أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب
أوراق من دفتر الشيخوخة
الورقة السابعة
[align=justify]بكثير من الثقة، مدَّ كفَّه البيضاء الكبيرة القاسية كطبعه، وأراحها على كتفي الواهنة، وهو يقول:
- الآن أستطيع أن أطمئن إلى أنك ستبقى بعد رحيلي، المؤقت طبعاً، فقد بذلتُ كل جهدي لأجعل سني وجودك الست والستين قطعة جليد لا تذوب بعد رحيلي.. لقد نجحتُ في تعطيل طبيعتك العجيبة التي تحب الذوبان في الآخرين والفناء فيهم، وبذلك ستحتفظ بما لديك وحدك بعيداً عن كل أولئك الآخرين الذين تُحب أن تشاركهم ما هو لك وحدك ومن صنعك..
قال ذلك ثم التفَّ بعباءته الجليدية السميكة ومضى، تاركاً إيايَ على وشك الدخول في سبات طويل.. ولم يطل انتظاري لذلك السبات الذي غرقتُ في ملكوته سريعاً..
لكن، ما إن اطمأنَتْ ذاتي إلى غرقي فيه، حتى نَضَّت عن ترابي صقيع الشتاء الراحل، وانسلت خارجة من كينونتي الجامدة، لتتسلل خارج كهف شيخوختي، تريد مشاركة كائنات الحياة في استقبال الربيع الوليد..
وبصمت وهدوء، راقبتُها وقد وقفَت خارج الكهف، تناجي ربها شاكية إليه حيرةً حارقة تعانيها.. فأنصتُّ لها وهي تخاطبه قائلة:
(آه يا ربي ماذا أفعل؟.. أنقذني من حيرتي، فأنا حائرة جداً.. أنا أحب يا ربّ، وأعلم أن الحبَّ إن استبدَّ بي صار ناراً تُذيبني وتُلغي وجودي... أحبُّ وأعلم أن ليس بالإمكان أن أحب وأُوجدَ معاً، وأنَّه لابدَّ لي من الاختيار بين حبي ووجودي، فإما وجود بدون حب، وهذا هو الشتاء القارس الفظيع الذي يُبقيني في صورة ذلك الهرِم الذي يغطُّ في سبات صقيعه لا ينفع أحداً، أو حبٌّ بدون وجود، وهذا هو الربيع الرائع الذي لابدَّ أن تُلغي شمسُه وجودي لأتمكَّن من الذوبان فالفناء في الآخرين.. فأيهما أختار يا رب، حبِّي أم وجودي؟)..
قالت ذلك وبكت متألمةً من حيرتها بين الحبِّ والوجود اللذين استحَالَ الخيار بينهما حجَرَي رحى يدوران على قرارها بقسوة تُؤلمها بشدة..
وظلَّ ألمُ الحيرة يطحنُها حتى لمحتني أُنصتُ إلى مناجاتها... عندها فقط، تشجعَتْ، وبدون تردد، ركضَتْ نحو الشمس الربيعية الوليدة تاركةً لأولى أشعتها الدافئة أن تُذيب وجودها الصقيعي، لتبدأ رحلة تحوُّلها من قطعة جليد تافهة إلى حياة تُخالط الآخرين وتذوب فيهم حباً، غير عابئة بزوال ذلك الوجود الجامد..
وما إن اكتمل ذوبانها، حتى وجدتُني أغادر كهف شيخوختي داعياً إياها لسكنى كينونتي الترابية من جديد، كي نمضي معاً إلى ممارسة سعادةِ الاستمرار في الآخرين..