في حديث أبي هريرة (ت: 59 هـ / 678 م) الصحيح، مرفوعاً: خلقَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ آدمَ على صورته، طولُه ستُّونَ ذراعاً؛ فلمَّا خلقَه قال: اذهب فسلِّم على أولئك النَّفر ـ وهم نفرٌ منَ الملائكةِ جلوسٌ ـ فاستمعْ ما يجيبونَك، فإنَّها تحيَّتُك وتحيَّةُ ذرِّيَّتِك. قال: فذَهبَ، فقال: السَّلامُ عليكم. فقالوا: السَّلامُ عليكَ ورحمةُ اللَّه. قال: فزادوهُ ورحمةُ اللَّه. قال: فكلُّ من يدخلُ الجنَّةَ على صورةِ آدمَ، وطولُه ستُّونَ ذراعاً. فلم يزلِ الخلقُ ينقصُ بعدَه حتَّى الآن (صحيح البخاري 6227، صحيح مسلم 2841).
قال الذهبي (ت: 748 هـ / 1348 م): ولا أعلم أن هناك من أهل العلم من أنكر الحديث غير الإمام مالك، والباقون على صحته. قال ابن القاسم عبد الرحمن بن القاسم العتقي (ت: 191 هـ / 806 م) وهو من أخص تلاميذ الإمام مالك، صحبه عشرين عاماً: سألت مالكاً عمن يحدث بالحديث الذي قالوا: إن الله خلق آدم على صورته، فأنكر ذلك إنكاراً شديداً، ونهى أن يتحدث به أحد، فقيل: إن ناساً من أهل العلم يتحدثون به. قال: من هم؟ قيل: ابن عجلان (محمد بن عجلان المدني، ت: 148 هـ / 765 م)، عن أبي الزناد (عبد الله بن ذكوان المدني، ت: 130 هـ / 748 م). فقال: لم يكن يعرف ابن عجلان هذه الأشياء، ولم يكن عالماً، ولم يزل أبو الزناد عاملاً لهؤلاء حتى مات، وكان صاحب عمال يتبعهم. وقال الذهبي: والحديث لم ينفرد به ابن عجلان، بل ولا أبو الزناد، فقد رواه شعيب بن أبي حمزة (ت: 162 هـ / 779 م) عن أبي الزناد، ورواه قتادة بن دعامة السدوسي (ت: 118 هـ / 736 م) عن أبي أيوب المراغي (يحيى بن مالك، ت: 80 هـ / 699 م)، عن أبي هريرة، ورواه ابن لهيعة (عبد الله بن لهيعة الحضرمي، ت: 174 هـ / 790 م)، عن الأعرج (عبد الرحمن بن هرمز المدني، ت: 117 هـ / 735 م) وأبي يونس (سليم بن جبير، مولى أبي هريرة، ت: 113 هـ / 731 م)، عن أبي هريرة، ورواه معمر بن راشد الأزدي (ت: 153 هـ / 770 م)، عن همام بن منبه الصنعاني (ت: 101 هـ / 720 م)، عن أبي هريرة، وصح أيضاً من حديث ابن عمر (ت: 74 هـ / 693 م). وقال إسحاق بن راهويه (ت: 238 هـ / 853 م) عالم خراسان: صح هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الصحيح مخرج في كتابي البخاري ومسلم، فنؤمن به ونفوض ونسلم ولا نخوض فيما لا يعنينا، مع علمنا بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (سير أعلام النبلاء 5 / 449).
وفي أيامنا اعترض أهل الشبهات حول صحة الحديث، فقالوا: إنَّ أقدم حفريات للإنسان المعاصر، المعروف بـ Homo Sapiens، عمرها 300 ألف سنة، ولا يثبت حدوث أيّ تغير في طول الإنسان.
كما أنَّ هناك حفريات لبشر يعتبرهم المتخصصون أنواعاً أخرى غير نوعنا كـ: الإنسان المنتصب Homo erectus، والإنسان العامل Homo ergaster، يكاد عمرها يبلغ 2 مليون سنة، وكلاهما أيضاً لا يثبتان حدوث أيّ تغير فى طول الإنسان.
