منذ البدء حيث كانت الفطرة الأولى التي فطر المكوّن نفس الكائن عليها..
كانت الجامحة الأولى إرواء سغب هذا الكائن من مأكل ومشرب .
فكان إذا ما جاع امتدت يده الى طعام من ثمرات التقاط وجمع.. قاذفا بها في جوفه لإسكات تضّور معدة خاوية بغرائزية وفطرية بيولوجية ...
وبدأت رحلة الأقنعة..وبدأ الإدخار والإحتكار لتلبية نداءات الكسل .
لغاية بريستيجات هذه العصور المرهِقة والمتعبِة في إستغراقها بحد الطقس والتقليدية الجوفاء كوضع المنديل على يمين طبق الطعام أو شماله ..
وتستجير النفس البشرية من بروتوكولات الموائد إلى فوضى وحدة المطابخ وتناول الطعام باليد ولعق الأصابع بمتعة وشهية.أكثر .فلماذا ..؟
فلماذا يا فوضى الحواس تتمترسين خلف براقع النفاق ..؟
****************
سينبري هنا من يقول : أن الريتم والإيقاع أزلي البدء وهو من الضرورات القصوى للنفس البشرية ..
سأقول : هذا الكلام صحيح لكنه نداء احتياجات جسد قد يلبي أحيانا رغائب الروح وقد يكون نداء لجامحة غرائزية فطرية النشأة لكنه لا يماثل ولا يشابه ولا يرقى لنداء مخاض قلق العقل وبداية تشكله من المدركات المعرفية .
*****************
-فطرة النفس البشرية ما بين حقيقتها وعاداتها المكتسبة ..
مفهوم التربية : التربية برأيي المتواضع هي سلخ ما هو فطري وانتزاعه من النفس ..ولصق ما هو زائف وإلا لما كنا بحاجة لما ندعوه التربية وإلباس أنفسنا قشور تختلف من مكان ومجتمع لآخر ..
سيأتي هنا أيضا من يقول التربية ضرورة لازمة للمجتمع والمدنية .
وسأقول : بل هي ضرورة لازمة لإقناع أنفسنا بالأكاذيب والتصنع ولا أعني مشاكلة الحيوان ومشابهته في السلوك بل ما أعنيه هو التأنسن والتلاصق مع الذات والصدق في إبداء الملامح التي نضمرها دون قيد أو شرط إذا كانت لا تخدش أو تؤثر أو تتسبب في إيذاء أي كائن آخر .. مع الأخذ بعين الإعتبار أننا لا نناقش قضايا مجتمعية ودينية بمفهوم الحضارة والتطور والمدنية.. ما نحن بصدد تسليط النور عليه هو الشعر ومقدار كمية صدق الإحساس الشعري وتلازمها مع السلوك الشعري والفطري ..وهنا لا بد من الإشارة إلى نزوح وجنوح أغلب الشعراء إلى الطبيعة والعيش بعيدا عن السلوك المجتمعي الذي يعتبرونه مزيف من وجهة نظرهم الخاصة ..
******************
الشاعر : هو الكائن المتشكل من ماهية تتوسط عمود الكون أو ما سأدعوه سقف التلاقي..
وهذا المكان خاضع لمسألة النسبية لكل كائن ويمثل نهاية النهايات وغاية الغايات ونقطة التماس مع المكوِّن .. ومن هنا نستنتج بان الشاعر ماهيته من مادة الإحساس و بحالة من الضياع في متاهة التشرد ما بين كونه كائن أو مكِّون وحالة الصدق المطلق والتلاصق الذاتي مابين الذات من الداخل ووموضوعاتها من الخارج .
*******************
رحلة العبور من الحسيّات إلى العقليّات ومن عالم الحواس إلى عالم التجريد
فجميعنا بسنواتنا الأولى نتعلم الأعداد من كونها توصيف دلالي كمي لأشياء حسية كقولنا
قلم قلمان ثلاثة أقلام وبمحاكمة بسيطة ننتقل إلى مفهوم العدد المجرد .. واحد إثنان ..واحد ماذا ..
واحد إنسان واحد طاولة واحد كرسي واحد إلخ....
وبهذا التساؤل البسيط يبدأ الذهن أولى إشكالياته والعقل أولى مراحل تشكله من المعرفة .
وأعتقد أننا لو رجعنا إلى طفولتنا الأولى سنتذكر كيف كنّا .. فأنا شخصيا كنت أتخيل أن الله (حاشى لله جل وعلا ) ذو لحية بيضاء ويلبس لباسا أبيض ويجلس على كرسي ضخم ويحمل الكرسي أشخاص ما ( تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وعن كل ما يتصور في الأذهان والعقول ).
