المجاعات (من مواد الموسوعة الفلسطينية – القسم الأول – المجلد الرابع ) :
إن بلاداً مثل فلسطين بإقليمها المناخي المعتدل وتربتها الخصبة وخبرة سكانها في الزراعة منذ أقدم العصور , كان مفروضاً ألا تقع فيها مجاعة, ولكن تاريخ فلسطين يروي أنها أصبحت عرضة لكثير من المجاعات في مختلف العهود .
المعروف عن أقدم السكان , وهم الكنعانيون الذين نسبت إليهم بلاد كنعان , أنهم اهتموا باستغلال خيرات أرضهم فأنشأوا زراعة راقية وغنية جداً حتى وصف وطنهم في التوراة (سفر الخروج8:3) بأنه " الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً " . ويقول الكاتب المصري سنوهي (القرن الخامس عشر قبل الميلاد) في قصته المشهورة عن أهل كنعان :" إن بساتينهم كانت تزخر بأنواع الفواكه الممتازة , وإن أنبذتهم في دنانها كالماء كثرة , وإن حبوبهم في الأجران بعد درسها أكثر من رمال الشاطئ".
وقد زرع الكنعانيون مختلف الحبوب والخضر والفواكه , وكثيراً ما كانوا يصدرون القمح والشعير والزيتون والعنب إلى الأقطار الأخرى . وكانت لهم علاقات تجارية واسعة بمصر التي كانوا يصدرون إليها عن طريق البحر والبر الأخشاب والعطور والأقمشة والحجارة الكريمة والزيت والعسل والعنب والخمور ويستوردون منها الكتان والفخار والفراء .
إن هذه الصلات التجارية الوثيقة سرعان ما تطورت إلى علاقات سياسية . وقد تمّ
توحيد مصر وبلاد فلسطين والشام في عهد الهكسوس , ثم في عهد المصريين بعد استيلائهم على هذه البلاد أيام السلالات الثامنة عشرة والتاسعة عشرة والعشرين .
تروي التوراة (التكوين10:12) أن الجوع في أرض كنعان ألزم إبراهيم الخليل أن يرحل مع أهله إلى مصر (في القرن الثامن عشر قبل الميلاد). وفي عهد الهكسوس اضطر يعقوب وأولاده إلى النزوح إلى مصر في عام 1656 ق.م) بسبب القحط والمجاعة في فلسطين . كما تذكر التوراة حدوث مجاعات في عهد القضاة , وفي حكم داود , وفي أيام إيليا وآخاب , ثم في أيام اليشع عندما اشتد الحصار على مدينة السامرة واضطر السكان إلى أكل لحم الحمير وزبل الحمام (سفر الملوك الثاني25:6) . وحدث جوع شديد في أورشليم كذلك عندما حاصرها نبوخذ نصر في سنة 586 ق.م. (سفر الملوك الثاني3:25).
وترجع المجاعات الكثيرة التي حدثت في فلسطين على مدى تاريخها إلى أسباب كثيرة منها :
1) الغزوات الخارجية المتعاقبة .
2) الثورات الداخلية .
3) هجمات قبائل الخابيرو والصحراوية في القديم.
4) غارات قبائل البدو في العصور الوسطى.
5) احتباس الأمطار أحياناً.
6) اجتياح أسراب الجراد أحياناً أخرى .
هكذا حدثت مجاعات كثيرة أيام غزوات المصريين والهكسوس والآشوريين والبابليين والفرس واليونان والرومان . ولكن لا بد من الاعتراف بأن اليونانيين من خلفاء الإسكندر المقدوني شجعوا الزراعة والصناعة في فلسطين . وأن التجارة ازدهرت في عهدهم فتحسنت بذلك الحالة الاقتصادية وتمتعت البلاد برخاء كبير . ثم ازداد الرخاء وتقدمت الزراعة كثيراً في عهد الرومان الذين فرضوا السلام لمدة طويلة وقاموا بتشجيع المزارعين وساعدوهم على استعمال الآلات المائية والمعاصر وطرق التسميد الراقية , كما اهتموا بمشاريع الريّ وإقامة القنوات والبرك والسدود وحافظوا على الغابات حتى اشتهرت بلاد فلسطين والشام في ذلك العهد بأنها " أهراء روما" لكثرة إنتاجها من الحبوب .
