اليوم الغارب
" أبا سالم " شاب من " شروين " بـ " تيميمون " في الثامنة عشرة ، أسمر الوجه كسمرة العرب الأوائل ، قامته أقرب إلى الطول منه إلى القصر قوي البنية ، وزع حبه على والديه وأخته " مزوارة " ولم يبق منه عنده شيئا .
أبا سالم الآن في جامعة " وهران " لمتابعة تعليمه العالي ولحد الآن فإن مساره الوحيد والثابت أو مخطط تنقله الذي حدده لنفسه هو من الحي الجامعي إلى الجامعة ما يدل دلالة قاطعة على تصميمه وعزمه على الإجتهاد في الدراسة والمثابرة عليها ، أما مظهره الخارجي فيوحي بأنه من طبقة راقية ولكن في الحقيقة أن أباه وبالرغم من تواضع دخله يخص قرة عينه بجزء كبير منه ، مع إلحاحه عليه بعدم إرتداء إلا الجيد من الكسوة و من الحاجات الأخرى الظاهرة ، وقد أمتاز في مظهره بالإضافة إلى الأناقة بوضع سلسلة ذهبية في رقبته تنتهي بمربع صغير تتوسطه إشارة الموافقة المنطقية ( عكس إشارة عدم الموافقة المتمثلة في في ) .
ما يزعج ويحرج " أبا سالم " في حياته الجامعية الجديدة هو قلة وسائل النقل من الحي إلى الجامعة ذهابا وإيابا ، ما يسبب الإكتظاظ داخلها وكذا الإختلاط بين الذكور والإناث .
في يوم من الإيام وبعد أن أنهى أبا سالم دروسه على الساعة الحادية عشرة صباحا خرج إلى موقف الحافلة منتظرا قدومها للعودة إلى الحي ، وماهي إلا لحظات حتى كان بداخلها وكان من الصدف التي لم يسبق حدوثها أن وقف هذه المرة وجها لوجه مع فتاة في نفس طوله ، و فجأة وقع نظرها على شيء ما فحملقت الفتاة فيه و ازدادت حملقتها تباعا ما اثار إندهاش الشاب وتوجسه ،ثم صرخت بأعلى صوتها : سلسلتي ، سلسلتي الذهبية ، نعم إنها سلسلتي الذهبية أيها السارق.
تخثر الدم في عروق أباسالم ولم يعد يقوى لا على الوقوف ولا على النطق و تسمر في مكانه كجدع النخلة اليابس والمجوف في ارض مالحة حبس عنها الماء العذب عشرات السنين ثم تداعى ككتلة واحدة إلى السقوط لولا أن شده إليه طالب كان بمحاذاته ثم خضه خضا كمن يضغط على بطارية للحصول على ما تبقى فيها من طاقة و نظر إليه بحدة وطلب منه أن يدافع عن نفسه وكأن له سابق معرفة به وبأخلاقه وهو الذي لم يلتق به إلا في هذه المناسبة الخاصة .
استعاد ابا سالم شيئا من قوته واستعاد وضعية الوقوف العمودية وقال بصوت من يعاني من عطش شديد : " هذه سلسلتي ، اشتريتها منذ أن انتقلت إلى الثانوية ، وانا في غاية المفاجأة والصدمة والتألم بهذه التهمة لأنني لست سارقا وما أخذت شيئا ليس لي منذ أن كنت صغيرا . "لكن الفتاة لم تبال بقوله وأصرت على تهمتها وعلى استرجاع سلسلتها الذهبية ، التي وصفتها وصفا لا يقدمه إلا الصائغ الذي صنعها .
تزاحمت الحلول المقدمة لحل هذا الإشكال وديا داخل الحافلة من قبل الطالبات والطلاب ، و في الأخير استقر رأي الجميع على إعطاء الفتاة السلسلة أو إعادتها إليها ، على أن ينتهي الموضوع عند هذا الحد ؟!
طبعا كان يمكن أن يكون الأمر سهلا لو كان مع أبا سالم شهود ليتبثوا ماقاله وليتبثوا أيضا أن السلسلة كانت في رقبته منذ قدومه إلى وهران ، لكن ولسؤ الحظ كان وحيدا كما أن ثقافته الصحراوية التي تستنكف من الخصومة مع الجنس الآخر( الأنثى ) جعلته يختصر الصراع ويفرط في حقه خوفا من أن يدخل في متاهات لا قبل له بها .
سلم أبا سالم السلسلة على مضض لـ"رشيدة "- وهو إسم الفتاة المدعية - ثم عاج إلى الأسفل بوجهه ليخفي دمعات حاميات ذرفت حزنا على حاله وعلى فقدان ذكريات جميلة ذهبت مع السلسلة ، لكن خوفه الأكبر و الأخطر هو مما سيلاقيه من سؤ معاملة و همز ولمز الطلاب تجاهه التي ستفضي حتما إلى تصنيفه ضمن زمرة خفيفي اليد .
