مرج الريحان
مرج الريحان
كل من مر من أمام نافورة رياض العشاق ذات الطابع الأندلسي سوف يراها جالسة مسندة ذقنها على راحتيها ، متأملة الجهة الجنوبية الشرقية حيث جبل غرغيز ، غير عابئة بحركة السيارات والحافلات المتجهة في كل حدب وصوب ، ولا بد أن يتساءل عن سر هذه المرأة التي لم تفلح أطمارها المتسخة في حجب ما حباها الله من صفاء البشرة وجمال العينين .
لا أحد يعرف أن أم هاني هي وليدة الجبال وربيبة الغدران هناك في منطقة غمارة .. حيث شبت وترعرعت في "مرج الريحان" المعروفة بغزارة المياه ويناعة الربى في كل فصول السنة . لم تعرف المدرسة ، لكن شغفها بالتحصيل كان يغريها بالتوقف كثيرا عند باب إحدى المدارس الفرعية وتصيخ السمع مستلذة في نشوة بالتقاط بعض الكلمات والحروف التي ينطق بها المعلم ذو النظارتين السميكتين .. وحين كان ينظر إليها من النافذة العريضة ، تولي الأدبار وقد توردت وجنتاها خجلا .
لم تكن تعرف عالما غير عالم بلدتها "مرج الريحان"، ولم تحلم يوما بمغادرتها .. فهناك أحبت معزاتها ودجاجاتها وحقول الذرة والقمح . ومقتت أعشاب "الكيف" . حتى إنها أعرضت عن زيارة عمها في البلدة المجاورة رغم إلحاح أمها وتوسلاتها ، لأنه تعاطى زراعته واغتنى في مدة قصيرة .. عدا ما ناله من حظوة لدى القائد الذي كانت تكرهه أيضا لنظراته الفاجرة التي تلاحقها كلما مرت من أمام مركز القيادة .
لكن القدر أبى إلا أن ينتشلها من بلدتها لتساعد أختها المتزوجة حديثا من ابن خالتها بالمدينة .. فبدأت بذلك مرحلة جديدة من حياتها وتعرفت على فتيات من الحي لما جبلت عليه من روح اجتماعية ورغبة في التعارف .. فكثرت جولاتهن في رياض العشاق ، المكان المحبب لها ولأختها القاطنة بجواره .
وكان يمكن لإقامتها بالمدينة ان تطول لولا رحيل أختها المفاجئ بعد نزيف في الرحم فعادت لتعانق الربى والحقول .. لكن دون أن ترعى المعز أو تحلب البقرة .
كانت سمعتها قد سبقتها إلى البلدة وعرف عنها ذوقها في اختيار ألوان الألبسة والأثاث وإعداد الأكلات .. فتهافتت عليها نساء الموظفين وتقرب إليها الكثيرون يلتمسون رأيها . فلم تتحرج من لقاء الرجال ومحادثتهم على مرأى الجميع ، باستثناء مدرس آثر العزلة في بيته المجاور للمدرسة .
طبعها المرح جعلها تتقبل المزاح المغلف بالغزل وتتغاضى عن بعض النكت الخليعة .. وتعرض بكل لباقة عن كل دعوة خفية لسهرات الأنس التي كانت تقام في الليالي المقمرة قرب المنبع .
أمها دائمة الصمت والتأمل .. تثير فضولها مسحة الحزن تلك التي لا تفارق عينيها .. تسألها مرارا عن أبيها وعن وفاته في عز الشباب .. فلا يند عن العجوز سوى ابتسامة باهتة .. فتتركها وتخرج لتنغمس في حياتها الجديدة فتجالس أهالي البلدة وتشاكسهم فتثير إعجاب البعض وحفيظة البعض الأخر الذي يرى في تصرفاتها نزقا وطيشا .. بينما كانت هناك عيون تتربص بها متحينة الفرصة لمراودتها وإغرائها للإيقاع بها دون جدوى ..
ثقتتها بنفسها كانت كبيرة وهي ترى حظوتها عند الجميع .. لم تعد تتحفظ في حضور بعض السهرات حين تتأكد من تواجد بعض النسوة مما كان يبعد الحرج من مصاحبة الموظفين في سمرهم قبل أن تعود باكرا إلى بيتها .
وترحل الأم .. فتحس بوحدة قاتلة لم يجد نفعا معها مواساة الأهالي ووقوفهم إلى جانبها .. وكأنها فقدت سندا لم تكن تشعر بأهميته إلا حين بدأت المراودات تتخذ طابعا مكشوفا سواء من القائد أو من أتباعه .. ولم يعد بمقدورها التهرب من ملاحقتهم التي ازدادت شراسة وحدة .. لكنها كانت تداري ذلك بما أوتيت من ذكاء فتدفعهم عنها ولو إلى حين وهي تعرف أنهم لن يتراجعوا قبل أن تستسلم .. وحافظت على لقاءاتها بهم ومسامرتهم ..
