لهيب الكرمل
بقلم وليد قدورة
ليس استذكاراً لمجلة " الكرمل" التي أطلقت عليها رصاصة الرحمة جهاراً قبل عامين فكسرت أقلام روادها و أخرست أصحابها ، و تركت قرّاءها ثكلى و يتامى بعد أن أغلقت بإرادة صنف جديد من المشتغلين في حقلي السياسة و الثقافة الإستهلاكية. صنف لا يمت بصلة إلى الثقافة و الفن و الشعر ، بل يضمر عداءً مستتراً لكل من له علاقة بالإبداع ، صنف يجيد التسلي ببطولاته الوهمية و سيره الذاتية الكاذبة في كثيرٍ من الأحيان ، فخوراً بفشله الأكاديمي ، و عدم اعترافه بأهلية و كفاءة العصاميين و المتفوقين دراسياً و ثقافياً على اعتبار أنهم "علكة تشكلتس" ليس إلا ، و إذا أنصفوهم قليلاً، قالوا بأن هؤلاء ليسوا سوى مثقفين انتهازيين سقطوا على درب الكفاح المرير.
الحديث عن "قلب فلسطين" ، عن جبل "الكرمل" الذي تكنت المجلة بإسمه ، و انتقته بامتياز من بين كافة المعالم الفلسطينية ، حيث اندلع حريق استمر أياماً أتى على الأخضر و اليابس فيه . ان الرأفة و الواقعية مطلوبتان حين يكون الحديث عن أمنا الكبيرة : "الأرض" .
سواء كان الحريق متعمداً ، إهمالاً ، أو نتيجة الجفاف الذي يطبق على بلاد الشام ، في هذا العام ، فإن نتائجه كانت كارثية و مؤلمة لأنها قضت على عشرات الشواهد و الأماكن و البيوت الفلسطينية ، و هو أمر لا تأسف له و لا تنزعج منه السلطات الإسرائيلية التي كانت أفرغت هذه المناطق من أشجار الزيتون المعمرة التي يحكمها رباط وثيق بالفلسطينيين ، فاقتلعتها من جذورها أو أتلفتها لتزرع مكانها عشرات الآلاف من أشجار الصنوبر تكون رئة تتنفس عبرها المدن الفلسطينية الواقعة تحت الإحتلال ، و منتجعاً سياحياً سمي ب "سويسرا الصغيرة" لجماله و روعته المتفوقين على مثيلها.
الكرمل "قلب فلسطين" و رئتها ، لم يجد الكيان الصهيوني بمن يستغيث به ، لإطفاء حريقه إلا دولاً بعيدة عنه جغرافياً ، لأنه لم يقم علاقة ودودة مع جيرانه ، و لأنه بطبيعة الحال ، يبالغ في استقوائه و عنتريته على من حوله ، و يقسو في بطشه و ظلمه على الفلسطيني ، دون أدنى مراجعة لنمط سلوكه الفاشي العنصري ، قال القدر كلمته : مهما ادعت الدول أو المؤسسات ، أو الأفراد القوة فإن ثمة نقاط ضعف يمكن ملاحظتها ، هل كان الحريق "كعب أخيل" ؟ ربما ليس ذلك وحده ، ففي أحدث دراسة علمية صدرت عن جهاتٍ غربية قيل أن الفائض الكبير في أسلحة إسرائيل و قنابلها النووية بمثابة صاعقٍ قابل للانفجار في أي وقت كما حدث في "شيرنوبل" و ما ترتب على ذلك من مآسي إنسانية مريعة أصابت مئات الآلاف من سكان تلك المنطقة الروسية.
مشاركة رمزية في إطفاء الحريق من بعض الدول ، لا بأس بذلك ، و لكن هل يمنع ذلك أصحاب النوازع الأنسانية الحيّة ، و الضمائر اليقظة أن يلتفتوا قليلاً إلى هذه النقطة الصغيرة المتهادية على وجه الكرة الأرضية ، و التي اندلع فيها مئة و عشرون حريقاً في يوم واحد دون أن يحظى هذا البلد المتنوع ، المقاوم ، الذي يئن تحت غول الغلاء ، و يصحو على هدير الطائرات الإسرائيلية كل يوم ، ألا يستحق لبنان - سويسرا الشرق- كما كان يدعى ذات يوم أن يكون له نصيباً من - شفقة العولمة و عطفها ؟
لا شماتة ، فالأرض ، طال الزمن أم قصر ، فلسطينية : بتربتها و أشجارها ، و زيتونها ، و ناسها الأصليون . الذين سيضحكون أخيراً و من يضحك أخيراً يضحك كثيراً .
حريق "الكرمل" أعادني بالذاكرة هنيهة إلى اليوم الذي انهال فيه الإسرائيليون بقذائفهم على "حرش بيروت" عام 1982 ، و هو غابة صنوبر صغيرة وسط بيروت ، كان أطفال لبنان يتفيأون بظلها ، و يتفرجون على أعشاش العصافير المتدلية بين أغصانها . بعد الغزو الإسرائيلي ، تفحم صنوبر بيروت ، و عادت زراعته حديثاً مرة أخرى قبل أعوام ، لا الأشجار تموت واقفة ،و لا المجلات و الكتب تفنى ، فالبشر مدهشون بقدرتهم العجائبية لأن " الكرمل " جبلاً ، و مجلة ، سيعودان إلى أحضان من يحن و يعطف عليهما.