رشيدة فتاة هيفاء تقيم بالحي الجامعي للإناث وهي كذلك في سنتها الأولى ولكن في تخصص آخر ، قدمت من ولاية أخرى مجاورة لوهران حيث أنتقلت إليها مؤخرا مع عائلتها كثيرة الترحال كون أبيها يعمل في جهاز الدرك الوطني الذي يفرض على أعوانه التنقل من مدينة إلى أخرى بعد فترة معينة .
اسودت الدنيا في عيني ابا سالم ولم يعد مواظبا على دراسته كما كان واصبح شارد الذهن لا يمشي إلا متسللا تحت الجدران متدلي الرأس وكأنه يمثل ثلث وزن جسده ، واتخذ لنفسه مسارا آخرا مغايرا لمساره الأول مشيا على الأقدام أو في سيارة أجرة وأصبح يدلف إلى الجامعة والحي من بوابتيهما الخلفيتين .
بقي أبا سالم على هذا الحال أكثر من شهر و في صباح يوم من ايام الدراسة وعند الباب الخلفي للجامعة لمح فتاة واقفة بين رجل وأمراة في العقد الرابع من العمر على الجانب الأيمن للباب ، نظر إلى الفتاة فتسمر فجأة في مكانه كالسيارة المفرملة فجأة وبحدة . تصرف هكذا بتلقائية و رغما عن إرادته قبل حتى أن يعرف من هي ( الفتاة ) أوبالأحرى قبل أن يستعمل عقله وفكره وكأن ماحدث فعل شرطي منعكس غير متحكم فيه ، أكتسبه نتيجة لتجربة ما ، لكن بعد هنيهة أدرك أنه يقف مرة أخرى وجها لوجه مع ..... رشيدة ؟؟؟؟ !!!!.
هم بالرجوع ، ولم لا ؟ لقد ألف ألإنهزام وتعايش معه !! ألم يصب بالبكم لما واجهته في الحافلة قبل شهر ؟ !
اتخذ وضعية مواصلة السير، ألم يفعلها سابقا ؟ فليتسلل الآن كما كان يتسلل دائما وليطأطيء رأسه وليمضي كدأبه في فترة الهوان تلك ! وما المشكل في ذلك ؟ وما الفرق بين هوان في غيابها وهوان وهي حاضرة ؟ !! الأمر سيان !!! ورحم الله المتنبي الذي قال : من يهن يسهل الهوان عليه // ما لجرح بميت إيلام .
أنا ميت القلب ، وميت القلب لا فرق لديه بين الكرامة والمذلة و لا بين العزة والمهانة . سأمر وسأمشي ليس منتصب القامة ولا مرفوع الهامة سأمشي عكس ذلك تماما لكني سأمشي.
وبينما هو هكذا يخاطب نفسه ويفكر ببقايا عقله الشارد بالـ "هو " مرة وبالـ " أنا " مرة ، بادرته المرأة الأربعينية : صباح الخيريا بني ، كيف حالك ؟ أنا فاطمة وهذا زوجي وتلك أعتقد أنك تعرفها ، إنها إبنتنا الوحيدة رشيدة ..... ، يتقدم السيد خالد نحوأبا سالم قليلا ، وتواصل المرأة : جئنا ثلاثتنا لنتكلم معك بشأن السلسلة ، تقدم الزوج خالد أكثر ثم مد يده لـ اباسالم مصافحا وقال متمما ما بدأته زوجته " .... نعم هذا
صحيح ، جئنا بخصوص السلسلة ، فقد وجدت رشيدة تلك الخاصة بها في مكان ما بالمنزل بعدما اعتقدت انها وضعتها داخل محفظتها وأخذتها معها إلى الجامعة وسرقت منها هناك ، ولما رأت سلسلتك ظنت إنها لها فهي تشبه سلسلتك إلى درجة التطابق التام . واردف : انا خالد اعمل دركيا برتبة ملازم أول ، ولعلمك فقد عملت
بالصحراء بكل من أدرار وتمنراست وبسكرة وقد خبرت الناس هناك كثيرا ولم أعرف فيهم إلا الكرم والجود وحسن المعاملة والوفادة ووالله لما سمعت بقصة السلسلة تمنيت لو أن رشيدة صرفت نظرها عنها حتى وإن كنت أخذتها منها عنوة ، فلربما يا بني كنت في حاجة إلى بعض المال لتقضي حاجة ماسة من حوائجك ، و بالنسبة لي وكيفما كان السبب فإنه لا يمكنني مقايضة الخير الذي وجدته عندكم بشيء تافه كهذا ............
