أبجدية الحبّ والموت
أغلقوا كلّ المنافذ، اعتقدوا بأنني قادر على البقاء في رحم قصيدة، ابْتَعِدوا عن الربع الخالي خاصتي. أنا أعرف بأن الإنسان يحوي ربع خالي بل نصف خالي في روحه، بالرغم من استحالة قراءة الآخرين لهذه الحقيقة، أو القدرة على تحسسها ورؤيتها واستشعار مذاقها الحارق الخاص. كما الرجل الوفيّ يدرك بأن رائحة الفراش إلى جانبه تمتلكه امرأة واحدة فقط، يعشقها ويميزها دون نساء الدنيا.
بانت الخناجر التي احتفظوا بها تحت معاطفهم طويلاً. هنا يحلو القتل وسلخ الجلود البشرية، في أروقة الحياة يطيب الموت. هنا في العديد من المدن التي تحمل أسماء عربية، يطيب استخدام الخناجر واستئصال الحناجر وإسكات الأفواه في المدائن العربية التي لا تعرف معنىً للفرح، سوى ذاك المغمّس بالدماء أو المشفوع في حضرة الأوّل. يأتي الفرح بين الفينة والأخرى خجلاً، راكبًا فرسًا بيضاء زاهية، لكنّها سرعان ما تُخَضّبُ من كثرة الأسهم المتطايرة من حولها.
تاه الحبّ عن حيّنا، ظننت بأنّ الورد الأحمر أحمرَ جوريّ، لكنّي حين لمسته شعرت بقشعريرة تصعد لأقصى خلاياي العصبية، حمرة الدماء خضّبت الورد فثَقُلَتْ رؤوسُهُ وطأطأت. حاولت إقناع الحبّ بالبقاء في حيّنا، لعلّ عرسًا آخر ينفذ وسط قافلة الموت، لعل يدَ عروس أخرى تخضّب بالحناء قبل زفّها إلى صاحب القلب المكسور والعاشق الملتاع. إبقَ يا حبّ بين ديارنا بالله عليك، لا تسارع نحو الوادي، فلا أحد هناك مهما ارتفع صوتك وناديت، ابقَ في ديارنا ليومٍ آخرَ على الأقل.
ثانية واحدة من فضلك، أطفئ المحرّك وترجّل من العربة، ألا ترى بأن الإشارة الضوئية حمراء. المعذرة، أعرف بأن الضوء الأحمر يتكرّر ثانية وثالثة! ليكن، ما العيب في ذلك؟ هل ما زلت قادرًا على تمييز لون الدم الأحمر القاني في المدائن العربية؟ صدّقني هو أحمر بجدارة. على أيّة حال، أخفض رأسك واحذر القناصين فهم جميعهم من أبناء الوطن، يتحدثون لغتك دون لكنة أجنبية! أنت الآن في الشرق حيث الخيانة جزء من الطقوس الشعبية.
جميعنا بحاجة إلى المزيد من النبيذ المعتّق لننسى بعض ما ألمّ بنا بعد انفجار الألفية الثالثة! ما الذي حدث في أثناء هذه الألفية يا تُرى؟ بعض الحروب الاستباقية ربّما، أو نكسات اقتصادية وتضخمّ مالي أودى بحالة السلام الوهمية في ممالك الحبّ العابرة في قواميس المشاعر الإنسانية، نحن بحاجة إلى حالة من الغثيان كي ننسى بعض ما ألمّ بنا من انحدار في القيم والمسمّيات الغبية.
حبّ أعمى خير من زواج جميل قسريّ بين جبان ثريّ وغزالة. الغزالة ستبقى تتقافز من عشّ لعشّ، وستندب حظّها وستلعن المال دون أن تردّد لحظة واحدة عن تبذيره واستخدامه في حملتها الإعلامية ضدّ الثراء. لكنّ الغزالة ستصمت إذا كُسِرَتْ ساقُها وقد تحاول الابتسام في وجه رجال الأعمال أصحاب البطون الممتدة نصف متر ويزيد أمام أعضائهم التناسلية، حين يحضرون لاحتساء النبيذ وسحب الدخان الأزرق الرقيق العبق، المنبعث من التبغ الثمين المحشوّ في باطن الغلايين القيّمة. لهذا يا صديقي، دعِ الأمور تجري على علاتها، لا تحاول تزويج غزالة لثريّ واترك الحبّ على عماه حتى لا تحلم بكوابيس تأنيب الضمير، واستجداء العطف والغفران في غرف نوم الحرير.
