المؤامرة على فلسطين
بدأت قبل هرتزل بنصف قرن
بقلم: الدكتور محمد حسن الزيات
(2)
للتنبيه: المقالة مرقونة حرفيا
بداية المؤامرة
و قبل أن يتم للدول ذلك كله، كانت تفكر متفرقة و مجتمعة في مستقبل المشرق بعد أن يخليه محمد علي. و مذكرات الدول و دراساتها محفوظة، و لكن هذا ليس وقت و لا مكان عرضها أو دراستها و لكني حريص مع ذلك، على أن أشير إلى مذكرة منها، هي المذكرة التي وجهتها الحكومة الروسية في أكتوبر 1840 إلى حكومة بروسيا و أن ألخص ما جاء فيها.
جاء في المذكرة أنه تتردد أخيرا في أوروبا – و خاصة في فرنسا– آراء مختلفة و غالبا متضاربة حول الإجراءات التي يجب على الدول العظمى المتدخلة في أمور "المشرق" أن تتخذها في الوقت الحاضر لكي تحقق الهدف الذي حاول الصليبيون في حروبهم الطويلة و الدامية تحقيقه فلم يفلحوا.. و قد عرض مشروع بإقامة دولة مسيحية في فلسطين، و إن كان هذا المشروع لم يناقش مناقشة جدية، ... و عرضت فكرة إحياء منظمة فرسان القبر المقدس ليعهد إليها بحماية المقدسات ... بل ان هناك أفرادا فكروا في أن يدعوا اليهود المتفرقين في مختلف بلاد العالم للعودة إلى مدينة سليمان ...
و نحن نشير إلى هذا الجزء من المذكرة لأسباب أهمها أن الخطط العديدة المتضاربة التي أرادت الدول العظمى أن تمنع بها عودة الترابط بين بلاد المشرق العربي تحت أي ظروف جديدة بعد أن تمكنت من تحطيم الكيان العربي الذي تكوَّن تحت لواء محمد علي، فتعرض -بين ما تعرض من وسائل تحقيق ذلك- أن تحتل الدول الأوروبية سوريا احتلالا مباشرا مستمرا، كما تعرض من الحلول البديلة أن يدعى اليهود " للعودة " إلى فلسطين.. على أن الدول لم تتمكن من الإتفاق على أي حل من هذه الحلول فاتفقت على إعادة سوريا إلى الباب العالي.
و قد تأمل أحد البريطانيين المقيمين في المنطقة و هو "الضابط البريطاني المقيم في دمشق" (1) ما حدث، فكان من دواعي اغتباطه وسروره أن يفصل بين سوريا و فيها فلسطين و بين مصر، ولكن كان من دواعي أسفه رأسا، أن أوروبا عجزت عن فرض سلطانها المباشر أو غير المباشر على البلاد، و أنها أعادتها إلى حكم السلطان، و قد عبر هذا الضابط عن شعوره و عن اقتراحاته في رسائل كتبها من دمشق و بيروت بين عامي 1841 و 1843، و ليس من المعروف لنا الآن، هل عرض هذا الضابط المقيم أفكاره التي وردت في هذه الرسائل على حكومته أو على لأي جهاز من أجهزتها، و تلقى توجيهات بشأنها أم لا. و إن كنا طبعا نميل إلى الاعتقاد بأنه لم يعمل إلا بتوجيهات من حكومته، و قد حفظت رسائل هذا الضابط في سجلات مجلس إدارة نواب اليهود البريطانيين(2) و هي رسائل لا أعتقد أنه قد سبق نشرها في العالم العربي، و هي على التحقيق لم تلق حظها من الدراسة و التفكير حتى الآن.
كان اسم الضابط هو الكولونيل تشارلس هـ. تشرشل، و قد وجه رسائله إلى رئيس مجلس إدارة نواب اليهود البريطانيين في ذلك الوقت وهو السير موسى مونتفيوري.
و قد عبر تشرشل في رسائله عن قلقه لأن تزايد ضعف السلطنة العثمانية قد يؤدي في المستقبل إلى انتفاضة شعوب المنطقة و اتحادها، ولا شك أنه كان من الواضح لديه أن المنطقة – لو تمكنت من هذه النهضة و هذا الإتحاد- لأصبحت قوة لا بد أن يحسب لها حسابها، وكان الكولونيل تشرشل يرى أن أوروبا قد حققت هدفا سلبيا بإخراج مصر من الشام و لكنها عجزت عن تحقيق الهدف الإيجابي و هو إقامة حكم فيها لا يتصور أن يعود للإتحاد مع مصر أو غيرها من الأقاليم، و قد عادت سوريا إلى حكم العثمانيين، و الكولونيل تشرشل يوقن "بأن هذه البلاد )سوريا و فلسطين(" يجب أن تستنقد من قبضة حكامها الجهلة و المتعصبين.. إن موكب الحضارة يجب أن يتقدم وعناصر رخائها التجارية المختلفة يجب أن تنمي ... و لن يحدث هذا تحت الحكم البالي المتعسف، حكم الأتراك أو المصريين، و في كلمة واحدة أن سوريا و فلسطين لا بد أن توضع تحت الحماية الأوروبية و أن تحكم بروح و أسلوب الإدارة الأوروبية - سيتم ذلك حتما في آخر الأمر...
----------------------
1- Resident Office at Damascus.
2- Board of deputies of British Jews.
يتبع...