وعليه، فطول آدم عليه السلام خرافة ذكرها اليهود فى التلمود، وانتقلت منه للإسلام.
** ** ** **
فهل تغيُّر طول وحجم الكائنات عبر التاريخ خرافة؟ أم هو أمر مقبول علمياً؟
= وهل صحيح أنه لا توجد أي حفريات لبشر أطوالهم أكبر من طولنا الحالي؟
= وبفرض عدم وجود حفريات لبشر أطول من طولنا الحالي، فهل هذا دليل لخطأ الحديث، وأنه منقول من التلمود؟
** ** ** **
والجواب بسيط:
فإن كان تغيُّر الطول أمراً معروفاً في بعض الكائنات الحية، فلماذا الجزم بأنه خرافة
في الإنسان، وقد اكتشف فريق بحثي أسلافَ فيلة من 60 مليون سنة كان حجمها كحجم الأرنب؟!
(تحدثت عن ذلك جريدة التليجراف البريطانية The Daily Telegraph، وانظر رابط المقال:
https://www.telegraph.co.uk/news/sci...-a-rabbit.html)
وأنَّ هناك صنف من الخيل من 52 مليون سنة، تدعى إيوهيبس Eohippus، كانت في حجم الثعلب:
(انظر ويكيبيديا wikipedia:
https://en.wikipedia.org/wiki/Evolut...horse#Eohippus
وهذا رابط آخر لصورة تبين تغير حجم الخيل عبر التاريخ:
https://en.wikipedia.org/wiki/Evolut...eevolution.png)
** ** ** **
= فإن كان تغيُّر الحجم عبر التاريخ أمراً وارداً في بعض الحيوانات، فما الذي يجعله مستحيلاً في الإنسان؟
= والأنثروبولوجي الفرنسي جورجيوس فاشر (ت: 1936 م) اكتشف في سنة 1890 م عظاماً بفرنسا لإنسان يقدر طوله بثلاثة أمتار ونصف أطلق عليه عملاق كاستلناو Giant of Castelnau، كتبت عنه جريدة بوسطن:
https://books.google.com.eg/books?id...page&q&f=false
وهناك حفرية لفك تعرف باسم Meganthropus A اكتشفت أثناء الحرب العالمية الثانية، تنتمي لسلالة الإنسان المنتصب Homo erectus، يقدر طول صاحبها بـ 2 متر و 44 سم (انظر:
https://en.wikipedia.org/wiki/Megant...s_A/Sangiran)
= وحتى لو لم تُكتشف حتى هذه اللحظة أيَّ حفريات تثبت صحة خبر طول آدم، فهذا لا يعني عدم وجود بشر أكثر طولاً، وربما تُكتشف في القريب، لأن الأبحاث الأنثروبولوجية (علم أصل النوع الإنساني) لمَّا تنته بعد.
= والأسلم، لأن الكلام ضربٌ من الخيال، فعمر الإنسان أربعون ألف عام: فربما كان هناك بشراً أكثر طولاً، فتآكلت أجسادهم، فلم يبق لهم حفريات تدل عليهم. قال تعالى: ﴿ فأصبحوا لا يُرى إلاَّ مساكنهم﴾، أي لم يبق الله منهم شيئاً. وقال عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني (ت: 1966 م): وربما لا يكون هناك بشر أكثر طولاً، فطول آدم كان حينما خلق فى الجنة ستون ذراعاً، وهذا مناسبٌ لحياة الإنسان في الجنة، فلمَّا هبط إلى الأرض ظل طوله يتناقص كل قرن رويداً رويداً، حتى ثبت طوله، إلاَّ أنه بقي أطول مما عليه الناس الآن بقليل، ثم لم يزل ذلك القليل يتناقص في الجملة. وهذا يفسر عدم وجود تفاوت عظيم بين أطوال مومياوات الفراعنة وبين أطوالنا، لأن الفرق قد يكون سنتيمترات قليلة لا تدرك (الأنوار الكاشفة ص187).