اغرورقت عينا ابا سالم بالدموع وتكلم ( لا اقول قال ) بحشرجة : آه يا سيدي لو تعلم ما بي ، إن السلسلة التي جئتني بها ، إن كان غيري يراها ذهبا براقا وجذابا ، فأنا أراها حديدا صدئا أخشى إن وضعتها في يدي أوعنقي أن تسبب لي علة بدنية بعد الذهنية ، وأي بدن ؟! : ضامر من الصيام القصري عن الأكل ليل نهار و من كثرة التفكير والشرود الذهني فبعدما كان ممتلئا و مناسبا لشاب في ربيع العمر ههو كما تراه .... أشلاء في ثياب ... و اما النفس فمنهارة و اما الإرادة فخائرة ............
ومن جسد هناك على مسافة غير بعيدة يتساقط مطر من غيم ليس في السماء وإنما
في قلب صاحبته " رشيدة " وخاطرها وفي عينيها ، فتنجرف به كالسيل العرم مدمرة
لكل عائق نحو اباسالم وفي غياب الوعي والإرادة وبلوغ الشعور بالذنب أعلى مراتبه
تفتح ذراعيها وتخطف بهما رأس أباسالم لتضعه على كتفها الأيمن .
فتح الوالد فاه فاغرا أمام هذا التصرف الغريب والمفاجيء الصادر عن وحيدته وفلذة كبده ، أما الأم فكانت تهمس لرشيدة :" يكفي يا رشيدة ، يكفي " ، أما اباسالم فلم يجد من القوة ما يجعله يفلت من قبضة الفتاة التي لم يعد يسمع منها إلا الشخير والتأوه ، ولم يتخلص الشاب من ضمتها القوية إلا بصوت قوي لا يصدر إلا من خبير في العسكرية ، يأمرها بإنها هذا الموقف ، إنه صوت أبيها قائلا :" كفى " .
تنفس ابا سالم الصعداء وتوجه مهرولا بما تبقى لديه من قوة إلى داخل الجامعة ، وهو في حالة من الإرتباك والذهول ، يهرول وقد زال لديه ذاك الفاصل بين الحقيقة والخيال ودخل أول مدرج صادفه في طريقه وبقي فيه وهو لايدري أي درس القاه الأستاذ و لا لأي تخصص ينتمي طلابه ، ومرت الفترة الصباحية كلها وهو داخل هذا المدرج وعلى نفس الحال، ثم غادره إلى الحي عبر طريقه الخاص طبعا ، فوجد رشيدة قبالته عند الباب لكن هذه المرة كانت مع زميلتين لها وزميل له في الدراسة والفوج ، فتقدمت منه وسلمت عليه وهو في نفس حالته الأولى ثم قالت : أعتذر عما بدر مني في الصباح وأنا طبعا أشعر بمقدار المعاناة التي سببتها لك ، ومهما فعلت لك فلن استطع تعويضك عما لحق بك من ضرر معنوي وجسدي ، لذا أكرر إعتذاري وأسفي وأما سلسلتك فهي من حقك وملكك وسأعيدها إليك يوم الغد إن شاء الله ". تدخل الزميل والزميلات والحوا على أباسالم أن يقبل الإعتذار .
طأطأ الشاب رأسه وهمس : " لا عليك " وأنطلق نحو الحي الجامعي ، وما إن فتح الغرفة حتى كان على السرير مستلقيا لا يفكر في شيء إلا في ذاك الموقف الغريب والفاجيء الذي حدث عند مدخل الجامعة مع رشيدة . قضى أباسالم اليوم كله على هذا الحال ولم يدلف جوفه إلا بعض الحساء في وجبة العشاء ، وفي صباح يوم الغذ وفي المدرج المملؤ عن آخره بطلاب دفعة أباسالم وهو فيهم وفي الوقت الوجيز قبل دخول الأستاذ ، دخلت رشيدة وتوجهت إلى المصطبة وهي في كامل العزم والثقة وقالت مخاطبة إياهم : أيها الطلاب ، السلام عليكم ورحمة الله ، لقد عرفتم ما حدث بيني وبين زميلكم الطالب "جدعاني عبد السلام " المدعو أبا سالم منذ فترة من الزمن فيما يخص السلسلة التي أتهمته بسرقتها . أيها الطلاب لقد كانت تهمة باطلة وأبا سالم بريء منها براءة الذئب من دم يوسف . الأمر وما فيه أن السلسلة التي كنت أملكها تشبه بل تماثل تماما سلسلته ولما ضاعت مني ظننت أن سلسلة أبا سالم هي لي وأتهمته زورا وظلما بسرقتها - ولوحت بيدها بالسلستين للإستدلال على قولها - وهأنا أعترف أمامكم ببراءته وأرجوه رجاءا حارا بل أتوسل إليه أن يقبل إعتذاري وأن يسامحني على ما بدر مني وعلى ما لحق به من أذى، و ههي ذي سلسلته أعيدها إليه أمامكم " .
