جن الظلام الحالك في عينيه، وأحال الليل الهمس والسكون في ذاكرته، تراءى له سور المحكمة العتيق مهجورا منعزلا في ضاحية مدينة الساحل، كقلعة هياكل وجماجم تحتضر بين أشجار الصنوبر الباسقة الهرمة، تضم أذرعها وتبسطها حين تنقض العاصفة. وجهه الشاحب هناك.. يظهر من النافذة في أعلى البرج العتيق، تبرق عيناه حين وميض البرق ثم تختفي ملامحه وسط العتمة، كان جالسا على الكرسي كصخرة لا يتحرك والمارد يزحف ببطء متقدما نحوه بين الأدغال، يراه يقترب منه ممسكا بمنحدر الخط المائل على جدار اللا نهاية، يتمثل على الحائط المبقع المهترئ كرش عشوائي من الألوان القاتمة، تجسدت فيه أشباح ساجدة تبتهل لمحراب الخوف حين وميض البرق، تلتف شقوقه الملتوية كسوط يفجر بركان الغضب آناء الرعد؛ فينسكب السيل بين خلجاته كدماء ظلال خلف المنحدر العالق وسط السور العتيق، حينها تعلو التراتيل الصاخبة المغشوشة بالأنين والعويل والألم، ينأى لها الفجر بعيدا ويندحر الشفق، يصرخ محاولا النهوض من مكانه لكن رجلاه ويداه مغلولتان بإحكام على الكرسي، تمرجحه أشباح الظلام وتحاوره.. كصوت جماعي تعلو دوائره على سطح الماء فتتسع رويدا رويدا يرتد صداها من عمق بعيد
- امتطينا صهوة الدهر والقرون..........
- نحمي القلاع.... ونحمي الحصون.......
- نبتهل في الظلام كل ليلة.......
- يا رب القراع.... والإله الحنون......
- املأ الأقفاص. املأ السجون....
- لن ولا تحرر العقول...
- لن ولا ولم ونون...
- نحن إنا هاهنا...هنا قاعدون.....
غادرته الأشباح تتمايل فرحا وابتهاجا يتبعها صدى النشيد، وتتلاشى الكلمات؛ تتوارى ظلال الحروف خلف الظلام فينقطع الضجيج ويعم الصمت والسكون.. نادى عاليا لعل فكره الساكن وسط الكنه المظلم يسمعه، لكن عقله المشغول بمشاعر تظهر وتختفي يحجبه ستار الرفض، تارة تعود وتتلاشى في محيط العدم كهوة مظلمة تمتص كل إحساس بالواقع، تمنع عن وعيه الإدراك أو الاستجابة لندائه:
- آه يا مؤنسي المسلوب خلف جدران الهاوية، ليتني أستطيع تحرير هذا الفكر المسكون بالفوضى والضوضاء، أطرد عنه الأشباح اللعينة، أكسر هذه القيود والأغلال التي تطوقني؟ ليت هذا الصمت الصارخ المتهاوي كشلال في قعر سحيق بلا هوادة يتمرد.. يرتج كزلزال.. يثور كبركان الغضب، يعلو سماء هذا البرج العتيق، المسكون بالظلال؛ يكسر جدرانه المسورة بالاسمنت المعجون بالعظام، المرصوص بالصلب ولحم البشر المفروم ببأس الحديد والمقصلة؟
يسمع صوتا جوهريا كأنه قريب منه يهمس له:
- أنا أحررك
- أنت..!؟ من أنت؟
- أنا أنت
-أنت أنا وأنا أنت!... وهو من يكون؟
- سكون بين النوم واليقظة، حركة بين الغفوة والكرى، حقيقة بين الحلم والواقع، وعي بين الكائن والممكن هو سرد بين الثابت والمتحول..
- ألا يخضع لسلطة الزمن ؟
- هو الماضي من الحاضر هو الحاضر من الآتي، هو الشاهد من الغائب هو رغبة في التمرد، هو شعور بلذة القوة والامتلاك والجبروت..هو منعطف يعيق مياه النهر ليغير مساره
- كيف يمكن إيقافه ؟
- أن تتمدد على السرير، واحك بالتفصيل عن عودتك بعد الغياب الطويل، عد بذاكرتك.. تحرر من سلطة الزمن قليلا؛ سوف تجده؛ ينتظر عودتك..
- كيف والأصفاد تطوقني؛ والمارد هناك يترقب لحظة الانتقام، وحراس الظلام لم يبرحوا القلعة بريق أعينهم يجرح الرخام، تراتيلهم هنا تزعج السكون وتحجب النور بالظلام؟
- هو من شيد القلعة وأنجب الحراس، هو المارد الذي يظهر حين وميض البرق ويختفي حين بزوغ الفجر.. هو الأعين الماكرة التي تحجب النور برداء الظلام، ابحث عنه جده قبل أن يجدك.
استرخى على السرير بعناء وكأن إيماءات الصور المتدفقة من الذاكرة أذابت تلك الأصفاد، والقلعة زحفت بعيدا وسط رقعة الماضي الحاضر الآتي، بحثا عن عناصر جديدة في بنية الأوان الثابت، لا يفتأ بنيانه يكتمل حتى ينهار تحت حوافر الفرسان المقنعة، مكان حقيقي يبحث عنه داخل نفسه وبين طيات ذاكرته، كسراب بعيد لا يكاد يميزه أو يحكي عنه بالتفصيل، تجلى نبعا من غدير عذب رقراق يرنو إليه متشوقا لرشف نبغة من فيضه، يشفي بها حرقة الظمأ لإيجاده.. هناك حيث عقارب الزمن كفت عن الدوران؛ تقلصت فيها الحياة منذ البدء كذرة تسبح في الآفاق؛ تعبر المسافات خلف جفنيه المغمضتين وتختفي في لمح البصر، كشفت عن صور من الذاكرة؛ تنعكس كمرآة تشرق في فضاء تنعدم فيه الثواني ويخنع له الزمن...
استوقفته المشارف المرتفعة بين الجدية والجبل، فيها الطفولة عبث والكهولة ملهاة مأساة على حافة الوسن، تقلب على السرير في خضم مواجعها لظى، أدكت في فؤاده قطعة من العذاب والألم، بدت له الأرض جرداء قاحلة؛ والمنازل مهجورة ومصير الأحبة قد صار تيها وضياعا.. جلس بين أطلال أعتابها الخالية المتجذرة في أعماق الأرض، كقاطنيها الذين تربطهم أواصر القرابة؛ يشد بعضهم بعضا، جمعتهم حتمية العيش المشترك وطبيعة البقاء، لكن قدوم الشاحنات اللعينة دمرت قهرا بنيانها المتماسك، وفرقت سبلها واغتالت أحلامها؛ حولت قرية الحب والسعادة إلى أطلال تئن الرياح بين عروشها كمدا مما ألم بها من هجر وشقاء. تأمل كل ركن جامد متحجر كئيب أعياه الهجران، يحفظ بين صخوره وتحت ركامه جرة ماء أوخلخال من فضة نقش عليه اسما أو لقبا راسخا يحكي لمن أماط عنه الغبار، عن المكان المفعم بالحياة والأمل.. هذا منزل العم قادر وهذا منزل الحاج لوليفي العامر، تجتمع النسوة بقربه يغزلن الصوف وينسجن الزرابي المزركشة ذات الألوان الباهية.. هنا تجلس فطوم العجوز؛ تدير خلية من النساء تعلم الفتيات ولا تنقطع عن الحديث، ممسكة بيدها معول الغزل مسترسلة في الكلام عن ألم العظام، الذي يمنعها من الوقوف وأنواع الأعشاب والمطارف التي لم تجدي نفعا في تخفيف الداء، ملتفتة إلى مساعدتها تلكزها بمعول النسيج قائلة:
-"برمي الخيط يا العفريتة" وتستأنف حديثها عن فتيان القرية وفتياتها: أحمد ابن الحاج الزاوي مقدم على الزواج.. ورشيد أتم حفظ القرآن صغيرا، ثم تنهي حديثها بذكر الأغنام والأبقار، وعن بقرتها الحلوب وما أحوجها إلى عجل ذكي منها يستوعب ما يخاطب به، معتزا بأميسيته يرعو ميراث أمه ومحارمه،.. ضاربة على أعقد الصوف بقوة لتشكل خطا مستقيما متناسقا كعناقيد مرجانية ملونة لا يشوبها الاعوجاج، ثم تلتفت إلى الأخرى تلكزها بعصا مقياس الخطوط الطويلة:
-"بالك عل المخطاف يا لجنية"..
وتأتي على ذكر الصندوق العجيب الذي ظهر إلى الوجود يتحرك الناس بداخله بفعل فاعل، ويعمل بقوة الكهرباء وتحمد الله على عدم وجوده في القرية، فهو سبب البلاء وغضب الله؛ نفخت فيه الجن من روحها الشريرة ليضل الناس عن السبيل، كما قالت عنه السيدة خدوج زوجة الفقيه صالح، الذي قال عنه: "أنه عمل غير صالح من فعل الشيطان.." وليس البشر كما يزعمون. فإن لا قدر الله جاء به أحد إلى القرية سوف يصيب سكانها وأنعامها بسوء ويشغل الناس عن عبادة ربهم، والانصراف عن مآربهم.. لكن السيدة عويشة كان لها رأي آخر رغم أنها لا تجرؤ على معارضة اللافطوم، لما تحظى به من احترام؛ فأخبرتهن بصوت أقرب إلى الهمس:" بأن زوجة السي يحيى قد أخبرتها بأن زوجها جلب الجهاز العجيب من المدينة، يحتفظ به في صندوق محكم الإغلاق، ولا يجرؤ أحد على الاقتراب منه؛ إلا أنها طلبت من اللا فطوم أن يبقى الأمر سرا بينهن نزولا عند رغبة زوجة السي يحيى، لأنها وعدتها وأقسمت لها أغلظ الإيمان أن لا تفشي السر. انتفضت اللافطوم واهتزت من مكانها بسرعة فائقة، لم يمنعها جسمها المترهل البدين من النهوض؛ رافعة يدها إلى الأعلى رنت لها بقوة تلك الأساور التي تغشى ذراعيها من المعصمين إلى المرفقين، والعقد المتدرج تملأ أواسطه الصدر بألوان وأشكال مختلفة، وطوق من الفضة والذهب تتدلى أهدابه المستديرة على الجبين، وخلاخل تحيط بالكعبين كأنها حلي لضرب أجراس نواقيس؛ أم أصوات مراتيج لم تضرب، وهي تدب مسرعة يدحرجها المنحدر بين الزقاق الضيق كصخر عظيم يهوي من أعلى الجبل، يدوس كل ما يعترض طريقه غير مبالية بألم العظام مرددة: "- اللهم لا تآخذنا بما فعل السفهاء منا...الكافر بالله يحيى ما يحشم ولا يستحيا.." إلى أن دخلت منزل الحاج لوليفي مهرولة لتخبره بالأمر الجلل، والمصيبة التي جلبها يحيى من المدينة وبالا على القرية وما جاورها، فلا بد للشياطين تحررت من الصندوق وانتشرت في القرية وفعلت أفعالها المشينة وهم في غفلة عنها ولا يعلمون، حاول زوجها "قادر" أن يهدأ من روعها لكنها أسرعت في رش أركان المنزل بماء المزن المطهر وإضرام جمرات لحرق البخور، فامتلأ المكان بالدخان ورائحة "الشبة والحرمل" لطرد الجن والأبالسة التي جلبها الكافر بالله يحيا، فاستعاذت بالله طالبة الهداية له؛ فمهما فعل فهو ابن عمتها...
انتشر الخبر كما تنتشر النار في الهشيم، ولم يعد الأمر سرا بين عويشة وزوجة الحاج يحيى، بل على لسان الكبير والصغير وحديث اللغو في المجالس، لم يستطع "السي يحيى" نكران الموضوع، فنازع زوجته على ما أقدمت عليه وقرر الحضور إلى مجلس شيخ القرية وشرح وجهة نظره، رغم علمه معارضة القوم الفكرة جملة وتفصيلا، فما أتى به يعتبر خروجا عن تقاليد القبيلة وأعرافها وإخلال بمكانة كل فرد من أفرادها، فتخلل الحوار نقاش حاد وجدل عقيم؛ أقنعهم يحيى بأنه شاهد في الجهاز العجيب أمورا تساعد على الزراعة والحرث والري والحصاد، آلات وتقنيات عجيبة لابد من معرفتها لتنمية المحصول، فوافقوا على مشاهدته، شرط إذا جاءت البينة صادقة على ما ادعى في شهادته، وازداد فضول بعضهم معرفة ما يحويه الجهاز من عجائب الغرائب، لكن يستحيل إنارة زجاجة هذا القنديل العجيب الذي يخفي بداخله قطع من حديد تتكلم بلسان فصيح، والكهرباء لم تعرفها القرية إطلاقا، وأي قوة هذه سولت لها نفسها تمديد خيوط الإنارة مئات الأميال؛ بين الجبال العالية وفوق الأنهار الجارية ووسط الغابات الكثيفة، لإضاءة القرية النائية فضلا عن إنارة الصندوق العجيب، إلا أن رغبة القوم تبدو ملحة في استكشاف الأمر والتأكد مما سمعته الأذن ولم تراه العين، فاستنتج يحيى رغم إحجامهم في أنفسهم غصة الفضول لمعرفة ما في الجب من أسرار، فقال لهم بابتسامة ماكرة؛ بأن الجهاز يعمل بواسطة بطارية الشحن التي في حوزته، ولا يحتاج إلى قوة الكهرباء، فبدا السرور على وجه شيخ العشيرة رغم تظاهره بعكس ما يرتد عليه طرفه، فاجتمعوا بالساحة الفسيحة رجالا ونساء؛ ينتظرون في شوق ماذا سيعرض عليهم هذا الصندوق العجيب تحت ضوء القمر..؟
زين العابدين إبراهيم
جامعة بيرزيت ، رئيسي الكيمياء / فرع التسويق، تكتب الخواطر والقصص القصيرة
رد: البوهالي 4/ صور من الذاكرة
في صراعات الحياة ، يتخبط الإنسان بين الماضي والحاضر ،
بين المحسوس والملموس ، بين الحقيقة والوهم ،،،
وقد تصل به الأمور إلى عدم معرفة ما يريد وما يهوى ....
تتغلل في النفس تساؤلات وتأوهات تسيّره إلى نهاية ما ، قد يتوقعها ،،
تغمره أحاسيس كتلك التي يشعر بها عندما يمزق غلاف هدية عيد ميلاده
وبعقله يدور حوار عما ستكون الهدية !!!!!
دمت مبدعا عزيزي
ودي ووردي
دبت حركة غير عادية في ساحة القرية؛ والأنظار كلها متجهة إلى "السي يحيى"، وهو منشغل بتوصيل أسلاك البطارية إلى الجهاز وأغلبية الرجال يقفون حوله يقدمون المساعدة ويجودون بآرائهم، أو لفت نظر كبار العشيرة أن لهم إلمام في ذلك، أما شيخ الكتاب لفقيه صالح الذي يجلس بين الحاج لوليفي وشيخ القرية؛ فكر مليا في أمر يئول له فيه الحضور والرأي فقال بصوت مرتفع:
- يا يحيى حرام أن يوالي الصندوق ظهره للقبلة فجنبوه ذلك ولكم الأجر والتواب.
فقال شيخ العشيرة:
- إيه... من دونك يا لفقيه صالح، لبهايم ما تعرف تقبل واللا تدبر...
ضحك من في المجلس؛ وارتسمت ابتسامة عريضة على وجه لفقيه صالح مما أفاضت عليه هذه الكلمات من اعتزاز بالنفس، فتنحنح مقتربا من كبير القوم يهمس في أذنه فضحكا معا وضحك الجميع دون معرفة السبب!
أخذ القوم برأي لفقيه صالح ثم أعاد يحيى الفك والتركيب من جديد، أما اللافطوم تراقب من بعيد ما يجري في الساحة وتتمتم ما تحفظه من آيات، ينتابها شعورا بالفضول وإحساسا بالخوف، وعويشة التي اتخذت مكانا بعيدا عن اللافطوم صائمة عن الكلام ضاربة وجهها بالخمار؛ احتجاجا على ما أقدمت عليه اللافطوم بإفشائها السر الذي فرق بين يحيى وزوجته، التي لم تحضر إلى ساحة القرية؛ ولغيابها أثر كبير بينهن لما تمتاز به من صوت جميل في الغناء والمواويل وخفة الروح وأخبار ساخرة، تضفي الغبطة والسرور على مجلس النسوة اللائي يراقبن في شوق وصمت رؤية ما بداخل الصندوق العجيب.
بدل يحيى جهدا كبيرا للتمييز بين السالب والموجب، فنجح في نقل حرارة البطارية إلى الصندوق لتسري شحناتها في أسلاكه، فاشتعلت زجاجته المستديرة بضوء أبيض ناصع وصوت مرتفع مشوش مصحوب بنقط لا متناهية وخطوط متتالية تظهر وتختفي، فقال شيخ الكتاب لفقيه صالح:
- لطفك يا رب
أسرع يحيى في محاولة ضبط الصورة لإحساسه بأن القوم نفذ صبرهم، واستطاع تحديد جهة الإرسال واتجاهه الهوائي، فاستلم الصندوق العجيب وضوح الرؤية واستقبل البث الإذاعي بشكل صحيح، فظهر على الشاشة باللونين الأبيض والأسود رجل جميل المظهر حسن الطلعة رخيم الصوت، يرتل آيات بينات من الذكر الحكيم بصوت شجي لم يسمعوا مثيلا له قط إلى قوله تعالى:
-"...يا أيها الذين آمنوا اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا.."
فاطمأن الجمع وهدأ روعهم، وتعالت الأصوات مهللة مكبرة، أحس يحيى بالفخر والامتنان والرضا، فقال شيخ الكتاب مندهشا معجبا بما شاهده وسمعه:
- سبحانك ما هذا صوت بشر كأنه ملك كريم..
أما اللافطوم بدا عليها الندم على ما أقدمت عليه في حق عويشة ويحيى وزوجته، فأسرع يحيا لإنهاء البث على ما هو عليه لكن القوم أصروا على المتابعة إصرارا، خصوصا إلحاح شيخ القبيلة مشيرا بعصاه منفعلا بأن يدع الصندوق وشأنه، ليواصل مؤانسته لهم وإمتاعه، انتهت على إثرها التلاوة العطرة تلاها برنامج وثائقي يفسر ويشرح وظائف الأعضاء البشرية وتكوينها، من خلية لا ترى بالعين المجردة إلى أجنة سوية داخل الأرحام، موضحا بالصورة والصوت عملية التناسل أو التلقيح الطبيعي وكيفية تفاعل الأجناس الحية وأنواعها في تزايد وتكاثر منظم، كحقل معرفي مادي ملموس دقيق متناغم عم الوجود بحروفه وأعداده وبكلماته وروعته...
هرولت النساء إلى منازلهن خجلا مما رأوه، واحمر وجه يحيى وتصبب جبينه عرقا، أما الرجال تصلبت أجسادهم واشرأبت أعناقهم كما لو أصيبوا بصعقة من السماء، ينظرون إلى يحيى في ذهول، يتساءلون عنه في أنفسهم: أنموذج هو لمعرفة تقنيات الحصاد والمحراث الجديد، أم لرؤية محراث الجنس والنسل الشديد، تمكن حينها الفقيه صالح من استجماع قوته وكسر الجمود الذي أصاب القوم من هول ما شاهدوه، وقال بأعلى صوته:"
- والله يا يحيى ما كان أبوك امرأ سوء.. ولكنك أنت يا يحيى والله ما تحشم ولا تستحيا..
فقال قادر:
- اللهم إن هذا منكر..
فقال الحاج لوليفي:
- الشيطان المطرود من الرحمة يخجل من نفسه يدير هاد الفعلة.
فانتفض شيخ القرية قائما من مقامه؛ ليحسم الأمر نهائيا ضاربا بعصاه على الأرض، فقال على لسانه لفقيه صالح:
- اسمع يا يحيى، الإنسان خطاء وخير الخطاءون التوابون،صندوق إبليس ما يبات ما يصبح فالدوار؛ وأنت تختار مابين ثمانين جلدة على ظهرك، واللا ربعين ليلة برا الدوار، تتوضا فالواد الوضو لكبير وتستغفر وإن الله غفور رحيم.
وانصرف إلى منزله راضيا بما أصدره من حكم؛ وانفض جمع القوم من حوله ولم يتفوهوا بكلمة واحدة.
طأطأ يحيى رأسه وجلس وحيدا محتارا وسط الساحة بعد أن تشذر القوم عنه وتفرقوا، لم يتوقع أن الصندوق يحمل في جبته صورا تجاوزت الخطوط الحمراء، اخترقت جدار القواعد الثابتة، صورا لا تراعي القوالب الجاهزة ولا ما خلفته مآثر متراكمة تحت رواسب الجبال، حاول إيجاد مبررا لما حصل وشرح وجهة نظره بصيغة مختلفة أو جديدة، لكنه لم يستطع مواجهة غضب القوم عليه، فشيخ العشيرة نقر الأرض بعصاه وغادر المجلس تشتعل ملامح وجهه حنقا، وهذا السلوك رمز لأمر يعيه الجميع وقرار مقدس لا رجعة فيه، أما ابن عمه قادر أنآه بيده قائ
-" بعد على طريقي يا الزنديق".. متجها صوب منزله ليخفف عن اللافطوم ما راعها، ويجبر خاطرها في ما أصابها من ابن عمتها يحيى الذي وجد نفسه وحيدا أمام صندوق يبث صور فيض الخلائق قبل أن تعقل نفسها وتغادر، فلم يكن له من الأمر بد؛ إلا أن تناول فأسا هوى بها على صندوقه عشر ضربات، انتزع بها عقله من عقاله، وأخرس حديده عن حديثه، اندثرت لها شظايا محاسنه من مساوئه في الساحة الخضراء، فوقف بين حطامه متهكما ساخرا قائلا له:
-" لو علم الصندوق ما في الحسبان مصيره.. لأظهر لشيخ العشيرة احترامه... واستعرضه قائما متعبدا ساعيا للخير حاله... يسوق بالكبرياء حماره... يلوح بيسراه للغداة عزا بمهارة... لهتف القوم وصفقوا بحرارة... ولما استعجل الفقيه فتواه جورا متهافتا بالجلد أو النفي أخذ قراره.." فشد الرحال وسرى لتسلي الليالي الأربعين عنه ثوبها المتحامل، حلقت فيها الأرواح الشريرة بعيدا إلى غير رجعة، لينقطع البث نهائيا في سماء القرية.. لكن اللافطوم قالت لزوجها وهي بين السهد والنوم:
- لن تهدأ هذه الأرواح اللعينة حتى تدمر القرية تدميرا.
ما قالته اللافطوم لزوجها ترسخ كالوشم في ذاكرة القرية، وكل مكروه يقع فيها ينسب إلى روح الصندوق الشريرة.
هنا تحركت عقارب الساعة من جديد، وتحرر الزمن من قفص السكون إلى فضاء الحركة، أربعون ليلة أيقظت أجنحة الأعداد والثواني لترفرف على ضفاف الأيام، انقسمت فيها الآراء وتعددت الرؤى حول ما جرى في ساحة القرية، للفصل مابين الحقيقة والخيال من اتصال، لأجل ذلك فتحت الطريق لفئة منهم على مصراعيها نحو المدينة رغم بعد المسافة لمعرفة الأشياء ولمسها عن قرب، والوقوف على حقائقها بعيدا عن غضب شيخ القبيلة وفتاوى لفقيه صالح، الذي صارت آراءه بين أوساط العارفين منهم تنأى عن السماع الطبيعي، وتمشي منكبة على رأسها بدل السير سوية على قدميها في الطريق الصحيح.....
زين العابدين إبراهيم
إنها صور تنبض بالحياة بين أطلال القرية الصامدة وهذه المنازل المهجورة، حقيقة تحتضن مكامن الحزن والفرح؛ تستعيد بين جوانب بيوتها وتحت أسقفها الخشبية حكايات وأسرار لا تتغير حوادثها رغم تغير الرياح في باحاتها وحجراتها المستطيلة، وبين فجوات أبوابها الخشبية الفارعة المفتوحة، لا تخفي ما تكنزه؛ إلا منزل عياش تأبى الرياح العاصفة أن تهب بقربه، ذلك الرجل الذي نضحت عروقه دما في ساحة القرية؛ ندما على ما أقدم عليه، رغم ما عرف عنه من جود وورع يعمل في بستانه بجد وعناء ليقري الضيف ويطعم أبناءه من عرق جبينه، أطفال القرية يعشقون بستانه لما يحويه من أشجار مثمرة وأزهار متنوعة، تتألق جمالا إبان موسم الزهور، وزاده رونقا وبهاء عين جارية تنبجس مياهها وسط البستان؛ تسقي الحرث وتروي زرعه وحقول جيرانه.
الطفلة زهرة ابنة أخيه تهوى ملاحقة العصافير والفراشات في حقله الوارف، لكنها لم ترجع من البستان إلى منزل أبويها كما اعتادت كل مساء، ولم تأت بصحبة عمها كما في أغلب الأحيان، فانتشر خبر اختفائها ونفر الرجال كبارا وصغارا على جيادهم يثيرون نقع المسافات، حاملين المشاعل والقناديل يجوبون الغابات وفجوات الجبال، سالكين طرقا وعرة وسبلا متشعبة، لكن زهرة ليس لها أثر حتى في قعر الآبار المجاورة اعتقادا منهم أنها سقطت في إحداها، فساد الظن أن الوحوش الضارية انفردت بها وسط الغابة المجاورة والتهمتها، فقال قائل: جرفتها مياه اليم بعيدا فغاصت في أعماقه. فكثرت الأقاويل والإشاعات عن اختفائها، لكن لا أحد يجزم القول أو يأتي بالخبر اليقين، فانقطع الرجاء في عودتها ولم تجد أمها الثكلى سلوانا في ما أصابها سوى الجلوس قرب فراشها وتفقد ملابسها، أما أباها "عياد الصوفي" لم يستطع إخفاء حزنه بين الناس لما يكنه لها ولأختيها حبيبة وزينب من محبة جمة، لكن قلبه المنفطر يخفق أملا لرؤيتها من جديد؛ ترتمي على صدره وتنام في حضن أمها، فكلما ألقى نظرة على اللوح والسمخ والصلصال وريشة القصب المبراة ما خطت به أناملها عليه، اغرورقت عيناه بالدموع واحتر فؤاده حزنا وغما وكمدا، تجادله حرقة فؤاده مما يفهم من حديث النفس، لتتزاحم الأسئلة لغة صائتة بين شفتيه، كنسخ مرسوم على لوح فقيدته بحثا عن دلالات مقنعة تشفي غليله ويطمئن لها قلبه، بعد أن جاب الغابات والقفار وهو العليم بما في غياهبها من أسرار، وجال كل القبائل والقرى ولم يأل رجالها له سندا وهو العزيز بين قومه والفارس المغوار، فسأل عنها كل ركب لكن لا أحد لديه العلم اليقين، فإن كانت الطفلة زهرة قضت نحبها فأين جثتها؟ حتى وحوش الغابة لا يضيرها إخفاء معالم جريمتها، فهي براء من دمها، فإن كان اليم ابتلعها فإن جريانه الكاسح لا يعيبه طفو جثمانها في إحدى سواحل القرى البعيدة أو المجاورة، فالنهر براء من إغراقها.. فكيف اختفت؟ وأين؟ ولماذا؟ وهل لأحد مصلحة في اختفائها؟ ومن يكون؟... كلها أسئلة تزاحمت في مخيلته تنبع من عاطفة أب فقد صغيرته، فلن يهدأ له بال إلى أن يجد جوابا لكل سؤال يجول في ذهنه، فمهما بلغ عياد الصوفي وزوجته رقية في حزنهما على ابنتهما، فان عمها عياش سقط أرضا مغشيا عليه حينما علم بالأمر بعد عودته من سفره، فصار شديد التوتر منقطعا عن عمله، قابعا في منزله يثير الشجار مع زوجته لأتفه الأسباب.
اجتمع القوم في مجلس القبيلة إلا عياش لم يكن من بين الحاضرين، لأنه كان مشغولا في تجهيز محراثه الجديد الذي اشتراه من المدينة؛ مقترضا ثمنه بشق الأنفس كما قال لأخيه عياد فقال عنه الفقيه صالح:
- مسكين عياش حبه لزهرة أفقده صوابه، كلما دخل جنانو وتذكرها يجلس يبكي.
فقال الحاج لوليفي:
- زهرة بنتنا كلنا والله يصبرنا على المصاب..