خلدت للنوم لوهلة، اعتقدت بأن العالم يرقد بين أيد آمنة، لا مجال للعبث في توازنه المغناطيسي، لا توجد هناك فرص لاختلاس ما تمكن باطنُ الأرض من تصنيعه خلال ملايين السنين الغابرة كالنفط مثلاً. لكن ابن جلدتي الإنسان، تمكن من استهلاك هذا المخزون في أوقات قياسية. بات من الواضح قدرته على سلب كلّ ما يحويه باطن الأرض من النفط في مئة عام فقط. هل هذا أمرٌ سيّء يا تُرى؟ ليس سيئًا بل كارثيًا ما دامت المعارك الطاحنة بين أقطاب الإنسانية قد نشأت من أجل الفوز بهذه الخيرات. على أيّة حال، أقرّ بأن وطني فلسطين دفع ضريبة باهظة من أجل ذلك.
دلّيني على طريق آمن، يقودني بين مسالك التهلكة الضبابية، إذا كنتِ حبيبتي فافعلي ذلك، لا تخشي قلبك فهو دليلنا في متاهات الحبّ يا سيدتي. دلّيني على مسرب بين الخطوط المتقاطعة اللامنتهية لأتمكن من الوصول إلى غايتي المتواضعة، حيث تجتمع الذئاب لحراسة قطيع من الغنم! أحلم. طبعًا أحلم، لأن الأحلام ما تزال مجانية وقد تلجأ بعض الحكومات لفرض ضريبة عينية أو مالية مقابل الأحلام ومضاعفتها في الكوابيس أو في الأحلام الوردية.
ذَبُلَ الوردُ قبل أن يطلع الفجر، ربّما يعود السبب في ذلك إلى ارتفاع درجة حرارة المكان نتيجة لحالة العشق التي تقمصتني هذا المساء. كان المكان مبعثرًا غارقًا في حطام الحبّ من حولنا. أنا وأنتِ قادران على تسلّق هرم النشوة لمعرفة حدود القلب، وإذا ما كان قادرًا على تحمّل كلّ هذا الدبيب من حولنا! إذا فشل القلب فإنه وفي أسوأ الأحوال سيصمت أو يخفض من دقّاته المتسارعة. ما أجمل الصمتَ في أروقة الحبّ يا سيدتي!
رهنت كلّ ما تبقى لديّ من سقط المتاع لأنقذ قصيدة وجدتها عند حافة الانتحار. أخذت بيدها، رجوتها لأن تبقى في حيّز الممكن، وافقت مقابل قبلة. يا لروعة الشعر، يقبل بتسويد الصفحات البيضاء مقابل لحظة عشق مصبوغة بقبلة! الشاعر يا سيدتي في حالة عشق متواصلة، هذا لا يعني بأنّه قادر على الخيانة كلّ لحظة، بل قادر على الموت إذا خذله العشق. لا تغاري من الغزل الأبديّ ما بين الشاعر والقافية.
زيّنت أروقة قلبي حين علمت بإمكانية حضورك ذات صباح. زيّنت كلّ الأمكنة التي قد تقع عليها عيناك. لم أتردّد في ارتداء قميص العاشق، لكنّي ((معذرة)) نسيت الوردة. كما تعلمين أنا لا أشتري الورود فهي الشيء الوحيد الذي لا أتردّد في اقتطافه أينما وجدته. تصوّري يسمّون اقتطاف الورد لتزيين شعور الحسناوات سرقة!
السماء التي أحلم بالوصول إلى قبتها مرتفعة يا سيدتي، هناك لا قتل لتعذر وجود البنادق، هناك يلتقي الصقر والعصفور، هناك تكفي حبّة قمح لإطعام ألف جائع. عند قبّة السماء لا توجد أنظمة عربية متسلطة، أتصدقين؟
شاركيني بعض همومي، احملي معي بعض هذا العبء الإنساني المسمّى "عشق". لا يمكن لرجل أن يعشق حالة من الجمال السرمدي. تشيّئي لمرّة واحدة، تدثري بأجمل ثياب الحرير، لك قصائدي، لك ما تبقّّى من عمر الزيزفون.
