نسيم من القبر .بدر شاكر السياب
نسيم الليل كالآهات من جيكورَ يأتيني
فيبكيني
بما نفثَتْهُ أمي فيه من وجدٍ وأشواقِ
تنفس قبرُها المهجور عنها، قبرُها الباقي
على الأيام يهمس بي: " تراب في شراييني
ودودٌ حيث كان دمي، وأعراقي
هباءٌ من خيوط العنكبوت؛ وأدمع الموتى
إذا ادكروا خطايا في ظلام الموت.. ترويني
مضى أبَدٌ وما لمحتْك عيني! ليت لي صوتا
كنفخ الصُّورِ يسمع وقعَه الموتى، هو المرضُ
تفكك منه جسمي وانحنتْ ساقي
فما أمشي، ولم أهجرك إني أعشق الموتا
لأنك منه بعض، أنت ماضيَّ الذي يمِضُ
إذا ما اربدَّتِ الآفاق في يومي فيهديني!
أما رنَّ الصدى في قبركِ المنهار، من دهليز مستشفى
صدايَ، أصيحُ من غيبوبة التخدير، أنتفضُ
على وَمْض المشارط حين سفتْ من دمي سفّا
ومن لحمي؟ أما رنّ الصدى في قبرك المنهارْ؟
وكم ناديتُ في أيام سهدي أو لياليه:
"أيا أمي، تعالي فالمسي ساقيَّ واشفيني"
يئن الثلج و الغربان تنعى من طوى فيه
و بين سريري المبتل حتى القاع بالأمطار
و قبرك تهدر الأنهار
و تصطخب البحار إلى القرار يخضها الإعصار
أما حملت إليك الريح عبر سكينة الليل
بكاء حفيدتيك من الطوى و حفيدك الجوعان
لقد جعنا و في صمت حملنا الجوع و الحرمان
و يهتك سرنا الأطفال ينتحبون من ويل
أفي الوطن الذي آواك جوع ؟ أيما أحزان
تؤرق أعين الأموات
لا ظلم و لا جور
عيونهما زجاج للنوافذ يخنق الألوان
هناك لكل ميت منزل بالصمت مستور
و لكنا هنا عصفت بنا الأقدار من ظل
إلى ظل و من شمس إلى شمس يغيب النور
على شرفات بيت ضاحكات ثم يشرق و هي أطلال
و يخفق حيث كركر أمس أطفال
صرير للجنادب هامسات إنه المقدور
تصدع برج بابل منه و انهدمت صخور السور
أما حملت إليك الريح عبر سكينة الليل
بكاء حفيدتيك من الطوى يعلو من السهل
|