قال قادر:
- إنا لله وإنا إليه راجعون "
ثم أضاف موجها كلامه إلى عياد"
- يا بن عمي يكفيك ما تجري فالغياب، راه لحصان عيا والمكتوب ما عليه هروب، إلى كانت البنت حية القبايل اجيبوها لعندك، والا قدر الله توفات" كل نفس ذائقة الموت" والمومن الصابر يكتبو الله عندو مع الأولياء والصالحين فجنة الخلد، والتفت إلى لفقيه صالح ليعزز كلامه مضيفا:
-" ولا شنو رايك أ لفقيه صالح ؟
كأن لفقيه صالح كان مستعدا للجواب، رافعا يديه إلى السماء خاشعا متضرعا متمتما، لم يسمع أحد ما قاله سوى ما اختتم به دعاءه:
-"... وكفى بنا حاسبين"
فقال بنبرة أقرب إلى الخطابة المفعمة بالوعد والوعيد، موجها نظره إلى شيخ العشيرة ملوحا بسبابته إلى الجمع:
- سمعوا يا هاذ الناس كلام الحق وديرو بالكم، كلشي مكتوب عند الله فالسما السابعة؛ واللي ما تجازى فالدنيا يشوف عذابو فالآخرة...
فقاطعه يحيا قائ
- واه واه واه!! أش كاتعني أصالح!؟ علاه أشنو درنا من معصية باش يعذبنا الله فالدنيا ويزيدنا فالآخرة..خف علينا شويا.. وبزاف ألفقيه!! عيق شويا "
وتابع بصوت منخفض سمعه من هو قريب منه "
- كفانا عذاب معاك فالدوار، شوف لك حد غيرنا فالآخرة حتشم من لي عدالك ترانا مو بجهال عندك.
رغم حساسية الموقف لم يستطع بعض الحاضرين كبت الضحك، وتبادل إشارات موحية بالهمز واللمز، ونظرات الاستهجان حول لفقيه صالح.. تنحنح حينها من مكانه واعتدل في جلسته، بعدما كان متكأ على زنده صوب شيخ القرية مصعرا خذه للحاج لوليفي يحرك فكيه ويتلو كلاما في جوفه غير مفهوم كمن يجتر ما في بطنه المنتفخة ما التهمه، لم يتوقع أن يقدم يحيا على معارضته؛ فارتعدت فرائصه خوفا أن يفهم عياد كلام يحيا بشكل آخر غير مقصود، لأنه يعلم جيدا بالرغم من أخلاق عياد العالية وتجنبه لمواطن الهزل وإعراضه عن اللغو، فانه جاد في معاملة الجميع صغيرا كان أم كبيرا، إلا أن غضبه كالبحر إذا كان مزبدا، كل القبائل القريبة والبعيدة تعرف بطشه إذا صال، ولا يخشى في قول الحق ملامة لائم، وان كان في حق أقرب الناس إليه، حتى الضباع والذئاب الشرسة التي لها رخصا ما اختلست عرضا والذي ضاعا؛ لا تجرؤ على الاقتراب من ماشيته، فكم مرة هاجمها في أوكارها وشردها من موطنها، وحين تعود يعفو عنها ويخفض لها جناح الرحمة فتعي ما أرادها أن تعيه، لكن لفقيه صالح لم يترك الفرصة لعياد أن يعيد النظر في ما قاله، بل رد على مقالة يحيا بعجالة، موجها نظره إلى عياد مقطبا حاجبيه مرة إلى الأعلى ومرة إلى الأسفل كالمتودد بهما إليه، مسلطا لسانه إلى يحيا تقريعا وتجريحا قائلا له:
- اسمع يا قليل لحيا؛ من نهار اللي دخلتي علينا صندوق إبليس والمصايب نازلة علينا بالأطنان، والى المرة الأولى سمحنا لك وخرجتي تتشمس ربعين يوم وتتوضا والتوب، المرة هذي مشية بلا رجعة يا راس الردة..
فرد عليه يحيا كأنه برئ مما تفوه به:
- علاه ياك لباس... أشنو قلت ألفقيه؟
- حسن لك تمشي تلعب مع قرانك يا الكافر قبل ما توقع عليك عقوبتها، ويشوف لك الشيخ شوفة ما تعجبك، والأولى سماح والثانية سماح والثالثة قطيع الراس..
نهض يحيا من مكانه وابتسامة ساخرة تعلو محياه قائلا وهو يغادر المقام:
- إيه ألفقيه.. كلمة الحق عندك ردة وكفر وقطيع الرأس؟!! الله يرحم اللي قال:" العور بين العميان حاكم"
لم يستطع الفقيه صالح النظر في أعين القوم، لعلمه ما توحي به النظرات حين يراها تذكره بما فيه، دون أن تنطق الكلمات به، كأنما يقاس المرء في هذه المجالس بملء فيه، أحس بها كسهم اكتن برفق في كبده، سرت لها نار الغيظ في جسده، فاحمر وجهه كظما وقال في نفسه "إن لم أجد قولا سديدا أحتج به، فان الفقيه لا محالة فه.. فقال بصوت متحشرج لا يقوى على الجهر به، لعلمه بأن من كانوا تبعا يردوا عليه في خطبه، مضوا وانفضوا جميعا من مجلسه ولم يبقى منهم في القوم سوى من سفه فقال:
- سمعتوا الكافر بالله.. سمعتوا أش قال! صرت أنا فقيه الدوار العارف بشرع الله عور..! وأنتو الجماعة عميان..! مزيان تبارك الله.. حاش واش يكون هاذ بنادم عاقل.... صدق اللي قال:" تخنقوا يحزنك تخليه يقهرك،"أيوا هي هاذي وصدق اللي قال " تصحر مع الدراري تصبح فاطر"..
تدخل حينها الشاوش علي ليجبر خاطر لفقيه صالح ويغير مجرى الموضوع قائ
- لعنوا الشيطان والخير في ما اختاره الله، وقالوا سيادنا الوالى ألفقيه:"نهيه نهيه والى عمى سير وخليه".. لبنية مرت عليها ست شهور مالها أثر، ورجانا فالله كبير.. أنا جيتكم قاصد من عند خويا العربي اللي فلمدينة وكلكم كاتعرفوه، جيت طالب وراغب فيد زينب بنت السي عياد الصوفي لولدو مصطفى، واللي يشرط علينا من العين هذي العين هذي.
"ثم نظر بإمعان إلى عياد ليقرأ ردة فعله على ملامح وجهه ثم أضاف:
- آش قال بن عمي عياد؟
فوجئ عياد بالخبر ولم يستطع الجواب، كأن في حلقه غصة تمنعه عن الكلام فقال بعد تفكير وتمعن في ما قاله ابن عمه الشاوش علي والحزن جلي في عينيه ...حرقة ابنته المختفية زهرة واضحة على ملامح وجهه:
- يا بن عمي.. أنت عارف أني ما أرد لكم طلب، وما غادي نلقى حسن منكم، ولكن زهرة بنية صغيرة والبنت عار ناقصة عقل ودين، وقالوا سيادنا الوالى:" المرا لها ثلاث حجات فالدنيا دار باها.. واللا دار راجلها.. واللا لقبر" وصدق من قال:"حفظوهن سورة النور وألزموهن البيوت"، كيف تبغيني نفرح بزينب وزهرة ما دفنتها ش بيدي، وارتاح من هاذ العذاب ..
لم يستطع أحد التدخل في الموضوع والرجل كالأسد الجريح تئن نبرات صوته زئيرا مما ألم به، فتدخل شيخ القرية رغم علمه جيدا أن شخصية عياد بين القوم أقوى من الألقاب أو المشيخة التي عزف عن استلامها منذ أمد بعيد، ولم ينقلها لأخيه عياش أو أبناء عمومته، بل تنازل عنها له عن طيب خاطر آملا أن يكون كفؤا لها في تحمل أمانتها ولا ظلوما حين تحتد شوكته، لكن الجميع يلجئون إلى عياد حين تقوى عليهم الشدائد وتحل الأزمات، ولا يدخر جهدا لدفع البلاء عنهم ومد العون، فهو دائما سندا لهم أيام المحن والنكبات، لكن الشيخ استغل هذا الظرف محاولة منه انتزاع ولو قدر يسير من مكانة عياد المعنوية قدر ما يستطيع، فإن كان من قبل لا يتجرأ على التدخل في أمر يخص عياد في غيابه فضلا عن إصدار النصائح له، وليس كل ناصح بلبيب، لكن الشأن الآن مناسب له كونه كبير القوم وله الرأي في الحل والشد والموضوع محل نقاش في مجلسه، فانتقى الكلمات المناسبة بعناية بعد أن لاكها في نفسه عدة مرات، كقصد خفي عليه حجاب المكر والدهاء قائ
- المصاب كبير وأنت سيد الناس، ولكن يا عياد البنت زينب فسن الزواج وحرام ترد نصيبها، توكل على الله ودير يديك فيد بن عمك علي وخلنا نقراوا معكم الفاتحة، "والله لا يضيع أجر من أحسن عملا"، راه عيونا غطات لبلاد من دوار الشايب حتى لمدينة الأسوار العالية ومن دابا سبع أيام خبار زهرة غادي تكون عندك وإنشاء الله خبار الخير.
لم يعر عياد اهتماما إلى ما قاله الشيخ، بل رفع عينيه إلى الأعلى ثم جال بنظره في وجوه القوم، فعلم مدى الحزن والأسى الذي يعانونه من أجله، كأن كل واحد منهم يود أن يهب عمره وما يملك فدية في سبيل عودة زهرة إليه، ملامح وجوههم تحثه على قبول عرض ابن عمه الشاوش علي، فتروى برهة ثم مد يده إليه فقرأ الجميع الفاتحة مستبشرين خيرا بهذا القران، فعلم شيخ القرية في قرارة نفسه وهو يتمتم الفاتحة في جوفه، بأن كلامه لم يكن له وقع في نفس عياد، ولا أثار اهتمام القوم إلا لفقيه صالح، الذي كان متأثرا معجبا بما أسلفه صاحبه؛ حين كان يهز رأسه بالموافقة في كل كلمة نطق بها سيده.
لم يكن الزفاف في ساحة القرية احتفالا كما كان في الماضي، رغم المحاولات المتكررة من النساء لإضفاء البهجة والسرور على الحفل، فعياد الذي لم يستطع صبرا على فراق ابنته الثانية بعد اختفاء الأولى، امتطى جواده الأبلق وتوغل يسير به بين الأشجار في الغابة الكثيفة، أما رقية رغم تظاهرها ببعض الابتسامات الخجولة؛ فان شعورها وهم يزفون ابنتها لبيت زوجها كأنهم يدقون آخر مسمار على نعشها ليوارونه التراب، فارتمت بين ذراعي اللافطوم وانضمت اليهما عويشة وابنتها البكر حبيبة فتعانقن يذرفن الدمع الغزير، بينما زوجة يحيا تنشد موالا بصوتها الجميل الحزين فترد عليها باقي النسوة حين تقول ما معناه:
لله يا السامعين كلامي
لله يا الشايفين القمر شحال هو عالي
شعاعوا ضوا القلوب وشاف من حالي
دموعه خيوط ساطعة من النور الصافي
دموع الفرحة والأمل والحب الوافي
لله يا السامعين صوتي ردوا على سؤالي
علاش الغالي ما يرخص يبقى دايما غالي
والرخيص.. لو كان تاج علرأس متعالي؟
مرحبا بكم مرحبا عد النجوم وعد اليالي
بدونكم الفرحة ما تم.. والغناء ما يحلى لي
لله يا السامعين صوتي.. ردوا على موالي
قولوا معايا بصوت عالي راه القمر عالي
راه القمر عالي دايما يبقى نوره عالي
قول معايا بصوت عالي
راه القمر عالي ... راه القمر عالي...
في حين أسرة"الشاوش مصطفى بالعربي" سعيدة بهذا الزفاف، تتطلع لغد مشرق وسعادة دائمة للعريسين قبل أن تشد الرحال إلى المدينة. كان من بين الحاضرين في الحفل أسرة قادمة من إحدى القرى الصغيرة النائية، التي يصعب تحديد موقعها بين الجبال الممتدة حول القرية، فقبل أن ينتهي حفل الزفاف امتطوا دوابهم سارين إلى مضاربهم فصادفهم عياد، وألح عليهم المكوث عنده إلى الصباح فقبلوا دعوته، وحمدوا له ضيافته.. فأنس عياد بطرافة ضيفه وحديثه، فهو من لباقته ظهير له على نسيان كروبه، فأمسيا يتسامران إلى وقت متأخر من الليل، لكن الرجل في كل لحظة يمعن فيه النظر ويهم بقول شيء فيصمت، ثم يقول بصوت خافت مغمغما:
- خلق الله من كل شبه أربعين..
فتنبه عياد لكثرة تردده في الكلام وغمغمته فقال له:
- أنت ضيف والضيف على الراس والعين، قل اللي فخاطرك وعليك الأمان
فقال الرجل:
- أنت كريم وسيد الناس وحاش فيك شي ينعاب، اللي كاين هو: واش انت اللي جيت عندنا الدوار من شحال هذي ونسيتني؟... سبحان الله الإنسان كينسى؛ وهادا سر الله فخلقوا؛ وبالإمارة كانت معاك بنية صغيرة.. كتبكي مسكينة بزاف، وكاتقوليك:" ديني عند أمي أعمي..." ......
انهار عياد فأسند ظهره بالجدار، تهاوت الأرض تحت قدميه فاختل توازنه لولا استعانته بالحائط لخر على الأرض من هول الصدمة، لكنه تمالك نفسه وقال لصاحبه بصوت خافت لا يقوى على الجهر به، وقلبه يخفق بشدة كأنه يأبى أن يكون ما ذهب إليه عقله صدقا؛ ويتمنى لو كان كلام الرجل فيه لبس أو خيال:
- كيف لون لحصان لي كان معاه؟
أجابه ضيفه وهو في حيرة من أمره، لا يعلم ما يجري حوله وماذا جرى لمضيفه، أفي كلامه له مديح أم تجريح مجيبا:
- لون الحصان أبيض.. والا مخفت نكذب وأنت سيد العارفين لحصان مشكول شوي.. إلى سرح وحدو ما يضيع عليك أثر قدامو.. وعينو اليمنى قليل فيها الشوف على حقاش كاياكل النبتة من ليسر ويخليليمن.. والبنت الصغيرة عطاها الله جمال ما يتوصف؛ بيضاء وخالة على خذها؛ حدجة وعيونها عيون لغزال وملاح.. كانت لابسا قفطان حمر منقط بالذهبي.. وعمرها من ست سنين حتى لسبع سنين..
صرخ عياد صرخة عالية مدوية هزت أركان الحجرة، فاستل الخنجر من غمده متجها صوب منزل عياش، مزمجرا بأعلى صوته وسط الحي قائ
- اليوم يومك أعياش.. اليوم يومك يا ولد القايد الصوفي..
توقفت الأهازيج والطبول وخرجت النساء من منزل الزفاف، وهرعت رقية تتعثر في الزقاق خلف زوجها عياد مذهولة مرعوبة، فاقتحم منزل أخيه بقبضة يد واحدة خلع بها الباب من مكانه، فاجتمع أهل القرية كبارهم وصغارهم جوار منزل عياش يستطلعون الأمر، بينما "هو" منشغل في محاولة تركيب بعض قطع المحراث الجديد، ولا يعلم سبب الجلبة التي قرب داره، رفع عينيه إلى أخيه القادم نحوه، تراءى له كأنه "هو" في هيأة أخيه، وكلمح البصر أمسكه عياد من رقبته كمن يرفع حملا من الأرض، فارتمى عباس وحماد على قدمي عمهما يطلبان منه الرحمة، لكنه أوثقه بإحكام وشرارة الغضب القاتل في عينيه تصمان أذنيه عن أي استجداء، ثم نزع مولودة أخيه من بين يدي أمها يريد دق عنقها أمامهم جميعا، قائلا بأعلى صوته:
- والله اللي ما يعلى عليه شيء يا عياش وما تقر حتى أطعم لحمها ني لذياب.
بعد أن علم عياش في نفسه يقينا بأن وعيد أخيه له حق وليس بالهزل، وشرارة الغضب تستشري من عينيه؛ وعلى ملامح وجهه نية التنفيذ جلية قال له:
- خلي لبنت تمشي لمها وأنا نقول لك كل شيء.
فخلى سبيلها والنساء تذرف الدموع لا حول لهن ولا قوة أمام جبروت عياد وقسوته، أما التوأم عباس وحماد فلا يستطيعا فعل شيء للدفاع عن أبيهما؛ لا يعرفا أي سبب هذا نزع الرحمة من عمهما.
فقال عياش لأخيه وهو ممدد على الأرض كعجل ينتظر جلاده:
- الرحمة يا خويا بنتك زهرة فأمان..
- فين هي تكلم ؟
- بعتها..
- بعتيها! ؟؟ حاش تكون ولد القايد الصوفي.. لمن؟
- لواحد سمسار فلمدينة، قالي غادي تعيش مع أسرة غنية ما عندهم اولاد.. غادي يكسيوها وتقرا وما يخصها خير..
- فين هو السمسار؟
-ما أعرفه.. لتقيت معاه مرتين برا الدوار وفلمدينة..
فقال عياد بنبرة أقرب إلى السخرية؛ تسح عبراته حسرات على ما أقدم عليه أقرب الناس إليه، وهو يحوم حول أخيه الممدد على الأرض لا يستطيع الحراك أو المقاومة، ودموع الندم تبلل لحيته.
- باش بعتيها؟
- بعتها بثمن الإرث اللي ما راعيتيش فينا حق الله فيه..
- بنتي زهرة كاتسوا عندك الإرث؟ كتسوا وسخ الدنيا
- كيف ما حرقت قلبي فحق الله وحرمتي أولادي من حقهم، حتى أنا رديت لك الدين اللي كان عليك.
- عمرك طلبتي مني حاجة وما عطيتك؟
- أنا طلبت منك حقي ونكرتني فيه!
- أنت بعتي أرض جدودك برخص التراب وفرطي، والا كان قصدك الديوانية ديال باك، والذهب والأرض اللي جاك فنصيبك، دابا غادي تعرف الحقيقة.. وماشي عياد اللي ما يعرف حق الله عليه.
أرسل عياد في طلب الحاج لوليفي وقادر وشيخ القرية ولفقيه صالح ليمثلوا بين يديه ومعهم الوصية، التي يحتفظون له بنسخة منها على أنهم شهود على محتواها، وموثقة لدى كاتب العدل في المدينة؛ والتي تتضمن:" أن كل أملاك القايد الصوفي المنقولة والغير المنقولة، هي ملك لعباس بن عياش الصوفي وحماد بن عياش الصوفي، كما تنص الوصية بأن يتصرفا في كل الأراضي تصرف المالك في ملكه، والاستفادة من ريعها شرط أن لا يبيعوا أو يهبوا أو يأجروا أي شبر منها مهما كانت الأسباب، وأن يراعيا حق الله في أسرة عياد الصوفي فيما قسم لهما الله فيها من الأرزاق حلالا طيبا..."
لم يتوقع عياش أن هدف أخوه هو الاحتفاظ بأرض الأجداد، وعدم التفريط فيها.. ولم يمسس من ماله عينا ولا نقدا نقدا لنفسه، بل منح لعباس وحماد كل أملاك جدهما القايد الصوفي، ومازال يحتفظ لهما بكل الحقوق؛ بل جعلهما ابنيه البكرين، فألم به شعور بالندم الشديد، في وقت لا ينفعه فيه الندم ولا الشفاعة أو الحسرة بعد فوات الأوان.
ذهل الجميع عندما علموا أن عياش كان سببا في اختفاء الطفلة زهرة، لكن عياد لم يتأن في اتخاذ القرار؛ بل جر أخاه كأضحية تقتاد إلى المسلخ، يدحرجه على الأرض لغاية ساحة الحي، فصلبه على العمود المنتصب في وسط الساحة.
تدخل حينها القوم على رأسهم شيخ القرية يحاولون تهدئته كي لا يقوم بعمل طائش، لكنه توعد الجميع أن كل من حاول فك وثاقه سيكون مصيره الهلاك، ثم امتطى فرسه الأبلق يحوم به حول عياش، وكلاهما ينظر في عيني الآخر يتبادلان حديثا صامتا يرى من خلاله ابنته زهرة تستنجد به، عندما كان يسوقها إلى المدينة مرغمة... وعياش يتذكر يوم سلمها للسمسار الذي بدوره سلمها إلى "الحاجة الكبيرة" وهي تمد ذراعيها الصغيرتين إليه عله يعذل عن قراره، لكن الرحمة انتزعت من قلبه بسبب الحقد الدفين؛ والطمع لأجل الحصول على محراث جديد وحفنة من المال.. بينما عياد تجلت له ابنته في أجمل حلة، يلقي بها عياش في حفرة عميقة مليئة بالذئاب الشرسة، تنقض عليها وتفترس لحمها، تمزقه إربا إربا والروح لم تبارح جسمها النحيل.. صرخ عياد صرخة مدوية، فتيقن القوم بأنه لن يشفع لأخيه زلته، أما عباس وحماد ينظران من بعيد إلى أبيهما المصلوب، والدموع تنهمر على خذيهما.. فجأة يدير لجام فرسه صوب الجموع، يسير به خطوات منتظمة كمن يستعرض رقصة الحرب، والجواد يقطر ظهره دما من وقع جراح السوط القوية، محمحما إلى راكبه الرفق به كما عوده، لكن جراح فؤاد صاحبه أشد من كلومه؛ فكيف له الرفق به أو العدول عن قراره، ثم يدير صوب الصليب لجامه، يسحب إلى الخلف زمامه، فيرفع الفرس قدميه الأماميتين ضبحا على الأرض يعلو لها صهيله، كأن الحصى أومضت لهبا بين حوافره ، فينطلق به كالسهم مستلا سيفه من غمده بيمينه ملوحا به، صارخا بأعلى صوته:
- دم العار هايج... فداك عمري يا زهرة..
فضرب عنق أخيه ليتدحرج رأسه وسط الساحة الجرداء، فتوارى على جواده مسرعا باتجاه القلعة المهجورة، صوب أغوار ومعاقل رجال المقاومة، بين سلاسل الجبال الممتدة كالبحر، لكن صرخة عباس وحماد لم ينقطع صداها يتردد مع الرياح، كلما مرت الصور تباعا عبر فضاء الساحة المقفرة..
كانت صرخة قوية مدوية، انفجر صداها من أعماق كنه مظلم هزت أركان الحجرة الرتيبة، تصبب وجهه عرقا وارتعش جسمه، وتهدجت أنفاسه، فسمع صوتا مجيبا يقول له:
- وجدته أم وجدك؟
- من؟
- من كنت تبحث عنه!
نهض فزعا من مكانه، قلب وجهه يمينا ويسارا فلم يكن أحد بقربه سوى صوت دقات الساعة المثبتة على الحائط ، لا تكف عقاربها عن الدوران، فكيف لها أن تتوقف هناك.. أو تعيد دقات الصور الحية التي تدفقت كسيل عارم من الذاكرة.
دخلت كاترينا الحجرة وفي يدها حقيبة صغيرة وضعتها على المكتبة فانصرفت، بعد أن ناولته كوبا من الماء البارد؛ تجرعه بنهم وجلس على الأريكة ينظر من الشرفة إلى الفضاء الواسع والعالم الكبير الذي لا حدود له في الأفاق، رغم ضيق المساحة في مخيلة أولئك القوم الذين تمرغوا في شظف العيش وذاقوا لذة الحياة بعد حرمان دام طويلا، حينما استحوذ شيخ القرية بتحريض من الفقيه صالح للحجر على ضياع عياش وعياد وضمها إلى مزارعه، بحجة أنها مال اليتيم ويجوز لهما الأكل منه دون إسراف لحين ظهور عياد من غيابه الطويل، أو بلوغ عباس وحماد سن الرشد، خصوصا بعدما شاع بين القبائل استشهاد عياد في إحدى المعارك الضارية التي خاضتها جيوب المقاومة، ولم يكتف بذلك بل استبدل منزل عياد الواسع بمنزله، وأجبر رقية على السكن في منزل صغير على حدود القرية، واستحوذ الفقيه صالح على منزل عياش مما دفع حماد وعباس إلى الهجرة، يحملان معهما حقدا دفينا كنار خامدة تتحين لحظة الاشتعال والانتقام لدم أريق على أرض الساحة الجرداء، أما حبيبة ابنة عياد تزوجت أول رجل تقدم لخطبتها ورحلت معه، هربا من مضايقة الفقيه صالح لها ومحاولاته المتكررة لضمها إلى زوجاته، أما زوجة عياش فقد فارقت الحياة بعد فترة قصيرة من مقتل زوجها، فتكفلت رقية بتربية ابنتها، رغم محاولة الحاج لوليفي وقادر التدخل لاسترجاع حق الأسرتين إلا أن الشيخ يردع كل من حاول مناقشة الموضوع معه، أو التدخل فيه.. ومما زاده طغيانا وجبروتا، العتاد الذي حصل عليه والمعونات السخية من بعض الغرباء، وإغارته على بعض القرى المجاورة واستيلائه على أخرى في فترة قصيرة طغى فيها الشيخ وأكثر من النهب والسلب والاستحواذ بالقوة على الزرع والضرع، والإثخان في القتل ومهاجمة القبائل لزرع الخوف والرعب وبسط السيطرة واستعباد العباد وتسخيرهم تبعا لخدمته وضمهم قهرا لسلطته، فأصبح الفقيه صالح مفتي الديار والمستشار والوزير المتنقل من قرية لقرية، لجمع الزكاة والإتاوات، والزير المنتدب المكلف لاختيار ما طاب له ولشيخه من حسناوات ناصبة، على أعتابهن تذبح القرابين، وفي خيامهن تقرع الدنان وتطفح المعصرة، حينها يحلو للفقيه صالح إصدار فتاوى التحليل والتحريم، ونبذ العنف والمقاومة.
فتوسعت سلطة الرجل واحتدت شوكته، لكن ما كان يؤرقه كثيرا هو موضوع أسرة عياد وعياش، فاتفق الاثنان في إحدى جلساتهما الساهرة التي يحلو فيها تدبير شؤون الرعية على إنهاء التوتر بينه وبين رجال القبيلة، مع الاحتفاظ بحلال الأسرتين؛ على أن يجبرا رقية بالزواج من شيخ القبيلة، لتصير الأمور إلى النحو الذي يشتهيه راعي الرعية والعشيرة، فبعد عدة محاولات من الترغيب والترهيب والشد والجذب، وافقت رقية مرغمة على الزواج منه، كي لا تتعرض حياة الصغيرة ابنة عياش إلى الخطف أو القتل كما توعدها لفقيه صالح إن رفضت ما يدعوانها إليه، فكما قال لها بنبرة المشفق عليها والحريص على حياتها وحياة الطفلة وهي تنتحب مرارة هذا المصير :
"- سيد القوم أدرى بمصلحتك وما أنا إلا رسول أنطق باسم مولانا سيد العشيرة.."
وقد نجح في مكره بالمرأة مكرا لإكراهها على ما تكرهه.وفي ليلة الزفاف والاحتفال الكبير في ساحة القرية حيث ضربت الخيام، وتهيأ الفرسان لليلة "العرضة" زينت الجياد وسروجها بأشكال مزخرفة من الفضة، وتقلد الفرسان حللا جديدة، وتغمدوا خناجرهم البراقة المرصعة بالنقوش الذهبية، حاملين بنادقهم في أغماد السروج، فاصطفوا على أن يبدؤوا عشارى في سباقهم، ويتواتروا نصفا في عددهم، ويزدادوا عشرون في عقدهم، وتتوحد طلقات بنادقهم قرب خط النهاية، وملأت البراميل بالبارود لحشو البنادق؛ ونشرت عشرات الحفر بنيت عليها أفران هرمية من الطين والحجارة، كل واحدة منها تتسع لشواء سبع خراف سمان؛ وفرشت الزرابي المزركشة الجديدة التي انتزعت قهرا من مخزن اللافطوم، وبسطت خيوطها اللماعة أمام أرضية الخيمة، وأضيئت الساحة بالقناديل والفوانيس النحاسية، واجتمعت القبائل المجاورة لحضور الحفل العظيم والاستمتاع "بالعرضة" والاستماع لأنغام "العيطة"..
سكان القرية لم يلبوا الدعوة وامتنعوا عن الحضور، سواء من الرجال أو النساء؛ بل ارتأى الفقيه صالح دعوة سكان القرى المجاورة ليمسح عن الشيخ الإحساس بالخيبة والعار، لكن الحاضر الوحيد من أهل الدوار هو يحيا، الذي عاد بعد غيبة طويلة متظاهرا بنسيان الماضي قائلا للفقيه صالح بسخرية وتهكم:
- لبس مزيان.. راه لبرد فطريق.
فرد عليه صالح:
- علاه ياك لباس! غادي نقطعوا الواد!
- لا غير خايف عليك من لبرد.
- عندك الحق أيحيا، الحال بارد؛ قربت وقت اليالي.
- أيوا.. أش وجدتي لدباغ؟ راه جاي فالطريق.
- إلى بغى بطانة العرس مرحبا به.
- لا لا.. ديالك أنت.
- حتى يرزقنا الله الحلال ونعطيوه اللي بغى، راه الشرع عطانا ربعة.
