[حسن الحاجبي]

في ذكر صور الموت وأشكاله

الحمد لله العالم المريد ,الخالق الرازق الغني الحميد ,ذو العرش المجيد الفعال لما يريد , عفوه عظيم وبطشه شديد , هو الله الباعث الوارث المبدئ والمعيد , وصلى الله وسلم وبارك على المصطفى طه المعروف بكماله , وعلى أمته وتابعيه الأخيار وجميع صحبه وآله .
في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"أربعة من الشقاء , جمود العين , وقسوة القلب , وطول الأمل , والحرص على الدنيا" . ووالله لقد شغلتنا الدنيا عن الآخرة , وصرفتنا العاجلة عن الآجلة وغرتنا حتى نسينا الله فأنسانا أنفسنا . نسينا جرعة ما أشد مرارتها , ونسينا غصة ما أعظم في القلب ضيقتها , ونسينا سكرات ما أقسى حرارتها , نسينا ضغطة القبر وفتنته , وساعة الوقوف بين يدي الحي الذي لا يموت .نسينا قول الله تعالى " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " .
الموت واجب, لا يشكك فيه أحد , ولايكفر به أحد , ولا ينكره أحد , فماذا ننتظر ؟ ماذا ننتظر وهو يطلبنا في كل وقت وحين , ماذا ننتظر وهو لا يأتينا إلا بغتة ؟ أفلا نتفكر كيف يكون حالنا إذا جاء ملك الموت بجنوده وأعوانه ,و ألقى عليك غم الموت , فغشيك ماغشيك من سكراته وأهواله وأحزانه , وأيقنت أنك لدنياك مفارق , ولما قدمت من عملك الحسن والقبيح لاحق , وذقت من السكرات ما لايستطيع أن يصفه لسان , وبعد أن كنت في دنياك ذا قيمة وشان , ها أنت ذليل أمام عظيم الشان , تموت على التدريج وبالترتيب , وتسمع أهلك وهم في بكاء ونحيب , وتسألك الملائكة فلا تستطيع أن تجيب , حتى إذا بلغت الحلقوم وتضاعفت عليك الأحزان والهموم , رفعت بصرك إلى السماء لترى مقعدك من الجنة أو النار , ويقول لك ملك الموت الموكول بك من العزيز الجبار : ياابن آدم , أين لسانك الفصيح ؟ ما أسكتك اليوم . يا ابن آدم أين بدنك القوي؟ ما أضعفك اليوم . ياابن آدم أين تكبرك على الخلائق ؟ ما أذلك اليوم . يرفع سمعك ,وينطفئ بصرك , ويغيب نظرك , وينتهي خبرك , وينقطع أثرك , ثم تقبض روحك فتصير كأنك ما عشت لحظة واحدة , ولا مشيت خطوة واحدة , ولا أكلت ولا شربت ولا جلست إلى مائدة , ثم تحمل إلى قبرك فتنزل فيه نزول المسافر الذي لايعود , وتوضع عليك الحجارة وتغطى باللحود .فإذا ولى عنك أهلك وضمك قبرك قال لك : أنا بيت الغربة , أنا بيت الدود, أنا بيت الضيق ,رجعوا عنك وتركوك , ولو قعدوا عندك ما نفعوك , ووالله إننا جميعا لشاربون من هاته الكأس .
الموت لا يدق في الأبواب ,ولا ينتظر الجواب, ولا يرده الحجاب ,الموت لا يميز بين الأجناس , ولا يوقفه الحراس , الموت لا يقبل البديل , ولا يأخذ الكفيل , الموت لايرحم الصغير, ولا يوقر الكبير, لا يحصل على رشوة من غني , ولا يخلف وعدا مع فقير . هادم اللذات ومفرق الجماعات , ولو جعل الله الخلود لأحد من عباده لجعله لمحمد صلى الله عليه وسلم خير عباده الذي قال له تعالى :" إنك ميت وإنهم ميتون " .
روت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه , ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه"قالت عائشة : قلت يارسول الله ,أكراهية الموت ؟ فكلنا يكره الموت ,فقال لي صلى الله عليه وسلم : ليس ذاك ياعائشة ليس ذاك , ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه , والكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله فكره الله لقاءه " . وفي الحديث القدسي أن الله تعالى يقول فيما يرويه عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم " إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه , وإذا كره عبدي لقائي كرهت لقاءه" وإنما حب الله تعالى يكون بحسن الإستعداد للموت , وذلك بالمصالحة مع الخالق عز وجل , وحسن طاعته وعبادته , حتى نكون من المبشرين بمحبة الله يوم لقاء الله . يوم ينادى : أين المتحصنون بكل حصن وقصر مشيد , أين المتكبرون من كل جبار عنيد , أين الطغاة , أين العصاة , أين القساة الذين كانوا يأملون في العمر المديد" وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد "
ولأن النفس الإنسانية متغيرة في أحوالها وطبائعها وأهوائها , فإن الموت أيضا ليست له صورة واحدة , إنما للموت صور وأشكال متعددة , تختلف باختلاف القلوب , وتتنوع بحسب درجات الكفر والإيمان , وكذب شاعر العرب الذي قال " تعددت الأسباب والموت واحد " لأن الموقف من الموت , والإستعداد له , واستحضار ساعة الوفاة , كل ذلك يختلف من شخص لآخر , وكما تلقى الله يلقاك , وكما تلقى الموت يلقاك , إما طائعا وإما مرغما . فإن كنت من الطائعين فـأنت واحد من اثنين , إما من الذاكرين وإما من المنتظرين , وإن كنت من المرغمين , فأنت واحد من تسعة , إما من الناسين أو من الغافلين , أو من المتجنبين , أو من المستهجنين , أو من المستهينين , أو من الفارين , أو من المتكبرين , أو من العصاة ,أو من الطغاة . كل هؤلاء في كتاب الله مذكورون , وكل مقام من هاته المقامات له في كتاب الله حجة ودليل , ولكن " إنها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " .
