المجلس الإسلامي الأعلى (من مواد الموسوعة الفلسطينية – القسم الأول- المجلد الرابع ):
كانت وظيفة الإفتاء في فلسطين , كما في الولايات العثمانية الأخرى , وظيفة دينية كبيرة . وكان العلماء والمدرّسون والأئمة والخطباء وسائر رجال الدين في كل مدينة كبيرة هم الذين ينتخبون مفتي مدينتهم بإشراف الوالي أو المتصرف الذي كان يقدم إلى شيخ الإسلام في العاصمة إستانبول بياناً بأسماء الثلاثة الذين فازوا بأكثر الأصوات ليختار من يرجّحه من بينهم .
وكان المفتي المختار يمارس هذه الوظيفة إلى آخر عمره ما دام قادراً على القيام بأعبائها . وكانت له إدارة دينية خاصة , ومعاون – هو أمين الفتوى – أو أكثر وفقاً لعدد سكان المدينة وما يتبعها من قرى .
كان المفتي يتولى بالإضافة إلى وظيفة الإفتاء الرسمية الأعمال التالية :
1) رئاسة لجنة الأوقاف التي تشرف على إدارة شؤون الأوقاف الإسلامية والمعاهد الدينية والمساجد .
2) رئاسة لجنة اختيار المدرسين والوعاظ وأئمة المساجد والخطباء وسائر رجال الدين وتوظيفهم .
3) عضوية مجلس إدارة المدينة الذي يترأسه الحاكم ويجتمع مرتين في الأسبوع للنظر في الشؤون العامة .
4) عضوية المجلس العام , وهو مجلس استشاري لسكان المحافظة يعقد برئاسة الحاكم لإقرار الموازنة السنوية والنظر في الوسائل التي تؤدي إلى تقدّم الولاية أو المتصرفية ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً.
وفي عهد الانتداب البريطاني اظهر الأهالي رغبتهم في تأليف مجلس شرعي إسلامي يتولى شؤون أوقاف المسلمين ومؤسساتهم الدينية وقدموا بذلك طلباَ إلى المندوب السامي البريطاني. وقد كلف المؤتمر العربي الفلسطيني الثالث(حيفا, كانون الثاني 1920) اللجنة التنفيذية بالعمل لتحقيق هذا المطلب .
تلقى المندوب السامي البريطاني الفكرة بالتأييد, ورأى في تنفيذها تهدئة لنفوس المسلمين , فشجعها وترك للمسلمين أن يضعوا القانون الذي يريدونه للمجلس . وقد وضعوا هذا القانون وتوسعوا فيه حتى كاد المجلس يكون حكومة إسلامية . ولعل حرمان العرب من الحكم كان دافعاً إلى الاتجاه نحو ذلك المجلس وتعليق الآمال الواسعة عليه .
تأسس المجلس عام 1922 لإدارة المحاكم الشرعية والأوقاف والشؤون الإسلامية . وعيّن المندوب السامي البريطاني الحاج محمد أمين الحسيني رئيساً له فتحقق له ما أراد من تقييده بقيود منصبي الإفتاء ورئاسة المجلس . وقد قام المجلس بتنظيم شؤون الأوقاف وافتتح كلية إسلامية ومدارس في مختلف أنحاء فلسطين , وساهم مساهمة فعلية في إقراض الكثيرين من أصحاب الأراضي أموالاً من صناديق الأيتام للحيلولة دون تسرب أراضيهم إلى اليهود. وقام للغاية نفسها بشراء مساحات كبيرة من الأراضي وعدد من القرى كقرية دير عمرو وزيتا فجعلها وقفاً على أهلها . كما اشترى الأراضي المشاعة في قرية الطيبة وعتيل والطيرة . وكان المجلس يعقد مؤتمراً سنوياً من رجال الدين لتنظيم وسائل مقاومة بيع الأراضي لليهود ويصدر فتاوى بتكفير من يبيع أرضه لهم أو يقوم بعملية السمسرة لبيعها. وقد ذكرت تقارير حكومة الانتداب السنوية إلى اللجنة الدائمة للانتدابات في عصبة الأمم في جنيف أن سبب قلة انتقال الأراضي إلى اليهود هو المجلس الإسلامي الأعلى .
نشأت حول المجلس جبهة مؤيدة تدعى "المجلسية " على رأسها الحاج محمد أمين الحسيني يعاونه أنصاره . وكادت هذه الجبهة تصبح عنواناً للحركة الوطنية الفلسطينية . وقد وقف المجلس الإسلامي دائماً مواقف وطنية بشأن الأحداث التي كانت تشهدها فلسطين فجرت بينه وبين سلطات الانتداب البريطاني مكاتبات ومحادثات شفوية دافع فيها المجلس عن حقوق المسلمين في البراق الشريف عندما نشبت الحوادث بين العرب واليهود بسببه . وكذلك احتج المجلس الإسلامي إلى مجلس اللوردات البريطاني على منح فريق من الصهيونيين حق استثمار البحر الميت . وبادر أيضاً بالإبراق إلى وزير المستعمرات البريطاني طالباً سرعة تنفيذ ما جاء في الكتاب الأبيض الذي أصدرته الحكومة البريطانية عن مسألة البراق . وقد شارك المجلس الإسلامي الأعلى الأمة في الإضراب الكبير عام 1936 وأصدر بشأن ذلك بياناً خاصاً .
وقد نشأت مقابل الجبهة "المجلسية " "جبهة المعارضة " وتزعمها راغب النشاشيبي الذي عينته سلطات الانتداب رئيساً لبلدية القدس بعد إقالة موسى كاظم الحسيني . وأخذت جبهة المعارضة تطالب بالإصلاح وتقوم بالنقد والتجريح حتى بلغ الأمر حد المهاترات وانقسم المسلمون إلى معسكرين متعاديين : مجلسي ومعارضي , مما ترك أثره في القضية الوطنية . واتسع الانقسام عندما جرت عام 1925 انتخابات أعضاء المجلس التي تمت وفقاً لقانون انتخاب المجلس النيابي العثماني وشملت كل مسلم راشد في جميع أنحاء البلاد. وكان عدد أعضاء المجلس الذين يفترض أن ينتخبهم المسلمون أربعة فقط , مما زاد في حدة التنافس وانجراف الجميع في تياره دون استثناء .
لكن محكمة العدل الإنكليزية فاجأت الجميع وحكمت ببطلان الانتخابات . فأقامت سلطة الانتداب مجلساً مؤقتاً ووعدت بتعديل قانون المجلس وكلفت لجنة من الحقوقيين الشرعيين والمدنيين المسلمين برئاسة رئيس المجلس الإسلامي إعداد مشروع التعديل . غير أن حكومة الانتداب احتفظت بمشروع اللجنة ولم تعمل به .
حاز الحاج محمد أمين الحسيني معظم الأصوات المؤيدة في انتخابات عام 1925 . ورغم انشغاله بمنصبي الإفتاء ورئاسة المجلس لم يتخل عن الحركة الوطنية ومناصرة أهدافها وتحريك تيارها . وظل الأمر كذلك حتى عام 1936 حين قاد هذه الحركة جهاراً وكان من نتائج ذلك إقالته من رئاسة المجلس عام 1937 وبهذا اضمحل المجلس الإسلامي الأعلى تدريجياً حتى زال .