- هو جاي باش يديك معاه مربعة، قالو ليه بطانتك تنفع لبوجلود، وديال الشيخ هيدورا تباع برخص التراب فسوق الأربعا...
- سير لعنة الله وعليك، ما عمرك دير عقلك..
فبينما الحاضرون يستمعون إلى أنغام "الجرة" بعد انتهاء "العرضة" ورقصة الخيل على إيقاع الطبل والربابة، همس لفقيه صالح لشيخ القرية والقلق يخامره عن الرجال الملثمين الذين لم يزيحوا اللثام عن وجوههم، فرد عليه الشيخ قائ
- خلي الناس أحرار، ويالاه طلقنا نضربوا البيض فلكحل ونفرقوا جماعة راه ظلام الليل..والعروسة عيات مسكينة..
لكن يحيا قاطع حديثهما قائ
- ألفقيه.. خرج من الخيمة ورحب بالضيوف اللي جاوا، راه مشي معقول تخليهم كايتسنوا على برا..
- مرحبا بهم.. مرحبا.. فين هم؟ خرج لفقيه صالح ليلقي نظرة خارج الخيمة؛ فإذا به يفاجأ بمئات من الفرسان حاملين المشاعل، يحيطون بالساحة الخضراء؛ يتقدمهم فارس يقترب ببطء نحو الخيمة، تجمدت قدماه ولم يستطيع الحراك، فأمعن النظر مليا لتمييز الرجل الملثم القادم من بين المشاعل يشق خيال الظلام، ممتطيا فرسا حرة المظهر أطلسية الخطى، فأحس بالخوف والرعشة تنتابه، فهرول مسرعا داخل الخيمة يحتمي خلف شيخ القبيلة دون أن ينبس بكلمة واحدة، كأن الكلمات احتبست في حنجرته، يشير بيده إلى الخارج، فأمسكه شيخ القرية وهزه بقوة قائلا له:
- مالك ألفقيه؟.. أش وقع لك؟
فرد عليه يحيا ساخرا:
_ واقيلا شاف الدباغ وسحاب ليه عزراين..! راه وصيتوا، ولكن الله يهديه، ما كيسمع لكلام.
التفت شيخ القرية نحو الخارج فسمع صهيل الفرس ووقع حذافيره، فهب مسرعا نحو الباب؛ فشاهد جيشا جرارا لا قبل له به، يزحف ببطء نحو مدخل القرية وأضواء مشاعل الفرسان تتخلل أشجار الغابة الكثيفة تبدو كأنها نارا موقدة سوف تأكل الأخضر واليابس، لكنها ليست سوى أقباس الفرسان المشتعلة تنير سماء القرية، تتقدم بنظام وانتظام وتحاصر المكان من كل حدب و صوب فعلم شيخ القرية آن الأوان قد حان لمحاسبته على أفعاله، فحاول الفرار لكن الرجال الملثمين المندسين بين المدعوين أمسكوا به وأحكموا وثاقه هو وتابعه الفقيه صالح، فنزل الفارس من على فرسه وأماط اللثام عن وجهه، فإذا به عياد الصوفي الذي غاب عن القرية مدة طويلة وكثرت الأقاويل حول مصرعه، حينها علا التكبير والتهليل وذرفت الدموع فرحا لمقدمه، وخرج الرجال من منازلهم على رأسهم الحاج لوليفي وقادر، أما النساء فارتفعت زغاريدهن تتقدمهن اللافطوم ورقية وعبرات الشوق والحنين تنهمر سحا على الخد منهن على كلوم السنين، لكن عياد رغم الترحيب الذي استقبل به والعناق الحار، إلا أنه لم يمكث طويلا بل اطمأن على استرداد الحقوق المسلوبة لأصحابها، وترك أمر تسييس القبيلة لرجالها المخلصين، ليستلموا زمام أمور شؤونها شورى بينهم، فأمر رجاله بتجريد الرجلين المقيدين من لباسيهما، بعدما أندرا من القبيلة كما تندر البكر في الدية، واقتيدا سحبا وسط الأدغال إلى أن اختفوا جميعا وسط الغابة الكثيفة باتجاه الجبال الممتدة كموج البحر، ومنذ ذلك الحين لا أحد يعلم ما جرى هناك في الأدغال وأغوار الجبال ، إلى أن جمعتهم الأقدار من جديد في إحدى السفن المبحرة باتجاه العالم الجديد ..قبل فترة التيه والضياع في مدينة الساحل والجبل، قرب السور العتيق الذي ما فتأت أبوابه السبع الموصدة تفتح لتغلق من جديد على غفلة من جموع الدراويش من هم هناك يدخنون أعشاب "المارخوانا" ويشربون الدنان من غير كؤوس، يصفقون عراة خاشعين مبتهلين يطوفون حول محراب الخوف...تسربت من بين لبنات أسوارها المتصدعة مجرد صور من الذاكرة..
محكمة محكمة محكمة.......... مح... كم...... مه.
- من أنت ؟
-" أنا البوهالي من حلقة الدراويش.."
عاد صدى صوته ليسأله من جديد:
- من علمك عزف العود والغناء؟
- البوهالة والدراويش
- إنهم صعاليك ما عندهم دين ولا ملة"
- البوهالة والدراويش؟ - من قطع أوتار الربابة والعود واغتصب الألحان والنشيد؟
- البوهالة والدراويش!
- ألم أقل لك إنهم "ملاعين"
- أعطني حبة نوم لأنام وأستريح.
- خذها وارحل عن ذاكرتك. ومن هو البوهالي ؟
ليس في مدينة الساحل من لا يعرف"البوهالي"ذالك الرجل النحيف، ذو العينين الزرقاوين الضيقتين الغائرتين وسط الوجه النحيل؛ وشعر غزير أشقر يصل حد الكتفين، ولحية صفراء كثيفة تخفي ما بالخدين الغارقتين من تجاعيد وخدوش؛ رسمتها أيام تلين من قسوتها الصخور، وليال انتزعت فيها الرحمة من القلوب ذو الشفتين العريضتين والشارب الكث، ينم عن أسنان قاتمة شابها السوس والصدأ من شدة ما رشفته من أعقاب سجائر وكحول فاسدة، تعينه على اجتثاث الذاكرة من الجسد، فلا حر الصيف يرهق الروح ولا قر البرد يضني البدن.
"البوهالي" رجل ترتسم على محياه ابتسامة ساخرة، من مكر الحياة له ومن أقدار عابثة يرتدي معطفا باليا كثير الرقع؛ وسروالا تشوبه الأوساخ لا لون يميزه ما يعرف عنه، يجلس كل صباح بجانب سور المحكمة الابتدائية؛ مفترشا لحافا باليا غير مبال بمن ينظر إليه نظرة استهجان أو شفقة، سكان المدينة اعتادوا رؤيته، الموظفون المحامون والقضاة، يمرون بقربه غير عابئين بوجوده، حتى المساجين والمعتقلين المقيدين بالأغلال والمخفرين المساقين صوب المطرقة والسندان يحسون بوجوده هناك خلف السور، لا يتأخر عن موعده.. تمر لحظات ثم يصرخ بأعلى صوته"محكمة"، يلتفت يمنة ويسرة وتبدأالمرافعة...إنه القاضي والمحامون والمتهم والشهود، يقلد أصوات كل الأطراف ويبدأ المحاكمة، كل صباح قضية تنتهي برفع الجلسة للمداولة؛ ولا يصدر الأحكام.
- باسم العدالة نفتتح الجلسة...القضية رقم 962/1982جنايات والكلمة للمدعي العام.
- بتاريخ 01/01/1982في تمام الساعة الرابعة صباحا حضر المتهم المدعو/ "الشاوش مصطفى بالعربي" البالغ من العمر49 سنة إلى مديرية شرطة الساحل معترفا اعترافا صريحا بكامل إرادته أمام ضابط التحقيق الرائد" سالم جروم" والرقيب محقق" جمال السلومي"، أنه أقدم على قتل كل من زوجته المدعوة/" الصافي زينب" العمر 33سنة؛ وأخاه المدعو/"الشاوش مبارك بالعربي" 29سنة؛ وأبنائه الخمسة كل من" الشاوش فاطمة" 15سنة "الشاوش أحمد"14سنة " الشاوش حبيبة "10سنوات"الشاوش علي" 8سنوات" الشاوش سناء" 5سنوات، فتم إبلاغ العميد عبد الرحيم الجرموني بعد التحفظ على المتهم، وانتقل إلى مكان الحادث الكائن في" كريان سيدي منصور" البراكة رقم10 كل من النائب العام "أحمد الغول"؛ والمقدم "عبد الله الراجي" رئيس قسم التحريات و المباحث الجنائية، وخبير البصمة الرقيب" أحمد النمس" ومدير فرع الأدلة الجنائية الملازم أول" الحبيب الغندور والطبيب الرائد"أحمد السملالي"، فتم التحفظ على المكان بعد المعاينة، حيث وجدت 7جثث.. الزوجة وأخ المتهم وثقا بإحكام على السرير في غرفة نوم المتهم عاريان، وقد طعنا عدة طعنات في أعلى الظهر وفي الصدر.. ونزعت أعضاء هما التناسلية، و في الغرفة المجاورة خمسة أطفال وقد جزت رقابهم.. ثلاثة منهم فصل منها الرأس عن الجسد، فتم تحريز الأداة الحادة وأمر النائب العام بإرسال الجثث إلى الطب الشرعي بالمستشفى المركزي ومواصلة التحفظ على المكان إلى إشعار آخر.. عرضت الأوراق التحقيقية على النيابة حين استكمل التحقيق بعد استلامنا محاضر الاستدلال مرفقا بتقرير الطبيب الشرعي وتقرير مختبر الأدلة الجنائية، وقد جاءت أقوال المتهم في الضابطة القضائية مطابقة لما قام به من أفعال، بقتله للمجني عليهم وهم زوجته وأخوه وأبنائه الخمسة دون رحمة متعمدا ومصرا على القتل، مترصدا لضحاياه وهم نيام والإجهاز عليهم نية منه في إردائهم بدون أدنى شفقة، مقترفا جريمة نكراء لم يشهد لها تاريخ هذه الأمة مثيلا، جريمة هزت ضمير الإنسانية.. وباسم العدالة ألتمس من محكمتكم الموقرة أن تنزل بهذا المجرم الماثل أمام عدالتكم أشد العقوبة المنصوص عليها في الفصل الرابع من قانون العقوبات المادة10وهي الإعدام رميا بالرصاص.
فجأة ترعد السماء بعنف ويقصف البرق بقوة ثم يهطل المطر بشدة كسيل عارم انفتحت له فوهة السماء أو فيض غزير غاضب يفور من باطن الأرض كاد يجر المدينة إلى قعر المحيط، والناس قابعون تحت مظلات المقاهي والدكاكين المصطفة على جنبات الطريق؛ إلا البوهالي الذي ظل واقفا مكانه محدقا إلى السماء، رافعا يديه إلى الأعلى مرددا أنشودة الفلاح؛ كان الأطفال ينشدونها حين يسقط المطر
- أشتى تا تا تا تا...أولاد الحراثة..."
ثم يقتحم الشارع الرئيسي يركض ويدور وسط التقاطع مما أعاق حركة السير محدثا زحمة وارتباكا في حركة المرور.. المطر يشتد غزارة والبوهالي يزداد هستيريا، يحتد دورانه مرددا الأنشودة على إيقاع زخات المطر الغزير، وسائقي السيارات يزدادون انفعالا وعصبية، ويطغى صوت الرعد والبرق على ضجيج الازدحام، فجأة يقفز على الرصيف مواصلا الركض إلى مكانه المعتاد إلى فراشه البالي، مستمتعا بوقع وشوشات تهمس الأنشودة القديمة لحين توقف المطر، يلتفت يمنة ويسرة صارخا بأعلى صوته "محكمة"..
- الكلمة لمحامي الدفاع
- حضراتي القضاة حضراتي المستشارين، من منكم لا يعرف الشاوش مصطفى بالعربي الذي عمل معكم في هذه المحكمة الموقرة حاجبا مدة30 سنة، إن موكلي الماثل أمام عدالتكم عرف عنه الاستقامة والأمانة والإخلاص في العمل والدليل على ذلك تطوع أعضاء نقابة المحامين للدفاع عنه. إن ما لم تتطرق إليه النيابة العامة: الدوافع والأسباب كما أن الأوراق التحقيقية تفتقر إلىتقريرين في غاية الأهمية لإنصاف المتهم وتحقيق العدالة، تقرير الطب الشرعي عن علاقة المجني عليهما زوجة المتهم وأخوه بواقعة الزنا التي كانت دافعا قويا لارتكاب المتهم جريمته حسب ما ورد في تقرير المباحث. كما أطلب من محكمتكم الموقرة إحالة المتهم لخبير الطب النفسي المحلف لدى المحاكم الشرعية لموافاة محكمتكم الموقرة إن كان الرجل مدركا لأفعاله وأقواله من تاريخ الواقعة.
- إن ما يحاول الدفاع الرمي إليه غير صحيح، فلا يجوز قياس الأصل بالأسباب، وليس كل مجرم سفاح ادعى الجنون يعفى من العقاب، إن الصور الملتقطة للمتهم أثناء تشخيصه كيفية ارتكابه لجريمته النكراء؛ تنفي كل الأعذار التي يحاول فيها الدفاع إقناع المحكمة، وإعادة النظر في اعترافات صريحة وجازمة هي الحسم والفصل في تجريم المتهم.
- نأمر بإحالة المتهم إلى الطب النفسي لموافاتنا بتقرير مفصل عن حالته، وتقرير الطب الشرعي عن وقوع جرم الزنا بين المجني عليهما أو من عدمه، ونأمر النيابة العامة بتقرير لاحق لتحريات الشرطة حول الواقعة، ومواصلة التحفظ على مكان الحادث لحين استكمال إجراءات التحقيق. تأجل الجلسة لتاريخ 20/03/1982.
عاد البوهالي إلى الجلوس على البساط البالي بعدما أدى كل الأدوار، ثم قام متجها صوب باب المحكمةالرئيسي، فناوله أحد المراجعين شيئا رفض أخذه منه، فصدرت منه ضحكة عالية مشيرا إلى داخل المحكمة بيده صارخا:"والشاوش بوعزة وشهد على بنتك" مكررا هذه العبارة كأنه يمتطي حصانا جامحا يرقص به على وقع الكلمات مشيرا بيده داخل المحكمة، ممسكا بزمامه نحو الداخل؛ فقدم إليه أحد العساكر ليبعده فنظر إليه البوهالي بتمعن صارخا:"وا الخيل"... والشاوش بوعزة واشهد على بنتك" مهرولا على حصانه إلى مكانه الآمن، إلى فراشه البالي؛ إلى وهم المحكمة ومحكمة الوهم، فجلس يتمتم.. التفت يمينا ويسارا "محكمة".
- باسم العدالة نفتتح الجلسة.. بعد الإطلاع على تقرير الطبيب الشرعي بخصوص واقعة الزنا تبرأ المحكمة ساحة المجني عليهما من هذا الجرم لعدم وجود أدلة في التقرير؛ وتأخذ المحكمة بعين الاعتبار ما جاء في تقرير الطب النفسي عن حالة انهيار عصبي من هول الصدمة نتج عنه:" حالة من الإبدال والنكوص وغياب الذاكرة عن حصر الوقائع والأحداث بالتفصيل أثناء الحادث وبعده".. والكلمة للمدعي العام.
- إن هذه التقارير حضراتي القضاة لا مجال للتشكيك في صحتها ونزاهتها ألبته، إلا أنها لا تنفى عن المتهم المسؤولية الجنائية في ارتكابه جريمة شنعاء مع سبق الإصرار، واعترافه دليل على إدانته، وكلالمبررات التي يحاول الزميل ممثل الدفاع إقناع عدالتكم الموقرة بها تعتبر واهية في بحثه عن علاقة سببية واهنة، تضعف الأركان المادية لجريمة نكراء لا تمكنه من عرقلة سير العدالة، وإنزال أشد العقوبة على المتهم.
- حضراتي القضاة.. إن الجرائم التي تقع ما بين الفروع والأصول لها استثناءات في قانون العقوبات العام، فمن غير المعقول أن يرتكب إنسان عاقل أبشع جريمة في حق أبنائه وهم فلذات كبده، وزوجته وأخيه! لأسباب غير واضحة ومقنعة، أو رغبة في القتل من أجل القتل.. بعد التدقيق في محضر الضابطة القضائية نطلب من محكمتكم الموقرة استدعاء خبير البصمات للاستماع إلى إفادته.
- نعترض سيادة القاضي..
- نأمر باستدعاء خبير البصمات" أحمد النمس" لجلسة 28/3/1982.
استند البوهالي على الحائط، وأخرج قنينة من جيبه تجرع ما فيها من سائل انقشعت الغيوم قليلا فتسللت من بين خلجاتها أشعة شمس دافئة عمت بنورها ظلال الغيوم الداكنة، واسترخى مستسلما لخيوطها الناعمة، علها توقظ فكره الشريد الغائب في طيات ذكريات مجهولة، وماض سحيق كان فيه الزمن ثابتا لا حدود له، أطياف براقة تسبح خارج الكون تطرد الظلمة، تشكل دائرة أو سهما يمضي بعيدا عاليا عن ظلم العدالة وعدالة الظلم، في مكان اللامكان وزمن غير الزمن، ليس فيه الإنسان ذئب اٌلإنسان؛ والمتهم قاض والقاضي متهم.."محكمة"...
- باسم العدالة نفتتح الجلسة يستدعى السيد "أحمد النمس"إلى منصة الشهود والكلمة للدفاع.
- الرقيب أحمد/ بما أنك تحت القسم؛ وأحد رجال القانون..
- نطلب من المحكمة الموقرة أن تنبه محامي الدفاع الالتزام بمضمون القضية.
- نأمر محامي الدفاع سؤال الشاهد في حدود الواقعة.
- بعد التدقيق في تقرير البصمة المرفوعة من مكان الحادث، منها للمجني عليهم وبعض المشتبه فيهم كما ورد في التقرير الوارد من قسم الأدلة الجنائية.. نلاحظ أنه قد تم ضبط أشخاص على ذمة البلاغ، فكيف يتم هذا الإجراء والمتهم قابع في محبسه؟.. من هؤلاء المشتبه فيهم؟ وما هي الظروف التي أوجبت الشبهة في توقيفهم؟ ولماذا تم تبصيمهم على ذمة القضية ثم الإفراج عنهم بكفالة؟.. لعله تدبير احترازي أو روتين اعتادت على نهجه أجهزة الضبط القضائي دون مراعاة الشروط المنصوص عليها في الدستور والقوانين الخصوصية التي لا تجيز استعمال السلطة دون اعتبار لحقوق الحريات العامة.. أو القيام بإجراءات احترازية دون مراعاة لحقوق المدنيين..
- إن الدفاع لا يلتزم بموضوع القضية نرجو من محكمتكم الموقرة تنبيهه وشطب ما قاله.
- نرجو من الدفاع الالتزام بالوقائع والأحداث موضوع القضية.
- لقد تمت عملية الحصر والتدقيق والمقارنة المتقاربة لتحديد بصمة الأكف المرفوعة من عين المكان، فكانت مطابقة لأصابع مرسومة بوضوح على الأداة الحادة المحرزة في محضر الاستدلال، وبالتالي فإن النتيجة الحاسمة تجريم المتهم " الشاوش مصطفى بالعربي" حسب المضاهاة المتطابقة...كم هو جميل أن نستعين بالخبراء في مواضيع النفي والإثبات ترتدي فيها عدالة الحق والقانون كساء فقه العلوم الحقة... وكم هو رائع أن نصغي للغة العقل للتمييز ما بين الدليل والبرهان لإثبات الحق وكشف الحقيقة من مجهول إلى معلوم.. حضراتي القضاة حضراتي المستشارين.. إن هذه الوثائق التي بين أيديكم تحيلنا لسماع الشاهد ليوضح لعدالتكم ما ورد في تقريره حين يقول:".. إن بصمة كف مجهولة رفعت من مكان الحادث تمت مقارنتها ببعض البصمات المرفوعة في قضايا متنوعة مجهولة الفاعل فكانت مماثلة لها، وعليه نرفع تقريرنا هذا موقعا منا حسب الأصول للعلم ولإجراءاتكم.." والكتاب مذيل بتوقيع الشاهد.
لم يتوقع "أحمد النمس" أن يواجه بما خطت يداه في تلك الأوراق المبهمة التي كانت يوما ما في حوزته، بداعليه الارتباك والتردد، نسي ما حوته سطور تلكالوثائق... جواب أشارت به ملامح وجهه حين تلعثم واحتار في صياغة الرد، تدخل المدعي العام ليفسح مجالا له لترتيب أفكاره.
- الشاهد غير ملزم بالإجابة عن أسئلة الدفاع لعدم الاختصاص عما ورد في تقرير المختبر، حضراتي القضاة حضراتي المستشارين إن الدفاع حاول جاهدا تغيير مسار البلاغ والتشكيك في صحة ما جاء في ملابساته ملمحا أن إجراءات الضبط والتحقيق بنيت ضد مجهول قبل عرضها على النيابة العامة، إلا أننا رجحنا اعترافات المتهم على الأدلة المادية العارضة التي يحاول زميلنا الطعن في دقتها.
- نأمر الشاهد الإجابة عن أسئلة الدفاع ضمن نطاق اختصاصه، وعن ما ورد في تقريره.
- صحيح، "إن بصمة كف غير واضحة" لم تحدد هويتها في بعض البلاغات الواردة قد رفعت من مكان الحادث موضوع البلاغ.
- ما هي هذه القضايا والبلاغات؟...
- أعترض حضرة القاضي ..
- الاعتراض مرفوض
- كانت بلاغات تتعلق بقضايا متنوعة:" السرقة بالإكراه والتعدي المنزلي... والإيذاء البليغ ...وقد قيدت ضد مجهول".
- نكتفي بشهادة الشاهد.
- إن الدفاع يحاول إقناع المحكمة بوجود طرف مجهول رغم وضوح الحقيقة واعترافات المتهم..إن من العناء العظيم استيلاد العقيم والاستشفاء بالسقيم يا أستاذ.
- إن فوق كل ذي عليم عليم سيادة المدعي العام، لدى موكلي ستة أبناء خمسة ضحايا مجني عليهم وآخر طفل يدعى/"الشاوش بوعزة" يبلغ من العمر11 سنة، أصم وأبكم مازال على قيد الحياة.. أين كان وقت الحادث؟ حسب ما ورد في تقرير المباحث:".. تم جلبه من عند خالته المدعوة/" الصوفي حبيبة" وأودع في المركز الاجتماعي لرعاية القصر لحين النظر في شأنه"، نرجو من عدالتكم استدعاء الشاهد "الشاوش بوعزة" برفقة مترجم لإشارات الصم والبكم المحلف لدى وزارة العدل، والشاهدة "الصوفي حبيبة" والمقدم/" عبد الله الراجي".
- إن الدفاع يحضر طفلا مختلا عقليا للشهادة! إفادته لا تجوز والأخذ بها باطل حتى على سبيل الاستناس.
- يستدعى الشهود للحضور بتاريخ15/4/1982م رفعت الجلسة.
غادر البوهالي مكانه واتجه وسط المدينة متجولا بين المقاهي المكتظة والحانات المصطفة على شاطئ البحر، متأملا ساعة الغروب كما اعتاد كل مساء... ينتظر في شوق ارتماء الشمسفي أعماق البحر، ثم يواصل سيره وسط زحام المدينة...تارة يتلو البخلاء أو فصولا من البؤساء وطورا مقاطع من أغنيات جاك بريل"؛ أو"أحمد البيضاوي"إلى أن يتوارى خلف الزحام... تتيه معها كلماته بين أزقة ضيقة وفضاء ضاعت في سمائه أحلى الأغنيات وأعذب الذكريات، أزقة كانت في ما مضى متراصة مترابطة يجمعها الحب... كان البوهالي يحس الدفيء والحنان بين أرصفة جنانها، أحب الناس وألف المكان صار جزءا من الأرض وقطعة من عبق التراب، اعتادوا جنونه الساخر؛ كان يحمل آلة العود يطوف الأزقة والأحياء والشوارع، يغني ويعزف في المقاهي وحافلات طلاب المدارس والجامعات، يسمعهم الأغاني المختارة لديه فمنهم من يتجاوز محطة نزوله رغبة منه في الاستماع إلى ما ينشده، لا يقبل الهدايا أو النقود يختار الكلمات والألحان بدقة وعناية، يحيي ما طواه النسيان، يزيح غشاء الهجر عن مقتطفات كان لها صدى في ذاكرة الأوطان، نغمات كسرت قيود الحدود، كأنه بألحانه ينتقي ما حواه وعي جماعي موجود، حلم ظلت نغماته قابعة في أركان معششة بالخوف والحزن.. يسمو بألحانه ويهتف عاليا بأناشيده.. ينتقي من أشعاره رحيق أجمل الأزهار والورود..اشتهر فنان سوداني عريق/... بين جموع الطلبة حين رددوا له أغنية "الصباح الجديد "لأبي القاسم الشابي" يوم ساد الصمت في الحافلة وهم يستمعون إليه، ينشد بكل أحاسيسه الملتهبةفي لحن أفريقي جميل، قادم من شاطئ النيل الأبيض "لأم درمان" حين يقول:
أسكني يا جراح واسكتي يا شجون
مات عهد النواح وزمان الجنون
وأطل الصباح من وراْء القرون
في فجاج الردى قد دفنت الألم
ونثرت الدموع لرياح العدم
واتخذت الحياة معزفا للنغم
مات عهد النواح وزمان الجنون
وأطل الصباح من وراء القرون
لا أحد يعلم لماذا اقتحم رجال حافلة الطلاب، وأوسعوا البوهالى ضربا أمام الجموع، كسروا آلة العود قطعوا أوتاره.. كمموا أفواه الكلمات برباط أسود، اعتقلوا نغمات الصمت بسوط الجراح، مازال وعي الليل فيها لم يعانق الصباح والبدر تحجبه الغيوم الداكنة أيام القر الطويلة في الحي والحافلة... البرد القارس والظلام الحالك في عيون الناس والشوارع والمدينة، كأن الغيوم حينها انشقت فانبثق من بين خلجاتها رأس مشقوق، تمتد منه ذراع يد قوية، تمسك بثدي الرحمة فتشتعل الزرافة، على أرض البور القاحلة حين تساق فيها الهياكل إلى المجهول، والعملاق فتحت أدراج ركبتيه يوم سيق فيه البوهالي إلى إحدى المصحات في عنبر انفرادي دون محاكمة. ثم يعود مرة أخرى مستندا على السور العتيق صارخا بأعلى صوته:
- "محكمة" باسم العدالة نفتتح الجلسة وبمناسبة حضور الشهود والمتهم الكلمة لمحامي الدفاع.
- نرجو من محكمتكم الموقرة استدعاء الشاهدة"الصوفي حبيبة" للمثول أمام عدالتكم.
- ما هي حالتك الاجتماعية سيدتي؟
- مطلقة وأم لطفلين
- إن محامي الدفاع يسأل الشاهدة في أمور شخصية لا تتعلق بالواقعة..لسنا هنا يا أستاذ لإحضار الشهودوسؤالهم عن حالتهم الاجتماعية، والابتعاد عن القضية برمتها منشغلين في البحث عن سبيل لضياع وقت المحكمة الموقرة والإحالة دون تطبيق القانون والعدالة والقصاص من مجرم معترف بذنبه، وكل القرائن تدينه.. تستدعي الحكم عليه.
- نأمر محامي الدفاع الإقتراب... الرجاء منكما الالتزام وعدم الإخلال بشروط المرافعة وعدم الخوض في أمور خاصة بالشهود.
- سيدتي ما هي علاقتك بالمتهم.
- زوج أختي" نسيبي".
- سيدتي أرجو أن توضيحي للمحكمة الموقرة طبيعة العلاقة بين أسرتك وبين "الشاوش مصطفى بالعربي" ومدى معرفتك به.؟
لم تستطع الشاهدة منع عينيها من ذرف الدموع الغزيرة التي منعتها عن الإجابة.
- نطلب من محكمتكم الموقرة صرف الشاهدة من حرم المحكمة لعدم تمكنها من الإجابة عن أسئلة مبهمة لا تمت للنازلة بصلة.