** ** ** **
فهل بالفعل الحديث منقول من التلمود ؟
تقول الموسوعة اليهودية، في أسطورة (الإنسان المثالي): أن آدم كان حجمه عملاقاً، ومعظم البشر لم يرثوا صفته في الطول والجمال؛ وأن سارة، زوجة سيدنا إبراهيم، إذا قارنا بها جمال المرأة الحسناء، لكان هذا كالمقارنة بين الإنسان والقردة؛ ونفس هذه المقارنة تنطبق على حواء وسارة، فحواء كانت كالقردة مقارنة بآدم الذي كان مظهره عظيماً جداً بحيث أن نعل قدمه كان يحجب بهاء الشمس
Targ. Yer. Gen. iii. 7; Gen. R. xi.; Adam and Eve, xxxvii
وتقول قصة (العقاب): كان طول آدم من السماوات إلى الأرض، أو من طرف الأرض إلى الطرف الآخر، لكن بعد ارتكابه خطيئته نقص إلى مئة ذراع
Ḥag. 12a, Sanh. 38b; compare also Philo, "Creation of the World," ed. Mangey, i. 33, 47
فقارن بين هذه الأسطورة وبين حديث أبي هريرة المتقدم في أول الكلام. وفي حديث قصة الإسراء يقول صلى الله عليه وسلم عن سيدنا يوسف: فمررت بيوسف وإذا هو قد أعطي شطر الحسن (صحيح مسلم 162، مسند ابن حنبل 12047)، قال ابن كثير (ت: 774 هـ / 1373 م)، نقلاً عن السهيلي (ت: 581 هـ / 1185 م) وغيره: قالوا: معناه أنه كان على النصف من حسن آدم عليه السلام. وهذا مناسب، فإن الله خلق آدم وصوره بيده الكريمة، ونفخ فيه من روحه، فما كان ليخلق إلاَّ أحسن الأشباه. قال السهيلي: معناه أنه كان على النصف من حسن آدم عليه السلام. لأن الله تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، فكان في غاية نهايات الحسن البشري، ولهذا يدخل أهل الجنَّة الجنَّة على طول آدم وحسنه، ويوسف كان على النصف من حسن آدم، ولم يكن بينهما أحسن منهما، كما أنه لم تكن أنثى بعد حَوَّاء أشبه بها من سارة امرأة الخليل عليه السلام (البداية والنهاية 1 / 109).
كما أنَّ نص التلمود احتوى على عدة خرافات واختلافات لم تذكرها الأحاديث الصحاح:
1) فطول آدم عليه السلام امتد من الأرض إلى السماء قبل أن يذنب.
2) وأنه عندما كان يستلقي يمتد طوله من طرف العالم إلى الطرف الآخر، مما يعني أن العالم مسطح.
3) وأن طوله نقص فجأة بعد أن أذنب. وفي مدراش جينسيس رباه، وتم تعديله بعد الإسلام، يقول: إن آدم عليه السلام نقص طوله لـ 100 قدم
(The Zohar 5: Pritzker Edition, Volume Five)
والكتاب المقدس ممتلئ بالأساطير والحكايات عن العماليق، فعوج ملك باشان / بيسان، كان طول سريره تسعة أذرع، وعرضه أربعة أذرع. ونسج بعض حاخامات اليهود أساطير عن ضخامة جسمه، فصوَّره بعضهم أن طوله عدة أميال
http://st-takla.org/pub_Bible-Interp...hneya/Tafseer
فوجود بعض المؤشرات التي تشير لاحتمالية وجود أطوال فارعة في العصور القديمة، وإن كان لا يوجد حتى الآن دليل علمي صريح في هذا الأمر، لا يمنع أن يكون أصل الإنسان فارع الطول في العصور السحيقة، فلا دليل صريح لا على عمر الأرض ولا على عمر الإنسان.
= كما أن ظاهر نصوص العهد القديم، في سفر التكوين الإصحاح الخامس، لا تمنع من ذلك، فأعمار البشر كانت أكبر بكثير من وقتنا: فآدم عاش 930 سنة، وعاش شيث 912 سنة، وعاش أنوش 950 سنة، وعاش قينان 920 سنة.. وهكذا.