يجب أن لا ننسى أبداً أن كل إنسان مجبر على الالتحاق بتلك المدرسة ؛ أقصد مدرسة الحياة التي ليس فيها حصص ولا نواقيس والتي لا بد أن تهاجمك يوماً فيها نوائب الدهر بأنيابها..أهمس في أذن الأرض لأوقظ العالم النائم.
ظهراً وفي مدينة كأنها مسرح احتشد فيه ألوان من الناس كنت أمشي وحيداً في شوارع المدينة، وربما يلحقني ظلي الكئيب مع عكازه الذي يلتوي على المنازل التي يمسها... إذ بجنازة تمر أمام عيني فأحسست أن خطواتي تباطأت وزمجرت الريح و ورقة تطير في الهواء تصطدم بي فأمسكتها بيدي...لقد كانت ورقة مفكرة قرأت فيها:-
21 مارس الأربعاء
( وقد تزحلقت الأيام والليالي المريرة ، وأنا في غرفتي أنظر من نافذتي إلى البحر هناك يلعب بالرمال،وأحلم أن أكون حبة رمل تنزل للموج يفعل بها مايشاء أنا في غرفتي وفي غربتي وحيدة لا أحد هناك يقول لي كلمة وفاء أو عزاء قبل أن أموت وتنطوي أيامي ، وما زلت أستحضر شريط ذكرياتي يمر برأسي وكأنها حدثت كلها بالأمس ،فأتذكر حين أنجبت طفلي الوحيد كم كانت تغمرني الفرحةالتي ما لبثت أن تحولت إلى وجوم وكآبة عند علمي بإعاقته ، وهاهو ذا الصبي ينمو ويكبر والأمل يحدوني في شفائه،ولم يكن يدرك ابني آلام قلبي لحالته فكنت ارتشف الهم والألم طيلة وقتي- فلم أكن أملك المال الكافي لأنفق عليه وعلى علاجه- لكن إرادتي مازالت تحفر صلب جدار الليل نحو النور فخرجت من منزلي لأعمل و اتكسب حتى لا تنطفئ الشمس .
وفي يوم ما وعند عودتي للمنزل من عملي لم يكن طفلي موجوداً في المنزل! بحثت عنه في كل مكان ركضت في أرجاء الشارع كان كل شيء يهتز تحت قدمي ولم أعد قادرة على الوقوف بعد، ولم أدر ِ سر تلك النكبة التي تحيط بي من كل جانب،وكانت كل خلجة في أعماقي تصرخ فيّ:
كيف يتحول كل شيء ليسيرفي غير الطريق الذي رسمته وبذلت لإنجاحه دمي وأعصابي؟! ترددت صرخاتي وانتشرت أصداؤها مع نياحي أوقفت ضجيج السيارات والبشر وعجلة الحياة.كم كنت أطوف بين المدن وأبحث بين بيوت الرقيق فلم أجد وجه طفلي البريء،وكم
نزلت إلى ساحات القبورفلم يكن هناك نثار جسده الصغير.لعل صغيري هوى بين أيدي ذئاب بشرية... ومازلت لا أعلم أين هو؟! وأتمنى أن أتحول إلى طائر يفرد جناحيه لأحمي طفلي العزيز ففي فؤادي قد شاب دم القهر دم الحياة فامتزجا مكونان صرخات الأنين ، الشموع والعيون تبكي ويحكي الكون ويشتكي ،ولم يبق مني إلا رفات جسد دون روح. استيقظت أنا والشمس من مرقدينا ،وبعد زمن مضى صبغ اللون الأحمر الأفق بعد سعال شديد ،ويبدو أن الشمس قد أوشكت أن تلفظ آخر أنفاسها ومع ذلك مازلت أبحث عن ابني ولم ينفك بالي يوماً مشغولاً به، وهاهي الأرض تدور ويمضي الزمن ويطوي القدر الأيام والليالي وتبهت الألوان من حياتي كنوع من عقاب الجسد والرغبة في الألم.....هبات الريح تحمل ذرات الرمال وصرخات القلب ترسل صرخات القهر و الأنين....).وتوقف القلم الناعم وبقع الدم تلطخ السطور،وماكاد بصري يجول في تلك الورقة إذ بالسماء تبكي بدمع حار،وتلحقها عيني بدمعها المترقرق فانهمر دون توقف ...لحقتُ بتلك الجنازة، ودون إرادتي تخطو قدمي رويداً رويداً ويسمع صوت أقدامي وتقارب الخطو وأفلتت عكازي وللأبد؛ فقد آن الوقت لأضيء أناملي شموعاً لتنير وتبدد حلكة الليل.
وبعد رحيل كل الناس ارتميت على ذلك القبر وأبكي ...وأبكي إنه ليس بكاءً عادياً إنما هو شبيه بالاغتسال كإنسان على هامش سلام داخلي –وبصوت يجهش بالبكاء- :جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ،ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت لكي أجبر الأيام السابقة الحزينة على الاعتذار بل لن يكفيني الاعتذار بل سأصر على تلك الأيام أن تنسحب بكل آلامها وظلالها من حياتي....أذرف دموعاً ،وأضع وردة بيضاءعلى القبر وأهمس للقبر:-" لقد نجحت معجزتُكِ يا أمي".