[align=justify]
البومديينية ظاهرة انتقالية اتسم بها النصف الثاني من القرن العشرين على مستوى دول العالم الثالث. من المجحف أن يتخلى المثقفون الباحثون في الحقيقة عن مسؤوليتهم الأساسية في نشر و تحليل مواقف الرئيس بومدين كأحد أقطاب الفكر الثوري العالمي. إذا كان صدام حسين استلهم مشواره الثوري من كتابات ميشيل عفلق و كان أحمد بن بلة و القذافي متأثرين بجمال عبد الناصر، فإن الرئيس بومدين ابتكر لدولته التي لا تزول بزوال الرجال خطا ثوريا فريدا. لم يعارض الإسلاميين و الشيوعيين الجزائريين و بادر الى التأكيد على أن الثورة الجزائرية تتأسس على الدين الإسلامي و تمتلك مرجعا نبويا لا تحتاج من خلاله الى مبعوثين مصلحين آخرين( ماركس و لينين...) و من الضروري أن يتخلى كثير من المثقفين و الفقهاء عن الرأي الخاطىء الذي يربط نجاح الثورة باتباعها للعلمانية. و ما بين التشدد العلماني الذي يعبر عنه القول بأن الثورة فعالية علمانية فقط و التحجر الديني الذي يرى في الثورة فعالية علمانية فقط تهدد الدين، نادى بومدين بالوسطية الثورية باعتبارها الخصوصية الثورية العربية.
السؤال الجوهري الذي يجب أن نجد له اجابة سليمة:" هل يعرف الفلسطينيون من هو هواري بومدين؟"، لقد خدم القضية الفلسطينية منذ وصوله الى الحكم في الجزائر سنة 1965 إلى 1978 سنة اغتياله."هل يدرك المصريون أن للرئيس بومدين دور رئيسي في حرب أكتوبر؟". لقد دعا الشعوب العربية الى العزوف عن عرف:"لثم اليد"، بالنسبة إليه، العلاقة بين الدولة و المواطنين تأخذ استمرارها من ابتعادها عن كل أشكال العنف غير الشرعي. و كلما رأى عادة تقبيل اليد مستفحلة في البلدان العربية يظهر اشمئزازا لكونه ثائرا طاهرا لا يستطيع النظر الى العبودية التي يناضل من أجل اجتثاثها. بعض السلالات الملكية ترجع ظاهرة اللثم الى العهد النبوي، و في الحقيقة فإن احتمالات منشأ الظاهرة متعددة، غير أن ربطها بالرسول محمد غير وارد و فعل تحايلي. يستحيل أن يكون الرسول محمد صلى الله عليه و سلم على اتصال بظاهرة اللثم التي لا تزال سارية المفعول في كثير من الدول العربية، ليس فقط في الأنظمة الملكية و إنما في الجمهوريات أيضا. لا أطالب أي زعيم عربي بإلغاء هذه العادة، إن لم يكن القرار نابعا من ادراك ذاتي فلن يدوم طويلا و يجب أن يكون ادراكا مشتركا بين الملك و رعاياه، بين رئيس الدولة و المواطنين.
ترك الرئيس بومدين موقفا مهما يتعلق برهان تخليص اللغة العربية من الإنحطاط العالمي الذي تعيشه، و في هذا الموضوع الحساس، يمكن أن نقول إن التعريب البومدييني هو وحده النموذج التطبيقي الأكثر تكاملا و عطاء بين كل مشاريع التعريب التي تبنتها دول المغرب العربي بعد انسحاب الوجود الإمبريالي الأوروبي. الرئيس بومدين أدرك منذ البداية أن التعليم ليس القطاع الوحيد الذي يستلزم التعريب لإعلان الحرية الثقافية المكملة للإستقلال السياسي الذي يعني خروج أي حضور عسكري للإحتلال و الإستقلال الإقتصادي الذي يقتضي تأميم الثروة و الإستقلال الثقافي الذي يعني استرجاع مكونات الهوية. قبل توضيح سياسة التعريب حسب الرئيس بومدين، يجدر بنا أن نلمس حالة اللغة العربية في بلدان المغرب العربي، على المستوى المغربي، قامت الدولة بتعريب التعليم من الابتدائي الى قسم الثانوية العامة، بينما بقي التعليم الجامعي باللغة الفرنسية، كما أن الإدارة تتعامل باللغة الفرنسية أساسا، نفس الوضع تعيشه اللغة العربية في تونس، أما موريتانيا نظرا لاكتشاف حقول نفطية و ليبيا طبقا للاتجاه الجديد للعقيد القذافي فقد أصبح التوجه واضحا نحو اللغات الحية و تحديدا الفرنسية و الإنجليزية. في الجزائر البومديينية، شمل التعريب كل مراحل التعليم و انتقل الى الحياة الإدارية و الاقتصادية، يقول الرئيس بومدين:" هدفنا ليس التعريب فقط، أن نسترجع لغتنا، و إنما أن نطور هذه اللغة، يجب أن لا تبقى العربية لغة الشعر و الأدب و الغزليات، ليس لدينا وقت للشعر و الغزل و النحيب، اللغة العربية يجب أن تكون لغة التعامل في معامل البتروكيماويات و الصناعة الغذائية و العسكرية و التكنولوجية". المستطاع الأدبي للغة العربية متألق عالميا، و هذا ما استوعبه بومدين، لذلك أصبح ضروريا أن تستوعب العربية المصطلحات العلمية و التكنولوجية و الاقتصادية وفق صياغات نحوية مدققة لا تعتمد دائما أو بصورة اجمالية على تقنية الاقتراض.
[/align]