| أديبة ومترجمة / مدرسة رياضيات 
 | 
				
				الليل , والسوق القديم..بدر شاكر السياب
			 
 الليل , والسوق القديمخفتت به الأصوات إلا غمغمات العابرين
 وخطى الغريب وما تبثّ الريح من نغمٍ حزين
 في ذلك الليل البهيم .
 الليل , والسوق القديم , وغمغمات العابرين ;
 والنور تعصره المصابيح الحزانى في شحوب ,
 مثل الضباب على الطريق
 من كل حانوتٍ عتيق ,
 بين الوجوه الشاحبات , كأنه نغمٌ يذوب
 في ذلك السوق القديم .
 
 كم طاف قبلي من غريب ,
 في ذلك السوق الكئيب ,
 فرأى , وأغمض مقلتيه , وغاب في الليل البهيم .
 وارتجّ في حلق الدخان خيال نافذة تضاء ,
 والريح تعبث بالدخان...
 الريح تعبث , في فتور واكتئاب , بالدخان ,
 وصدى غناء..
 ناءٍ يذكّر بالليالي المقمرات وبالنخيل ;
 وأنا الغريب... أظلّ أسمعه وأحلم بالرحيل
 في ذلك السوق القديم .
 
 وتناثر الضوء الضئيل على البضائع كالغبار ;
 يرمي الظلال على الظلال ; كأنها اللحن الرتيب ,
 ويريق ألوان المغيب الباردات , على الجدار
 بين الرفوف الرازحات كأنها سحب المغيب .
 الكوب يحلم بالشراب وبالشفاه
 ويدٍ تلوّنها الظهيرة والسراج أو النجوم .
 ولربما بردتْ عليه وحشرجت فيه الحياة ,
 في ليلة ظلماء باردة الكواكب والرياح ;
 في مخدع سهر السراج به وأطفأه الصباح
 
 ورأيت , من خلل الدخان , مشاهد الغد كالظلال .
 تلك المناديل الحيارى وهي تومئ بالوداع
 أو تشرب الدمع الثقيل , وما تزال
 تطفو وترسب في خيالي - هوَّم العطر المضاع
 فيها , وخضّبها الدم الجاري !
 لون الدجى وتوَقُّد النارِ
 يجلو الأريكة ثم تخفيها الظلال الراعشات -
 وجهٌ أضاء شحوبه اللهبُ
 يخبو , ويسطع , ثم يحتجبُ
 ودمٌ يغمغم وهو يقطر ثم يقطر : مات... مات !
 
 الليل , والسوق القديم , وغمغمات العابرين ,
 وخطى الغريب .
 وأنتِ أيتها الشموع ستوقدين
 في المخدع المجهول , في الليل الذي لن تعرفيه ,
 تلقين ضوءك في ارتخاءٍ مثل أمساء الخريف
 حقلٌ تموج به السنابل تحت أضواء الغروب
 تتجمع الغربان فيه -
 تلقين ضوءك في ارتخاء مثل أوراق الخريف
 في ليلة قمراء سكرى بالأغاني , في الجنوب :
 نقر (الدرابك) من بعيد
 يتهامس السعف الثقيل , به , ويصمت من جديد !
 
 قد كان قلبي مثلكنّ , وكان يحلم باللهيب ,
 حتى أتاح له الزمان يداً ووجهاً في الظلام
 - نار الهوى ويد الحبيب -
 ما زال يحترق الحياة , وكان عاماً بعد عام
 يمضي , ووجه بعد وجه مثلما غاب الشراع
 بعد الشراع - وكان يحلم في سكون , في سكون :
 بالصدر , والفم , والعيون ;
 والحب ظلله الخلود.. فلا لقاء ولا وداع
 لكنه الحلم الطويل
 بين التمطي والتثاؤب تحت أفياء النخيل .
 
 بالأمس كان وكان - ثم خبا , وأنساه الملال
 واليأس ; حتى كيف يحلم بالضياء - فلا حنين
 يغشي دجاه , ولا اكتئاب , ولا بكاء , ولا أنين
 الصيف يحتضن الشتاء , ويذهبان.. وما يزال
 كالمنزل المهجور تعوي في جوانبه الرياح ,
 كالسلم المنهار , لا ترقاه في الليل الكئيب
 قدم , ولا قدم ستهبطه إذا التمع الصباح .
 ما زال قلبي في المغيب
 ما زال قلبي في المغيب فلا أصيل ولا مساء ,
 حتى أتت وهي الضياء !
 
 ما كان لي منها سوى أنا التقينا منذ عام
 عند المساء , وطوقتني تحت أضواء الطريق
 ثم ارتخت عني يداها وهي تهمس - والظلام
 يحبو , وتنطفئ المصابيح الحزانى والطريق -:
 ((أتسير وحدك في الظلام ؟
 أتسير , والأشباح تعترض السيبل , بلا رفيق ؟))
 فأجبتها والذئب يعوي من بعيد , من بعيد
 ((أنا سوف أمضي باحثاً عنها ; سألقاها هناك
 عند السراب وسوف أبني مخدعين لنا هناك .))
 قالت - ورجّع ما تبوح به الصدى ((أنا من تريد !))
 
 ((أنا من تريد , فأين تمضي ؟ فيم تضرب في القفار
 مثل الشريد ؟ أنا الحبيبة كنت منك على انتظار .
 أنا من تريد.. )) وقبلتني ثم قالت - والدموع
 في مقلتيها - ((غير أنك لن ترى حلم الشباب :
 بيتاً على التل البعيد يكاد يخفيه الضباب
 لولا الأغاني , وهي تعلو نصف وسنى , والشموع
 تلقى الضياء من النوافذ في ارتخاء ; في ارتخاء !
 أنا من تريد وسوف تبقى لا ثواء ولا رحيل :
 حب إذا أعطى الكثير فسوف يبخل بالقليل ,
 لا يأس فيه ولا رجاء .
 
 أنا أيها النائي القريب ,
 لك أنت وحدك ; غير أني لن أكون
 لك أنت -أسمعها ; وأسمعهم ورائي يلعنون
 هذا الغرام . أكاد أسمع أيها الحلم الحبيب
 لعنات أمي وهي تبكي . أيها الرجل الغريب
 إني لغيرك.. بيد أنك سوف تبقى لن تسير !
 قدماك سُمِّرتا فما تتحركان ; ومقلتاك
 لا تبصران سوى طريقي , أيها العبد الأسير !؟
 
 
 (( - أنا سوف أمضي فاتركيني : سوف ألقاها هناك عند السراب))
 فطوقتني وهي تهمس : ((لن تسير!))
 
 (أنا من تريد ; فأين تمضي بين أحداق الذئاب
 تتلمس الدرب البعيد ؟))
 فصرختُ : سوف أسير , ما دام الحنين إلى السراب
 في قلبي الماضي ! دعيني أسلك الدرب البعيد
 حتى أراها في انتظاري : ليس أحداق الذئاب
 أقسى عليّ من الشموع
 في ليلة العرس التي تترقبين , ولا الظلام
 والريح والأشباح , أقسى منك أنتِ أو الأنام !
 أنا سوف أمضي ! فارتخت عني يداها , والظلام
 يطغى...
 ولكني وقفت وملء عينيّ الدموع !
 |