[align=justify]
    تعود معرفتي بالسيد عامر إلى فترة إقامتي بتلك القرية حيث عملت مدرسا لبضع سنوات.. كان فلاحا . تمتد ضيعته على سفح الجبل من المنبع إلى التقاء النهرين . التقيت به لأول مرة حين اصطحب ابنته لتلتحق بالإعدادي .. كانت فتاة نحيفة لكنها جميلة وهي تخطو نحو سن المراهقة .. كانت تشبه أمها المتوفاة كما كان يردد دائما . هي الوحيدة لديه بعد أن عزف عن الزواج منذ رحيل الأم . وكنت ألاحظ اهتمامه الشديد بها في ما تلا من الأيام وحرصه على اصطحابه لها بنفسه رغم قرب منزله من المدرسة .. كان شغوفا بها لحد العبادة .. وكنت لا أراه منطلقا بحصانه الرمادي إلا وهي راكبة أمامه أو خلفه وهو يجول عبر الحقول المترامية الأطراف . كان كثيرا ما يسر إلي بأمنيته في رؤيتها تتفوق في دراستها وتنال الدرجات العليا .. لهذا حرص على توفير كل شيء تحتاج إليه في المدرسة .. وكنت ألاحظ نظرات الآخرين ترمقها تارة بفضول وغبطة وتارة بحسد وشماتة .. لم تسلم سيرته وثروته من الألسن .. وكان هناك همس بأن ثروته تلك لم تكن بفضل حقول القمح والذرة والفواكه بشتى أصنافها ، وأن حقولا أخرى تتوارى خلف الجبل الجاثم على القرية وتنتج أشياء "تدوخ العقول" حسب تعبير الأهالي .. لكني كنت أستشف الصدق في لهجته وهو يشتكي لي بمرارة ما يتناهى إليه من إشاعات تنال من سمعته وسمعة أسرته .. وكان أشد ما يؤلمه أن يعود صحبة ابنته وإمارات الألم تعلو محياها من لمز وهمز زملائها .                        
      كان هناك تشابه بيني وبين عامر في ما يخص العلاقة بين السلطات المحلية من قائد وشيخ ومقدم .. فاعتزاز الرجل بنسبه ومنزلته بين أفراد قبيلته جعله يأنف الخنوع لنزوات القائد وأتباعه . ومن جهتي ، لم أكن أرضخ لإلحاح المدير المنفذ لتعليمات السلطات في جعل كل نشاط تربوي أشم فيه رائحة الارتباط بدعاية ما ، خاصة إبان الانتخابات . وهذا ما جعل النفور يطبع علاقتي برجال السلطة هناك .                                                         
       انتقلت إلى المدينة وطال غيابي عن القرية رغم تعلقي بها وبسكانها الطيبين .. وشيئا فشيئا صارت ذكرياتي هناك في طي النسيان .. إلا من دفتر ذكريات هنية بنت عامر أهدته لي يوم توجت كأحسن تلميذة على صعيد الإقليم ، ومجسم لبندقية محلية الصنع قدمها لي الرجل امتنانا وشكرا على الإنجاز الباهر الذي حصلت عليه هنية، أمام امتعاض أعيان القرية وذهول أبناء الموظفين وخاصة القائد..                                                   
- تذكر السي عامر ؟ صاحب المزارع  و..
- آه نعم الرجل .. نبل وكرم وشهامة ..
- إيه .. يا لتقلبات الزمن .. الدنيا غدارة لا يؤمن لها ..
- أقلقتني .. ما الذي حدث ؟
- تعرف ؟ .. كان لا يفتأ يذكر اسمك وفضلك في تفوق هنية بعد أن احتكر أبناء الموظفين هذه الميزة لسنوات ..
- لا حول ولا قوة إلا بالله .. وماذا يفعل الآن ؟ ..
- المسكين .. لا يفارق بيته ..أهمل ضيعته وصارت عرضة للطامعين.. يقال إن هناك نية في الضغط عليه لبيعها قصد بناء مقر جديد للقيادة وللجماعة . من يزوره من أقربائه لا يسمع منه سوى أمنيته في أن يموت .. 
      نظر إلي عامر وأنا ألج غرفته ، ولمحت شبه ابتسامة على شفتيه فأشار إلي بالجلوس بجانبه . أحس الحاضرون أنه يريد الانفراد بي فخلت الحجرة منهم . نظر إلي دامعا وهو يشد يدي إلى يديه . كانت عيناه تنطق بألم فظيع وكان يجاهد نفسه كي يقول شيئا ..                                          
- لا تتعب نفسك سي عامر .. خذ راحتك .. سنتحدث كثيرا ..
- لا  لست تعبا ..– ند عنه صوت كالهمس-  فقط أريد أن أتحدث عن .. آآه يا سيدي ، لم يكتب لي رؤيتها وهي ترحل عني . تمنيت أن أموت لكن الموت لم يرحمني .. كم أتعذب .
- لا تقل ذلك سي عامر .. أنت رجل مؤمن فلا تدع الشيطان ينزغنك .. هنية الآن في رعاية الإله مع ملائكة الرحمن .
- ونعم بالله .. أشكرك على حضورك .. خففت عني الكثير .. فقط كنت أريد رؤيتها ..
- دع عنك هذا .. سأريك شيئا سيسرك ..
     نظر إلي بلهفة ثم طأطأ رأسه وقال :
- انظر .. واسمع ما سأقرأه عليك ..
[/align]