رد: هنا يا حبيبي أسجل... عرفاني
شيمتك الصمت
كان والدي قليل الكلام ، طويل الصمت ، يطول صمته ، حتى يشتد جنوني ، كنت أحنق من ذلك في نفسي ، عندما كنت أستفيض في الحديث عن أمر ما ، وأنتظر منه أن يشاركني تلك الإستفاضة ، والحوار المزدحم ، ورغم ذلك يخيب ظني ، وأستمع منه إلى القليل من الكلمات التي تجزي ، وتفيد ولا أكثر ، ولا أقل لكنها لا تشفي غليلا ، ولا تشبع نهم راغيا مثلي ، بل إن نزقي ، ونزوحي عن حكمته كانا يحملاني على الرغبة في كثرة الكلام ، والإعادة ، والزيادة ، (اللماضة) كما كان يصفها والدي ، والتي ليس منها فائدة إلا إضاعة الوقت ، واستنزاف الجهد ، والخوض فيما ليس منه فائدة .. وعندما صرت كبيرا جدا ، أراني كهلا !! أعادتني الذاكرة إلى إرثي الثمين ، والنهج القويم ، الذي دفنته عمرا لا عقل له في رأسي ، وعلمت أنه من طال صمته تجلت حكمته، وقرأت في أحد الأيام كلمات لحديث شريف تعني ذلك جيدا ، أي ما تعلمت من والدي في الصبا ، الآ وهي ( إذا وجدتم الرجل يطيل الصمت فاقتربوا منه ، فإنه يلقي بالحكمة ) وليس في ذلك هزل ، أو أنها كلمات بلا معنى ، بل هي كنوز لا يعلم قيمتها إلا من أدرك لها سبيل ، إن الصمت الطويل يدعو للتأمل ، والتأمل يدعو إلى التفكير ، والتفكير هو أول نزل لإستضافة الحكمة ، بل ولإقامتها ، وقلة الكلام تدعو لكثرة الإستماع ، وأذكر مقولة والدي الحبيب ( يا ابنتي تعودي أن تسمعي أكثر مما تتكلمي ) فتعلمت أن كثير الكلام ، كثير الخطأ ، ربما ليس في حق أحد ، بل في حق ذاته ، وفي حق العقل ، والحكمة اللذان يقتضيان ، إن شاء المريء تحليا بهما ، الإلتزام ، والتؤدة ، والهدوء في جميع الأمور ، فلا يسمح لكلماته بالخروج قبل عرضها على فلاتر العقل ، وحتى التأكد من سلامة اختيارها في المواقف المختلفة ، والمناسبة لها ، فلا ندم ، ولا استرجاع لما فات ، يجدي عند البشر .
شيمتك العدل
رأيت والدي وقد حباه الله بقوة في بدنه وعضلاته ، وبالمقابل منحه رحمة ورأفة في قلبه ومشاعره ، كان العجب يجد في رأسي مضجعا .. فتارة أراه الثائر الجبار في مواجهة الظلم !! وتارة أخرى أراه يحبو على ركبتيه وراء طفل يداعبه ، ويلاطفه ، وينحني ليقبل يديه الصغيرتين ، وربما يظل ساجدا إقتضاءا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينتهي الصغار من اللعب فوق ظهره أثناء صلاته !!أن تجمع له المتناقضات في قلب واحد لا يملك سواه ، تلك هي المزاوجة العجيبة !! أن يراه البعض عنيفا قاسيا ، والبعض الأخر يراه رحيما حانيا ، كيف تتزن الأمور بميزان العدل في نفسه هكذا ، فيبقى الخوف ، والأمان ، ويبدي القسوة ، والحنان كل ذلك في قلب إنسان وهكذا كنت أعجب ..علمني والدي أن القوة دون رحمة ..تصنع وحشا ، وليس إنسانا ، ونحن لا نعيش في الغابة .
يتبع
|