ومع بدايات تشكل مفهوم التجريد بدأت أعلم ما أعلمه عن الله سبحانه وتعالى وكيف أنزهه عن ماهو من حيثي أنا وأنفي صفاتهة التي تشابهني وتشاكلني كمخلوق وأثبت صفاته جل وعلا من حيث ماهيته هو والتي لا تدرك كنهها الأبصار والحواس والمدركات المخلوقة ولكننا نعقل بعقولنا ونتأمل بإفتكارنا على على ما يدل عليه سبحانه من آياته فنشير إليه بالألوهية .
ولهذا وصف العقل أنه ما عُقل أو عُبد به الله عز وجل ..
*******************
فلوعدنا لمثال الغابة والحديقة لوجدنا أن النفس ستميل وتهوى ما هو فطري وعفوي وبسيط وغير مركب .. ويصح أن ندعوه هنا الجوهر الفطري ..
وستجنح نحو الغابة بلا شك .. وقصيدة النثر ومنذ بدأتُ رحلة عشقي لها وأنا أدعوها الغابة .. قد يتهمني البعض بالهذيان والتخريف ولكن سأتابع هذياني حتى لو بقيت أسمعه وحدي .. وكل ما هو موزون ومقفى ينطبق عليه مثال الحديقة المنسقة ..
ذات الشجيرات المحسنة والمشذبة .. فالكثير يحبون الحدائق أكثر من الغابة وهذا لأن عامل التربية قد بدأ عندهم بمراحل العمر الأولى وباتت أقنعة المجتمع هي الناظم الأساس في تشكل الذائقة لديهم . ولو أنهم بظرف أو بآخر عادوا إلى الطبيعة فسرعان ما سيعود إليهم ماتخرب- جراء التربية والعادة المكتسبة الجمعية- من ميلهم للطبيعة والعفوية و البساطة.
أيضا نجد بأن الأشكال الهندسية إحتلت مكانة ها جدا في تشكيل ذائقة الإنسان وسيطرت على المفهوم العام للديكور والصناعات المختلفة بشكل عام لغاية أواسط القرن الماضي وعادت لتجنح ثانية نحو الفطرة الإنسانية فبدأت تتخذ أشكا عابثة وفوضوية من وجهة نظر الذائقة المجتمعية العامة وأما في حقيقة الأمر فما ندعوه الفوضى والعبثية هو الفطرة والأصل والنظام والناظم الكوني الطبيعي .. ويلاحظ الآن بشكل كبير أن الأنظار بدأت تضيق ذرعا بفكرة ما هو منسق ويتخذ الأشكال الهندسية والخطوط المستقيمة .. (يتسبب هذا بحالة الفراغ والخواء )
وذات الشيء طرأ على باقي الفنون مثل الرسم .. فلقد سئمت العيون منظر الشجرة والبيت والسفينة والأشرعة والبحر .. ونتيجة تطور العقل الجمعي بدأت العناصر تحدد ماهية اللوحة .. وهذا التطور هو الإرتقاء بأنفسنا مما هو زائف إلى ماهو إنساني حقيقي وبالتالي فطري ولذلك فإننا نتلقى لوحات بيكاسو مثلا بإحساسنا والحالات المتشكلة من جراء مشاهدتها وقد نقتصر على عدم التعليق والنطق لعجزنا عن ترجمة هذه الحالات المتشكلة في داخلنا .. وأشير هنا إلى أن كلمة عناصر ترجعنا إلى البساطة والعفوية فالعنصر هو الغير مركب وهو الأس لما هو مركب ومعقد.. وباتت بعض عناصر متداخلة فيما بينها تشكل اللوحة لتخاطب حواسنا عبورا إلى إحساسنا عائدة إلى حسواسنا كحالة شعورية ما .. ونقف أمامها بذهول ودهشة لدقائق من دون أن نتكلم ..ونطلق عنان المخيلة لتسرح بنا عبر مفازات أحلامنا وآلامنا وأحاسيسنا وذكرياتنا ووو.
أي بالمعنى الأدق والحرفي بات العقل البشري يضيق ذرعا بفكرة الشرح والتفسير والتوضيح ..والسبب في ذلك يعود أنه يختزن كل المفاهيم داخله يعني أحيانا نسمع كلمة واحدة تسرح بنا في مجاهل أنفسنا إلى ما شاء لها ذلك وعند إضافة كلمة أخرى لها نكون قد حدّيناها وحصرناها وضيقنا ووجهنا مفهومها .. كقولنا مثلا :سفينه معنى مطلق يأخذنا حيث شاءت مخيلتنا .. ولكن لو قلنا ( سفينة التايتنك )
سنكون إنتقلنا من المطلق إلى المحدد والذي هو سفينة محددة بذاتها لا غيرها .
************************
تمهيد وإضاءة ونعـــــــــــــود ..
والله ولي التوفيق
كــــريم \23\نيسان 2011