صالح، ابني الباحث دومًا عن السعادة، يتخبط وسط مستنقعات الواقع غير مصدّق بأن الحاضر قادر على تغييب بعض صور الجمال الكامنة في ذاكرته الرجولية الشابّة. لكن هناك في نقطة ما في مشوار الحياة قرنفلة قادرة على زرع ابتسامة فوق شفتيك يا صالح.
ضاع بعض العمر بحثًا عن حلول وسطية، ترضي جميع الأطراف المتقاتلة. لكن حين تدخل أصحاب القرار لتحديد ثقل كفّي الميزان، أصيبوا بالهلع وأطلقوا النار على الورود المتمردة. من يا تُرى يدفن الجمال المسجّى في المدائن العربية.
طبيب واحد لا يكفي لمعالجة كلّ هذه الأوبئة، طبيب واحد لا يكفي لتشخيص حالات المرض المتفاقمة في الشوارع المشرقية. لكن بالرغم من الطين المتراكم فوق الأرصفة إلا أن سوسنة تمكنت من إيجاد الطريق نحو النور. كلّ عام وأنت متألقة يا سوسنتي. أرجوك، حاذري الأعين المتطفلة، واعلمي بأن هناك قنّاصون فوق أسطح الجيران يترقبون عن كثب تألقك في عالم النسيان، فيا لها من ذاكرة!
ظلمني العارفون بفحوى أبجديتي، حاولوا تشويهها، كذبوا حين قالوا بأنها لا تصلح سوى للكلام العابر الفارغ المفرّغ. إنّها أبجدية الجمال الذي تخلله خلال القرون الماضية بعض الموت، لكنّي لن أستسلم مهما زادوا من الحريق المشتعل في المرجل. أبجديتي قادرة على استشراف الجمال الكامن في المشرق، فهناك الكثير من الدرر التي تنتظر أقلام الشعراء. هلموا بالله عليكم نقتصّ أثر القوافي رغمًا عن حالة الظلام المخيّمة. قالت: يا إلهي كم أنت متفائل! أجبت: نعم، أنا كذلك.
عيناي ساهرة مع امتداد ساعات الليل، لا نوم يا حبيبتي، من أغمض عينيه فهو خائن! أحرس ما تبقى من آثار المتنبي وأبي تمام وابن خلدون. أحرس آثار أحمد شوقي وطه حسين ونزار قباني ومحمود درويش ونجيب محفوظ. أحرس آثار بدر شاكر السياب وظلّ بغداد ودمشق والقاهرة الذي غطّى ضوءه الكرة الأرضية. أحرس رمشي عينيك من الأربعين حرامي فهم ما يزالون أحرارًا يبحثون عن مزيد من الجرار المليئة جواهرَ منسية، وما أكثرها في شرقنا المشرعة أبوابه لكلّ عابث.
غيبتني لوهلة حالة الغدر التي قرأتها من اليمين واليسار، ولا أقصد هنا التكتلات السياسية فهي منشغلة في طعن أحدها الآخر دون سابق إنذار. حالة الغدر تحمل رائحة الصداقة التي توقعتها متقوقعة بالقرب منّي، لكنّها هربت حين اشتمت رائحة النار تندلع في بعض أطرافي، قالوا باختصار بأنهم لا يملكون القدرة على إطفاء حريق اندلع في جيوب مفلسة ومضوا نحو الأفق.
فاقد الشيء لا يعطيه. لكني أملك الكثير فلا تستعجلوا إصدار الأحكام عماهية. أمتلك قلبًا بحجم الشمس فهل هذا قليل؟ أمتلك رجع الهوى فاحذروا تشنجاته لأنه قادر على إذابة بعض الجبال الجليدية في المحيط المتجمد الشمالي.
قد يلعب الطفل بالنار لمعرفة قدرتها على حرق البراءة، قد يصرخ التاريخ بكتبته محتجًا. لكن، هل هناك من يستمع لصوت احتراق وثائقه الأصلية؟ أيّ امرأة هذه التي تدقّ الباب محترقة الفؤاد؟ تبحث عن خطيبها الذي غيّبه السجن الوطني. عرفت بأن أظافره قد اقتلعت، لكنها لا تعرف إذا ما كانت عيناه ما تزالان في محجريهما، أو قد قفزتا خارج وجهه من حمّى الصدمات الكهربائية.