في مثل هذه العهود لم يبق أثر للمجاعة , ممّا يبرهن على أن استتباب الأمن والعناية بالسدود والقنوات ومشاريع الري يساعدان على تجنب أخطار المجاعات , أو على تخفيف ويلاتها .
وهذا ما حدُ أيضاً في العصور الأولى من الحكم العربي الإسلامي. فقد كان خلفاء الأمويين والعباسيين يشترطون لبقاء الأرض في ملكية الفلاحين زراعتها والاعتناء بها, كما كانوا يشجعون الزراعة ويسهرون على إنشاء السدود ومشاريع الري . ولذلك لم يسجل التاريخ حدوث مجاعات في فلسطين في ذلك العهد وإن كان يذكر إصابة البلاد ببعض الأوبئة كطاعون عمواس سنة 18 هـ , والزلزال بالرملة سنة 425 هـ وبالقدس سنة 452هـ .
ولكن الأحوال تبدلت في زمن الحروب الصليبية فتعرض السكان , ولا سيما سكان القدس , للمجاعة من حين إلى آخر .
أما في عهد المماليك فقد نشطت الزراعة وازدهرت التجارة . وعلى الرغم من ذلك أصابت فلسطين في بعض الأحيان الأوبئة وانحبست الأمطار وارتفعت الأسعار , كما حدث في عام 873هـ /1468م عندما انتشر وباء الكوليرا وأصاب الناس قحط وجدب وارتفعت الأسعار ارتفاعاً فاحشاً , ثم في عام 896هـ/1491م عندما احتبس وأجدب الزرع وقل القوت فعانى الناس كثيراً من المجاعة .
وتذكر الأخبار أن الثلج تساقط بغزارة في القدس سنة 898هـ /1492م وفي السنة التي تليها ودام تساقطه على ربى المدينة عشرة أيام فأضرّ بالزراعة وأدى إلى القحط الذي تكرر سنة 910هـ /1505م . وزاد من وطأة المجاعة قيام البدو إذ ذاك بغارات على القدس وغيرها من المدن .
وبعد ان دخلت بلاد الشام وفلسطين تحت حكم العثمانيين (922هـ/1516م ) أخذت الأحوال الاقتصادية تتدهور تدريجياً فانهارت التجارة الخارجية وانحطت الصناعة بتأثير تحول طرق المواصلات البحرية والتمسك بالتقاليد الحرفية وقسوة النظام الإقطاعي وأسلوب الالتزام بجباية الضرائب بالعنف والشدة . وكثرت بالإضافة إلى ذلك تعديات الانكشاريين والثورات الأهلية وغارات البدو وإهمال السدود وتخريب الجسور .
وقد حدثت في جميع مدن فلسطين وقراها مجاعة شديدة في سنة 1071هـ/1661م بسبب الجراد الذي أتى على محصولات البلاد. ثم تكررت غزوات أسراب الجراد بعد ذلك في الأعوام 1865و1899و1915و1916 .
وحدثت كذلك أزمات اقتصادية , وعانى السكان من البرد والجوع والأمراض بسبب سقوط الثلج في عام 1269هـ/1853م وقلة الأمطار في عام 1271هـ/ 1855/.
وقد قاست فلسطين من هذه الكوارث وفتكت بسكانها المجاعات لأنها كانت متخلفة في تطورها العلمي , فلم تقتبس الأساليب الحديثة في الزراعة , ولم تؤسس شيئاً من الصناعات الراقية حتى تستطيع تصدير البضائع واستيراد الأغذية عند الحاجة .
وإذا كانت الحياة الاقتصادية في فلسطين العربية قد انتعشت قليلاً بعد الحرب العالمية الأولى فإن ذلك لم يستمر طويلاً لأن حكومة الانتداب أسرعت إلى وضع العراقيل في سبيل النهضة وأخذت تمهد الطريق لتدفق المهاجرين الصهيونيين ثم ساعدت على قيام (دولة إسرائيل) التي كانت أشد وطأة على سكان البلاد من كل المجاعات والكوارث والأوبئة .