- "لا يا سيدي أنا قسمت قدام القاضي باش نقول الحق "وكفكفت دموعها وأضافت " أنا مرا وحدانية وبرانية وعندي ليتام... ما كاينش اللي زورنا و يواسي... السي الشاوش ...كان دايما مهموم ويقاسي... كان يساعدني فالبحث على اختي الصغيرة اللي تخطفات من لبلاد 16عام هدي"
لم تستطع الشاهدة متابعة الإدلاء بشهادتها لأن الدموع منعتها عن الكلام ، فصمتت قليلا ثم نظرت إلى المتهم نظرة لوم وعتاب وهو مقيد بالأغلال داخل قفص الاتهام المحكم الإغلاق، والقاعة مليئة بالحضور الغفير يتابع في صمت وهدوء مجريات المحاكمة وأضافت:
"- حنا ناس على قد حالنا واحدة منا خطوفها والثانية قتلوها... آه حياني زاد الهم حياني شاب راسي وشكون اللي واسي... شكون اللي ياخذ لينا الحق والصبر ما يداوي يا ناس... ومن هاد الجروح عذابي زاد وكنقاسي..." وكفكفت دموعها مرة أخرى وأضافت"السي الشاوش كان راجل مزيان اوقليبي مسجون معاه بلا عذر... ما شفنا منو غير الخير واللي يسر... ولكن اللي طرا فأختي وأولادو وأخوه كيف يوقع فهاذ الدنيا وعلاش؟السي الشاوش الناس كلها والجيران ما شافوا منوا غير الخير وأنا راسي ما مصدقاش انو يدير هاذ الفعلة"
- ماسم قريتكم؟
- دوار الشايب
- ما اسم الفتاة التي اختطفت وكم كان عمرها آنذاك؟
- أعترض حضرة القاضي.. الدفاع يثير موضوعا لا علاقة له بالقضية ألبتة.
- الاعتراض مقبول
- سيدتي ألا تستلمين حق النفقة من طليقك؟
- أعترض عن إحراج الشاهدة بهذه الأسئلة سيدي القاضي..
- الشاهدة لها حق الاختيار في الإجابة عن السؤال
- "يا سيد القاضي "راجلي قبل ما يطلقني كان بلا خدمة يدخل الدار فنص الليل ومن المحال يسول فيا...بقيت فريدة والعمدا عليا...وحمام الجنة جيعانين دايرين بيا" قاطعتها الدموع وخرجت نبرات صوتها متحشرجة..ثم أضافت: -" شفنا معاه القهر والضيم حتى راح فالسكة اللي تدي وما تجيب، فبحر غمري ومواجو عاليا هناك على شط البوغاز... الله يا سيدي طلقني وخذاتو الغربة وظلمات الدنيا عليا...آش غادي نشرح لكم أسيادي؟ ما كفاتكم كلمة واللا غمزة من عين الحال...السي الشاوش كان يسقينا ويطعمنا وكفانا شر الزنقة...والحمام اللي والفتو طار وعلا...ويلا كان هو اللي قتل حبايب الله..الله يأخذ فيه الحق"ثم أجهشت مرة ثانية بالبكاء.
- السيدة حبيبة هل تذكرين يوم قدم فيه إلى منزلك الطفل "الشاوش بوعزة"يوم الحادث؟.
-"نعم أسيدي...جا لعندنا فنص الليل وكان خايف ويرتعد ظنينا من البرد طاح فالأرض سخفان وما عرفنا مالو على حق ما حد يفهم عليه آش يقول؛ غير أمه الله يرحمها وأنا عزيز عليا حيت كيزورني مسكين دايما".
- هل كان الطفل يصاب بالصرع أو يقوم بتصرفات غير طبيعية؟
-" السيدة حبيبة" ليس من اختصاصها تقييم حالةالحدث النفسية.
-الاعتراض مقبول.
- أكتفي بما جاء في أقوال الشاهدة.. ونطلب من المحكمة استدعاء الشاهد "الشاوش بوعزة" رفقة المترجم.
-أقدم لسيادتكم التقرير الطبي للحالة النفسية للمريض توضح أن "الشاوش بو عزة " مصاب بمرض نفسي مزمن والاستماع إلى إفادته غير ملزمة.
- يستدعى الشاهد "الشاوس بوعزة" إلى قاعة المحكمة.
دخل الطفل" الشاوش بوعزة" ومعه المترجم من الباب الخلفي للقاعة وسط حراسة مشددة، وتقدما إلى منصة الشهود أمام جمع غفير من الحضور ووسائل الإعلام. لم يتمالك الطفل نفسه حين رأى والده مقيدا في قفص الاتهام، بدا عليه الذهول فانطلق نحو الحاجز الحديدي محاولا الدخول إليه، تنهمر الدموع من عينيه بغزارة، يصدر صوتا غريبا متوسلا متضرعا إلى الجموع فساد الصمت، أمسكه محامي الدفاع وركز عيناه على عينيه وضمه إلى صدره بقوة وحال بينه وبين الحراس واستطاع تهدئته وإرجاعه إلى منصة الشهود. في حين يعود البوهالي إلى فراشه البالي مستندا على الجدار؛ يتهاوى عقله دفينا داخل ذاكرة أثقلتها الجراح، متأملا ما يجول في نفسه من صور وتماثيل... أشباح وملائكة... زنازين كالغرف...أبواب مغلقة، هناك خلف أحد الأبواب شعاع خافت تسلل من فتحة خجولة شقت وسط الباب تنفتح عيناه بالكاد داخل الغرفة الرتيبة، يحاول النهوض بعناء ولا يستطيع، لا يعرف سبب وجوده داخل عقله..لا يدري جسده أين فكره، أين الناس؟ وأين العالم من حوله؟ أين آلة العود وأين الربابة؟ من قاده لرحلة داخل نفسه؟ صرخ بأعلى صوته لعل عينا تراه أو أذنا تسمعه..هتف عاليا:" يا نداء صمتي في قعر بلا قاع يا خاطري المرعوب أكنت تسألني أم أنا من سألتك؟
- من أنت البوهالي السور العتيق
-" أنا البوهالي من حلقة الدراويش.."
عاد صدى صوته ليسأله من جديد:
- من علمك عزف العود والغناء؟
- البوهالة والدراويش
- إنهم صعاليك ما عندهم دين ولا ملة"
- البوهالة والدراويش؟ - من قطع أوتار الربابة والعود واغتصب الألحان والنشيد؟
- البوهالة والدراويش!
- ألم أقل لك إنهم "ملاعين"
- أعطني حبة نوم لأنام وأستريح.
- خذها وارحل عن ذاكرتك.
يوصد الباب بقوة هز أركان الغرفة الرتيبة فقام من مكانه فزعا، مناديا بأعلى صوته "محكمة".
حاول النهوض لكن رجلاه خانتاه...هم بالكلام أتى صوته خافتا ترتد موجاته في فؤاده.. حرك مقلتيه قليلا لطرد أشباح اليقظة؛ لكن الإرادة يحجبها العجز، بدت له الأسوار عالية بنيانها مرصوص بالأكف والأقنعة؛ أشباح تحاول التحرر والانطلاق من لعنة الجدران العتيقة وأهازيج الهول الصاخبة.. أطياف تركض على حافة السور العتيق يتساقطون واحدا تلو الآخر في هوة سحيقة. هناك حيث.سراديب ضيقة متشعبة ، يتلون ما خط في الألواح كأزيز النحل.. تمتزج الأهازيج بالتلاوة، وتختلط الأصوات برائحة الصلصال والقار والطين المحروق.. يركض بين المنعرجات محاولا التحرر منه لكن السرداب طويل لانهاية له.. أبوابه موصدة أركانه معششة بالألم والخوف.. حاول الهروب بعيدا والتحرر من عقله وخاطره الجريح.. أمسك رأسه بكلتا يديه فجأة يجد نفسه متحررا من السرداب اللعين مستندا على جدار السور العتيق ثم يهب واقفا يصرخ بأعلى صوته "محكمة":
- حضراتي القضاة حضراتي المستشارين، إن حضور هذا الطفل البريء إلى قاعة المحكمة يتعارض ومقتضيات المصلحة العامة للمريض، والضرر النفسي البالغ الذي قد يلم به، كما أن سلوكه داخل قاعة المحكمة الموقرة لدليل قاطع على عدم أهليته للشهادة.
- نأمر محامي الدفاع سؤال الشاهد والالتزام بما يراه مناسبا في حدود الواقعة.
-" الشاوش بوعزة" أين كنت ليلة الحادث؟ وما هي معلوماتك عما جرى؟
- كنا جميعا في المنزل أنا وأمي وعمي وإخوتي؛ كنا نلهو ونلعب فاختبأت تحت السرير، غلبني النوم فنمت..
- ماذا وقع بعد ذلك؟
- صحوت من النوم وأخرجت رأسي، ففوجئت بشخص طويل القامة يشعل النور ويقتحم الغرفة ثم شرع في جز رقاب إخوتي الواحد تلو الآخر، كانوا يتوسلون إليه يبكون ويصرخون قبل أن يباغث رقابهم بسكين حاد. كانوا يحاولون إمساك يديه بأيديهم لتقبيلها لكنه لم يرحمهم. أوثق أيديهم بحبل رفيع فأجهز عليهم الواحد تلو الآخر ..."
انهمرت الدموع من عيني الصبي بغزارة دون أن يصدر صوتا وسمع نحيب خافت وسط الحضور من بعض النسوة اللائي لم يستطعن منع الدموع مما أثاره الصبي حينما كان يصف براحتيه الصغيرتين ويشخص تلك المشاهد المريعة التي يندى لها الجبين، تدخل حينها القاضي وأمر بالتزام الهدوء وهدد بجعل الجلسة مغلقة"..
- وماذا فعلت حينما رأيت ذلك؟.
- تملكني الخوف والرعب...أنتظر في أية لحظة أن ألقى مصير إخوتي فلم أبرح مكاني من تحت السرير لفترة طويلة. ولما غادر ذلك الشخص، خرجت من المنزل إلى الشارع طالبا المساعدة من الناس، لكن دون جدوى فالتجأت إلى منزل خالتي.
- حاول الاستعانة بالناس لكنهم خذلوه سيادة القاضي، كل من وجده في الطريق طلب منه النجدة والعون...لكنهم لم يفهموا ولم يستوعبوا لا بالرمز ولا بالإشارة، لا بالدموع ولا بالحسرة...منهم من يشفق ومنهم من لا يعبأ.. منهم من يسخر ولا يعرف سخرية القدر له، وكانت النتيجة حضراتي القضاة حضراتي المستشارين أن يجد نفسه ملقى به في منزل لرعاية القصر لغاية النظر في شأنه.
فاقترب محامي الدفاع من قفص الاتهام ثم وجه السؤال إلى الشاهد:
- هل من في هذا القفص هو من فعل ذلك؟"
- أعترض حضرة القاضي عن استفزاز مشاعر الشاهد.
- هل هذا هو الرجل؟
"مشيرا بيده إلى القفص واقفا بين منصة الشهود وقفص الاتهام مضيفا:
- هل هذا من رأيته يفعل ذلك بأخوتك؟
- لا...لا يا سيدي هذا أبي يحبنا ونحبه من فعل ذلك إني رأيته.. أستطيع التعرف عليه من بين كل هذه الجموع إن كان موجودا في هذه القاعة...لن أنساه أبدا ما حييت.
- نكتفي بهذه الأسئلة.
عم الصمت أرجاء المحكمة وأصيب الجميع بالذهول، لأن الصبي بدا واثقا من نفسه حين توجه إلى قفص الاتهام رابطا الجأش مخاطبا أباه بالإشارة قبل مغادرته قاعةالمحكمة، إلا أن محامي الدفاع استوقف المترجم لمعرفة ماقاله الطفل لأبيه وازداد فضول هيأة المحكمة معرفة ما دار بينهما من حوار وجيز، فترجمت الإشارة خارج منصة الشهود:
"لا تحزن يا أبي ستنجلي الحقيقة ونجتمع من جديد تمسك بالأمل". ...
البوهالي/
رقصة النورس/3
يتوقف البوهالي عن المرافعة حينما سمع ضجيجا عاليا يقترب منه يطغى على صوته أثناء مرافعته..
إنها فرقة "الحمادشة" من يلبسون جلابيب صوفية، شعرهم يتجاوز مناكبهم العريضة، لحاهم طويلة متهدلة والحمام يتطاير فوق رؤوسهم ويحط على أكتافهم، يسيرون في موكب ضخم حاملين الهدايا والشموع...صوامع ورقية زينت بنجوم براقة وأعلام ملونة، يدقون على الطبول والدفوف يغمغمون ويهمهمون، توسطهم البوهالي فانسجم معهم رحبوا برفقته لهم، بدا عليه السرور وغمره الفرح سائرين إلى ساحة الحي، هناك شكلوا حلقة دائرية كبيرة أحاطوها بالشموع والفوانيس، التفت حولهم الجموع حجوا إليهم من كل أحياء المدينة ليشهدوا "الحضرة" تحيي حفلها فرقة"الحمادشة"مرة كل سنة فاستهل أحدهم بداية الليلة منشدا بصوت جوهري قوي:
قائلا:
الذات ذاتي أنا، وهو روح ساكنة فيك، أنت وأنا
شوف الخلق تشوفني أنا، تعرف الحق اللي جانا
شكون اللي قال: أنا ماشي أنت، وأنت ماشي أنا
ورد عليه آخر:
هو رجلي ويدي وعيني، وهو الرامي، وهو أنا
ويا البوهالي بو دربالة، روحك منزهة أنت وأنا
سألها تقوليك أش من فرق بين أنت، وأنت وأنا..
ورد عليه آخر:
الواجد من الموجود كل شي واحد وكل واحد أنا
شوف نفسك، تعلم سرك فاللي سماك وسمانا..
كل شي فاني يا البوهالي، راه حب الدنيا عمانا
وبدأ الحفل على إيقاع الطبول والدفوف المتناغمة والقوية، تسمع دويها على بعد أميال، تميل إليها النفوس..الرؤوس تتهادى و سرعة الإيقاع، أشعلوا الشموع والقناديل.. أوقدوا المشاعل والفوانيس المزينة بنقوش من نحاس، فصارت الحضرة دائرة شاسعة من الأنوار، ظلال الأشياء فيها خيال يتراقص على ضوء المشاعل، أضرموا النار وسط الحلقة، بدا المكان خارج الكون كأنها النجوم تحوم حول كوكب متقد والبوهالي يتوسط الدائرة يراقب رقصة "الجدبة" باهتمام وقد ازداد قرع الطبول عاليا وامتلأ المكان بأدخنة البخور الزكية المتصاعدة إلى السماء، تبدو كأنها حضرة إلهية مهيبة.. فجأة ينشرون الجمر وسط الدائرة، يفرشون الأرض بقطع زجاج حاد، وتعلوالأصوات بغناء كأنه عويل ونواح، يسيرون على اللظى المشتعل... يمشون حفاة على الزجاج الحاد.. يشربون ماء يغلي ويفور على النار، ويقذفون كرات حديدية إلى الأعلى فيصدوها برؤوسهم فتسيل الدماء، يستعرضون القتال بالخناجر والسيوف ويحتد الإيقاع.. ينقضون على التيس القابع في الوسط يمزقونه بمخالبهم الطويلة إربا إربا يفترسون لحمه نيئا ويصرخون، ويزداد قرع الطبول..
مشاهد مريعة قذفت الرعب والذهول في نفوس الحاضرين اقشعرت لها الأبدان، اغرورقت العيون وانهمرت الدموع، تراهم حيارى لأن مشاهد الحضرة كانت رهيبة، تنجلي فيها أسرار الحقيقة، كشفت عن شطحات في علم الغيب، ترتقي فيها الأرواح لتتوحد من جديد..تغير الإيقاع رويدا رويدا لتهدأ النفوس وتتآلف.. اطمأنت وامتزجت واحدة موحدة.. تغني وتنشد..تهوى وتحب..تصحو وتثمل ترى الكل واحد.. تبصر الواحد في الكل.. كأنما مسها سحر مبين.. صارت قابلة كل دين..عرفان توراة وإنجيل..كأنما بدين الحب مبصرة..ناظرة متشوقة.. تميل أينما توجهت ركائب العشاق والأخيلة..إنها الحضرة ..وحدت الخواطر والعقول بعدما كانت فيما مضى شيعا وأحزابا متفرقة، تزور الحي كل سنة قادمة من زوايا عتيقة، كانت نبراسا ساطعافي تاريخ الدفاع عن الفقراء أيام المحن والحروب.. وهاهم يغادرون الحي يتبعهم البوهالي إلى ضاحية المدينة، يصفق ويرقص على أنغام الدفوف والطبول وسط جموع "الحمادشة" إلى أن يتوارى الموكب الضخم المهيب، في الغابة الكثيفة وسط الظلام، لم يستطع البوهالي حينها مرافقتهم فعاد أدراجه إلى مكانه الآمن بعيدا عن زحمة السير وهول" الحضرة".. قريبا من عقله وخياله، هام على فراشه من شدة التعب "فأيقظته طرقات قوية يشق صداها همس السكون، يأمر الحاضرين التزام الهدوء لسماع أقوال الشهود..قام من فراشه فزعا ملتفتا يمنة ويسرة صارخا بأعلى صوته "محكمة".
- نرجو من محكمتكم الموقرة استدعاء المقدم "عبد الله الراجي " للإدلاء بإفادته عن مجريات التحقيق وما ورد في محاضر الاستدلال.
- سيادة /"المقدم عبد الله" بما أنكم أشرفتم على معاينة المكان أثناء تفتيش مسرح الجريمة، لم يأت الذكر إلى أية مجوهرات أو أموال أو مقتنيات ثمينة خفيفة الوزن عثر عليها في المنزل محل الحادث.. كيف؟.
- نعترض عن طرح أسئلة خارجة عن نطاق الموضوع.
- الاعتراض مرفوض ونأمر الشاهد الإجابة عن أسئلة الدفاع.
- ليس لدينا علم عن من يملك المجوهرات أو من لا يملك أثناء معاينة الحوادث، إن كنت تلمح في سؤالك: إن كان المكان المذكور تعرض للسرقة.. أجل هناك احتمال كبير في تعرض محل الحادث للسرقة.
- ما الدليل على ذلك سيادة المقدم؟ ولماذا لم تتم الإشارة إلى هذا الاحتمال في تقرير المعاينة المرفق بالمحضر؟..
- موضوع القضية"القتل العمد مع سبق الإصرار بدافع الانتقام وليس بدافع السرقة" لكن البحث مستمر من قبلنا إن كان محل الحادث تعرض للسرقة أو من عدمه..
صمت محامي الدفاع قليلا واقترب من منصة الشهود ثم رفع نظره نحو الشاهد موجها له السؤال كأنه يعرفه أو صديقا له وليس شاهدا، فتعمد تغيير نبرة صوته إلى الهدوء والتوضيح أكثر.
- الرغبة...الغضب...الطمع...الانتقام، دوافع كانت آثارها جلية في مسرح الجريمة، دوافع كفيلة لإقناع المحكمة بإدانة أي متهم توفرت فيه هذه الدوافع، لكن لو أخذنا على سبيل المثال تقريري الطب الشرعي والأدلة الجنائية نجزم بالقطع بأنه لا وجود لدافع الانتقام فليس هناك أي آثار أو عينة أو تحليل على الرغبة أو الشهوة بصورة أوضح، إذن فالعلاقة السببية تغيب معالمها الرئيسية هنا مما يضعف القصد في الإقدام على الفعل، لكن يا ترى من تتوفر عنده كل هذه الدوافع ليرتكب هذا الجرم الشنيع؟ أليس كذلك سيادة المقدم؟ أم هناك دوافع أخرى بنيت على أسس واضحة و ثابتة ولم تطلعوا عليها هيأة المحكمة؟. - أعترض سيدي القاضي فالدفاع يحاول صرف نظر هيأة المحكمة الموقرة عن الدافع الحقيقي والواضح لارتكاب المتهم جريمته النكراء.
- الاعتراض مرفوض.
- إن وضعية المجني عليهما في مسرح الجريمة تثبت دافع الانتقام لدى الجاني..
- يقول الطبيب الشرعي في إحدى فقرات تقريره الذي بين أيديكم نسخة منه:
"... تظهر سجحات على معصم المجني عليهم بسبب قيد أو حبل استعان به الجاني على تثبيت ضحاياه كي لا يتمكنوا من المقاومة أو الفرار..." أين اختفى هذا القيد أو الحبل؟ لماذا لم يحرز وأداة الجريمة؟ نرجو من الشاهد أن يوضح لهيأة المحكمة الموقرة لماذا؟.
لم يجد الشاهد جوابا مقنعا وصمت قليلا ثم قال باقتضاب:"
- لم نجد قيدا أو حبلا مكان الحادث".
- أثناء مراجعتنا الشريط المصور المرفق بمحضر الاستدلال، يشخص فيه المتهم كيفية قيامه بالجرم، لاحظنا أنه لم يقم بفعل يدل على تثبيت الضحايا بقيد أو حبل، وهذا يناقض ما خلص إليه الطب الشرعي؛ نرجو من الشاهد التوضيح والإفادة ما يفسر هذا التناقض ؟.
- سيدي القاضي إن الدفاع لا يلتزم بالوضوح في طرح أسئلته على الشهود، بل يبحث عن أسباب ظرفية واهية؛ سواء استعمل الجاني القيد أو الحبل، فالمجرم اعترف بجرمه وقام بتشخيصه كما دل على ذلك الشريط المصور الذي بين أيديكم.
- الاعتراض مرفوض.. ونأمر الشاهد الإجابة عن أسئلة الدفاع.
- الجواب عن السؤال من اختصاص مدير قسم الأدلة الجنائية والطبيب الذي عاين الحادث ومن أسندت إليه مهمة التشريح.
- سيادة المقدم.. هل الإجابة على بضع أسئلة تتضمن ماذا جرى؟ وأين؟ وكيف؟ ومتى؟ كفيلة لإحالة أي متهم لحبل المشنقة والإجهاز عليه باسم القانون؟؟.
- إن هذه الاستفسارات والأسئلة لا تتفق ومقتضيات الواقعة، كما أن المتهم قد أجاب على كل الأسئلة الموجهة إليه بوضوح يا أستاذ.
- لنفترض ونسأل مرة أخرى.. ماذا جرى ؟ وكيف؟ من أين دخل المتهم وأجهز على ضحاياه ؟... تسلق الجدار!؟ وفاجأ المجني عليهما داخل غرفة نومه متلبسين بالجرم المشهود واشتعل رأسه غضبا؟ .. ثم أحضر السكين وهما ما يزالان على السرير ينتظران قدومه ليفعل بهما ما يراه مناسبا له .. !
فصمت قليلا ثم اقترب من الشاهد وغير من نبرة صوته ليطرح السؤال بشكل مغاير مضيفا:
- لكن هل يعقل لرب منزل أن يتسلق جدار منزله إلا إذا أضاع المفتاح؟.
- يعتقد..
- من يعتقد سيادة المقدم ؟ من قام باستجواب المتهم والتحقيق معه ؟ أوالمتهم ؟أوهما معا؟
- المتهم لم يفصح عن أسباب نواياه أثناء التحقيق معه..
- القانون لا يجرم النوايا، وبما أنكم تشغلون رئيس قسم، فقد صدر تقرير أمني من وزارتكم الموقرة يفيد:" بأن معدل الجرائم الواقعة على النفس المقيدة ضد مجهوليفوق ستون بالمائة، والتي هي ضمن اختصاصكم سيدي يفوق خمسة وثلاثون بالمائة حسب "مركز الإحصاء والمتابعة.." ألا تعتقد أن هذه الواقعة لها علاقة بسلسلة جرائم وبنفس الأسلوب وبشكل مغاير؟.
- أعترض حضرة القاضي عن الخوض مع الشاهد في أمور خارجة عن الموضوع.
- أرواح الناس وضحايا القتل المتعمد والمقصود ليست خارجة عن الموضوع سيادة المدعي العام.
- الشاهد له الاختيار في الإجابة.
- ما ورد في التقرير صحيح وقد عرضت كلها على النيابة العامة في حينه، ومازال الأمر فعالا باستمرار البحث عن مرتكبي هذه الأفعال؛ وسيعاد التحقيق عن ملابسات عدة قضايا من جديد.
- نكتفي بسؤال الشاهد.
غادر المقدم/عبدالله الراجي قاعة المحكمة في حالة شديدة من التوتر والقلق؛ تشوبه حالة من الامتعاض والحيرة، دخل مكتبه وشعر بالاختناق، فك ربطة العنق وجلس على الأريكة يفكر في نفسه وما وقع فيه من إحراج داخل قاعة المحكمة وهو المتمرس والأفضل في كشف حقائق الأمور، يسأل نفسه عن الأسباب وما آل إليه موضوع القضية..
ومازال يعاتب نفسه ويفكر..ثم يثري ويعسر إلى أن دخل عليه مساعديه الملازمين أحمد الغيلاني وصابر جسوم، وقد لاحظا مدى الحزن الذي يبدو جليا على ملامح وجهه فقال صابر:
-" إللي وقع أعبد الله فقاعة المحكمة كلنا نتحملوا مسؤوليته ولابد من إعادة النظر فالموضوع.
قال عبد الله:
- ما شي معقول هاذ القضية تصبح صخرة واعر تزعزعها من مكانها.."
رد عليه أحمد قائلا
- لا يا سيدي حنا أمام مجموعة من الوقائع والأحداث كتحتم علينا نوضحوا الحقيقة.
فقال صابر بنبرة أقرب إلى السخرية
"- غدا تسمع لخبار.. صرنا هدف سهل فمرمى الصحافة لابد من حسم هاذ الموضوع بالسرعة الممكنة".
فشرعوا في إعادة ترتيب الوقائع، وناقشوا ما جرى في قاعة المحكمة ثم وزعوا المهام فيما بينهم وغادروا مكاتبهم في وقت متأخر من الليل.
هناك يسطع ضوء الكون خافتا عند شفق الفجر مطلا على السور العتيق ماسحا على جداره غبار الزمن لتقرأ على واجهته بخط ثلاثي عريض وإذا حكمتم بين الناس..وما تلاها من الحروف والكلمات جرفتها أنامل المطر المتدفق على واجهته أزالت كفة الميزان الذي يعلو يمين دار القضاء وسقفه العالي حين تمر بجانبه عربة يجرها حصان عليها هدايا وأكياس الدقيق، تتبعها مجموعة من النسوة قاصدات زيارة الضريح الكائن وسط الجبل، إنه الموسم الذي تقد فيه الشموع وتهدى فيه الأضاحي والقرابين تقربا لما يرغبن في تحقيقه، لم يجد البوهالي حرجا في مرافقتهن إلى هناك، إلا أنه آثر الجلوس بالقرب من مكان الزيارات ومشاهدة المدينة من ذاك الارتفاع، بدت له المدينة صغيرة يكاد يبتلعها البحر ويغمرها النهر، والسور العتيق يزحف ببطء نحو رمال الساحل، فغاصتذاكرته في أعماق الماضي.وحكايات تداولها سكان الحي عن أسطورة الوادي ومدينة الساحل والجبل.
تقول الأسطورة:"عندما يغضب المحيط وتعلو الأمواج يشتد الظلام، يزبد البحر ويرعد، تتيه الزوارق بين اللجج العالية ولا سبيل للنجاة، فجأة تشتعل قناديل مضيئة من أعلى الجبل تغشى أنوارها السماء، ترشد البحارة اتجاه الميناء، فيهدأ البحر رويدا رويدا..ثم تنطفئ القناديل وتتوارى وسط غار داخل الجبل المطل على الميناء.."
قيل إنه كان رجلا صالحا من أهل المدينة، آوى إلى ذلك الكهف وقال:"ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا" زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، مكث سنين إلى أن لاقى ربه، تنازع البحارة في ما بينهم فأجمعوا على أن يبنوا عليه ضريحا ويطلقوا عليه اسم "سيدي بو القناديل"، تيمنا ببركاته؛ محجا للزوار الأجانب، وملاذا لمن ضاقت به السبل راغبا في تحقيق مراده، فصار المكان معلما من معالم المدينة يعلوه حصن منيع على قمة الجبل، صفت على أسواره مدافع ضخمة حديدية قوية تطل على البحر؛ كانت تصد الغزاة القراصنة الأشرار، وتحرس المدينة.
مدينة الساحل وخليج تاملالت؛ السهل الغربي من نهر سوس، على ضفة وادي الحور" حي الفداء" و"زنقة الفقراء"، كتب على جدارها بخط كوفي عريض:" لئن حكمت الأقدار بخراب مدينة أغادير، فإن بناءها موكول إلىإرادتنا وإيماننا"، إرادة من ذبحوا قرابين على تمثال الحرية، مدينة لم يثنيها الزلزال على الصمود والثبات ومواجهة أيام قاسية خلت، عايشها البوهالي وشهدتها أسوار" مدرسة السعدي" العتيقة، و"حمام الزهور" و"فران الشعلة" المفعم بنكهة الرغيف الساخن اللذيذ، وعبق خشب الأركان المحترق يعلو فضاء الحي الغارق في الزحام بين صفاء الأديم وقتام القديم..