في أحدى الليالي وهي عائدة من حفل أقامها القائد بمناسبة عقيقة ابنه الجديد .. عرجت على المنبع واعتلت الصخرة المطلة عليه لتلقي نظرة على الوادي في أسفل مرج الريحان وكأنها تريد اختراق العتمة بنظراتها بحثا عن شيء ما .. حملقت جيدا فبدا لها البيت الصغير قرب المدرسة .. وتخيلت المدرس منهمكا في إعداد الدروس أو تصحيح الواجبات .. تنهدت ثم انصرفت إلى البيت .. هناك أخذتها نوبة من البكاء وهي ترى سرير أمها الراحلة وقد تغشاه حزن دفين . أحست بالتعب وبالملل يتسرب إليها وينغص عليها حياتها .
لم تدر أية رغبة جامحة دفعتها في الصباح للنزول إلى حيث المدرسة وتمر بالقرب من النافذة كما كانت تفعل في صباها ثم تجلس بالقرب منها منتظرة انتهاء الدروس . وحين التقت عيناها بعيني المدرس لم تول الأدبار بل نهضت تنفض عنها الغبار وتحييه في حياء . رد التحية بلطف ثم استدار ليدخل إلى البيت المجاور للمدرسة :
- أستاذ .. من فضلك ..
عاد ليستدير ويحدق فيها متسائلة عيناه الخضراوان .. لم تكن تدري ما سوف تقوله .. وجدت نفسها مندفعة للتحدث إليه .. تلعثمت قبل أن تقول :
- هل يمكن لمن هي في سني أن تدرس ؟
ابتسم فمادت الأرض بقدميها وأجاب :
- التعلم ليس له سن محدد ..
- يعني يمكنني الحضور ؟
- طبعا .. يلزمك التسجيل لكن لا شيء يمنعك .
- شكرا .. شكرا .
وانطلقت تعدو عبر الحقول .. تصعد التلال وتنحدر من جديد إلى الوادي الغارق في صمته الذي لا يخترقه سوى هدير النهر .. تغني وتضحك وتبكي . تبدو لها الحياة وقد اكتست حلة قشيبة وتضوع الجو بعبير الورود ..
وكان لا بد أن يثير غيابها المتكرر انتباه عشاقها .. فتناولتها الألسن بالسخرية قبل أن تلمح إلى أشياء أخرى رغبة في عدم النيل من المدرس .. لكن ذلك لم يدم طويلا .. وكأن صبر العشاق قد نفد فصارت عرضة للتحرش العلني والمعاكسات في ذهابها وإيابها دون ان يصدر منها رد فعل بل صارت وكأنها تعيش في عالم آخر غير هذا الذي ألفته .. سهوم عينيها وإعراضها عن كل النداءات أثار الشكوك حول صحة عقلها وبدأت الإشاعات تتحدث عن احتمال إصابتها بالصرع كما حدث خالتها .
التقتها إحدى رفيقاتها يوما منفردة وحيتها بابتسامة . ردت التحية وتابعت طريقها . قالت لها الأخرى وهي تلاحقها :
- أهكذا هانت عليك العشرة أختي ؟ ماذا فلعنا لك لتهجرينا ؟ بل ماذا فعلت لك أنا وأنت تعلمين محبتاي لك ؟
تباطأت في مشيها ثم التفتت إليها وقد أحست بوخز كلامها .. استمعت إليها ثم بادلتها كلمات سرعان ما صار حديثا ذا شجون . أدركت صدقها حين همست لها :
- يحق لك أختي أن تتجنبي أولئك الرهط من الوحوش والأفاعي .. سأخبرك بشيء ربما لم يتسن لأمك المرحومة أن تحكيه لك ..
التفتت إليها متسائلة في دهشة :
- ماذا تعنين ؟.
- وفاة والدك ؟ ألم تستغربي لموته وهو شاب ؟ .. لم يعرف عنه انه مرض يوما ما ومع ذلك ....
- وهل هناك من يعرف السبب ؟
- أجل .. لكن الظروف غير مواتية الآن .. تعالي عندي مساء ونتحدث .
- إن شاء الله .. شكرا لك .
زيارتها لتلك المرأة حملت لها مفاجأة لم تخطر لها ببال .. وتمنت لو لم تعلم بالسر .. أخبرتها أن القائد كلف أباها يوما بمهمة في أحد المداشر ثم تسلل تحت جنح الظلام إلى البيت ليراود أمها عن نفسه .. وحين صدته اغتصبها وتركها فاقدة للوعي قبل أن تكتشف جارتها ذلك حين أتت لتطلب منها بعض الملح . ليعم الخبر كالنار في الهشيم ويعود الزوج فيلاحظ نظرات الشماتة والسخرية .. ولم تخل مرج الريحان من متطوعين نقلوا إليه الخبر .. فكان أن قضى عدة أيام منزويا قبل أن يتلقى دعوة من القائد للحضور إلى المركز .