كلّي أمل في شروق الشمس من الشرق مجددًا، لعلها تدفئ عتبات المتوسط ورجالاته أصحاب الوجوه الملوّحة، أصحاب الوجوه القمحية. كلّي أمل في اقتراب مراكب الأمل لمقارعة عرابيد التاريخ وقتلة النساء والأطفال في وطني الكبير الصغير.
لن تنالوا من روحي، لن تنالوا من جسدي مهما امتدّ طغيانكم، سأبقى الورقة الصعبة مهما تصاعدت كلفة الفواتير الحياتية. لن أسلّمكم روحي المتمردة، وسنبقى كذلك بالرغم من ارتفاع دخان بنادقكم. سأسير ضدّ التيار ليل نهار حتى أعيد الابتسامة لوجه عذراء، لوجه يتيم معدم. لن تنالوا من روحي المتمردة!
من أين أنتِ؟ قالت من هناك، من حيث يبحر الملاحون دون أن يخشوا على زوجاتهم من ذئاب الليل. سألتها ثانية: أتعرفين الشرق؟ أجابت: أعشقه، هل يخشى الأزواج على نسائهم وأطفالهم حين يخرجون للعمل وتحصيل لقمة العيش في المشرق؟ قلت: نعم بالتأكيد، لكن هناك بعض المواطن، حيث يقوم الأطفال بتوديع أولياء أمورهم قبل الخروج للعب في الخارج، وبعض المواطن حيث يقوم الآباء بتوديع نسائهم قبل الذهاب لتصوير موقع عربيّ ناريّ.
نحن هنا في كلّ مكان، نحيط بكلّ صومعاتكم، لا تحاولوا الهرب أو التهرب من دفع الضرائب. نحن في كلّ مكان من حولكم، نرصد حراككم، ولا نتساهل في إطلاق العنان لكلاب الأثر لتقصّي روائح كلّ من يتجرّأ على الهرب من قبضتنا. أتفهمون نحن في كلّ مكان من حولكم.
ها قد حانت الساعة بعد طول انتظار. أقصد أحدكما سيذهب لإتمام حفل زفافه الذي بدأت مراسمه قبل عقد من الزمان. أمّا الآخر فسيذهب إلى حبل المشنقة. أترك لكما حريّة الاختيار، لا تتقاتلوا، أحدكم سيتزوج والآخر سيعلّق ويموت شتقًا. حين عدت وجدت كلاهما وقد اتفقا أن يعلّقا في جحيم المشنقة. عندها لعنت قوانين المحكمة وأمرت بإطلاق سراحهما وهدم مبنى السجن. حان الوقت للقضاء على رائحة العفن، أدركت للمرّة الأولى بأن للحريّة رائحة العنبر، تطلقها خلايا السجين حين تدخل كميات من الأوكسجين العذب دون قيود إلى أعماق رئتيه.
وردة أخرى في طريقها لمغادرة محلّ الزهور. كُتِبَ عليها عنوان المتلقي. هي أيضًا من فصيلة الورود. ترفض الورد المقلّم الخالي من أشواكه. قالت لي أجمل ما في الورد وخزات أشواكه، وكأنّ الباقات تدافع عن حقّها بالوجود حتى اللحظة الأخيرة، قبل أن تجف قطرات الندى عن أوراقها.
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً)، لكن ماذا عن النفوس المعذبة بحثًا عن بعض السعادة بعد أن غيّب الدهر بصيص الأمل في المشرق العربي؟ هل هناك متّسع لهذه الأنفس، أم أن فواتير الحساب ما تزال مفتوحة بانتظار كلمة المولى العليا؟ هناك متّسع من الغفران لكن وفقًا لما جاء على لسان الشاعر ((إذا الشعب يومًا أراد الحياة)). هل تعتقدون يا سادة بأن اندلاع الربيع العربي من تونس معقل الشاعر الكبير أبي القاسم الشابي كان مجرّد مصادفة!.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|