كان يحس الدفيء بين دروبها وأزقتها الضيقة، كانت في ما مضى ملتقى السمار يحلو على عتباتها السهر، وتجاذب ملح الحوار وروائع الحديث واستنباط عينه من معينه.. يقف بالجوار مسترقا السمع إلى ما يدور من جزيل الكلام في حلقات تتوسطها صينية الشاي الأخضر، عليها كؤوس تزهر بنقوش تبهر، تملأ الأرجاء بعطر النعناع والعنبر حلو المذاق لذة للحاضرين، هدية من بيت" الحاج عمار" الذي قال عنها للسامرين:
أراها عطر الأرض لا طيب بعدها ومن ركب البلقاء لن يغلبه المهر
في الطرف الآخر من الحي تصطف المقاهي والدكاكين على طول الشارع المزدحم بالباعة المتجولين.. موزعي الجرائد وماسحي الأحذية، المتسولين والمجانين، ترتسم على محياهمالقسوة وضراوة سنوات عجاف شهدتها المدينة، عم فيها الفقر والضياع وكثر البغاء، سادت اللصوصية والاستيلاء على الأموال والضياع إبان زمن عسير تقمع فيه الذاكرة، تكتم فيه الجراح وتكمم الأفئدة.
أرهقته العيون ونظرات تائهة متسائلة، فآثر الرحلة إلى الوادي القريب من الحي، لينأى بنفسه بعيدا عن هموم المدينة وصخب الشوارع، يعبر الضفتين ليصل إلى بساط أخضر شاسع يعانق السماء على امتداد ينحسر في آفاقه النظر إلى حدود اللانهاية، مراتع بهية نضرة؛ يغشاها عطر الشيح والزعتر والنعناع.. نكهة أشجار الصنوبر والزيتون والأركان، زهور الفل والياسمين يملأ رحيقها المكان، ألوان من الفراشات والعصافير والطيور تلون فضاء الوادي العتيق، نور يفيض من أشعة الشمس يداعب وميضه الماء الرقراق، كأنه لآلئ ودرر نثرتها على الوادي يد صانع مكين.
على ضفاف هذا السهل الخصيب، استلقى على ظهره متأملا زرقة السماء الصافية، مستمتعا بسامفونية يعزفها الوادي المنساب من أعلى التل في لحن قوي مهيب، يوقظ عطر الأرض ورحيق التراب، كأنه صدى صوت قادم من زمن سرمدي سحيق، من بين خلجات الريف والأطلس الكبير، من قمم شاهقة تنحني تواضعا لمن يعشق الحياة ويحب الأرض والوطن، إنها موسيقى صامتة بعيدة عن زحمة الحي و كلاب المدينة، لا منابر هنا تزعج السكون ولا هررةتطفئ الشموع وتلعن الظلام، كأن هذا الصدى وقع لحذافير الخيل القادمة من قمم الريف والأطلس الشاهق وجنوب الصحراء تدك الأرض وتعبر الزمن، يرى أطيافها تمر عبر السحاب في نظام وانتظام، مسيرة سلم وسلام تحية لمن هم نيام على ضفاف هذا الوادي تحت الثرى أيقاظ، تحية لمن فاضت أرواحهم على قارعة السهل والساحل والجبل.
كان الماء يندفع بقوة، يجرف صندوقا محكم الإغلاق تتهادى ألواحه بين الصخور والأحراش، قادما من الينبوع؛ من مصنع قديم قابع على رأس الجبل، يقال: أنه كان معقلا للجن والعفاريت، بناه والي المدينة ليعاقب المارقين منهم والمعارضين لحكمه والدراويش, ظل مهجورا إلى أن أصبح يعرف بمصنع" شمعون القراب"، الرجل الذي عرف عنه الجود والإحسان، يعين الفقراء والمحتاجين والضعفاء، يهدي الهدايا والصدقات أيام السبت وأيام المحن والنكبات، لا يزده الثراء إلا تواضعا؛ سكان الحي حزنوا لرحيله، ولا غرو إن كان الصندوق يحمل بركات المصنع وصاحبه، لما أخرجه من الماء تذكر الحكاية، كان الراوي العجوز"عبد السلام الحلايقي" يرويها بلحن الربابة الحزين وصوت شجي:" حكاية صياد فقير، قنوع بما يجود عليه البحر به، راض بنعمه عليه حين يقول: ".. ليس للنعم أعدى من نفس العبد؛ فهو من عدوه ظهير على نفسه، فعدوه يضرم النار في نعمه وهو ينفخ فيها، حتى إذا اشتد ضرامها استغاث من الحريق،وكان غايته معاتبة الأقدار، وما أنت بالمعطي التمرد حقه إذا كنت تخشى أن تجوع وأن تعرى..." رمى شباكه في الأعماق فأخرج صندوقا ظن فيه الحلي والذهب، فتحه و خرج منه العجب، عفريت مارد جبار جعله حاكما على المدينة، وأخذته العزة بالإثم والكبرياء بالقوة؛ طغى وتجبر، سلط سيفا على الرقاب وأعناق العباد وكان مصيره الهلاك.." فماذا يحوي هذا الصندوق يا ترى؟ أهي ألواح توراة ؟ أو قربانا حمله الوادي لسكان الحي ذكرى" شمعون القراب" بعد رحيله، سيطرق باب منزله القديم في" زنقة الفقراء"، بيت آبائه وأجداده من كانوا هنا ولم يرحلوا، سوف يخبرهم أن من يهجر أرضه لا أرض له، من يمكر بوطنه تمكره الأوطان، ليس الحب يا سيدي أن تكون مستحوذا على القلوب والعقول، إنما هو شوق أبدي راسخ كنهر الخلود، نور لا تغشاه الظلمة، إحساس يتدفق يروي النفوس ويحيي الأمل إيمانا بما نحب، لا ينزع غصبا وقهرا، لا يشترى بكنوز الأرض، إنما يسترد بدماء زكية طاهرة عطرة..الحب يا سيدي كلمة عزيزة غالية، من أجلها حطمت الأقفاص لترفرف الأجنحة عاليا في سماء الحرية، لعل في الصندوق أغصان زيتون من أرض سوس؛ كنت ستهديها لرفاقك هناك في حي المغاربة يوم الرحيل، بدل أمطار الصيف الحارقة وعناقيد الغضب لقتل الأطفال والأحلام وذبح البشر والحمام، واغتيال الحب والإنسانوالسلام .. لكن لم يجد فيه سوى أوراق مهترئة خربة وقنينة صفراء فاقعة، أنتجتها شركة "مونتيكا كا" المحدودة، تأبط الأوراق وتجرع ما في القنينة، تهاوت الأرض تحت أقدامه فضل السبيل، نشوة عارمة أيقظت فيه رغبات كانت دفينة.. سجينة سجينة، كسرت أغلال الحياء؛ حرضته على الغناء فأنشد:
- العيون عيني يا...
- والواد وادي يا سيدي ..
- الواد وادي ..
- نمشيوا في كفوف السلامة ..
- إيماننا يحطم كل طاغي جبار...
- وعلى بلادي يا سيدي على بلادي.
تبدلت الأشياء والأشكال والبشر..الناس صخور وحجر..عم الظلام في العيون لا بدر ولا قمر.. نزع سرواله أمسك بلحيته .. وسط الحي، يضحك في هستيريا ويوزع أوراق الصندوق، يعد غيران النمل وسط ساحة الحي.. يحتسي ثمالة القنينة الصفراء مرددا في وجوه المارة " تورا..بورا.. بورا..اللي شافني تعمر بلادو قبورا.."
يوزع أوراق الصندوق، و بدت له نفسه كظل حزين بعيد عنه فسأله:
- لماذا ابتعدت عني يا صاحبي والظلام لم يحن بعد.. ألم تر أعمدة النور موقدة؟
- أثرت مشاعر أهل الحي..
- إنها نشوة الحرية..
- إنك أحرجت سكان الحي .
- لا حياء في الديمقراطية يا صاحبي..
- إنك توزع صورا ...
- إنها الحقيقة.
- وما شأنك بالحقيقة؟
- إنهم باعوا ريع أوطانهم" لشمعون القراب"صاحب شركة "مونتيكاكا"المحدودة..
- وما شأنك أنت؟
- هاجر وطنه ونسي الصندوق.. تناسى الصندوق ميراثه.."تورا..بورا.. بورا..اللي شافني تعمر بلادو قبورا"..
اتجه صوب عمود النور، دس أنفه بين شقوقه الخشبية، أمسك لحيته الشقراء رافعا إحدى قدميه على حافة العمود مرددا:" بورا.. بورا.. اللي شافني تعمر بلادو قبورا.." فاجتمع القوم على البوهالي وتعالى اللغط والصراخ تهاوى الضرب على رأسه وجسمه النحيف، وهو يضحك التذاذية والدم ينزف من أنفه، نعتوه" البوهالي المجنون"...أغمي عليه... فبدا له ثور ضخم يخرج من الصندوق يكسو جلده شوك وسهام، يركض مخترقا سردابا لانهاية له، يقترب منه شيئا فشيئا فلاذ بالفرار بين الشوارع والأحياء مرددا:
-"بورا..تورا..بورا".. الثور يلحق به وهو يركض هنا وهناك يحاول الاختباء منه مرددا:"تورا..بورا..بورا..تورا"، فجأة يجد نفسه مرتميا بجانب سور المحكمة العتيق، مستلقيا على فراشه البالي يئن من ألم الكدمات، لم يكن يعلم أن لعنة الصندوق لن تبرح الوادي والساحل والجبل فأهل الحي أوسعوه ضربا.. رجموه بالحجارة دون محاكمة..
-"محكمة"..
- باسم العدالة نفتتح الجلسة والكلمة للمدعي العام.
- حضراتي القضاة حضراتي المستشارين، إن محامي الدفاع حاول استعمال جميع الحيل القانونية والغير القانونية والطعن في الأركان المادية للجريمة، والتقليل من قوة العلاقة السببية في القضية، لإقناع محكمتكم الموقرة ببراءة هذا المتهم؛ والتشكيك في الدلائل المقنعة التي بين أيديكم، محاولا الوصول إلى فرضية الشك الذي يفسر لصالح المتهم، مستعينا بشهادة طفل أصم وأبكم ومرة أخرى بشهادة أرملة وهذا لن يغير من مجرى العدالة شيء، كون اعتراف المتهم يعتبر سيد الأدلة والدوافع الجلية وراء إقدامه على ارتكاب جريمته النكراء، وعليه أناشد عدالتكم أن لا تأخذكم الرحمة بهذا السفاح الخطير؛ وتطبيق أقصى العقوبة عليه، ليكون عبرة لغيره.
- حضراتي القضاة حضراتي المستشارين، ليس العدل أن نطالب بتطبيق المواد القانونية والتشديد على تنفيذها نصا ثابتا لا يقبل التأويل، فالعدالة يا سيدي قوانينها روح للحق تحتضنه وتنصهر معه؛ كالتبر حين يماط عنه التراب هو الحق الذي لا يراد به باطل، فكل يشرفه الحق يبجله ويؤيده، بغض النظر عن منابعه العذبة من أين تفيض، إن كانت تروي النفوس الظمآنة المتشوقة لإحقاقه، حضراتي القضاة حضراتي المستشارين، لقد تم التوصل من خلال فريق من المحامين الشباب إلى بعض الوقائع التي لها علاقة وطيدة بالقضية لا تنفصل عنها، مع احترامي للزميل المدعي العام..فلا يمكن للجزء أن يفصل عن الكل ومن لا يدرك جزؤه لا يترك كله.. وهذا راجع لعدم إلمام بعض أجهزة الضبط القضائي متى تستوفى الشروط القانونية لرفع بعض البلاغات إلى القضاء كأجزاء متسلسلة مترابطة صائبة بين البراهين والدلائل والأفكار والآراء، إن هؤلاء الشباب توصلوا إلى نتائج مهمة في هذه القضية رغم تعرضهم للمضايقات أثناء عملهم الجاد من أجل الوصول إلى الحقيقة وتحقيق العدالة، فقبل استدعاء أحد شهود الإثبات الذي يجلس بين الحضور نطلب من عدالتكم السماح لنا أن يقبل المستشار عبد المنعم الذي يجلس بجانبكم ويمثل الحق والعدل وتطبيق القانون أن يتقدم إلى منصة الشهود.
تعالى الضوضاء داخل القاعة، وبدا الذهول على وجه "عبد الله الراجي" ومساعديه، لم يستوعبا ما الذي يجري بالضبط، فأمر القاضي التزام الهدوء وهدد بجعل الجلسة مغلقة إن لم يلتزم الحاضرين الصمت.
- إن ما يطلبه محامي الدفاع لا يجوز قانونا، ضاربا عرض الحائط ما يسمى بالحصانة القضائية، لذلك أطلب من محكمتكم جلسة مغلقة للنظر في الموضوع كما ألتمس من حضرتكم توقيع عقوبة الحبس مدة 48 ساعة في حق محامي الدفاع على ما أقدم عليه.
- نأمر بحبس محامي الدفاع 48 ساعة.. وتؤجل الجلسة..
قبل أن يكمل القاضي قراره رافعا المطرقة معلنا تأجيل المرافعة استوقفه المستشار "عبد المنعم" قبل الضرب بها وبت القرار واتجه مباشرة إلى منصة الشهود رافعا يده اليمنى ناطقا يمين الشهادة مضيفا:
- أنا المستشار عبد المنعم السملالي أعمل في سلك القضاء 30سنة؛ و من مبادئنا النزاهة و تحقيق العدل؛ ورفع الظلم عن المظلوم ومعاقبة الظالم. فإن كان مثولي على هذه المنصة سيساعد في تحقيق العدل فهذا واجب لن أتراجع عنه؛ ولمحامي الدفاع أن يسأل ما يشاء.
- سيادة المستشار..
- اسمي في هذا المنبر الشاهد" عبد المنعم السملالي" ولست مستشارا هنا، ليعلم الجميع أن على هذه المنصة تنزع الألقاب والنياشين والأوسمة لحين الانتهاء من الشهادة، وقد أقسمت أن أشهد بالحق ولاشيء غير الحق.
-" عبد المنعم" هل لكم سابق معرفة بالمجني عليها "الصوفي زينب"
- بلا أعرفها جيدا؛ كان المتهم يأتي بها إلى المنزل لتساعد زوجتي في أعمال البيت ثم تعود إلى بيتها عزيزة كريمة، و كانت ذات أخلاق عالية.
- هل زارتكم في المنزل يوم الحادث؟
- نعم اصطحبتها زوجتي إلى السوق لشراء بعض أغراض المنزل ثم رجعتا مع السائق.
- هل أخبرتك زوجتك عن حادث وقع لهما في السوق؟
- أجل أخبرتني بأن المجني عليها شاهدت سيدتين برفقتهما رجل، فاشتبهت بأن إحداهما تشبه أختها المفقودة منذ 16سنة لأن علامة مازالت على وجهها تدل عليها كما ادعت، لما اتجهت نحوهم ونادتها باسمها؛ قام الرجل بالإحالة بينهما واختفوا الثلاثة وسط الزحام، وعادت المجني عليها إلى منزلها كئيبة حزينة ليلة الحادث.
- إن محامي الدفاع قد تجاوز حدوده وأخل بالشروط المنصوص عليها، محاولا إثارة مشاعر العامة وخلط قضايا التغيب بجريمة قتل من الدرجة الأولى.
- سيدي المدعي العام إن التقرير الذي بين يدي يتضمن 3400 جريمة خطف قيدت في بلاغات الدرك والشرطة بتهمة التغيب أو الفرار من المنزل؛ وأكثر من 70جثة عثر عليها في ضواحي المدن والغابات قيدت في البلاغات الواردة على أنها انتحار.. لصالح من؟
فتح كيسا وأخرج منه مئات الصور لضحايا قد مثل بجثثهم ووضعها على منصة المدعي العام ثم أضاف...
- حضراتي القضاة حضراتي المستشارين: إن الجريمة التي نحن بصددها هي ضمن سلسلة من جرائم منظمة يجب الكشف عن مرتكبيها..! ما المجدي إن كان جهاز الأمن وجد في موكلي كبش فداء بامتياز؟ ليتخلى عن مسؤوليته المنوطة إليه بقوة القانون والدستور وهي حماية المواطن في نفسه وماله.. لماذا نحن نؤيده على هذه اللامبالاة ونصمت عن قول الحق.. ما ذنب الضعفاء والفقراء إن كان الفساد والرشوة يستشري في جهاز من اختصاصه حماية أرواح المواطنين، وليس التواطؤ مع الجناة ومعاقبة المظلوم ومكافأة الظالم على ظلمه.. إن كل هذه القضايا مرتبطة ببعضها، ومعظم الضحايا قاصرات ينحدرن من أسر فقيرة، ومعظمهن من سكان البوادي والقرى، لصالح من نتستر على الجاني الحقيقي ونحاول حجب الحقائق؟ إن هيأة الدفاع موجودة هنا ليس للدفاع عن هذا المتهم فقط، وإنما لرفع الظلم وكشف الحقيقة، إننا نطلب من المحكمة الموقرة استدعاء معالي وزير الداخلية للشهادة.
تعالت أصوات الحاضرين وعمت الفوضى داخل القاعة، تدخل حينها رجال الشرطة وأخرجوا الحاضرين من حرم المحكمة بالقوة، وألقي القبض على محامي الدفاع وسيق المتهم إلى محبسه، وأجلت الجلسة إلى إشعار آخر على أن تكون مغلقة.
احتقن الرأي العام، ونظمت مظاهرات تطالب بكشف الحقيقة..
اتصل المساعد صابر الغيلاني هاتفيا بعبد الله الراجي يسأله:
- سمعت الأخبار هذ الصباح؟ "فقاطعه "
- ما فيها غير الحروب واحد يقتل الآخر تصمكنا من كثر ما نسمعوا كل يوم يكفينا اللي حنا فيه..
- لا ..لا..مش هذا اللي قصدت ..أعلن رسميا استقالة الوز..
- شنو قلت..!؟ بغيتكم فالمكتب حالا.
سمح لهم بالدخول إلى مكاتبهم، دهشوا عندما شاهدوا مجموعة من الضباط والمحققين أوقفوا عن العمل ووضعوا تحت الحراسة، كانت مجموعة من القوة الخاصة استلمت أمن الإدارة يتلقون التعليمات من العقيد" نبيل صروف" الذي كان على رأس إدارة تابعة للشؤون الداخلية تدعى" إدارة مكافحة الفساد" تراقب وتتابع المصالح العامة سواء كانت عسكرية أو مدنية. سأل " عبد الله الراجي العقيد نبيل" وقال له:
- ما هي الأوامر والتعليمات الآن سيادة العقيد؟
- تم تغيير هيكلة هذا القسم وتقسيمه إلى عدة فروع، وتم اختيارك رئيسا له، ولك صلاحيات تخول لك تعيين من تراه مناسبا من المنتسبين؛ وما قد تحتاج إليه من الدعم سيكون تحت تصرفك، كما أننا أسسنا مكتبا في الطابق الأول تابعا لإدارتنا مباشرة للمتابعة، وكل هذه القضايا المحفوظة والمتراكمة في الأدراج مهملة في طي النسيان نأمر بإنهائها في أقرب وقت ممكن حسب الإجراءات والتعليمات المتبعة، إما بضبط الجناة..أو ردا مقنعا حول ما توصلت إليه تحرياتكم حولها، على أن يكون شرحا مفصلا كاملا عن ملابسات أي بلاغ، وجرد كل القضايا المحفوظة وإعلامنا أسباب حفظها ومرجعه مرفقا بتحصيل حاصل للوقائع والأحداث.
- علم سيدي.. لكن سيادة العقيد بخصوص الموظفين الموقوفين عن العمل؛ لقد ....
أشار إليه نبيل بيده قبل أن يتم كلامه قائالبوهالي 2-رقصة النورس - حساباتهم المصرفية تعاني من التضخم..قد تسبب.... في نقل عدوى التضخم للآخرين يجب علاجها قبل أن يتفاقم..
نظر اليه عبد الله وقال في نفسه:
- نرجو أن نكون عند حسن ظن الجميع والله المستعان.
غادر العقيد نبيل مديرية الساحل على رأس قافلة من القوة الخاصة تتحرك بانتظام متجهة إلى مقرها الرئيسي، فوجد عبد الله الراجي نفسه محاصرا بين مئات القضايا الجنائية المعقدة، مطالبا بالكشف عن حقائق سوف تأتي على الأخضر واليابس إن أميط عن مكنونها الستار، .. وأبلغ الجميع بالحضور إلى اجتماع طارئ في قاعة الاجتماعات فتم توزيع القضايا والمهام كل حسب اختصاصه، فكانت أول مهمة لهذا النظام الجديد: الكشف عن الحقيقة في قضية " الشاوش مصطفى بالعربي".
انتشرت قوى الأمن في كل أرجاء المدينة؛ وبالبحث وجمع المعلومات تم القبض على السيدتين والرجل الذي كان برفقتهما في أحد الأوكار المشبوهة، وتم جلب كل من كان متواجدا فيها إلى مديرية الساحل، وبدأ المقدم عبد الله الراجي ومساعديه التحقيق معهم كل على حدة، فمعظم اللواتي ضبطن وسئلن عن سبب قيامهن بممارسة تلك الأفعال في تلك البيوت، ورد في اعترافاتهن بأن الدوافع تكمن قصد التكسب والاسترزاق بسبب الفقر والحاجة، وهناك قلة منهن ميسورات الحال أفدن بأن الدافع هو الرغبة ولا شيء غير الرغبة والمتعة وليس المال؛ بل هن من ينفقنه بسخاء لأجل ذلك، إلا واحدة منهن أفادت بدافع الانتقام، مدعية بأنها أجبرت على الزواج من رجل عجوز في السبعينات من عمره وهي شابة فاتنة في سن الثامنة عشرة وهذا يناقض السعادة والعيش المتكافئ والمشترك وتحقيق الرغبة المنشودة التي تفرضها طبيعة المجتمع الإنساني حسب رأيها.
وجهت لهن تهمة ممارسة الدعارة والتحريض على الفجور، وتليت عليهن أقوالهن ووقعن عليها، وعرضوا على النيابة العامة في حينه لإجراء اللازم، ثم شرع مباشرة في التحقيق مع الثلاثة الذين لهم علاقة بموضوع."الشاوش مصطفى بالعربي".
- اسمك الكامل وسنك ؟
- فنيدة عمري 20سنة
- اسمك الكامل؟ … -
لا أعرف
- اسم والدك
- قالت لي لللا الكبيرة والدي اسمه عبد القادر!
- من هي لالاك الكبيرة؟
- اللي رباتني وأنا عمري سنتين وعلمتني الخدمة..
- ماهي علاقتك بالشخص الذي كان برفقتك؟
- سيدي" حمو".. ولد الباطرونة للا الكبيرة..
- أين تقيم الباطرونة ؟
- فالفيلا رقم45 حي الأمان واه معرفتيهاش.. عندها بار ليالينا...
- ماهي طبيعة عملك؟
- "قهقهت".. الطبيعة !!.. ؟ كل شيء على الطبيعة! أواه الناس كلهم كيعرفوا طبيعتي..
- أجيبي عن السؤال بوضوح؟
- نسهر مع الزبائن فالبار بوضوح.. واللي يدفع أكثر يفوز بليلة من ليالينا.. فالطبيعة يا سيدي والضو شاعل نعم أس بوضوح..
- أنت متهمة بممارسة الدعارة فما قولك؟ - يا سيدي هذا قدرنا وحنا راضيين بالمكتاب وهاذي حال الدنيا واللي مكتوب عل الجبين لازم تشوفوا العين..
- هل لديك أقوال أخرى؟
- لا
أمر عبدالله بإحضار السيدة الأخرى؛ لما مثلت أمامه ورفع عينيه إليها نظر إلى مساعديه، فكانوا متفقين على نفس الملاحظة: "الشبه الكبير المشترك بينها وبين المجني عليها":
- اسمك؟ وسنك؟
- شيرين
- اسمك الكامل؟
- اسمي الحقيقي الصوفي زهرة 28سنة
- ماهي علاقتك بالمدعو" حمو" والمدعوة فنيدة؟
- المدعو" حمو"ولد "اللا الكبيرة".." الباطرونة" و"فنيدة" صاحبتي فنفس العمل فلبار والبيت.
- أين تقيم أسرتك؟
- دوار الشايب
- ما سبب مغادرتك دوار الشايب؟
- تخطفت من الدوار ملي كنت صغيرة وحبسوني بعد ما غتاصبوني وعملوا فيا اللي بغاوا(صمتت قليلا ثم تابعت الكلام وكأنها تذكرت شيئا كانت قد تناسته).. وتصور معايا يا سيدي بنت عمرها سبع سنين كيف غادي يكون حالها إلى تعرضت لهاذ لعذاب وأنت عارف.. تعرضت الأقسى العقوبة إلى رفضت نام مع الزبون كيهددوني باش انتقموا من كل عائلتي إلى حاولت نهرب... ومعايا بنات آخرين واقع ليهم اللي واقع لي ومازالوا محبوسات كايعانيوا من القهر وقلت الحيلة وكيستناوا الله يحن أما العبد ما بيده حيلة..
- من يهددك؟
- " حمو" واللي معاه..
- من قام باختطافك من دوار الشايب؟
- عمي عياش باعني لواحد وهو بدوره باعني لباطرونة".. - كيف؟
- ملي كاتجيب البنت الجديدة كتغلق عليها الغرفة وتخليها بلا ماء ولا أكل لمدة يوم أو يومين ومرة مرة يدخل عليها واحد ينام معاها بالقوة وكتخيرها بين الأكل والماء مقابل تسمع أوامرها لمدة شهرين أو أكثر وهكذا البنت ما يكون عندها خيار.. تعيا ما تقاوم ولكن مهما كان تحملها ما تقدر تقاوم العطش والجوع وشويا بشويا كتخضع لكل أوامر الباطرونة بدون ما تفكر وهاذ الطريقة كتخضع واحدة منا عيات ما تعاند وفالأخير توفات وما عرفناش كيف ماتت مسكينة الله يرحمها..
- هل هناك شهود في ما تدعينه؟
- نعم ...
- لقد تم ضبطك في بيت دعارة، ما سبب تواجدك هناك؟
- "الباطرونة" لللاالكبيرة وابنها حمو كيرغموني على ذاك الشي مع أشخاص مختارين عندهم وبعد ما يقضيوا فينا حاجتهم "يعزك الله" كيردوني البيت اللي حابسينا فيه.
- ما صلتك بالباطرونة الكبيرة؟
- هي اللي شراتئي أول مرة من عند اللي خطفني من الدوار من بين والديا وخوتي..
- هل معكما فتيات أخريات في المنزل؟
- نعم أسيدي، حنا مجموعة من البنات موزعات على بعض المنازل؛ وما نقدرو نخرجوا غير مع ناس مهمتهم حراستنا.. يمكنهم فعل أي شيء باش اعاقبونا إلى تلفتنا يمين ولا يسار أو حاولانا نستنجدوا بالناس يكون مصيرنا الموت.. يقتلونا بدم بارد.. واحدة منا أسميتها "فتيحة" وصغيرة فالعمر من حسن حظها على غفلة من الحراس جرات لباب المسجد ورمات نفسها بين رجلين الناس وهم خارجين من الصلاة وحماوها منهم أولاد الحلال وردوها لوالديها.. ولكن مع الأسف أهلها ما عملوا والوا وانتم عارفين ناسنا يفضلوا موت المرا حتى إلى كانت مظلومة على لفضيحة والعار وهكذا "العين ما شافت ولا قلب وجع".. ومن ذاك اليوم تمنع علينا الخروج حتى الحمام اللي كنغتسلوا فيه كندخلوا ليه بعد ما يغادروه النسا كلهم...راه يا سيدي هاذ الناس عصابة وقتالة ما يقدر عليهم غير الله.. وعلاه فينكم 16 عام هاذي وفين الحكومة.؟. علاه ما عندكم خبار !؟...
- هل تعرفين أين تقيم حاليا المدعوة "فتيحة" التي ذكرتها في أقوالك ؟
- نعم أسيدي كانت قبل ما تهرب حكات لي كل شيء..على أهلها وفين كتسكن.. من حسن حظها عتقوها رجال لبلاد أما كانت نية الباطرونة تخرجها برا البلاد على ما سمعت..
- ما هو موضوع شكواك إذن؟.. وهل تشتكين على أحد معين؟
- نعم أسيدي كنشتكي على" الباطرونة" الحاجة لكبيرة و ولدها" حمو"؛ على ما فعلوه بيا كل هاذ السنين وما كفاهم ابيعوا فلحمي كل يوم على قبل الفلوس.. و كنشتكي حتى على عمي "عياش" إلى باقي على قيد الحياة والى مات حسابو عند اللي خلقو.. ما عمري نسامحو على هاذ الفعلة لأنه هو السبب فكل ما جرى لي وكانطالب من الأمن حمايتي بعد ما الله بين الحق ونصف المظلوم..
- ذكرت في أقوالك بأن هناك فتيات محتجزات في منازل أو قد حبست حريتهن في أماكن محددة هل يمكنك الدلالة على تلك المنازل التي تتواجد فيها الفتيات التي ذكرتهن؟-أفهمناها-"
- يه أسيدي.. علاه شكون اللي ما كايعرفهومش.. الشرطي اللي عندك واقف حدا باب هاذ المكتب دايما جاي يقضي غرض ببلاش علاه ما قاليك والوا؟
- أجيبي على قدر السؤال.. "فتبادل الثلاثة النظرات حول ما صرحت به السيدة في أقوالها عن الشرطي"..
