ربّما لا تعرفون من يكون الباشا سليمان، لكنّي أعرفه جيداً وانا سائق العربة المأجور. كان يوماً ثقيل الوقع .. يومٌ متعبٌ للغاية. بقيت خلف كعكة السيارة والتي يسمّيها البعض "المقود" ساعات طويلة دون أن أنجز عملاً يذكر، وكأن الجميع أضربوا ذلك النهار عن الصعود الى سيارات الأجرة.
أردت أن أعود الى المنزل لأتناول الطعام وأشاهد كلّ البرامج والأفلام التي تروقني دون حسابٍ أو عقاب. وقبل أن أفعل ذلك سوف أحضّر الكثير من الشاي وبعض المأكولات التي تليق بأعزب وسيمٍ وفاتنٍ مثلي. وكدت أفعل حين وَلَجَ الى باطن السيارة رجلٌ ضخم الجثة عريض الابتسامة .. صاح الرجل قائلاً
- يا مساء الفلّ يا عزيزي، لماذا هذا النكد والهمّ على وجهك الوسيم يا فتى؟
- والله يا عم النهار ناشف .. ما في زبائن طِوال النهار.
- ما فشر .. وأنا ماذا أكون؟ مش زبون يعني يا ابني!.
- أعوذ بالله، أنت سيد الزبائن يا معلمّ.
- أنت من أي بلد يا عزيزي؟
سألني الرجل وكأنه يعرفني منذ زمنٍ بعيد، تمكّن من رفع الكلفة بيننا خلال لحظات من دخوله العربة.
- أنا من نابلس يا كريم النفس.
وما أن أكملت كلماتي تلك حتى صاح الرجل من الخلف فرحاً وقال وهو يلوّح بيديه بحركات بهلوانية وفنيّة.
- نابلس .. يا هلا، يا هلا ومرحبا بنابلس. الله الله الله. رشق تلك الكلمات كالرشاش الآلي.
- يا ساتر. يبدو بأنّ حضرتك من نابلس أيضاً؟
- لقد قضيت في تلك المنطقة أجمل سنوات حياتي .. من أين في نابلس يا ابني؟
- من بيت ليد. لا تبعد كثيراً عن المدينة.
- بيت ليد؟ الله الله الله. بيت ليد مرّة واحدة؟ لقد أصبت في تلك القرية خلال حرب الأيام الستّة.
وأخذت أفرك يديّ. يبدو أنني سأحصل على بغشيش يعوّض لي النهار بل أسبوع العمل كلّه.
- ما قصتك يا والدي؟ يبدو أنّك ابن بلد ومشتاق وملوّع؟
نظر إلي الرجل ذو الجثّة الضخمة عبر المرآة وقال.
- الله .. أنت قلت والدي؟ هذا ما ينقصني يا صغيري. لقد رزقني الله بابنة واحدة اسمها آمال. وكنت أتمنّى أن أرزق كذلك بابن يحمل اسمي واسم عائلتي الفخم، وأنا الرجل الغنيّ الثريّ.
- وما اسمك يا والدي.
بدأت بالطبع أركّز جلّ تفكيري على العبارات التي تعجبه لأكسب قدر الإمكان عطفه ومحبّته.
- أنا سليمان المازني يا ابني
- سليمان باشا! أهلاً وسهلاً.
لم أسمع بهذا الاسم قبل اليوم بالطبع، لكنّي أشعرته بأهميته وأنّ اسمه معروف في البلاد أيضاً. بعد قليل مررنا بمجمّع تجاري ضخم صاح سليمان باشا عندما شاهده قائلاً.
- عجّل يا ابني .. لا أريدهم أن يشاهدوني الآن فالوقت غير مناسب وأنا في عجلّة من أمري.
- من يشاهدك يا والدي؟
- هذا المجمّع ملكي كما تعلم .. ألم تشاهد الأحرف العريضة "سليمان المازني" في أعلى المجمّع. وإذا علموا بأمر مروري من هنا فلن يدعوني وشأني ساعاتٍ طويلة.
وضغطت أنا بالطبع على بدّالة الوقود وأسرعت قدر الإمكان .. لم أكن في تلك اللحظة أخشى من شرطة المرور أو لومة لائم نتيجة سرعتي تلك، لأن سليمان باشا موجود في المقعد الخلفيّ للسيارة.