لو أنك من الذاكرين فالموت يحضرك , ولو أنك من المنتظرين فالموت يتوفاك , ولو أنك من الناسين فالموت يأتيك , ولو أنك من الغافلين فالموت يجيئك , ولو أنك من المتجنبين فالموت يلاقيك , ولو أنك من المستهجنين فالموت طعم تذوقه , ولو أنك من المستهينين فالموت يصيبك , ولو أنك من الفارين فالموت يدركك , ولو أنك من المتكبرين فالموت يسوقك , ولو أنك من العصاة فالموت يأخذك , ولو أنك من الطغاة فالموت يهلكك .
كما تلقى الله يلقاك وكما تلقى الموت يلقاك , فكيف النجاة وكيف الخلاص , يامن كنت بمالك وبجاهك تفاخر , يامن كنت بقوتك وجبروتك تباهي وتناظر , يامن كنت تترفع عن التراب أن يمس جسمك أو ثوبك الطاهر , اليوم يدس أنفك في التراب وتعافك العشائر , اليوم يفارقك الأنيس , والصاحب والجليس , ولا يبقى معك إلا عملك فأنت إما رابح وإما خاسر .
1 ــ الموت إذا ذكرته يحضرك , وفي ذلك قول الله عز وجل " أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي " وفي آية أخرى " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا , الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف " .
2 ــ الموت إذا انتظرته يتوفاك , وفي ذلك قوله تعالى " فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ".
1 ــ الموت إذا نسيته يأتيك , وفي ذلك قوله عز وجل " وأنفقوا ممات رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين " .
2 ــ الموت إذا أغفلته يجيئك , وفي ذلك قوله تعالى " ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون ". وفي آية أخرى " حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعوني لعلي أعمل صالحا فيما تركت , كلا إنها كلمة هو قائلها , ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون " .
3 ــ الموت إذا تجنبته يلاقيك , وفي ذلك قوله تعالى " قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم , فتردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون " .
4 ــ الموت إذا استهجنته ذقته وسقيت طعمه , وفي ذلك قوله تعالى " كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة " .
5 ــ الموت إذا استهنت به يصيبك , وفي ذلك قوله تعالى " فأصابتهم مصيبة الموت " .
6 ــ الموت إذا فررت منه يدركك , وفي ذلك قوله تعالى " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " .
7 ــ الموت إذا تكبرت عليه يسوقك , مصداقا لقوله تعالى " كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق , وظن أنه الفراق ,والتفت الساق بالساق , إلى ربك يومئذ المساق " .
8 ــ الموت إذا كنت من العصاة يأخذك , مصداقا لقوله تعالى : "وجاء فرعون ومن قبله والموتفكات بالخاطئة , فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية " .وفي آية أخرى " فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية , وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية , سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما , فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ".
9 ــ الموت إذا كنت من الطغاة يهلكك , مصداقا لقوله سبحانه وتعالى " وإنه أهلك عادا الأولى , وثمودا فما أبقى , وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأبقى " .
يقول الله تعالى " وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت " أنا وأنت لا ندري أين سنموت , ولا كيف سنموت , ولكننا ندري الآن أن حسن الإستعداد للموت هو أوجب واجبات الطاعة لله الحي الذي لا يموت . فاختر لنفسك كيف تلقى الله وسارع إلى حجز مكانك في صف من يحبهم الله يوم لقاء الله , بادر إلى أن تكون من الطائعين لا من المرغمين , فكما تلقى الموت يلقاك .
فاللهم وسع علينا بيت الضيق , واجعل لنا العمل الصالح فيه خير رفيق , اللهم وسع علينا بيت الوحدة , وثبتنا عند الرجفة والرعدة , اللهم وسع علينا بيت الغربة , وفرج عنا فيه كل كربة , اللهم وسع علينا بيت الدود , واشملنا يوم الآخرة بالكرم والجود , اللهم وسع علينا ضيقة القبور , اللهم خفف عنا ضغطة القبور , اللهم فرج عنا غمة القبور , اللهم نور علينا ظلمة القبور , اللهم أطفئ عنا حرارة القبور , اللهم جنبنا فتنة القبور , اللهم ارحمنا في الحياة وارحمنا عند الممات , وهون علينا السكرات في ساعة الوفاة , اللهم ثبتنا عند خروج الروح , واكتب لنا الجنة ذات الأنهار والصروح , اللهم ظللنا بظلك يوم نقف بين يديك صاغرين , اللهم هدئ من روعتنا يوم نأتيك مفزوعين , اللهم جنبنا كل خطية , وهون علينا لحظة المنية , إن الله وملائكته يصلون على النبي , يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما , اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد . سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