نادى عبد الله الشرطي الواقف أمام المكتب فسأله متعمدا عن زميله الذي سوف يحل مكانه بعد انتهاء ساعات عمله، فلاحظ أن الأخير لم ينظر إلى السيدة كما هو الحال لأي شخص يدخل المكتب من موظفي القسم، لكنه حاول لمحها بطرفي عينيه، فاحمر وجهه خجلا محاولا صرف نظره عن عبد الله والتركيز على مساعديه حينما أجابه عن اسم الشرطي الذي سيخلفه في الحراسة، فناوله عبد الله مفتاح القيد اليدوي وأمره متعمدا بأن يحرر معصمي المتهمة منه، لكنه ارتبك حين محاولته فك القيد وسقط المفتاح من يده ولم يتمكن من خلعه بشكل صحيح، بينما هي تظهر ابتسامة ماكرة وتميل برأسها إليه محاولة لفت نظره، لكن الشرطي تعمد تجاهل السيدة أو التظاهر باللامبالاة لكنه لم يستطع حجب وجهه المتورم احمرارا وخجلا ولم يقو على منع جبينه من التصبب عرقا ومما زاد الأمر تعقيدا انصرافه من المكتب دون أن يرد مفتاح القيد لصاحبه، أو تلقي الأمر بالانصراف كما هي العادة المتبعة والمترسخة في ذهن الجميع، فكانت تصرفات الشرطي بالنسبة للمساعدين صابر جسوم وأحمد الغيلاني فرجة للخروج شيئا ما عن زخم التحقيق فقال صابر:
- مسكين الشرطي ما عرف باب المكتب فين كان غادي يخرج من النافذة تعب من كثر الوقوف حدا الباب
فأجابه صابر..
- الله يكون فعونه تعب مسكين تعب.. تعب.. بزاف لكن عبد الله لم يبد أية ردة فعل حول الموضوع بل لمح مساعديه بنظرة مفادها أن يكفا عن ما هما فيه لكنهم تأكدوا بأن ما قالته الصوفي زهرة صحيح وبأن المذكور يعرف الشيء الكثير عن تلك الأوكار، لكنهم تغاضوا عن معرفة المزيد منه، أو إثارة الموضوع معه إلى حين، ثم واصلوا التحقيق بسؤال عبد الله لها قائلا : - هل علمت بأحد أقاربك من القرية أو من يعرفك يتواجد في هذه المدينة؟
- لا..."فاستدركت": واحد اليوم كنت مع"فنيدة و"حمو" فالسوق، سمعت سيدة تناديني باسمي الحقيقي اللي ما كيعرفو ولا حد، التفت لعندها لكن" حمو" منعني وحال بينا الزحام قبل ما أتأكد من هي ديك السيدة؟، وملي رجعنا لدار خبرت صاحبتي "فنيدة" اللي صار فالسوق ، لكن ومع الأسف خبرت الباطرونة؛ وعاقبوني حتى قربت نوصل الموت لولا رحمة الله وقال لي "حمو" وكان فحالة بحال الثور الهايج الشر كيخرج من عينيه؛ أنه "إلى لقى ديك المرا وعرفها فين كا تسكن غادي يمحيها من الوجود" .. من غير سبب، ذنبها أنها كتعرف اسمي الحقيقي..
توقف عبد الله الراجي عن متابعة التحقيق، ونظر إلى مساعديه فلاحظ الدهشة تبدو جلية على ملامح وجهيهما فاستنتج ما يجول بخلدهما لكنه تظاهر بعدم الاهتمام آمرا الحاجب إحضار ثلاث فناجين قهوة، وأضرم سيجارة يرشفها بعمق وفي صمت...روى قليلا ثم أحجم بنظراته برهة ينفث دخانا كثيفا إلى الأعلى وكأنه لم يدخن منذ أمد بعيد... يسترق نظرات ممعنة إلى السيدة الصوفي زهرة، متأملا ملامح وجهها المتهم والبريء في آن واحد.. المبتسم والحزين، المتمرد على الحياة والشغوف إليها، كأنها صورة انطباعية حملت معها معاني المعاناة من ذلك الإنسان الوحش؛ الذي يحس رغبة المتعة واللذة في إلحاق الأذى بالآخرين من بني جنسه، ذلك الحيوان الذي يخدع الناس بإنسانيته؛ يضمر في داخله وحشا شرسا يرنو الصعود من هوة سحيقة مظلمة داخل نفسه.. جشعا متمردا ينتظر في أي لحظة ساعة التحرر والانعتاق لينقض على ضحاياه.. يلبي رغبة جامحة لا يمكن تصور مدى جشاعتها.. انه وحش داخل الإنسان..ذلك الجسم الذي يلملم أعضاءه الطين.. لا يعرف قيما أو أخلاقا أو ما تعارف عليه مجتمع البشر، لا إحساس لديه ولا شعور.. يقرأ في ملامح وجهها كبرياء الإصرار على العناد والمواجهة، يرى في جمالها البريء أحد ضحايا هذا الإنسان وليس بإنسان، والحزن والألم يعتصر فؤاده، متظاهرا بقسوة تفيض من صلابتها الرحمة والإشفاق.. تمضي ثوان كأنه الزمن توقف ليستعيد ميلاده..يفاجئها بسؤال قد اعتاد طرحه نهاية كل تحقيق:
- أنت متهمة بممارسة البغاء والدعارة فما قولك؟
- هاذ الشيء اللي تتهمني به مجبورة عليه وشرحت لكم السبب..
- هل لديك أقوال أخرى؟
- نعم أسيدي بغيت نرجع لدوار عند والديا وخوتي وبغيت حياتي ترجع طبيعية بحالي بحال الناس ونكون حرة فنفسي وأتحرر من هاذ العار وهاذ العذاب اللي أنا فيه، ولكن إلى كانوا هاذ الناس ضيعوا حياتي مرة واحدة.. المخزن والحكومة ضيعوا حياتي مرتين.. وكايتحملوا المسؤولية أمام الله وأمام الناس إلا فرطوا فحمايتي فليام الجاية.
- لك ذلك سيدتي فالقانون فوق الجميع.
تلا عليها أقوالها ووقعت عليها وأمر عبد الله الراجي باستقدام الطفل" الشاوش مصطفى بالعربي" للاستعانة به لرسم صورة تقريبية للجاني حسب تصوره، وتجهيز المكتب الخاص بطابور العرض.. وأمر بإحضار إذن من النيابة العامة للسماح بمداهمة المنازل المذكورة بدلالة الشاكية وضبط كل من فيها وتفتيشها وتحريز أي شيء عارض يخالف القانون أتناء عملية التفتيش..
وما هي إلا ساعات معدودة تم ضبط وإحضار كل من المدعوة الحاجة الكبيرة أي "الباطرونة" وعدد كبير من الفتيات ومن كانوا مكلفين بحراستهن وجلب الجميع إلى مديرية مدينة الساحل.
كانت معظم الفتيات المحتجزات قاصرات منهن الأقرب إلى سن الطفولة، تم انتقاؤهن بدقة وعناية..لا يحملن أية هوية؛ وبدأ التحقيق معهن ومع "الباطرونة" الحاجة الكبيرة وابنها "حمو" وكذلك من كانوا متواجدين داخل تلك البيوت والأوكار.
دامت التحقيقات ساعات طويلة تواصل فيها الليل بالنهار، وبعد عدة مراوغات وإنكار اعترفت"الباطرونة" الحاجة الكبيرة أنها حصلت على بعض الرضع هبة من بعض النساء خوفا من الفضيحة بدلا من التخلص منهن وإلقاء جثمانهم في أكياس القمامة شرط أن لا يراجعنها مستقبلا في ما أنجبن وعلى هذا الاتفاق بينها وبينهن مدت إلى أولئك الصبية الأبرياء يدها البيضاء في وقت كن فيه على حافة الموت دون رقيب و لا نصير ثم أحسنت إليهن لوجه الله تعالى كما ادعت.. واعترفت كذلك بأنها أقدمت على شراء مجموعة أخرى من الفتيات من بعض النخاسين السماسرة المختصين في جلب الفتيات من القرى والبوادي وتسويقهن في المدينة وقد استخدمتهن في الخان ووفرت لهن السكن والعيش الكريم وليس لها علم بما يجري في تلك البيوت الرخيصة التي تم ضبطهن فيها، كم اعترفت كذلك بشراء مجموعة من اللقيطات من أشخاص يكسبون أرزاقهم بالمتاجرة بالبشر..وأضافت أن أغلبهم عرضوا للتبني خارج الدولة في بلدان توفر العيش الكريم للإنسان لكنها لا تملك أية بيانات عن المتبنين بل اكتفت بالحصول على مبالغ مغرية مقابل كل عملية ترحيل تنفذها بالتواطؤ مع من لهم القدرة على تسهيل الإجراءات اللازمة لذلك...فكانت قائمة الصبية المرحلين الذين اعترفت بترحيلهم خارج الوطن إلى جهة غير معلومة لديها كما تدعي مهولة وتفوق بكثير ما كان يتوقعه عبد الله الراجي .. وبسؤالها شفاهة عن مصدر الثروة التي تملكها أفادت أنها يوم ضاقت بها السبل وذاقت مرارة الفقر سخر لها الله رجلا طيبا عملت عنده خادمة في منزله لكن الرجل كان شهما ونبيلا معها قبل أن يرحل خارج البلاد فوهبها كل ما يملك عندما تيقن من إخلاصها له وتفانيها في خدمته انه "شمعون القراب" صاحب المصنع وخان ألف ليلة وليلة الذي تملكه هي حاليا.. وله الفضل الكبير في ما هي فيه من نعمة ورغد العيش.. استنتج حينها المقدم عبد الله أن هذه الاعترافات صارت تأخذ مجرى آخر في التحقيق لما تتضمنه من أسرار تتعلق باختراقات أمنية غاية في الخطورة ليست من صلاحياته أو اختصاصه التحقيق فيها، لذا قرر مخاطبة الإدارة المختصة بالأمر لإجراء ما تراه مناسبا حيال الموضوع. توقف حينها عبد الله عن التحقيق، واتجه صوب النافذة المطلة على السور العتيق فحاول الاسترخاء ولو لبعض الثواني، متأملا فضاء الأفق المظلم والغيوم الرمادية الداكنة التي تحجب عن السور العتيق ضوء القمر ولمعان النجوم، لكنها تدر قطرا نكدا غير غمر خفيف متفرق يهمس نقرات متقطعة على واجهة النوافذ المصطكة بقضبان الحديد.. إلا أن اعترافات "الباطرونة" وتظاهرها بالبراءة لم تدع مجالا لذهنه أن يستريح فقال في نفسه متحدثا عن واقع الحال: -"عجبا لهؤلاء القوم، صار بني آدم حسب رأيهم وأفعالهم سلعة تباع في المزاد قابلة للتصدير كمنتج محلي عالي الجودة.. بضاعة تعرض في المتاجر والأسواق كالخص والجرجير حين يكتمل القطاف..سوق نخاسة مزدهر له تراخيص لترويج البضاعة متى وجدت، بضاعة من لحوم البشر وأعضائه تدر الربح الوفير، تصدر إلى خليج المريخ كأكياس السكر والدقيق وعلب السردين.. لها مكان شاغر في سوق التداول لما تحمله من أسماء وشعار مستعار، مؤسسات محدودة متعددة النشاطات متخصصة في جلب اللحوم الحية الطازجة المتعددة الأشكال والألوان حسب الطلب، مهرة وفنيين ذووا كفاءات عالية في الخطف والاغتصاب والتهجير، متخصصين في تسفير الأطفال دونما أوراق أو جوازات سفر طريقة مثلى في استعباد وامتلاك البشر.. دون السبع أو حتى من كان رضيعا في المهد صبيا..مهرة في تهريب المحبطين من الطلاب والتلاميذ، يكدسون أجسادهم في زوارق تفوح منها رائحة الموت غرقا على قارعة الأمواج العاتية ما بين ساحل المحيط وشط البوغاز، ضحايا منهم من هوى في مياه عميقة بلا قعر؛ بعيدا على قرب مجهولا في لحد على بعد ومنهم من ينتظر، فمن حالفه الحظ ونجا كان مصيره إزاحة صخور الجبال لحفر أطول أنفاق السكك الحديدية بين براكين الألغام القاتلة والأنفاق المعتمة لتتباهى بها بعض البلدان كدليل على قوة الحضارة والرقي .. وآخرين منهم يكون مصيرهم حصاد الأشواك في مزارع ليس لهم في الأرض رائحة تربتها.. أو من يمارسن توزيع الهوى للحصول على مبالغ زهيدة تجلب العار والدمار والعلل الفتاكة إلى الساحل والمدينة.. جماعات متخصصة في توزيع القاصرات محليا ودوليا من أجل توفير المال على حساب الأبرياء وإغراء أحلامهم الفتية بوعود مزيفة، تارة تتخذ أسلوب الترغيب في الإقناع وعند تجاوز الحدود أسلوب التنكيل والترهيب..جماعات مترابطة متماسكة يشد بعضها بعضا لتجثم بأذرعها المتصلة مستعينة بتقنية الاتصالات كالأخطبوط العملاق لتجثو على أمم يكتسحها الفقر والفساد وبيع الكرامة والذمم وشرف المهنة بدراهم زهيدة، وهاهم بعض أطرافها يتساقطون.. هاهم يتهاوون كأوراق الخريف حين تهب العاصفة، يعترفون بكامل إرادتهم دون ضغط أو إكراه، أمام صلابة وجدية من لهم غيرة حقيقية على كرامة الوطن، يجرفهم مسار التحقيق المحكم للإقرار والاعتراف عن أفعال تجرم مرتكبيها إما بالمشاركة أو التحريض أو التواطؤ مع الغير للمتاجرة بالبشر وحبس حريته دون وجه حق.." اعترف "حمو" باختفاء مجموعة منهن؛ أو على الأرجح تصفيتهن بإيعاز منه، و قبرهن في ضاحية المدينة المتاخمة للنهر بسبب محاولتهن الفرار، ووردت أثناء التحقيق معه عدة أسماء لها صلة بالجناة تشغل مراكز مهمة في دوائر حكومية أو لها علاقة بأجهزة الأمن، فتم إدراج قائمة بأسماء المعنيين مهما كانت رتبتهم أو مكانتهم وتم إبلاغ "العقيد نبيل" والنائب العام ما آلت إليه التحقيقات، على إثر هذه النتائج صدرت الأوامر للمقدم عبد الله الراجي التحرك بالسرعة الممكنة للعثور على جثت الضحايا، ووضع حراسة مشددة على المتهمين ومنازلهم، وتحريز المضبوطات التي كان لها دور في كشف المستور، وتكفل نبيل شخصيا بمتابعة المذكورين ذوي الصلة بالوظائف العمومية. انتشرت قوة الأمن الخاصة والدرك وأمن الغابات و خبراء الأدلة الجنائية؛ وكلاب مدربة في كشف الجثث، داخل المنطقة المتاخمة للنهر لتفتيش ومسح المكان برمته. كانت القوة المكلفة تتحرك بسرعة بقيادة المقدم عبد الله الراجي.. أضواء اللواحات والكشافات تنير سماء الغابة الحزينة تمتزج ألوانها بقطرات المطر الغزير.. الكلاب تنبح و تركض بين الأشجار والأشواك؛ يوشك الزمام أن يقطع من أيدي مدربيها حين تغوص أرجلهم في الأوحال، وتتيه أفكارهم بين النور والظلام ودروب الغابة الوعرة. المطر غزير والبرد قارس، الظلام الحالك يسود فضاء سور المحكمة العتيق، آثر عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] مغادرة فراشه البالي إلى مكان آخر تعود فيه الحصول على وجبة ساخنة وقليل من الدفيء، إنها قلعة منفردة بين الساحل والجبل، تعرف بحانة الصيادين، نصف بنيانها الشاهق شيد على حافة الصخور بين الماء واليابسة، تارة تقسو الأمواج على جدرانها العالية وتشتد، وتارة تحنو وتلين.. يلقى ترحابا خاصا من صاحبها، جلس على كرسي قريب من الباب، قدمت له النادلة وجبته الشهية ومشروبه المفضل دون محاسبة، كان المكان ملجأ له من الظلام والمطر الغزير المتساقط وشارع المحكمة الطويل الذي نصبت على جنباته أعمدة النور الخشبية المتباعدة؛ يأتي ضوءها خافتا كوهم طيف يداعب عتمة السكون، وسبيلها موحش بعواء يخترق فضاء الصمت، مخيف حين وميض البرق ودوي الرعد وهطول المطر. هنا على أجمة هذا الركح، الطاولات والكراسي الخشبية موزعة بشكل عشوائي في القاعة الفسيحة، الجهة الأمامية مرتفعة عن الأرض؛ تتوسطها منضدة طويلة وقطعة من شباك الصيد تفصل الأرض عن السقف، تتدلى من خلالها طيور عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] المحنطة وأدوات الصيد العتيقة، حراب وحبال ومقود سفينة.. الجدار الأيمن رسم عليه منظر بحر هائج وحوت ضخم محنط يحمل سفينة على ظهره، ضوء أحمر خافت وأصوات طيور عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] يعلو شيئا فشيئا يملأ المكان.. خمس زبائن يجلسون حول المنضدة متقابلين خلف رفوف عليها قوارير مختلفة الألوان والأشكال، تتوسطها نافذة مغلقة، والبوهالي في الزاوية اليمنى وقد أحضرت له النادلة وجبة أخرى مفضلة لديه فتسمع طرقات متتالية تليها ثلاث طرقات على إثرها يفتح الباب، يدخل رجل مسن يرتدي معطفا ويضع قلنسوة على رأسه؛ يجلس في وسط القاعة يتابع ما يدور حوله باهتمام دون أن يطلب شيئا، بينما عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] منشغل بوجبته غير عابئ بما يدور من حوار بين الزبائن الخمسة، تسمع طيور عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] وهدير البحر تلتطم أمواجه بقوة وعنف على شفير الصخور المحاذية للقلعة، تقف النادلة خلف المنضدة تسقي زبائنها وتصغي باهتمام لما يدور بينهم من نقاش: الأول:"- خرجنا يوما للصيد وصادفنا لون البحر أحمر.. أجلنا رحلة الصيد" الثاني:"- كان الفلاح حينها يصنع قاربا لأن أيام الحرث اقتربت" الثالث:"- يقال أن "هول اكو" عندما احمر ماء البحر كان يتجول في الشوارع المجاورة خلف الساحل الغربي من النهر" الرابع:"- زار نيرون في حصنه قبل مجيئه.. كان غاضبا.. جدا.." الخامس:"- عندما يحمر ماء البحر تؤجل الرحلة، لابد للفلاح أن يصنع قاربا للنجاة فموسم القطاف قد اقترب" الأول:"- الفلاح باع.. الجميع باع..؟ عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] الأول: باع بقرته الدلول.. اشترى محراثا بثمنها قبل موعد الإبحار.. فالمناجل يزداد ثمنها إبان موسم الصيد" الثاني:"- يبحث عن زوجتين اثنين قبل مجيء الطوفان" الثالث:"النيران تراجعت عن التهام المدينة فعمها الطوفان" الرابع:"هل كانت وحيدة ؟" الخامس:" كان قيس قد أحبها قبل أن تخونه" قهقهت الفتاة وأضافت: "سوف أزيد ك كأسا على حسابي لأنك عاشق" الأول:" عاشق..!؟ لو كان الحب رجلا لقتلته" الثاني:" عندما يبكي يكون ضعيفا وعندما يتجلد يكون مستحوذا وجبارا ترقص الحيتان عارية تحت قدميه فأنا للفلاح اصطياده حينئذ" الثالث:" نحن الصيادون نغتال السمك ولا نقتل الحب بل نشفق عليه" الأول:"آه ليتني أراه.. آه لو أمسكه بيدي هاتين لكان لي معه شأن آخر.. الثاني:- آخ ليت الحب والكره ليسا خيالا .. الثالث:- لكن الخوف يمكنه التحول إلى نقيض كالقرش من خوفه يهاجم بكل شجاعة... الخامس:- أو من شدة الجوع يقاتل بشراسة. الأول-.فأيهما الأرجح الخوف أم الجوع أم كلاهما خيالا ..؟ الرابع: أو ليست سوى أسماك تسبح في قعر المحيط؟" الثاني:" إنها تماثيل عملاقة لآلهة انقرضت في قعر بلا... قاع" الجميع : قاع..؟ تعود أصوات عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] من جديد؛ وكأنها تقترب أكثر فأكثر من المكان، والموج يرتطم بالصخور ويعم السكون. تفتح الفتاة النافدة فينطفئ ضوء القاعة وينير خلف النافذة..إنه حاجز حديدي يظهر خلفه رجل يجلس على السرير كأنه عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] في هيأته يعزف على الكمان، موجها نظره داخل القاعة.. تختفي المنضدة الطويلة والزبائن الخمسة وتتغير الإنارة في حين ينزل كرسي من الأعلى باتجاه دائرة مشتعلة ودقات مطرقة على السندان..في الواجهة صورة حية لمدينة قديمة تحترق.. وإطار مستدير لظل امرأة تصارع ألم المخاض.. عازف الكمان وسط الصورة المشتعلة يعزف لحنا تتناغم على إيقاعه ألسنة اللهب تلتهم المدينة القديمة، يشتد المخاض لتأتي الولادة عسيرة، يهدأ العزف بطيئا فتخبو النيران، يعم الصمت..وتنطفئ الأنوار، تسمع صرخة عالية يليها بكاء الرضيع منفردا يملأ القاعة..فيطغى صوت قوي من خارج القلعة على المكان: -"ألم أقل لك أن تحرر الأسود.. فالطرائد جائعة" يمتزج الزئير بفرقعات السياط ونباح الكلاب المستعرة.. تعود أصوات طيور عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] من جديد وتشتعل الأنوار.. ينزل من الأعلى رجل وامرأة يلبسان لباسا يلتصق بالجسد؛ يظهران وكأنهما يحلقان عاريان ملتحمان كجسد واحد باتجاه الإيوان؛ يتدليان وإيقاع الموسيقى الهادئة إلى أن يقفا على حافته ثم يفترقان، يرقصان باتجاه مختلف كغزالين جامحين ثم يلتقيان في الوسط ، يمسكان طرفي الكرسي ويتجاذبانه يمينا ويسارا في حركات رشيقة وإيقاع السامفونية الصاخبة بتعبير جسدي ينعم بالقوة والرشاقة، فجأة تتحول الموسيقى من إيقاع صاخب إلى نغمات حالمة وتتغير الإنارة يلتحمان على إيقاعها ويرتفعان إلى الأعلى كأنهما يحلقان في السماء، مقلدان رقصة طيور عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] التي تعود أصواتها من جديد تتعالى رويدا رويدا إلى أن يختفيا ويعم الصمت والسكون، ثم يعلو ارتطام الموج بقوة، ينهض الرجل الذي يرتدي المعطف والقلنسوة؛ يفتح كيسا يخرج منه طائرا يذبحه ويرميه باتجاه الكرسي المنفرد.. تتسع بقعة ضوء دائرية تسلط نورها على الطائر الذبيح في حين عازف الكمان تحتد وتيرة عزفه خلف الحاجز الحديدي، لم يتمالك عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] نفسه عندما رأى الطائر يتضرج في دمه تحت حوافر الكرسي، اتجه صوب الباب مهرولا وسط الشارع المظلم.. البرد القارس والمطر، يركض بكل قواه صارخا:".. مازالت دماء الطائر تختلط بماء المطر.. دماء ومطر.. نار دمار ومطر..أين المفر أين المفر أين المفر؟ ...مطر مطر مطر..إن كل الأصوات الصامتة هنا حجر.. الحقيقة المكتومة.. صخر وحجر.. أهازيج الهول ورائحة الموت والدمار مطر.. تنهال من السماء مطر..قبور تحترق هياكلها تحت المطر..مدينة الساحل أغرقها الخوف والحزن والمطر.. ذبحت الأبابيل في المهجر مطر.. لا علم ولا خبر.. مطر.. دموع تنهمر من العيون مطر.. لا تسألوني من أنا واسألوا كل البشر..مطر مطر مطر.."... جموع غفيرة من الدراويش يدخلون تباعا من باب المحكمة المنيف وتغلق الأبواب.. يدق الباب بقوة يحاول فتحه لكنه محكم الإغلاق يعيد الكرة من جديد.. يتناول حجرا يدق ويدق ويدق لكن الستار أبى أن يسدل الحجاب عن الخشبة.. خارت قواه فسقط على عتبة أبوابه تحت وابل المطر... مطر الرحمة غزير و نباح الكلاب وأضواء لواحات سيارات الشرطة تملأ ظلام الغابة الحزينة، الرجال يبحثون بين الأشجار وقد تم العثور على ثلاث جثت قد طمرت وسط كوخ مهجور، فكانت قريبة من السطح، أمر النائب العام بنقلها إلى الطب الشرعي والتعرف على هويتها؛ ومواصلة البحث والتحري في الواقعة وضبط وإحضار إلى حرم النيابة كل من "عياش الصوفي"والمدعوة "فتيحة" بدلالة "زهرة الصوفي" ومن وردت أسماؤهم في القضية موضوع البلاغ وعرض المتهمين عليه في حينه، لكن قبل بزوغ الفجر وردت برقية عاجلة بدرجة سري للغاية تلقاها المقدم عبد الله الراجي في مكتبه تفيد الالتزام بسرية ما توصلت إليه التحقيقات وإعلان حالة الطوارئ في صفوف منتسبي القوة وتأجيل مواصلة البحث والتحري في قضية"الشاوش مصطفى بالعربي" إلى إشعار آخر، وإيداعه كمتهم خطير تحت الحراسة لإحدى مصحات الأمراض العقلية والعصبية لحين النظر في شأنه. تسطع الشمس الدافئة على سماء المدينة، تدب الحركة في الأحياء والشوارع، تسري في عروقها الحياة من جديد بينما البوهالى نائم بباب المحكمة العتيق لا ينم جسده النحيل عن حركة، اجتمع الناس والموظفون حوله يريدون إيقاظه.. يودون رؤيته معرقلا حركة السير من جديد، يريدون سماع مرافعة أخرى خارج القاعة بجانب السور العتيق، لكنه كجثة هامدة، تعلو محياه الحزين ابتسامته الساخرة؛ عيناه الزرقاوان الضيقتان تنظران إلى الأعلى بعيدا عمن يحدقون إلى الأرض في حزن وأسى إلى الجسد الهالك، يسمع صوتا قريبا شجيا ينشد له" يا صاح راني وسط الحملة..." يسمو عاليا .. يرى الناس من حيث لا يرونه.. يرفل حولهم بحلة جديدة، يدخل قاعة المحكمة في مظهره القديم الحديث الأنيق، يطرح على طاولة القضاء، قضية أخرى كانت قضية.. في الأدراج مازالت محفوظة.. ثم ينزع من على رقبته المنديل الأبيض يضعه على منبر الدفاع، مارا بين صفوف القاعة؛ مغادرا سرايا النيابة العامة، وحول سور المحكمة العتيق المحكم الإغلاق، يسمو عاليا فوق جموع من التفوا حوله ويداه على صدره متمسكا بهويته تاركا أوراقا طالما حيرت سكان مدينة الساحل، بطاقة التعريف الوطنية وشهادة الميلاد وعقد قران يتضمن بيانات عن مدينته ومحل إقامته هناك ...: -الاسم: -العمر: -المهنة: ...إنه عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] إلى أمل العودة....عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ]
كان متمددا على سرير مخملي ناعم، تقلب على جنبيه يمينا ويسارا أحس الدفء؛ راودته أحلاما افتقدها منذ زمن بعيد، انقلب على ظهره ليستعيدها لكن جفنيه انفتحتا بكسل على ضوء أبيض ساطع، ينعكس من أشعة الشمس المتسللة عبر النافذة داخل الغرفة الناصعة البياض، فتح عيناه يتجول بمقلتيه حول الجدران المزينة بالورود؛ ونقوش من جص تحيط بقبة مستديرة على شكل فسيفساء نحتت عليها بإتقان فواصل ونوتات موسيقية لأشهر العازفين:"موزارت ".."روسيني" فيردي".. فيفالدي ..جوهان شتراوس... في زخرفة متدرجة تصل منتصف الجدران ترتبط بلوحات فنية خالدة تصطف متسلسلة حسب تواريخ نشأتها لأشهر الرسامين:... تنعكس ألوانها الخالدة على صرح البلاط الضيق البراق كقطعة بلورية يمتزج فيها النور بالضوء، كقلادة من سلالة النجوم تنبض بالحياة لما تعكسه من حركة متناغمة ما بين النوتة واللون؛ بين السكون والحركة تثير وتطرب كلحن متناغم يحكي سر الوجود، على جانب السرير كرسي عليه آلة عودقديمة زينت بنقوش براقة من عنقه إلى صدره الرنان كقطعة أثرية من قصر الحمراء؛ عزفت الطرب الغرناطي منذ نشأته، ومصباح كالثريا يضفي على الحجرة نورا يتفاعل مع الشمس والبدر وضوء القمر، في الطرف الأيمن بالقرب من الباب مكتبة صغيرة من خشب العرعار الفاخر تلمع خطوطه الدقيقة كرمال لا متناهية، على رفوفها كتب من كل أنواع الفنون مصنفة... الجهة اليمنى باب يفتح على حوض الاستحمام.. أغمض عينيه عمدا؛ وتحسس بيديه الفراش المخملي الناعم ليتأكد من المكان، انقلب على بطنه في فتور ليرى البلاط ويتأكد، أهي الحياة؟ أم صورة تنعكس كالمرآة من الذاكرة؟ نظر إلى البلاط البراق مرة أخرى؛ رأى وجهه ينعكس فيه، شخصا آخر لم يعرف ملامحه من قبل، حليق اللحية والشارب؛ وخدين يميلان إلى الاستدارة؛ تنعدم فيهما أثر التجاعيد، وشفتين يميل لونهما إلى الحمرة، وشعر خفيف ناعم، ووجه أبيض ناصع ينضح بالسعادة ورغد العيش، ابتسم لوجهه.. لم يكن يعرف ملامحه من قبل، بدت من بين شفتيه أسنان بيضاء ناصعة تشع باللمعان، احتارت عيناه الزرقاوين الضيقتين الغائرتين بين عناء الماضي وذاكرة الحاضر.
