[align=justify]
يوميا، يسقط جرحى و شهداء في العراق و فلسطين، ضحايا مخططات استراتيجية لم يفهموها، أطفال يصرخون جائعين و خائفين، نساء عربيات تنتزع كرامتهن بواسطة الأجنبي الغاشم، في حضور حكومات قيل إنها منتخبة من قبل شعوبها بطريقة ديمقراطية. كلنا يعلم السبب الوحيد لهذه المشكلات المهولة من العراق، بلد تليد يشهد له التاريخ بالأولوية الفكرية و العلمية، السبب هو أن الرئيس بوش و أعوانه الأخيار و الانسانيين اتهموا النظام العراقي بقيادة صدام حسين بعدم تطبيق الديمقراطية و نسفها و ذبح مبادئها. ارتفع المنظار الأمريكي عاليا في الفضاء فأرسل بصره الى كل دولة من عالمنا، شاهد و عاين حال الأنظمة السياسية العربية ثم حول رؤيته الى المعضلات التي تجتاح القارة الافريقية، و عندما ركز المسؤولون الامريكيون و دققوا دراساتهم و حللوا و استخدموا المقاييس الاقتصادية و القواعد السياسية و الثوابت العلمية، و فصلوها و أعدوا لها التقارير المطولة في وكالة الاستخبارات الشهيرة بالأخطاء في التقارير حتى غدت الوكالة العملاقة مرتبطة بالفشل المهني عبر تاريخ تـأسيسها، بعد البذل و التنقيب المضني عادوا الى المجتمع الدولي بصوت بارد و متيقن عارضين لخلاصة جهودهم التحليلية و التي مفادها أن كل دول العالم المتخلف تطبق الديمقراطية و تحترمها باستثناء بلد العراق.
أظن أنه تجاوزا للأزمة الإجتماعية المستشرية في افريقيا و الدول العربية، بالاضافة الى الجفاف و التصحر و مشكل الماء و التخلف الصناعي الهادم لاقتصادياتها و التخلف العلمي بصورة شاملة الذي يتهدد وجودها الإستراتيجي، الا أننا لو أتينا بفلاح من احدى الزوايا النائية و الهامشية من هذا العالم الممتد، و أعطيناه نفس المنظار الذي استعملته الادارة الأمريكية، لوضع المنظار بعد ثوان و أعد تقريرا من جملة واحدة،"العالم ليس بخير في كل بلدانه.". لن نتجادل بحثا عن سبب الاختلاف الواسع بين التقريرين، فالسيد بوش و الفلاح المضطهد استندا في استنتاجيهما الى نفس المنظار، و الاختلاف واضح من خلال عقلية السيد بوش المتميزة بالنزعة الرأسمالية و الفهم السياسي المختل و في الجانب المعاكس عقلية الفلاح النظيفة و المحايدة و البعيدة عن تعقيدات السياسة، و لو استقدمنا مواطنا أمريكيا من صميم الشعب الأمريكي لوصل الى ما استخلصه الفلاح
هذا الحدث المؤثر جعلني أدقق التحليل و أفصل الوقائع رابطا مضامينها بسياقها الزمني، لكن السيد بوش اختصر المشوار و بسط الفهم، فقد سمعت في الزمن الأخير عن فريق من العلماء الأمريكيين تمكنوا من تحديد تركيبة كيميائية لحليب فعال دخل الذاكرة العلمية تحت تسمية، "حليب الديمقراطية"، طور خصيصا للرضع العرب، فكما صرنا نعلم -مكرهين طبعا- فان المنطقة العربية تعرضت لاصابات خطيرة بعثرت فكرها و شوهت مرفولوجيتها، أمراض مزمنة من قبيل العلمانية و الليبرالية و الاشتراكية و الشيوعيةو الإسلام المتشدد الظلامي و غيرها من الطلقات السياسية المقطعة للأوصال ترتب عن انتشارها اطلاق نداء عربي أليم رسمي لطلب الغوث الأمريكي، فما كان من الدولة العظمى الا