الباشا(الفصل الأول)
[align=right]
كانت أفكار غريبة تتهاطل على ذهنه، أفكار لا يستطيع تنظيمها، بل إنه يستلذ عجزه المزمن أمام العبقرية التي تختزلها كل كلمة يحاول من خلالها أن يصف المنظر الواقعي لسيل الكائنات المجردة الهائمة بلا ارتواء في مخياله الفسيح. يردد دوما أنه مستودع أسرار ثقيلة، و لاعب محترف بين الزوايا القاتمة للحياة. لقد ذاق الألم في كل فترات حياته المكفهرة، و هو من حكماء الوجدان المقفر القلائل.
عادة المقهى الجمهوري لا تفرقه، في ذلك المبنى البالي ينفق ساعات يومه. للمقهى الجمهوري مكانة عظيمة في مخططه اليومي المتكرر، فقد واظب على زيارته قبل أن يحال على المعاش الطوعي. لم يفهم أحد خلفية قرار الحاحه الحاد على التقاعد، منصب الباشا بخيراته الجزيلة يلهث طمعا فيه كثيرون، بيد أن السيد أليم غادره بعد ثلاث سنوات فقط من تعيينه مسؤولا على السلطة و قيما حرا على شؤون الناس. كلما استرد الماضي يركز ذاكرته في السلطة، هو نفسه، يلعن ذاتا لا يفضي تأملها إلى عشق السلطة و مباهجها العصية على الإحصاء. يتذكر أصدقاء الجاه، يتذكر عبيد كلماته. كان يعلم أن لقاءه أسمى حلم ينتاب الهزالى المتناثرين على مدى نظره. كل البؤساء المتقاطرين إلى المقهى الجمهوري التفوا حوله يوما ما، أمطروه بالأدعية الجليلة عندما كان ينجز جولاته اليومية المعتادة. يطوف أزقة و دروب المدينة الكئيبة، و في كل أنحائها التعيسة يتهافت الجوعى على ركبه المهيب. لكل واحد منهم قصة شكاوى لا تنضب. حكى له أحد جلسائه ذروة فخره، الباشوات الذين سبقوه أقاموا جدارا نفسيا حصينا يقيهم التفاصيل اللافحة و المملة لأحزان الفلاحين و العمال و الحرفيين، كلها متشابهة، كلها تفرض السأم لدى الإسهاب في الإنصات إليها. انجازه الأكبر نسفه لذلك الجدار البائس، اقترب من أحد فقراء المدينة الوافدين عليها من القرية المصابة بالجفاف:
- أنصحكم بتأسيس نقابة، الدموع التي تريقونها طالبين الغوث من الحكومة، فلتجمعوها، ستملأ سدا واسعا تقاومون به الجفاف إلى حين، أو احشدوا أمهات جنود الدولة و أفراد عوائلهم و سيروا انقلابا هادئ الوطيس.
الفصل الأول: موظف الحسابات
اختلافه إلى الجولات التفقدية الخائرة اضطهد حاشيته، بذلوا مرارا و تكرارا نصيحة اعادة تشييد الجدار. على منبسط مكتبه الوثير تكدست تقارير خطورة الإختلاط بالبؤساء. غير أن أصفى تفسير لمسه، تقرير مسترسل لموظف الحسابات. استلمه، صباح ذلك اليوم الغابر، و أصر على حضور الموظف لتلاوته:
- لن أطيل حضرة الباشا، الأوراق تعرض أحوال المدينة بواسطة الآليات المشهورة، و تفحصه من لدنك حضرة الباشا مستحب. قد يستشف من استشراء خبر مطالعتي لتقرير الوضع المالي أن موظفا وضيعا يتحدى فطنة حضرة الباشا.
- لا داعي للإطناب في المعاذير، ألق ما لديك.
جمع الموظف الأوراق الكثيفة و رتبها في تلافيف محفظته السمينة. حركاته تهمس بتهيئه للمغادرة:
- لدي توصيات حضرة الباشا، سأقترض جرأة تخفيض لياقة لغتي الإدارية لأخبرك أن المنوال الراهن يحكم عليك، حضرة الباشا، بالموت البطىء.
قام الموظف، و دفع بظرفين عريضين و سميكين إلى رئيسه الهادىء.
- أين التقرير؟
سؤال قمطرير، انفجر بسرعة هائلة. بعد نظرة خاطفة إلى عنواني الظرفين. ازدادت حساسية المشهد عندما أعاد الباشا الظرفين دون فتحهما إلى موظف الحسابات، الذي تسمر للحظات واقفا قبل أن يستفيق من غيبوبته القصيرة و يستجمع قواه المستنزفة ليقول بصوت مترنح:
- رؤسائي السابقون اقتنعوا بالمبلغ، لكن باستطاعتي أن اضاعفه.
ارتسمت ابتسامة ماكرة على وجه الباشا، تناول لفافة تبغ و طلب إلى الموظف أن يشعلها. و قبل أن يرتد طرف الباشا إليه، كان موظف الحسابات قد وجد الولاعة و نفخ الحياة في سيجارة الباشا الذي سيقول بعد ثوان بهدوء و بجفاء:
- قبل أن تجلس أغلق زجاج النافذة، لن أفتح الظرف الأول، أي متحسس يدرك أن به نقودا و قد أبرزت الهدف منها.
امتص الباشا الرشفة الأولى من الدخان، و استرجع الظرف الثاني، فتحه بكل الرشاقة المتاحة مراعيا اعادة استعماله. أطفأ سيجارته و طفق يقرأ بأناة و انتباه شديدين:
- يراودك ارتباك جسيم..
أقوال الباشا السهل الممتنع أسكنت الفزع في الموظف المتهالك، من أين استشعر ارتباكه. أ يعقل أن يكون ما تتناقله الخرافات الشعبية صحيحا. تاب الرجل الرعديد إلى رشده، فقد فطن أخيرا و بعد معاناة قاسية أن الكائن المهول المتراخي فوق منضدة المكتب الأنيق لكز نظارتيه ليتمكن من عكس صورته عبر زجاج النافذة. ذكاء ملتهب. أدرك موظف الحسابات أن أسلوب جني الأرباح من الباشوات السابقين أطاح به مع الباشا الجديد. أدرك أن المطاف سينتهي به محاطا بأربعة جدران شبه متلاصقة، أن المطاف سينتهي به إلى السجن تاركا للباشا حصته.......
......................................نهاية الفصل الأول............................................. ......
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|