و أنت الآن قد سافرت إلى قارة امتدت بعيدا في الزمن، أجد كل السبل المكانية لا تفضي لغير الذكرى. فماذا أهديك في عيدك و الأثير لا يحفل بما لا تقوى على حمله الريح؟
فراشة كانت هنا، تزرع الامكنة ألوانا وتسافر مع النسيم الذي يسكن الترحال. شحرورة كانت على الشباك، تعزف للمرح لحنا و للأرواح عذوبة وتطير ملاحقة الجمال المنفلت من أسر المكان.
أنظر حولي باحثا عن ملء عيني منك، فلا يطالعني غير تذكارات اللحظات التي كانت كحياة حلم أتلف تفاصيله تلألؤ النجوم العابرة في عجالة إلى يوم جديد.
هنا، على هذا البساط بقايا من ظلك. وعلى تلك الشرفة أستعيدك ربانا يحاور المدى ويغازل منارا ليهديه أسرار عبور في رحلة لم تزل بعد خيالا. وفي هذا الركن حيث كنت، أبحث عن بقايا أصداء ضحكاتك. وعلى مسار المشاوير الطويلة في قلب المدينة، يتناهى إلي وقع خطاك، فاتحسس ذراعي متلمسا دفء كفيك.
ياااه...ا هل للزمن يا فدوى كل هذا الاستعجال أم نحن فقط من نفتح الخطى أكثر مما يلزم؟
في ذكرى ميلادك العشرين أقف أمام اللحظة المجمدة في ذاكرتي عن ذلك الغروب الصيفي قبل عشرين سنة. كيف أصدق؟
في ذلك التقاطع الممتد بين حياتك المليئة صخبا و السكون الشامل الذي كسرته صرخة قدومك، كنت خارج القاعة من تلك المصحة. كنت في ريعان الشباب و اوج الاندفاع. الحياة كانت كلها قبالتي، وكنت أسير صوبها بخطوي المسموع لعلي أثير فيها خوفا، فلا تجرؤ على إغضابي.
مئات المرات قطعت الممر خارج العيادة جيئة و ذهابا. دخنت بشراهة و انا احاول تخويف القادم من الزمان ليتمثل للحلم الذي لم يراودني غيره.
أمك كانت في الداخل. و صراخها كان يغطي كل الحديقة الكبيرة و يمتد للدور المجاورة.كل ذلك لم يكن مهما بالنسبة لي. كان الاهم هو جنس ذلك القادم الذي كان يقرع بوابة الحياة. كنت أريده ذكرا. ما كنت لاٌقبل بغيره.
الذكر كان يعني لي أشياء كثيرة. أسطورة تبحث لها عن بطل. سواعد مفتولة تنتظر روحا تحركها. أمجادا و مفاخر تنتظر من يكتبها.
أمك كانت تخيفها رغبتي الحمقاء، و لا اشك لحظة في أن صلواتها كلها كانت تختمها بدعاء وحيد. لكن الأقدار لم تستجب، و كنت انت القادمة.
أكيد ان امك بعد وضعك قد نسيت آلام المخاض و الضعف و الوهن. وفحصتك مرات و مرات لتتأكد من انها في مأمن من الأعاصير التي كانت تتهيأ في الخارج.
حين رايتها بعد الوضع، لم تتجرا و لم تقو على النظر في عيني. ابتسمت ابتسامة فاترة، و دست رأسها في عنقها إقرارا و اعتذارا عن عدم قدرتها على تحقيق رغبتي.
انفعلت و غضبت، وكدت أنهج نهج القدامى فأهجر البيت احتجاجا على قدومك بدل ذكر كنت قد اخترت له اسما.
ياااه يا فدوى..ا اسأل نفسي لم الحياة متمردة على كل التصنيفات. لماذا نشعر بانها قصيرة حين ننظر إلى بنائها العمراني المشكل بالفرح، ولماذا نجدها قد طالت اكثر مما يستوجب حين نمتلك ما يكفي من الشجاعة لننظر إلى حجم الدمار الذي مارسناه و الجهل الذي امتلكنا وكتبنا سيرا ملوثة؟
وظائف الأبوة كما ورثتها لم ترسم لك حضورا داخل انشغالي. أوفر الأكل و أشتري الملابس و أضع كل شئ خلف ظهري لأغوص في بحار الحروب اليومية. احتجت إلى عقود من الزمن كي اعي ان اشرس المعارك التي تستحق أن يصرف من اجلها ما تتطلبه من جهد، هي تلك التي تجري داخل الانسان و ليس خارجه.
كنت في بداية عقدك الثاني حين قرعت بعنف بوابة عالمي المهوس بالأمجاد الزائفة و الأفكار المستعارة. نظرت إليك. هالني حجم الزمن الذي ولى. نظرت في عينيك. تهاوت داخلي أهرامات اليقين الذي لم أجده ساعتها يقينا. بحثت عن سر تلك الجراة التي امتلكتيها. وهل كانت هي كذلك أم اني كنت في لحظة تحول اعقب انهيارا مريعا كنت فيه ابحث عن هوية جديدة.....
عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ]
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالله البقالي
إلى فدوى ابنتي
وظائف الأبوة كما ورثتها لم ترسم لك حضورا داخل انشغالي. أوفر الأكل و أشتري الملابس و أضع كل شئ خلف ظهري لأغوص في بحار الحروب اليومية. احتجت إلى عقود من الزمن كي اعي ان اشرس المعارك التي تستحق أن يصرف من اجلها ما تتطلبه من جهد، هي تلك التي تجري داخل الانسان و ليس خارجه.
كنت في بداية عقدك الثاني حين قرعت بعنف بوابة عالمي المهوس بالأمجاد الزائفة و الأفكار المستعارة. نظرت إليك. هالني حجم الزمن الذي ولى. نظرت في عينيك. تهاوت داخلي أهرامات اليقين الذي لم أجده ساعتها يقينا. بحثت عن سر تلك الجراة التي امتلكتيها. وهل كانت هي كذلك أم اني كنت في لحظة تحول اعقب انهيارا مريعا كنت فيه ابحث عن هوية جديدة.....
الأستاذ الفاضل عبدالله البقالي،
رسالة ابوية رائعة فيها بوح واعتراف جميل، فيها مكاشفة للنفس ومصداقية وهنا يكمن سر جمالها
ذكرتني سيدي بحديث دار بيني وبين والدي رحمه الله، قال لي : "عندما كنت انتظر قدوم اول مولود لي كان يسيطر على تفكيري نوع المولود ، كنت اتمناه ذكراً ، والعائلة كلها تتمناه ذكراً فأسم العائلة لا يحمله الا ذكر، وعندما اخبرتني الممرضة بأن المولود انثى اصابتني حالة من الصمت. مع الوقت وبعد ان رزقني الله بالذكور وبقيت انت الأبنة الوحيدة ، والصديقة الصدوقة ، وأمينة سري، والحنونة التى تحتضن كل تفاصيلي ، عرفت كم كنت مخطئ عندما تمنيتك ان تكوني ذكراً "
اليوم اثبتت الأنثى بأن الفرق بينها وبين الذكر هي فروق فسيولوجية فقط ، ولكنها تملك العقل والمنطق والجرأة التى تؤهلها لأن تحقق حلم أبويها.
اشكرك على هذا البوح الراقي وطرحك لموضوع في غاية الأهمية.