سلمت رشيدة السلسلة لباسالم وأنصرفت تاركة هذا الأخير يسبح في بحيرة من الإنبهار والدهشة والإعجاب والحيرة والتساؤل كذلك ، فهل تصرفت بشكل لا ئق أم أنها هزئت به واستصغرته ؟ طبعا هذه الأحاسيس والمشاعر لم تقتصر على أباسالم بل أنتابت كل زملاءه الحاضرين بالمدرج ، غير أن الإعجاب كان هو الغالب لديهم إذ كيف لفتاة في سنتها الجامعية الأولى أن ترتجل تلك الخطبة بثقة ووضوح وبلاغة أمام طلاب ليسوا زملاءا لها وعن موضوع إجتماعي وإنساني لا يجيد معالجته إلا خبير . أما الهاجس الذي أستجد على أبا سالم فيتمثل فيما إذا كان سيرد بنفس الطريقة التي أعتمدتها رشيدة أم أنه سينكفيء على نفسه ويطأطيء رأسه ويطلق الريح لساقيه كما تعود أن يفعل بعد حادثة الحافلة ، لكن وعلى العموم فقد شعر بشيء من الإرتياح مما جرى
خاصة تدخل رشيدة الذي برأه من تهمة السرقة التي لزمته فترة من الزمن وأرهقته بدنيا ومعنويا لكن :
هل سيمر الأمر هكذا وبكل سهولة ، دون أن يثأر لنفسه ويرد الصاع صاعين ؟
هل يكون كقطعة جامدة لينة ، تطوى وتثقب ثم تعاد إلى حالتها
الأولى ؟ أين إرادته ؟ أين شخصيته ؟ أين عزة نفسه وكرامته ؟
لقد اتهم زورا أمام أقرانه وقريناته وبدون رحمة ولا شفقة ، وسلب منه ملكه وهو صاغر بل وخائف من تفاقم التبعات ، والدمع يسيل من عينيه كالثكلى وألآن لما حصحص الحق يلتزم الصمت ولا يحرك ساكنا ويقبل كل شيء وكأنه بريء من تهمة شفقة وعطفا عليه ورحمة به ؟
انتابت هذه الهواجس والأحاسيس اباسالم وترجمت لديه في شكل
اسئلة ، كل سؤال منها يحتاج للإجابة عنه إلى مجهود مضني وإلى شجاعة ادبية كبيرة ومهارة إستثنائية و يحتاج مجموعها إلى تسطير برنامج تنفيذي غاية في الدقة .
وبينما هو كذلك ، إذا بنسمة عطر خفيفة تتسلل مع انفاسه ، فيلتفت ليجد رشيدة بجانبه دون أن يدري ، فأنتفض كمن جلس
على مسمار ، بادرته رشيدة : مالك ؟ هل فاجأتك ؟ اجابها وهو يهم بالوقوف : لا ، إنما اريد الخروج ، فقد حان وقت الغذاء .
رشيدة : ابق قليلا ، اريد ان اتحدث إليك ، يا اخي يا عبد السلام
انا أعرف ما لحق بك من ألم وانكسار ، فلقد اتهمتك خطأ بالسرقة
وهي تهمة دنيئة لا يتقبلها حر، شريف وعفيف ووقعها على النفس اشد من السم واشد من السيف المهند لكن تهمتي لك لم اجد لي عنها محيدا ولا منها مناصا ، هاك السلسلة وتأكد بنفسك
وسترى إن لم أفعل ما فعلت أكون كمن يفرط في حق مشروع له
لكن لما ظهرت الحقيقة ، تمنيت لو اني لم أقف في مواجهتك حتى
لا أرى مارأيت وحتى لا امس سمعتك واجرح مشاعرك باتهامك
خطأ بما اتهمتك به .
ارحم قلبي يا باسالم فانا فتاة كبقية بنات حواء ، تمتاز بالرهافة
و الرقة وبسمات الأمومة وإن خفيت قليلا . أرحم قلبي يا باسلم
وسامحني فإن ضميري في الوقت الحالي حاله كحال المرجل أو
كمغما بركان يذيب الحجر ويجعل من حممه انهارا وانهارا .
اخرجت منديلها وغادرت المدرج وهي تمسح دموعها .
للأسف جهازي ينطفيء فجأة وبشكل متكرر ، لذا فأنا مجبر على تأجيل
تكملة القصة إلى موعد لاحق ، فمعذرة .
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|