أن لبت النداء و شحذت مستطاعها العلمي حتى توصلت الى حليب الديمقراطية بتسهيلات و اغراءات جذابة لا تبقي مجالا للمقاومة و المناهضة، فقد قامت المنقذة بتأسيس عيادات طبية تعرض خدمات مجانية للاستفادة من المنتوج الجديد، كي لايضطر الرضيع العربي للسفر الى أمريكا لاقتنائه. حسب احصاءات موثوقة حقق الحليب الديمقراطي نجاحات متتالية و سجل أرقام مبيعات عملاقة. و كمواطن محب للاستطلاع فقد قررت زيارة عيادة الطبيب الأمريكي للاستفسار و الاستنصاح علني أبتاع من عنده دواء شافيا ينتشلني من تداعيات الأمراض المذكورة التي قضت مضجعي و حيرت عقلي. غير أن الزيارة الأولى تخصص للاستكشاف و تمحيص جودة الخدمات، فأنا أعتبر نفسي مستهلكا مثقفا و ذكيا
حددت موعدا مع الطبيب و قدم يوم الحج الى مقره، ولجت الى مكتبه الفاره و الأنيق، فسألت عن تركيبة الحليب، رد بأنها بسيطة فيكفي أن نحضر مزيجا من الليالي الصاخبة و الفيديو كليبات المثيرةو بعض أشرطة الفيديو الداعية الى العنف و الجهاد و الاستشهاد يلقيها بعزم و حماس معمم هنا أو ملتح هناك. و أردف أن تأثير الدواء على الرضع العرب يبعث على التفاؤل و الطموح الى تعديلات و تطويرات ستدعم الدواء و ترفع من مردوديته. و بالفعل فمتوسط الزيارات اليومي جاوز 10000مريض، كلهم اقتنوا العلاج و عبروا عن رضاهم و اعجابهم بالاختراع التاريخي بكل المقاييس. و لأننا في عصر الٍرأسمالية المشتعلة فقد بات من البديهي أن أسأل عن المقابل، ما هو ربح الطبيب الأمريكي من هذا المجهود المضني؟، و الذي استساغه الرضع العرب و عشقوه.
بحسب الطبيب الأمريكي فان المقابل من بيع الحليب الديمقراطي للرضع العرب هو عبارة عن مقايضة بسيطة و سريعة، كأس من حليب الديمقراطية بمثيل له من سائل أسود يكاد الطبيب يعبده و يقدسه يدعى النفط العربي. جلت بنظري في أروقة العيادة و مسحت ببصري رفوفها فاذا هي غاصة بالسائل الأسود المنعوت بالنفط العربي، و لاحظت أن الطبيب يشرب من السائل الأسود دون انقطاع، ملايين الكؤوس و لا تكفيه، حاولت مد يدي الى السائل الاسود ففاجأني الطبيب بسلاح ضخم و فسر تصرفه بكون يدي ملوثتين و غير معقمتين مما قد يسيء الى السائل الأسود المستخدم في صناعة حليب الديمقراطية.
غادرت العيادة- كان اسمها عيادة الديمقراطية- ذاهلا، فبعد الانجازات الحضارية العظمى للعرب لايزال هذا الطبيب، الذي أحترمه لاتقانه عمله، يرى أنها لم تعبر بعد المرحلة الجنينية. جلست في مقهى متاخم للعيادة و اذا بالرضع العرب يسيرون في جحافل جرارة قاصدين العيادة الامريكية و حاملين لكؤوس السائل الأسود، في بذلات أنيقة و سيارات لامعة، و بسبب احساس قومي حاولت صد أحدهم فرفض و أرغى و أزبد و ثار و غضب.في اليوم التالي استدعتني محكمة بتهمة حيازة السلاح النووي و ترهيب الابرياء.أصدرت حكما بالاعدام.فصل رأسي عن جسدي، الا أنني أعدته و كتبت هذه المقالة الساخرة ثم عاودت فصل رأسي و دخلت خفية الى قبري لاني خرجت منه متسللا.
يالسخرية القدر؟؟؟ فقد سمعت و أنا في قبري أن الطبيب الأمريكي اعتبر المقالة ابداعا فكاهيا؟؟؟
[/align]