطيني الجسد والروح والدم دون تراجع أو تراخ.. دائماً تكون المعادلة الجائرة غير منصفة في ترتيب اللغة وفي فهم ما يدعى ضميراً عالمياً، إذ من المذهل حقاً أن يتحدى الحجر دبابة وطائرة وغربان خراب.. ومن المذهل حقاً أن تقدم الأم ولدها عريساً في عرس الشهادة الطويل.. لكن من المرعب أن ننظر إلى العالم وهو يرى إلى كل ما يجري ولا يقدم صرخة قوية مدوية توقف زحف الدبابات والرصاص والإجرام الصهيوني ضد الأجساد الطرية لأطفال ما أتيح لهم فسحة من زمن كي يتعلموا كيف تكتب الجمل الطويلة في حب الوطن، لكنهم ومع النفس الأول تعلموا أن يصرخوا فلسطين عربية وستبقى عربية.. وكان الأجدر بالعالم الذي رقص وهلل لدخوله القرن الحادي والعشرين أن يضع النقاط على الحروف، ليقول بصريح العبارة إنه من حق الفلسطيني أن ينعم بالسلام، ومن حقه أن يخرج من حمام الدم..!!..
هي اللغة إذن.. وهو الوطن.. وفي التكوين والتشكيل كان الإنسان المذهل في عشقه لأرض الآباء والأجداد، في حبه الذاهب حتى العمق لأرضه، وإصراره الذي أرعب جنود الاحتلال على فتح صدره العاري كي يسيج بالدم والروح والقبضة المقاومة وجوده وحقه.. فما تعود غربان الليل، أن يروا التسابق والتدافع إلى هذا الحد في وجه السلاح الفتاك، والدمار والنار.. ذلك أنهم ما عرفوا من قبل، ولن يعرفوا أن الوطن أغلى من الرمق الأخير وأعذب..
نكتب لا لأن اللغة مفتاح عمرنا إلى قصيدة ترسم ملامحنا في حب وطن، ونكتب لا لأن اللغة تظهر إلى أي حد ندمن الوطن ونفتديه.. ولكن نعاقر اللغة ونداخلها، لنكون في الوطن الوطن، وفي المنفى الشوق والحنين والقسم والعودة.. وحين تركل حروف الجر كل التواقيع وتجرها إلى برك النسيان والذوبان، نشهد واللغة فينا أن الوطن امتداد لعمر، وأن الوطن ارتداء لكل فضاءات الانتظار، طال الزمن أو قصر.. ذلك أن التفريط بذرة تراب واحدة أمر غير قابل للنقاش.. فالوطن الذي نريد لغة ووجداناً يمتد من شمال القلب فلسطين إلى جنوبها، ومن جنوبها إلى شمالها، ولا معنى لوطن يخلع المحتل معطف الروح فيه وعنه، ويبقى أمام العيون شاهداً على أن العتمة مازالت باقية!!..
في صفاء اللغة نقول لكل مدمن عشق وطن، ولكل مدمن شوارع وطن، إن فلسطيننا لا تكون إلا بتمامها وكمالها وبهائها بعيداً عن نفس واحد من أنفاس الاحتلال.. ومن يقرأ شلال الدم الفلسطيني يعرف أن العاشق إلى هذا الحد، وأن المحب إلى هذا الحد، وأن المعطاء إلى هذا الحد، لا يمكن أن يفرط
بذرة تراب واحدة..