- هل أنت متزوّج يا ابني؟
- لا يا والدي، أنا أعزب.
- أعزب .. رائع، رائع.
- رائع .. ولماذا رائع أن أكون أعزب يا والدي.
- همم .. كم أتمنّى أن أجد عريساً شريفاً لابنتي آمال.
- هذا شرفٌ كبير لي يا والدي أن أكون صهرك.
- هذا يوم سعدي يا ابني. أخبرني عن اسمك؟
- أنّا اسمي عزّام واليوم هو يوم سعدي لتعرّفي بك يا سليمان باشا.
- طبعاً أريدك أن تتخلّى عن هذه المهنة إذا وافقت ابنتي على الزواج منك .. ولِمَ لا توافق وأنت من أجمل الشباب الذين شاهدتهم طِوال حياتي.
- هذا من لطفك يا سليمان باشا.
- ألم تنادِني قبل قليل بوالدي؟ استمر بهذا النداء يا عزّام ودعك من الباشا هذه.
- أمرك يا سليمان باشا يا والدي .. وإن شاء الله حماي في المستقبل القريب.
- الله كريم يا ابني. عزّام يا ولدي .. هل ترى هذا البناء الضخم على اليمين؟.
- نعن يا والدي.
- أريدك أن تقف هنا وتنتظرني .. هذا البناء هو بالطبع ملكي، ولدي هنا بعض المستأجرين الذين يديرون أحد أهمّ المحلات التجارية. هنا تستطيع أن تجد كلّ ما تشتهي النفس من مأكولات. سوف أشتري بعض الأغراض وأعود على الفور.
وفي اللحظة التالية، ضرب الرجل على جبينه وصاح
- للأسف، لا أحمل سوى دفتر شيكات .. ولا أريدهم الامتناع عن أخذ ثمن الحاجات كما يفعلون كلّ مرّة.
- بسيطة يا سليمان باشا.
عندها تناولت غلّة يومي ونهار الأمس وناولته النقود على عجل. لكنه تمنّع وشعر بالحرج الشديد، تناول النقود وقال بعد تردّد
- أنا أدعوك بعد ذلك الى منزلي لأردّ لك المبلغ صاعين، ولأعرّفك على ابنتي آمال.
انطلق سليمان باشا نحو المتجر وبقيت أنتظر في عربتي. مرّ وقتٌ طويل ولا أثر للرجل الضخم – سليمان باشا. عندها لم أجد بدّاً من الذهاب لمساعدته والاطمئنان عليه. دخلت المتجر ونظرت في أرجائه في كلّ الاتّجاهات ولكن، لا أثر لسليمان باشا. عندها شاهدني صاحب المتجر وأنا في حيرتي تلك وقال.
- هل بالإمكان مساعدتك؟
- نعم .. أنا بانتظار سليمان باشا.
نظر الرجل إليّ وقد بانت علامات الاستغراب على وجهه.
- سليمان باشا؟!
- نعم صاحب هذا البناء. لقد دخل الى المتجر الذي يملكه قبل نصف ساعة للتبضّع.
- هذا المبنى بيع منذ أكثر من عشر سنوات لشركات عديدة. والمتجر هذا هو ملكٌ خاص يا أخي العزيز.
- ولكن قبل قليل. وأخذت أشير الى مدخل المتجر. عندها ضحك صاحب المتجر وقال ضاحكاً
- آه .. قبل قليل دخل رجلٌ ضخم الجثّة وخرج من الخلف حيث المدخل الآخر. كثيراً ما يقوم بهذه التصرفات، والآن أدركت لماذا يفعل ذلك. آسف .. لا اعرف هذا الرجل ولا يمكنني مساعدتك.
ذهب تعب نهارين كاملين. سرقهما سليمان باشا بلسانه المعسّل. والغريب يا قرّائي الأحبّاء لم أشعر بالغضب لهذه الحكاية. فقد جعلني هذا الرجل ضخم الجثّة أحلم ولو لساعات معدودة بآمال. حلمت بأنّي أقطن في شقّة فخمة كبيرة. حلمت بأنهم يعملون على خدمتي والى جانبي امرأة في منتهى الجمال. وفي الوقت ذاته أتمنّى ألاّ تتقاطع طرقككم يوماً ما مع سليمان باشا، لأنه دمّر ميزانيتي لأسبوعٍ كامل على الأقل.