فتح باب الغرفة وهب واقفا، دخلت سيدة تلبس لباسا أنيقا، بشوشة الوجه جميلة الملامح؛ لم تنبس بكلمة ولم تبالي بوجوده، وضبت السرير المخملي المريح، فتحت النافذة على مصراعيها وقربت الأريكة الجانبية من الشرفة، سحبت درج المكتبة وكبست أحد الأزرار فانطلق صوت الكمان تدريجيا يعزف إحدى المقاطع الخالدة لتملأ نغماتها الحجرة، أغلقت الباب وغادرت؛ استرخى على الأريكة المقابلة للشرفة يستكشف المكان.. مكان ميلاد جديد.
كانت الشرفة في الطابق الأخير من برج شيد على مرتفع يطل على مساحة خضراء شاسعة، جبال تغطيها غابات كثيفة من أشجار الصنوبر والصفصاف؛ تتخللها منعرجات السفوح؛ وأخاديد المياه الجارية، يرقص البجع وأنواع الطيور المائية على بركها الراكدة.. على قممها ثلوج بيضاء تلامس الضباب برفق تضفي على هممها مزيدا من الثلج المتدفق على رواسيها الثابتة في عمق الأرض.. كانت المقاطع الموسيقية الهادئة منسجمة والمرتفعات الخضراء، ومسارات لا متناهية مترامية لا حدود لها، هناك.. خلف الهضاب والتلال والضباب؛ كان الماضي حاضرا في ذاكرته، يجرفه بعيدا كتيار لا يستطيع مقاومته؛ صفحات قلبتها ذاكرته عن غير قصد.
قرية هادئة مطمئنة يعيش أهلها في رغد، معتمدة على الزراعة والرعي ورغيف التنور.. وزيت الزيتون الطري، والكسكس المفور اللذيذ.. والقديد المملح والسمن البلدي والعسل الحر، أنواع عديدة مما تنتجه أرض القرية وتربتها الخصبة.. حطب الغابة يغني عن رائحة الغاز، فوانيسها المنيرة لا تلزمها خيوط كهربائية صاعقة، جلساتها الساهرة حول ضوء الحطب المتأجج يبعث الدفء ويطرد الظلمة، لياليها السامرة أهازيج شعبية وقصائد، ملاحم تحكى في رقصات تعبيرية منتظمة تتسم بالرصانة والحياء، تغني عن صور أو أخبار تأتي عبر الأثير... بيوتها من الطين والحجارة نحتت بمهارة على سفوح الجبال يشد بعضها بعضا؛ فلا الرياح تعصف بها ولا المطر يجرفها عن أرضها التي تجود ولا ينقطع جودها..
على حين غرة تلوح من بعيد شاحنات عملاقة تقترب بسرعة خارقة تثير الغبار، تخترق مسالك الجبال الوعرة بسهولة، تقتحم القرية المطمئنة وتحصد كل الرجال والشباب قسرا، وبين عشية وضحاها؛ صارت القرية خالية على عروشها يكتنفها الحزن والألم وعويل النساء، وجد نفسه وسط إحدى الشاحنات تقطع به الأميال اتجاه الساحل، كانت هجرة جماعية نحو العالم الجديد؛ عالم الجن والملائكة... حشروا في سفن عملاقة تشق عباب البحر إلى العالم المجهول، لتبدأ الرحلة من جديد، إنها عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] "الدراويش".
فتح الباب ودخلت السيدة، رتبت على المائدة أصنافا متعددة من الفواكه والطعام ثم غادرت هم بسؤالها شيئا لكن الأسئلة كانت متزاحمة على شفا لسانه، جلس حول المائدة يتناول ما اشتهت نفسه وما طابت ولذت لها عينه بتأن، يقلب نظره في كل زاوية من زوايا الحجرة حين فرغ من الأكل دخل الغرفة المجاورة.. بخار يفيض ضبابه الدافئ عطرا كعبق الورود، وحوض صغير ينبع منه الماء بقوة يساعد على الاسترخاء، استسلم للبخار والماء الساخن المتدفق بسخاء، أحس بانتعاش افتقده منذ أمد بعيد؛ تمدد في البركة العجيبة واهبا جسده لتياراتها القوية الدافئة التي تنبع من حفر صغيرة من بين مصابيح مضيئة ملونة تدغدغ أطرافه برفق قال في نفسه مداعبا فقاقيعها:"يا لها من بركة فاقت في حسنها بركة المتوكل!".. لما عاد إلى الحجرة ألقى بنفسه على فراشه المخملي الناعم وأغمض عينيه مستسلما لنوم هادىء ومريح دون أحلام مزعجة تقض مضجعه.
بزغت الشمس الدافئة، تناول وجبة الفطور وجلس على الأريكة من أعلى الشرفة يحلق بنظره في فضاء صاف لا تلبده الغيوم ينعم بالحرية والاطمئنان، بدت له السماء زرقاء كالبحر، حين كانت السفينة تقل الجموع من أهل البوادي والقرى إلى الطرف الآخر من الشط، مزدحمة بالمهجرين كمستودع ضخم لشحن الأغنام.. لحد حديدي ضخم يطفو على الماء؛ تلاصقت فيه الأجساد يحتمي الواحد بالآخر من شدة البرد القارس والصقيع، قال له صاحبه:"
- قلبي ينبئني بأن هذه الرحلة ليس من ورائها خير" نظر إليه وقال في نفسه:" إذن عاملها على قدر ذلك"، لا يود الخوض في جدل عقيم رغم إحساسه بالخوف، منذ كانت نبضات قلبه تخفق بشدة حين خطى أول درج لصعود هذا التابوت المبحر إلى المجهول، لم يستطع تحمل نظرات تنذر بالشؤم والخوف ولعنة القدر المحتوم، آثر الصعود متسللا إلى ظهر السفينة رغم صقيع يخترق العظام كسهم مسموم، وقف في مقدمتها على مرتفع حديدي، بدت له المياه تنشق ممهدة الطريق لهذا الجبل العائم إلى مصير قاتم، تذكر القرية وشفه شوق الحبيبة، رآها في قرص الشمس الآفلة في أعماق المغيب قريبة بعيدة.. بدا له احمرار الأديم في الشفق كأنه زفرات وحرقة من دمع الفراق:" آه.. لو هذا الكاسح للأمواج يهوي عميقا قبل يوم الوداع، آه.. لو هذا الغروب السرمدي المجنون بألوانه الفاتنة يعلم متى يكون التلاقي.." نظر إلى المد الذي لا نهاية له؛ خاطبه بصوت خافت عله يحمل خفقان قلبه إلى تلك المضارب بين الجبال، عبر رياح نسماتها الحب والشوق والحنين، ارتد الصوت مجيبا من هناك.. سمع وقعه بين هدير أمواج تتقفى بعضها بعضا تسير في حلقات لا تتوقف كالزمن المتمرد على خطى الأيام.. لا تتراجع كالغيب المنقلب على عقب الأقدار، ترتد تتغير كالرياح وكمصير الإنسان، سمع ذلك الصوت الناعم الرخيم يهمس له ويجيبه.. كانت جالسة على تلة خضراء تراقب مدخل القرية تنتظر في شوق زاجلا يحمل بريدا، أو طيفا يهون حرقة البعد، تترقب في صبر لحين الغروب.. كان وجهها كبدر أبيض مستدير، عينا غزال وخدان بلون الورد؛ وذقن دقيق رسمت عليه شفتين بريشة فنان مقتدر، وجيد كجيد الريم عليه مجموعة قلائد من ذهب وفضة، على جبينها طوق عقد فريد يشد الشعر الطويل المنساب على طول جسم بين الاكتناز والرشاقة، مصقول متناسق الجمال؛ ومعصمين لا تخلوان من أساور وخلاخل منقوشة على الكعبين، تلبس "الحايك" البدوي الأبيض؛ تشده من أعلى الكتف بقطعة من فضة دائرية تزر إزاره بإحكام كي لا يدعها فتتعثر مشيتها الرشيقة المفعمة بالخيلاء المتواضع.. أحست بصوته في خفقان قلبها المتسارع.. أجابته من أعلى التلة الخضراء: - لا تحزن.. أنا في انتظارك
قال:
-"قلبي جريح من فراق ولوعة
قدري كنقش على الماء ماثل"
قالت:
"- لا تحزن حبك في القلب
خالد والله ما يشاء فاعل"
قال:
"- متى التلاقي والعمر ماض
والهول من قهر الأيام هائل؟"
قالت:
"- عن الحل وأين الحلول تكون؟
هل في الحياة غير حبك واجل"
قال
"- وا كاسرة الموج هلا ترجعي
إن نزيف فؤادي كاليم سائل
قالت:
"- واحسرتاه لا بريد من الأحبة
يسلي ولا حبر منك سائل"
قال:
"- لن أنساك لن أنساك لن أنساك
هواك في القلب سهم قاتل"
قالا معا بصوت متحد تضمه رياح الغرب:
- لن أنساك لن أنساك فالحزن يوما
عن العيون راحل راحل راحل..."
قاطعهما الربان من أعلى السفينة؛ يناديه ويشير بيده فعلم أن خطبا ما يلوح في الأفق و تيقن بأن عاصفة هوجاء تقترب، دخل وسط الجموع المتلبدة كقطعة لحم متجمدة لا يكاد يميز الواحد منهم عن الآخر، حفيف الكلام المتداخل يختفي خلف هدير أمواج بدت كجبال سيرت، ترفع السفينة إلى الأعلى فترتطم بقوة على سطح الماء، ترتد المياه كسيل عارم يغطي ظهرها من جديد، تخالها سوف تهوي في الأعماق؛ اشتدت الرياح وعلت الأمواج، صارت تبحر على كف مارد جبار؛ يلتقطها طورا ويقذف بها تارة أخرى، كزورق صغير تتلقفه أنامل المياه الغزيرة؛ مرة تداعبه وأخرى تجرفه بعيدا، وهؤلاء القوم لم يركبوا البحار يوما ولا عرفوه كما عرفه الأجداد، يوم وقفوا أسودا على قمم هذه السواحل، تيقنوا وهم في كبد هذا الحوت أنها القيامة ولا سبيل للنجاة، لا طود عظيم يعصمهم من الماء ولا عنقاء أو خل وفي.. شحبت الوجوه، جفت الحناجر وجحظت العيون؛ غير آملة في الخروج من هذه الظلمات، فجأة يعلو صفير الباخرة معلنا اقتراب الميناء، اطمأنوا عندما سمعوا سلاسل المراسي الحديدية يبتلعها القعر لترسو السفينة وتتوازن على جانب الرصيف، اطمأنت النفوس قليلا وهدأ روعها، صعد الجميع ظهر الباخرة ليكتشفوا عالم الأحلام.. أرض الجن والملائكة.
دخلت السيدة إلى الحجرة وفي يدها باقة من الورود المتعددة الأصناف، وضعتها في المزهرية المزينة بنقوش وألوان هادئة، ركنتها على الرف في الزاوية اليمنى من الغرفة نظرت إليه، كان غارقا في تصفح الذكريات من الشرفة المطلة على العالم الآخر، التفت إليها بحياء؛ هم بقول شيء ردت عليه بابتسامة كأنها تستجيب لما يطلبه، وأدارت زرا انفتح له باب صغير وسط الجدار فيه طاولة صغيرة ذات أربع عجلات عليها إبريق وفناجين، قربتها منه وغادرت الغرفة، تاركة صدى الموسيقى الهادئة ورائحة القهوة الزكية تملأ الحجرة، كان يتوق إلى تذوقها؛ تناول الفنجان بكلتا يديه، أحس بأنهما تمسكان بحبلين على جسر بوابة السفينة عند رسوها في الميناء للنزول إلى العالم الجديد.
كان معسكرا ضخما مترامي الأطراف، تحيط به أسلاك شائكة؛ اجتمع فيه مئات من الذين استقدموا من المستعمرات القديمة، صفوا في الميدان ووزعوا كمجموعات مؤقتة حسب كشوفات الأسماء وترتيبها، جلسوا القرفصاء جميعا؛ وتليت عليهم بعض الواجبات والأوامر الصارمة؛ بينما أسراب الطائرات المقاتلة تحلق على ارتفاع منخفض يصم أزيزها الآذان، فرق الجيش مدججين بالعتاد والسلاح تغدو وتروح كسرايا متأهبة للقتال في أية لحظة.. أصوات الانفجارات تسمع عن قرب، كأنه ميدان معركة ضروس وحرب معلنة، اقتيد الجميع إلى مطعم شاسع يحيط به سياج مرتفع عرضة للرياح والصقيع، وزعت عليهم وجبة من الخبز والجبن والبطاطس واللحم المفروم، ثم أدخلوا الثكنات المخصصة للنوم.
كانت الثلوج تتساقط بغزارة، تغطي كل جسم ظاهر على الأرض، سطوح الثكنات المائلة على شكل مثلث؛ المركبات والقطع المصطفة على الرصيف، كل شيء أبيض مثلج وبارد.. حتى الخواطر والقلوب.. الأغطية والبرانس غير كافية للإحساس بالدفء والأمان، الألغام ودوي المدافع وأزيز أسراب الطائرات المقاتلة يشق جدار الخوف والصمت، لا ينقطع صداه يزعج السكون، استلقى على أحد الأسرة لينام ويستريح، لكن السقف الخشبي المائل يتقاطر منه الماء قطرات متتالية محدثة وقرا أشد من دوي المدافع، سأل نفسه عن الآمال والأحلام قبل الرحلة، عن أرض إحلال الروح في الجسد وبلاد الحضارة الجديدة، عاصمة البلدان الحديثة، أين جمال المدينة.. أين الشوارع المزينة والسيارات الجديدة.. أين المصانع والأبراج الزجاجية المشعة بالأضواء..؟ كلها أوهام تبددت والصحوة كانت على كابوس لا أحد يعلم إلى ماذا ستؤول نهايته، هده التعب من شقاء الرحلة البحرية الطويلة، وطابور التقسيم والإحصاء.. والخطب التنديدية المشحنة بالأوامر والتعليمات، أرهقه السهد والتفكير.. حاول التظاهر بالنوم لكنه لم يستطع، أحس بالدفء قليلا؛ غفت جفناه، لكن صافرات الإنذار المدوية لم تمنحه فرصة للنوم والراحة، فتحت أبواب الثكنات كما لو فتحت أبواب الجحيم، اقتيدوا صفا واحدا إلى العيادة الطبية قبل بزوغ الفجر، نزعت عنهم ملابسهم الواحد تلو الآخر دون استحياء كما لو خلقوا أول مرة؛ رش على أجسامهم غبار أبيض وماء بارد ينضح بقوة من خرطوم لا تستطيع مقاومته، وأدخلوا غرف الكشف الطبي للتدقيق على الطول والوزن.. وتحديد قوة بصرهم وبصيرتهم..ومدى لياقتهم وتقييم وضعهم الصحي، فتم تصنيفهم وتوزيعهم حسب ما تراه اللجنة العسكرية الطبية مناسبا، منهم من اختير للالتحاق بالجيش للتدريب على حمل السلاح؛ والذهاب إلى الجبهة الحدودية الشمالية الساخنة، أو للانخراط في مشاريع كبرى كمستخدمين لحفر الموانئ والأنفاق، وعدد محدود جدا سوف يسترد إلى بلاده فورا في سفن خاصة لأسباب غير واضحة.
كان فنجان القهوة ساخنا جدا، لم يشعر كيف تسرب إلى حلقه كاملا دون أن يحس بحرارته، ملأ فنجانا آخر واسترخى على الأريكة؛ متأملا نقوش الحجرة متذوقا حلاوة البن ونكهته الطيبة، مستمتعا بمعزوفة يقرأ نوتاتها الموشومة على قبة السقف بوضوح، ململ أصابعه ببطء كأنها كانت في متناول يده يوما من الأيام، حرك السبابة قليلا مسايرا نغمة الكمان؛ فأحس أنه يضغط على زناد البندقية في جبهة الشمال التي لا تعرف الهدوء.
كانت ساحة ساخنة استعملت فيها جميع أنواع العتاد والأسلحة المتوفرة، تغوص أرجل الجنود حد الركب وسط الجليد المتراكم، لا يستطيعون الهروب أو الاحتماء في الخنادق التي تكبدوا العناء في حفرها، كان الثلج يقيد الحركة السريعة ويبطئها، عائقا في الاحتماء السريع والكر والفر؛ والضباب الكثيف يمنع وضوح الرؤية، صاروا صيدا سهلا في مرمى القصف المتواصل من طائرات الدعم المعادية والقناصة الذين في حوزتهم المناظر الكاشفة؛ حتى الأشجار التي يمكن الاحتماء خلفها كانت بعيدة عن ميدان القتال. ساحة جرداء كاشفة لعيوب النزال، حاول التراجع لكنه لم يستطع، الجثث ممزقة.. الأشلاء محترقة بالكامل.. ورأس صاحبه من أنبأه قلبه عن الرحلة يتدحرج على أكوام الجليد، أجساد قطعت أطرافها من خلاف ضمتها حفر واحدة، لم يستطع تمييز الأصوات التي تنادي بالتراجع إلى الخط الخلفي، دوي المدافع والرصاص والقنابل الموقوتة تطغى على كل صوت، تمسك ببندقيته كمن يتمسك بعضو من أطرافه؛ يرى الشفاه تتحرك وصراخ الجنود ولا يسمع شيئا، تراجع خطوتين إلى الوراء والتفت يمينا، من كانوا بجانبه في صف واحد تطايرت أشلاءهم وتمزقت، اشتدت كثافة النيران..امتزج النحيب بالبكاء والأنين بالألم.. حاول إسعاف البعض وسحبهم من ميدان القتال، لكن وابل الرصاص وقنابل المدافع والقصف الجوي المعادي لم يبق أو يذر على أي كائن يدب حيا في الجبهة الأمامية المتقدمة، النيران الصديقة أنكى وأشد من ضراوة العدو؛ تقنص من الخلف كل من حاول التراجع أو الفرار، ألقى بنفسه في أحد الخنادق القريبة منه، صمد في مكانه يقاتل باستبسال دفاعا عن نفسه وعن من قتلوا وهم لا يعلموا لماذا حشروا في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل! قاتل بضراوة على خط النار؛ ومعه قلة صامدون ينتظرون الخلاص، لم يتمسك بالحياة ولم يبالي لما بعد الموت رغم صغر سنه على خوض أشرس المعارك وأشدها ضراوة والوقوف على حدود الموت صابرا محتسبا متحينا ساعة الحين، صمد في خندقه طويلا؛ ونجح في سحب بعض الجرحى إلى خندقه، لم يستطع سماع توسلاتهم وتركهم يحتضرون أمام عينيه، قاوم بكل ما أوتي من قوة وعناد وإصرار على المواجهة إلى أن وصلت التعزيزات من طائرات صديقة انطلقت من عرض البحر، وقطع عسكرية مختلفة كان لها الفضل في حسم المعركة.. اضطرت حينها القوات المعادية للتراجع إلى ما وراء النهر، وتم تعزيز الخط الأمامي بسرايا كانت تزحف ببطء قادمة من مواقع متفرقة.. الجثث ورائحة الموت منتشرة في كل مكان، الجرحى يحتضرون، وآخرون مستهم هستيريا جنونية من هول ما شاهدوه في ساحة القتال.. ميدان تحول فيه كساء الثلج الأبيض إلى غطاء أحمر قاني..حتى أشجار الأرز الباسقة تئن لما شهدته من سفك للدماء..تئن شاهدة على من يقتل النفس بغير نفس.. تدمع شاهدة على من قتل الناس جميعا..شاهدة على ذبح الإنسان لأخيه الإنسان بوحشية دون رحمة، من أجل مسلك مائي صنعته الطبيعة بقدرة قادر؛ مسخرا للحيوان والطير والبشرية جمعاء.. الفرق الطبية المساندة شبه منعدمة والإسعافات الأولية ضئيلة، جمعت الجثث في شاحنات خاصة كثلاجة اللحوم المستوردة، دفنت بعض الأشلاء في مكان مصرعها لتعذر نقلها قطعا ممزقة، ونقلت الأجساد المكتملة إلى العاصمة لإبلاغ دويهم بالمصاب الجلل وتشييعهم في مراسيم مهيبة، تليق بمن جادوا بأنفسهم وبأرواحهم إكراما من أجل تحرير قطعة من أرض الوطن، كان التشييع وسط العاصمة في موكب ضخم بحضور القادة والجنود، التوابيت مغطاة بالأعلام يسيرون بخطوات بطيئة منتظمة في خشوع وخنوع، تعبر عن الحزن والوداع الأخير.. الجمهور الغفير يلقي الورود والأزهار على النعوش لحين وصول الموكب إلى المقبرة الخاصة بالجنود، وأطلقت البنادق بإيعاز منظم طلقات الشرف والتكريم، تلتها أسراب من الطائرات المقاتلة عابرة سماء مراسيم التشييع، تحية للأبطال المنقوشة أسماءهم على رخام مرقدهم الأخير، أما الذين قتلوا في ساحة المعركة من أهل البوادي والقرى والمهجرين، كانوا يحشرون في مقابر خاصة بهم ووضع علامة مبهمة على قبور سخرت من تضادها لحودهم.
عاد الفيلق إلى المعسكر الرئيسي في ضواحي العاصمة، وأعلن رسميا أن السرايا القادمة من جبهة القتال ستظل ثابتة في الثكنات كاحتياط إلى إشعار آخر، استعاد حياته المفقودة من جديد، صارت طوابير التحضير شبه منعدمة، والجنود منكبين على وجوههم يهيمون في مرابع المدينة ثم يعودون في وقت متأخر من الليل، كان لا يغادر المعسكر ولا يعرف ما يروج خلف الأسلاك الشائكة، يتعلم اللغات في المكتبة؛ ويتسلى بقراءة بعض الكتب..أو يحضر حصص فرقة المشاة الموسيقية وأحيانا يشاركهم العروض، لم يفاجأ حين استدعاه قائد الكتيبة إلى مكتبه وسلمه ميدالية الشرف، مرسلة إليه من قيادة الأركان عن استبساله في ساحة المعركة وتضحيته من أجل إنقاذ زملائه، كان القائد واحدا منهم قبل ترقيته، لم يحدث هذا التكريم في نفسه تغييرا كبيرا، وضع الوسام في أحد أدراج خزانته؛ وظل منزويا على نفسه غارقا في كتابة الرسائل إلى أهله وأقاربه، يقتفي أثر من هم مازالوا على قيد الحياة من أهل القرية، من قاتل أو قتل في أغوار متفرقة من البلاد.. يستمع بجفاء إلى مغامرات الجنود حول علاقاتهم المتعددة، ومقاهي المدينة ونواديها.. والحرية والرخاء الذي عم البلاد بعد توقف الحرب، وإعادة بناء ما دمرته في ظرف وجيز، أحس بفضول زائد لزيارة المدينة، التفت وراءه ملقيا نظرة على جنود الحراسة؛ وانطلق متزن الخطوات منتصب القامة يمشي متواضعا وسط الأحياء والشوارع.
كانت الأزقة ضيقة والمنازل بيضاء تغطيها أسقف حمراء مائلة، تتوسطها مداخن التدفئة.. شرفها الصغيرة مزينة بأنواع الزهور والنباتات، أبوابها متقاربة وأرضيتها النظيفة معبدة بأحجار مستطيلة متساوية تزيدها رونقا وجمالا.. كان الزقاق خاليا من المارة، صادف امرأة تسير بعناء مستعينة بالجدار، تحاول جاهدة فتح الباب فسقطت فاقدة الوعي، أسرع إليها وساعدها إلى أن مكنها من الجلوس على أريكة وسط المنزل، فاستعادت الوعي وأشارت بيدها أن يناولها الدواء الذي على الرف.
جلس على كرسي بجانبها إلى أن استردت عافيتها فنظرت إليه وقالت:
- انك تشبه ابني كثيرا ما اسمك؟ أنا مادام كوهين.
لم يجب فاستنتجت أنه يريد الاطمئنان عليها ويغادر إلى حال سبيله، لكن رموز عينيها تشير إليه بالبقاء أمسكت يده بكفيها بقوة تشتكي له في صمت ما ألم بها من عذاب الوحدة وطول المعاناة، نظر إليها بإشفاق مخاطبا نفسه: "صبرا جميلا فكلانا مبتلي".. جال بنظره في أرجاء المنزل الضيق وأحس بدفء المكان وجمالية ترتيب الأشياء فيه كان يود البقاء معها لكنه لم يستطع، فودعها بحرارة ووعدها بزيارة قريبة للاطمئنان على صحتها ثم غادر المنزل.
رغم زحمة الناس في الشوارع المزينة بالأنوار والأعلام وأقواس النصر، والبهجة والسرور التي تبدو على وجوه المارة تعبيرا عن نشوة الحرية بعد محنة القهر والاستعباد..والمقاهي والمطاعم المصطفة على أرصفة الطرقات، كان يمشي شارد الذهن يفكر في مادام كوهين الوحيدة، ليس معها في منزلها الضيق الأنيق سوى صور من افتقدتهم، يفكر في مصيرها كان حزينا لأجلها ملامح وجهها البريئة أدكت في قلبه ذكرى الأحبة؛ قالت له: يشبه ابنها المفقود، لكنه لم يخبرها أنه رأى في ملامحها والدته الحنون البعيدة عنه هناك وراء الشط الآخر من هذا العالم.. فقبل أن يتوجه إلى الثكنة عرج على صندوق البريد، لم يصدق أخيرا أن تهب عليه نسمة أخبار من القرية والأهل والأقارب، أمسك الرسالة بلهفة، متشوقا لمعرفة أخبار من يحمل حنينهم ووحشتهم في قلبه مدة طويلة، فتح الرسالة بقلب يخفق وبيد ترتعش:
ابن عمي العزيز بعد التحية والسلام:
لقد ترددت كثيرا في كتابة هذه السطور بعدما اطلعت على معظم خطاباتك التي لم تلق لها جوابا، لكن مصابنا في من نحب كان عظيما وقسوة الأقدار علينا كانت عسيرة، عاقبتنا الطبيعة بشح المياه وانقطاع المطر.. وصارت القرية بعدما كانت أسوارا عالية أنقاضا خالية تعصف بين أطلالها الرياح.. تشرد أهلها في براثين المدن الصاخبة يبنون منازلهم أكواخا من الطين والصفيح...... "
ولا تبكي يا مجدوب بلادو صدق من قال:"- اللي عندو محبوب عازو وأنت محبوبك جفاك ولا تبكي.. اللي ضاع يخلفوه الرجالة..ما يدوم حال..كل شيء غادي والدايم مولانا.. خايي كنت عايش معانا واليوم فحماك يا العالي مولانا."....لا تلومها يا سيدي لا تلومها.. محبوبتك سترها راجل كفاها شر الحال..شحال قدك ما تبكي شحال.. وصدق من قال:- "حالك يا مكواه خذاتك الغربة بخيط وصنارة هناك فبلاد بعيدة.. والشط راه فين راه.. والموت قريبة".. والدتك اختارها الله بقربه بدقة صعيبة.. وإنا لله وإنا إليه راجعون والله يرزقك الصبر على هذا المصاب.. وأستودعك الله والسلام."