[فاطمة البشر]

اللهم وسع علينا بيت الضيق , واجعل لنا العمل الصالح فيه خير رفيق ...

لم أنتبه إلى صور الموت في القرآن الكريم من قبل ،
أحسن الله ختامنا ورزقنا رحمته و غفرانه ..
جزاك الله عنا خير الجزاء "أ. حسن الحاجبي"
ودي ووردي

[ميساء البشيتي]

شكرا لك أخي حسن
مقال رائع جدا قرأته بكل حواسي
الله يعطيك الصحة والعافية وطول العمر
ودمت لنا أخي حسن

[حسن الحاجبي]

الإبنة القديرة : فاطمة البشر
لو أننا ننتبه لما في القرآن الكريم من توصيف للحال وللمآل اتجنبنا الكثير من محننا وآلامنا .
لبس مثل القرآن بلسما للجراح ولكننا عمي بما ران على قلوبنا من هوى دنيانا الفانية .
شكرا جزيلا لك أيتها القديرة على المرور والتوقيع .

[حسن الحاجبي]

الكريمة الفاضلة : ميساء البشيتي
تالله ما بعد الموت من مصيبة , ولكننا موتى ونحن أحياء
كلماتك الرائعة سيدتي عنوان صفاء قلبك
دمت ودامت لك المسرات

[فتيحة الدرابي]

أخي الفاضل حسن الحاجبي، علينا أن نضع الموت نصب أعيننا وأن لا نغفل عنها ، هكذا خلقت الحياة، خاتمتها الفناء، فهي شرب مكدر، وهي مزاج ملون لا تستقر على شيء، هي نعمة ونقمة ، شدة ورخاء، غنى وفقر.
نطوف ما نطوف ثم يأوي ذوو الأموال منا والعديم
إلى حفر أسافلهن جوف وأعلاهن صفاح مقيــــم
هذه هي النهاية :
( ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين)
علينا أخي أن نأخد العبرة مما يحدث في الدنيا وبما تراه اعيننا ، وأن نأخذ الصالح منها ونترك الطالح.
عشت ولا أبالي بالرزايا لأني ما نتفعت بأن أبالي.
شكرا لك أخي على طرح هذا الموضوع القيم ، أتمنى لي ولك ولجميع المسلمين حسن الخاتمة يارب تحياتي.