لم يتمالك نفسه.. رجلاه لم تستطع الوقوف بثبات.. جلس على الأرض.. سقطت الرسالة من يده ..عبثت بها الرياح لتلتصق بالأسلاك الشائكة بعدما غرزت أشواك سطورها في صدره.. أمسك رأسه بكلتا يديه.. كل شيء يميل.. يتهاوى، يدور من حوله.. انطلقت صرخة من أعماق فؤاده الجريح..آه آه لماذا يا الهي لماذا هذا العذاب والألم لماذا..؟ آخ ليت الرصاص الطائش اخترق صدري قبل أن أشهد هذا اليوم..؟هرع إليه زملاؤه حين لاحظوا ما ألم به، ساعدوه على الوقوف.. لم يشعر كيف وجد نفسه هائما وسط الشوارع، رغم الأنوار التي تضيء فضاء المدينة بدا له كل شيء مظلم وقاتم.. لم يعرف كيف وصل منزل مادام كوهين يطرق الباب.. وكيف ارتمى على حضنها والدموع تنهمر من عينيه بغزارة.. ضمته إلى صدرها تشاركه الحزن والحسرة والدموع...
سقط كوب الماء من يده.. دخلت السيدة تحمل في يدها عددا من الأسطوانات والكتب الجديدة؛ رتبتها على رفوف المكتبة وجمعت شظايا الكأس المكسور على البلاط، رفعت عينيها إليه لاحظت مدى الحزن والحسرة على ملامح وجهه وعبرة مهراقة على خده، ترددت في التحدث إليه، لكنها غادرته تاركة الحجرة يعمها الصمت والحزن والدموع.. تناول آلة العود وبدأ يعزف تقاسيم هادئة، رفع عينيه إلى سقف الغرفة وصارت وتيرة العزف تزداد سرعة وحدة تكاد الأوتار أن تنتزع من مكانها أو تشتعل، وكأن القبة الدائرية تتناثر نوتاتها المنقوشة في فضاء المكان كفراشات مشتعلة حول جذوة الثريا الذهبية الملتهبة في قرصها المتقد، عادت السيدة حينما سمعت تلك التقاسيم، جلست على كرسي المكتبة تستمع إليه مبهورة لما يعزفه، كأنها اوركسترا متكاملة في شخص واحد.. لكن ذاكرته وأنامله هناك.. تتحرك بخفة ورشاقة على مفاتيح البيانو وملامسه في بهو منزل مدام كوهين الضيق الأنيق، كمتحف صغير لما حواه من تحف وزرابي ذات ألوان متداخلة ومتعددة، على جدرانه مجموعة من أواني فضية ونحاسية مزخرفة تتوسطه مائدة مستديرة تعلوها أقواسا من جص ثلاثية الأضلاع شبه دائرية تفصل البهو عن الممر والحجرات، نصبت على أطرافها حواجز من قطع خشبية صغيرة مستديرة، جمعت متسلسلة يشد بعضها بعضا لتشكل في الوسط فاصلا بين مجلس كأنه غرفة للضيوف بأحد منازل درب "السماطين" في الحي العتيق، يفتقر حائطه إلى لبكة الطين والتبن وأحجار الكلس وخشب الصفصاف ونكهة الزيتون عند بلوغه المجج حين ينبعث شذاه من معصرة "جنان العروس"؛ تلك الجدران العتيقة الصامدة منذ مئات السنين تستند أرجاءها المترامية على ذراعي الأطلس يحتضنها برفق ويشعرها بالأمان إبان ملازمة الثغور ومواضع الرباط.. أماكن يملأ فضاء أزقتها الضيقة المزدحمة بالبشر المتدفق صوب "زاويت لخضر" و"سيدي بلعباس"، دخان الحطب المحروق المتسلل من أفران الرغيف و"الطنجية" وغبار الأرض القاتم، القادم من عمق التراث وتعاقب الملل والنحل عبر الدروب المحمومة بنقائض الزمن المارق عن سلطة التأريخ، تشده إليه ذكرى الأم والحبيبة والحنين إلى الماضي الجميل... وبين مجلس فيه مائدة مستديرة تحيط بها أرائك قطنية يميل لونها إلى لون السقف المائل، صفت من حوله أحواض الزهور ونباتات مختلفة الأنواع، وفي الزاوية اليمنى آلة بيانو عتيقة الطراز بالقرب من مدفأة ينير حطبها المشتعل باحة البهو، وفي الزاوية اليسرى نافورة صغيرة من الرخام، نصب في وسطها تمثال لسيدة جميلة ينبع الماء من بين أناملها تنثره بالتساوي على أجنحة ستة صبية صغار يمدون أياديهم البيضاء للماء المنهمر دون انقطاع، يتقلب الأوان على صفحات أكفهم بانتظام حين تمضي الساعات والأيام والشهور، كآلة خفية تحركها قوة الماء المتدفق ليعيد الكرة من جديد كي لا تتمرد أرقامها على التاريخ المروي من بؤرة الزمن القديم إذا اعوج المورد المستقيم.. يحيط بها نبات متسلق يصل حدود سقف تتدلى من بين أركانه مصابيح ملونة تبعث نورا خافتا يمتزج بضوء اللهب المتقد ينعكس بريقه على الماء المنسكب، يضفي على المكان لون الغروب الخافت ليبعث الدفء والطمأنينة لتستمر الحياة من جديد.
كان نغما حزينا وإحساسا صادقا، تتحرك ملامسه على مفاتيحه كإيقاع يترجم نبضات قلبه وخفقان فؤاده؛ مقامات تتدفق كشلال قوي ينحدر من أعلى الجبل..أو رسالة خطت من نزيف جراحه.. كان صوت البيانو صدى يداعب لهب المدفأة في تدرجه وتموجاته يشب وهجها رقصا على نغماته، بينما "مدام كوهين" جالسة على الأريكة بقربه تستمع إلى معزوفته باهتمام..كانت ترى فيه ابنها المفقود رغم كلام تشكو لها الأوتار أنينا ما أحدثته الجراح في خاطره، كان تواجده في بيتها أياما طردت عنها شبح الاحتضار، أحبته ولا يمكنها تحمل فراقه، تأملت ملامح وجهه وهو منسجم في ضروب ألحانه كمن حملها على بساط الماضي والذكريات، سافرت عيناها الحزينتان وشفتاها المبتسمة وهو يعزف"قمر منتصف الليل" على ضوء الحطب المتأجج والنور الخافت، حملها بين أحضان ترانيمه العذبة إلى حيث اغتيلت فيها كل الأحلام الجميلة.. كانت موجودة هناك حيث التاريخ توقف.. كانت هناك حيث اللاوعي يؤسس للوعي ويشرع له، سافرت مع رقصات اللهب في زمن تنكر لنفسه الزمن، مذ محرقة الكماليات إلى محرقة الأجساد والأرواح والعقول مذ تحولت الأبدان إلى حطب الأفران"تسمع للرضف بها نضائضا"، فلا الذين يقدسون الكأس شفهم ما شفهم ولا الذين يقدسون الدم والأسفار، يتساءلون أيان يسألون عن مطحنة الخراب والدمار وخلق الفوضى بين البشر، تذكرت يوم أخرجوا من ديارهم غصبا إلى ساحات العذاب...تذكرت يوم عبرت الحدود خوفا من جحيم كان العقل فيه ضحية له، صور تمر أمام أحداق جفت من مآقيها الدموع، كان يعزف ويقرأ في عينيها كل أشكال المعاناة والأحزان، شاردة الذهن في زمن اللامعقول.. جدلية حملت أتعاب الإنسان منذ نشأته راسخة في ذاكرته..غيرت طبيعته إلى آلة يمكن تفكيكها وإعادة تكوينها من جديد، ينعدم فيها الإحساس بالشعور.. آلة عملاقة تقتات قار الجماجم وأنقاض الهياكل من عمق الأرض، كاسحة تستحوذ.. تغزو تقتل تحرق وتدمر.. كي تبقى ولا تنقرض.. تجربة تسللت من مختبرات موصومة بالعار؛ ملغومة بالحقائق المسجونة..
توقف عن العزف أعاد العود إلى مكانه، فدخل عليه رجل يلبس بذلة سوداء أنيقة وقميص أبيض وربطة عنق، وحذاء براق بنفس لون البذلة، ذو شارب ولحية شقراء خفيفة، تظهر بعض التجاعيد أسفل عينيه المتسعتين، وشعر أشيب خفيف يتخلله بعض الفراغ..حياه بإجلال:"عمت مساء سيدي" وأخرج بعض الأوراق من حقيبته الصغيرة ووضعها على المكتب ثم غادر الحجرة ولحقت به السيدة، لم يعر اهتماما إلى ما يروج حوله، كان يتأمل سكون الليل من الشرفة..استدرك تحية الرجل له؛ تلك اللكنة التي نطق بها لم يسمعها إلا في منزل مادام كوهين عندما كانت تلقنه كيف يتكلم لغتها، تذكر حينما كانا يناقشان المترادفات على طاولة العشاء ويضحكان معا عن بعض مدلولاتها، لم ينسى حينما أخبرته بلغتها أن ينام ولا يغادر حتى الصباح لكن الليل وسكونه يغريانه بالتجول في المدينة.
كانت حدائق المدينة ليلا ترفل بحلتها الجديدة، النوافير تتفاعل مياهها مع الأنوار، التماثيل العملاقة المنتصبة وسط تقاطع الشوارع تشخص في حركاتها الثابتة تعبيرا عن تاريخ المدينة ونضالها، صور نحتت على صخور كالأحجار الكريمة، يخالها تنبض بالحياة كأنها تتحرك؛ تنطق بلسان المثل، وتشير إلى لغة الواقع سوف تنطلق.. تتغنى بالثورة وتفتخر بالحرية.. كان يسير وسط الشارع الرابط بين المدينة ومقر إقامته ومازال حنين من افتقدهم يعصر فؤاده.. يسأل القمر والنجوم كأن الليل يأبى أن يحجب ستاره.. لماذا نرفض النهضة؟ نأبى الحياة.. ندوس الكرامة.. لماذا نلبسها ثوب الآخر لنضرب بها مثلا؟ كيف نصحو من غفلتنا والحمية العصبية وقول نحن من اكتشف الدورة الدموية؟ مرة نقصر رداءها حتى الركب، وطورا نكمم فاها بالتقية وأحيانا نكرمها بأسماء طائية سفسطائية، رابطة كانت أم أحلام جماعية... وما هي سوى إشكالية.. منح الإنسان حقه في الاختيار والحرية!! واصل سيره إلى الثكنة فلفت نظره بعض الجنود يتصفحون كشوفات معلقة على الجدران، فانضم إليهم فوجد اسمه ضمن القائمة التي اختيرت للالتحاق بالكلية العسكرية، غمره الفرح لم يستطع النوم والانتظار، خرج مبتهجا مسرعا إلى منزل مادام كوهين يطرق الباب فلاحظت الغبطة والسرور على محياه فعانقته دون أن تعرف السبب، جلسا بباحة المنزل وأخبرها بالأمر.. فأمسيا يتسامران طوال الليل عن الآمال والطموحات، لكن الفرحة لن تكتمل إلا بعد تجاوزه المباراة وحصوله على وثائق الهوية.. كانت تساعده وتحضر له المراجع وتوفر له المناخ الملائم لاستيعاب ما يذاكره، كانت له بمثابة قاموس يشرح ويفسر له كل ما استعصى عليه، امتنعت عن تناول الدواء لتسهر بقربه، لتوقظ فيه رغبة التحصيل والمثابرة وتطرد غفوة النوم وسهد الليل عن عينيه.. وعند اقتراب زمن الامتحان كانت متوترة أكثر منه، رافقته إلى الباب الرئيسي وظلت تنتظره طوال الوقت. كان الامتحان بسيطا وسهلا بالنسبة له، لكن المقابلة الشفوية كانت صعبة أمام لجنة من كبار الضباط ، فبعد الإطلاع على ملف سيرته والتدقيق عليه ومناقشته، اتفقوا بالإجماع على منحه الموافقة للحصول على وثائق الهوية؛ إلا واحدا منهم يلقبونه الجنود بالقط البري، لاصفرار شعره واخضرار عينيه.. وقف من مكانه قائلا بكل غضب وعصبية انتفخت لها عروق أوداجه:" أبناء الوطن أولى بالولوج إلى الكلية من قوم سيحولون عرق مجتمعنا الصافي إلى مجتمع مسخ.." فرد عليه رئيس اللجنة قائلا له:" من منحك الحق للحديث بلسان المجتمع؟ ومن هو ذالك الإنسان الذي يمنع رجلا حمل السلاح يوما للدفاع عن حرية هذا الوطن؟.. حمل نعشه على كتفه متقدما في الصفوف الأمامية أيام النكبات والمحن، يوم كنت مختفيا خلف أدراج مكتبك تشرع ما يصلح وما لا يصلح وغيرك على شفير الموت يقدمون أرواحهم بسخاء لهذا البلد العزيز.. إن بلادنا مجتمع حر، يؤمن بالحرية والعيش الكريم للجميع.. نأمرك بموجب السلطة المخولة لنا أن تغادر اللجنة فورا..وأنت أيها الجندي استحققت الفوز في الامتحان وامض في طريقك وتمتع بمواطنتك كسائر أبناء هذا الوطن".. كانت هذه الكلمات بمثابة دواء التأمت لها جراحه، أدكت روح وطنه الجديد بين فؤاده وجوارحه، هفا قلبه وسالت لها دمعة عز وفرح و نشوة انتصار، كأنها بداية لحياة جديدة في عالم يعمه الحب والسلام بين أحضان مجتمع تتماسك عناصره بقوة لأجل الحرية والكرامة والمساواة.
كانت مدام كوهين تترقب خروجه من المقابلة الصعبة، ممسكة بباقة من الورود متيقنة علم اليقين بأنه سيجتاز كل العقبات.. شاهدته قادما إليها مبتسما، فسقطت باقة الأزهار من يدها وهرعت إليه تعانقه ودموع الحزن التي أضعفت بصرها يوما صارت تنهمر شفاء وفرحا وتفاؤلا بمستقبل وردي جميل.
دخلت السيدة الحجرة لتسقي أحواض الأزهار المصفوفة على جنبات الشرفة، نظرت إليه فلاحظت الابتسامة تعلو وجهه، أحست بالسرور من أجله..فنظر إليها بإمعان متفحصا ملامح وجهها فتذكر أول يوم شاهدها فيه عندما فتحت له الباب..
غادرت ذاكرته إلى اليوم الذي قدمتها فيه له مادام كوهين قائلة له:" هذه كاترينا الجميلة سوف تقيم معنا في المنزل " نظر إليها مبتسما:" مرحبا بكاترينا الجميلة".. تمضي الساعات كسهم خاطف يخترق صفحات الأيام، كأحلام جميلة تغري بحب الحياة.. لكنها تجري كالخيل الظمآنة تنهل بشغف لتروي عطشها في مورد ماء صغير وسط صحراء قاحلة.. كالزمن إلى عمر الإنسان أظمى.. وأنا لها أن تروي ظمأ الزمن؟ كانوا عندما يجلسون حول المائدة يستمعان إلى مادام كوهين تتلو دعاءها تشكر العلي القدير على نعمته، يجيبانها آمين ثم يصغيان إلى كاترينا تشكر الله من في السماوات على رزقه، ويجيبانها في خشوع آمين، وبعدها يتلو دعاءه حامدا الله الواحد الأحد على نعمه ويقولون جميعا ربنا استجب، ويبدأ طعامه باسم الله.. كان كل واحد منهم يمارس طقوسه وشعائر دينه وقت ما يشاء، أما هو فلا يترك صلاة أو فرضا من فروض دينه إلا وقضاه، يمضون أوقاتهم إما بالذهاب إلى السينما أو المسرح، أو التنزه في حدائق المدينة والتمتع بجمالها الخلاب، أو السمر في باحة المنزل إلى طلوع الفجر..وفجأة تنقطع زيارته لهما بسبب اقتراب يوم الحفل العظيم الذي ستشهده البلاد.
كان ميدان الكلية العسكرية محاطا بالأعلام، والخريجون يرتدون الزي اللامع بأزراره الفضية ونطاقه البراق وشعاره المشع.. شكلوا طوابير متساوية في الطول والبنية، ثابتة لا تتحرك يحسبها الحضور صخورا جامدة انبثقت من جوف الأرض، فجأة وبإيعاز من القائد يؤدون سلام السلاح في حركة واحدة موحدة قوية، كأنها آلة تحركت بعد جمود ارتج لها قار الميدان كاد يتشقق، الأولى على مخزن قطعة السلاح والثانية بأقدامهم اهتزت لها البسيطة، أيقظت سبات فرقة المشاة الموسيقية لتبدأ العزف، تحركت على إيقاعها السرايا تسير في خطوات بطيئة على وقع الطبول، تدك الأرض دكا وتلتف تباعا متسلسلة كخرز القلادة، تارة إلى اليمين وطورا إلى اليسار، تحسبها قطارا يسلك منعرجات الجبال في سهولة ويسر، فلما اقتربوا من الحضور ولوا وجوههم صوب المنصة ناظرين إلى اليمين بالتحية، سائرين في نظام وانتظام ثم معتدلين في المسير إلى الأمام منتبهين، كأن الأرض تشدهم وعظمة السماء ترفع هاماتهم شموخا.. شكلوا حلقات متقابلة يداعبون قطعة السلاح بين أياديهم بخفة ورشاقة، يتبادلونها رشقا في الهواء رغم الحراب الحادة التي على رؤوسها؛ تأتيهم بالرغم وهي طائعة دون خشية من حدتها أو طعنتها في تآلف دون تخالف.. عروضا عسكرية أبهرت الحضور بحركات متزنة متحدة منتظمة وجمالية التشكيل، كأنها قطع متحركة متشابهة تسير في الميدان على وتيرة إيقاع رصين يثير الحماس ويذكي شعورا بحس عجيب، إيمانا صادقا بالتضحية والولاء، أحاسيس لا يمكن وصفها.. تلك الفواصل سرايا تتحرك كجسد واحد، تنفصل لتتجمع من جديد، تارة تشكل علما وطورا تشكل سهما تزحف بانتظام متقدمة نحو المنصة الشرفية مشكلة شعار الحرية..كانت السيدتان تحاولان معرفة مكانه بين المشاركين، لكنه لم يكن ضمن السرايا المشاركة في العرض فانتابتهما الحيرة والقلق، في حين شكلت الفواصل دوائر متماسكة، وتوقفت فرقة المشاة الموسيقية عن العزف والكل ثابت وسط الميدان.. إذ بطائرة تحلق عاليا يقفز منها مظليون يسبحون في الهواء، ينزلون تباعا وسط الدوائر.. إنهم الخريجون المتفوقون من سيحصدون الجوائز حين انتهاء الحفل، كان في مقدمتهم حين شكلوا طابورا ليواصلوا مع زملائهم عرض السلام الأخير تحية العلم والحضور، على العهد سائرين إلى الأمام بخطوات معتدلة، مقسمين على فداء الوطن وهم يغادرون من أمام المنصة الشرفية.. تلاها سرب من الطائرات المقاتلة تعبر سماء المدينة.. لأجل كل أمة ناضلت من أجل الحرية...
كان يوما خالدا في ذاكرتهم، اتجهوا إلى الثكنات يغمرهم الفرح لما حققوه من إنجاز في يوم كان عصيبا، ارتدوا ملابسهم المدنية وغادروا الكلية لاستكمال الحفل على طريقتهم، بعيدا عن الضبط والربط والأوامر العالقة في أذهانهم.. كانت مقهى لورانس مكانهم المفضل لارتشاف الشاي وقهوة البن الطيبة، يعيدون ذكرى ستة سنوات جمعتهم فيها الكلية رغم صعوبتها تركت في نفوسهم الأثر الجميل، يتذكرون طوابير العقاب الجماعي ويضحكون، كما ناقشوا تعييناتهم والمستقبل المشرق الجديد، أما هو فقد عين ضابطا في إدارة الشؤون القانونية بقيادة الأركان.. في حين كان المنزل يرفل بالأنوار والأزهار وبالونات ملونة وشموع تنير بهو البيت، وعلى المائدة كعكة كبيرة وأصناف من الحلوى والمرطبات.. كان احتفالا آخر مع كاترينا ومادام كوهين، أجمل ليلة يشعر فيها بأنه ليس وحيدا وليس غريبا عن وطنه.. رقصوا معا متماسكي الأيادي يجمعهم الحب والسعادة، الكون كله بين أياديهم، كأن الشموع المنيرة التي تحفهم تدمع فرحا وتأبى أن تنتهي قبل الصباح، حينما كان يعزف لهما رائعة جاك بريل"لا تتركيني" في لحن يمتزج فيه الحزن والفرح، إحساس بالسعادة والأمل وصبابة الحنين إلى الماضي ولهفة الطموح إلى المستقبل، يعزف ويتأمل ملامح كاترينا التي تسبح مع نغماته، تهيم في فضاء الحب؛ تهدهد جسدها الرشيق ببطء يتمايل له شعرها الذهبي الطويل المنساب، تحملها الألحان في سماء صافية على قمم عالية حيث المياه العذبة وعشق الحياة، يقرأ ما تخفيه نظرات مدام كوهين حين تسترق إليهما النظر، تتذوق روعة الكلمات بين معاني العيون وسطور القصيدة لما تكنه في خاطرها من أفكار، فأجابها مبتسما منشدا:" المسنون يتكلمون أحيانا برموش أعينهم أو لا يتكلمون أبدا"..وفي صباح الغد وهم حول مائدة الإفطار تكلمت العيون والشفاه، حين أعلن خطوبته بكاترينا بعد أن حطم جدار الخجل الذي كان يمنعه، ابتسمت كاترينا وبدا عليها الرضا والموافقة...
كانت جالسة على الأريكة بقربه بعد أن انتهت من سقي الأحواض..أحست بأنه يود قول شيء لكنه تراجع أو تردد فهمت بالمغادرة لكنه هب واقفا من مكانه مناديا:
- كاترينا... كاترينا...
أدارت وجهها والفرحة تغمرها فأجابته: - أجل أنا كاترينا
- أجل أنت كذلك.. لكن أنا من أكون؟
- أنت زوجي من افتقدته منذ زمن وهذا منزلك الذي أنت فيه.. كل شيء هنا ملك لك أنت..
كانت هذه الكلمات التي نطقت بها كاترينا كبركان صامت، أشعلت ذاكرته من جديد، أحس بوقعها في صدره كأنها تلك الصعقات الكهربائية القوية التي أدكت جسده نارا؛ سرت شحناتها في شرايينه لتستعيد نبضات قلبه عافيتها من جديد، لم يستطع ترتيب الكلمات للرد بل تداخلت الصور في مخيلته، سور المحكمة العتيق..أضواء الكشافات في غرفة الإنعاش..الأيادي والأقنعة..الدراويش يدخلون باب المحكمة المنيف..الطائر الذبيح والمطر..حانة الصيادين والموج وطيور النورس.. الكرسي العملاق حول الدائرة المشتعلة..المدينة القديمة تحترق.. الفلاح باع محراثه وأجل عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] الصيد..الوجوه الحزينة البائسة تسير أشتاتا على قارعة الطريق..زحمة الناس في الشوارع بين الأحياء والأزقة الضيقة من الطين والحجارة الآيلة للسقوط..عبد السلام الحلايقي مازال يعزف على الربابة ويحكي حكاية الصياد..الحمادشة ينشدون:"العشية عشات والليل راح.. "... الثور المارد يخرج من الصندوق والأنعام في الحظيرة..الناس يشاهدون الكاراكوز ويشترون تذاكر ليفوزوا في لعبة الفأر..البوهالي يضحك التذاذية.. والفأر يبحث ويبحث..جحور متعددة..الفأر يبحث بين المنعرجات..البوهالي يضحك بهستيريا مشيرا بسبابته إلى الفأر.. الفأر يستقر في أحد الجحور فلا أحد يفوز بالجائزة..البوهالي يضحك ويبكي في آن واحد..أفواه مكممة وصراخ..أنين مكتوم في الأفواه.. حرب ومحراب وحراب... والدراويش مازالوا خلف الباب لم يبرحوا باب السور العتيق.. و"الشاوش مصطفى بالعربي"مازال في قفص الاتهام.. وعاد صدى صوته يسأله من جديد:
- من أنت..؟
- أنا عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] من حلقة الدراويش.
- من كمم الأفواه بسوط الجراح؟ - البوهالة والدراويش. - من علمك عزف العود والغناء؟
- الدراويش.
- من قطع أوتار الربابة والعود واغتصب الألحان والنشيد؟
- البوهالة والدراويش.
- ألم نقل لك إنهم ملاعين؟
- أعطني حبة نوم لأنام وأستريح.
- خذها وارحل عن ذاكرتك
ارتمى على الأريكة وأغمض عينيه واستسلم لذاكرته، بينما كاترينا بدا عليها الحزن وقلة الحيلة.. لم تستطع منع الدموع من عينيها وهي تنظر إليه مغمض العينين يتمتم:" كيف لم يدخل الجحر؟" لماذا هذا الفأر اللعين لم يدخل الجحر رغم أن الجحور متشابهة..؟
يسمع أزيز مروحية يقترب شيئا فشيئا.. جنود يزحفون وسط الأدغال بين أكواخ من أوراق الشجر و سعف النخيل..فعادت المروحية من جديد تقصف الأعشاش وتحرق الجثث وتبتلع الجنود في جوفها تباعا لتعود بهم إلى الأسطول المتمترس في عرض البحر لتحتفل الجحافل بنجاح عملية "الصقر الجريح".. رفع عيناه إلى كاترينا وقال بصوت خافت:
-" كنت هناك يا عزيزتي، لم أكن أعلم أنها لعبة الفأر.. جرذان وجنود من مختبر واحد..الأجراس للفئران والصفارة للجنود..منبه تختلف نغماته لكن الاستجابة سريعة..أما ردة الفعل دراماتيكية.. ذاك يحرمك من الجائزة، والآخر يحرم حقك في الحياة..فبدل أن تسألي لماذا لم يدخل الجحر؟ سلي الفأر كيف لم يدخل الجحر..؟ سليه ولو عز عليه سؤالك سليه فلو كان غير ذلك لأجابك.
غادرت كاترينا وتركته هائما في ذاكرته، بين ماض يسليه وأحيانا يعاتبه.. وحاضر من الزمان بدد الآتي ملامحه، تارة يستحضره وتارة يجافيه ويفارقه، فتح عيناه ليطرد عنه أشباح اليقظة لكن الحجرة بدت مظلمة، التفت صوب الشرفة ليرى النور سمع صوتا خافتا وسط العتمة كأنه قرص منير وسط الغرفة تجلت فيه مادام كوهين تخاطبه:
- أتذكر وصيتي لك عن بيتنا القديم قبل الرحيل في الحي العتيق؟..كنا نروي حديقته بماء الورد ونغرس الرمانة والزيتون.. كانت أمي لا تريد هجره سوف نعود لنسقي الكرمة قبل أن تجف..الفأس هناك وماء الغدير مازال ينبع في الحديقة..
- جفت الكرمة والزيتونة.. ونضب الماء يا أم يعقوب..
- والقرية..؟
- أطلال تعصف بين جناحيها الرياح.. تتنافس على طمرها عراقيب الرمال الزاحفة..
- لماذا رحلت إذن؟
- لابد للطير يوما أن يحن إلى فننه..إذا الحنين سرى شوقا في جسده..
- قيل أنك مفقود..
- لم أكن أعلم يا سيدتي أن لعنة الصقر الجريح ستلوثني دماءه..
- عد إلى بيتك.. إلى لهب المدفأة الدافئ ونور الموقد المتقد.. إلى آلة البيانو العتيقة معشوقتك.. إلى خزائن المال والمجد..
- سوف أسقي الضيعة بنور القمر.. أمسح دموع جدرانها العالية بوشاح الشمس، فلابد يوما من هطول المطر.
- أهل القرية باعوا الحدائق.. والرياح هاجرت السحاب والبرق.. فلن يهطل المطر..
- الرعد يدوي في سماء القرية.. يهز أركان أسوارها العالية ومازالت صامدة لن يجرفها بطش العواصف ولن يبتلعها ثغر الإعصار.. عيونها أدمعت لتسقي الضيعة..
- من يوقف رمال الشرق الزاحفة؟
- الأطلس الساهر يصدها والينبوع سوف يتفجر.. إنه نبع الحياة وإرادة الحب وجوهر الحقيقة.. سوف نصلي يا أم يعقوب.. نعزف معا تراتيل المطر.. لن أعود لن أعود لأني اخترت الأم والأهل والوطن..
جلس على المكتب، تصفح الأوراق؛ كانت تتضمن وصية عجوز له كان قد أحبها بصدق، تلك التي وجد فيها سندا له في غربته ومحنته وكانت له بمثابة من افتقدهم يوم نكبته، وهاهي الآن تفارق الحياة تاركة له كل ما تملك وأوراقا عشر على مكتبه فانهمرت الدموع من عينيه.. سحب درج الاسطوانات التي جلبتها كاترينا، وكبس احد الأزرار لتصدح نغمات راحلة بصوت احمد الحياني فجلس على الأريكة مستمتعا بالقصيدة، في حين دخلت كاترينا عالمه؛ أمسكته من يديه ثم عانقته.. راحلة معه على رحالة صبابته وحنينه، فرقصا معا على نغمات اللحن الحزين..لحنا خالدا كانت فيه عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] العودة حزينة..إنها عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] الدراويش.