لأول مرة لم يلب الدعوة .. حمل ابنته الرضيعة وضمها إليه ثم طلب من زوجته حمل ما خف وزنه وغلا ثمنه لتنطلق الأسرة عبر الغابات وتستقر بالقرب من الساحل عند إحدى قريباته .
تغيرت حال الأب وصار يقضي النهار ساهما يذرع الحقول كمخبول ثم يعود عند مغرب الشمس لينام دون أن يسد رمقه بشيء . لينتهي به الأمر بعد شهر ميتا ذات صباح عند جسر يسميه الأهالي "قنطرة ربي" .. فتعود الأم بابنتها لتستقر من جديد في مرج الريحان .. حيث أملاك زوجها وأبيها .
زمت أم هاني بشفتيها ونظرت نحو بيت القائد وعيناها النجلاوان تقدحان شررا . أخبرتها رفيقتها أن القائد يرغب في مقابلتها ..
- ربما لأنه لا يزال يشعر بالذنب في حق والديك .. أو أنه قد يكون يغار من ذاك الساكن هناك ..
قالتها المرأة بطريقة توحي أن هناك إشاعة أخرى حول علاقتها بالمدرس .. تمتمت بكلمات مبهمة ثم غادرت بيت رفيقتها واتجهت نحو المدرسة .. رغبة جامحة تدفعها للبوح بشيء ما للمدرس .. ربما انتقاما من القائد .. من نسوة مرج الريحان .. من الجميع .
- أستاذ .. أريد أن أتفوق على كل هؤلاء الجاهلات .. أريد أن تعلمني كل شيء .. مستعدة لكي أجتهد ليلا ونهارا ..
يبتسم الشاب الأنيق ويربت على كتفيها مهدئا :
- لو كان كل الناس بمثل رغبتك ولهفتك لما تفشت الأمية بينهم .. اطمئني .. سوف تتعلمين وتفوقين ..
تنظر إليه بشغف فيتأملها ثم يشيح بوجهه وينصرف إلى دفاتره . هل تراه بدأ يشعر نحوها بشيء ما ؟ أو على الأقل يحس بمشاعرها الوليدة تجاهه ؟ آه لو يسعفها القدر وتصحبه أمام الأعين لتتشفى من الجميع .. لكن المدرس صامت لا يبدر عنه ما يعتلج في صدره .
خيالها الواسع ورغبتها في الانتقام لا حد لهما .. تجد نفسها مندفعة لا تلوي على شيء .. ترد على المزاح بمزاح أقرب للشتيمة وتقابل المشاكسات بكلام أشبه بالسب . تستهزئ وتسخر من كل حديث .. ترفض كل طلب مساعدة أو دعوة لحضور حفل أيا كان مصدره .. حتى القائد حين أرسل في طلبها لتسعف زوجته المريضة لم يحظ باستجابتها .
وحدها رفيقتها التي أطلعتها على السر حافظت على مودتها ولم تتعرض لها بإساءة .. هل تكون هي الأخرى عانت من تصرفات القائد ؟ .. تشعر نحوها بالعطف وتعاملها بلطف .. بل وتجيب أحيانا دعوتها لتناول الشاي على عتبة الباب ..
كان المساء دافئا من مساءا ت يوليوز القائظ .. وكان الدجاج عائدا إلى الخم في وداعة وطمأنينة .. لم تعبأ بمرور ثلة من العساكر وحاشية القائد وهم ينظرون إليها شزرا .. كان يقتفي أثرهم مجذوب لا يعرف له مقر أو سكنى .. يقضي النهار سائحا متشردا يقتات من أي شيء يصادفه قبل أن ينعم عليه أحد بوجبة كاملة ويختفي من جديد .
رفيقتها تطيل النظر إلى المارين نحو مركز القيادة .. لكن أم هاني تواصل إعراضها وهي ترتشف فنجان الشاي .. تشعر ببعض الدوار فتعزو ذلك لحرارة الشمس وتنهض لتغادر المكان فتميد الأرض بها ولا تحس بشيء بعد ذلك .
تتراءى لها أشباح وتتناهى اليها أصوات غريبة تشبه النعيق قبل أن تفتح عينيها لتجد نفسها محاطة بالعساكر يتقدمهم القائد ومن ورائهم اشرأبت أعناق الأهالي ..
"أين أنا ؟".. تساءلت في وهن قبل أن تنتبه إلى جسد المجذوب عاريا بالقرب منها .. التفتت من حولها مذعورة لتجد نفسها في ما يشبه كوخا . وانتبهت الى أنها أيضا عارية .
الذين يروون حكاية أم هاني ، لا زالوا يحتفظون في خيالهم بلحظة اقتيادها هي والمجذوب إلى مركز القيادة وحضور الدرك للتحقيق معهما ثم انهيارها وصراخها الهستيري الذي لازمها حتى وضعها في مستشفى الأمراض العقلية حيث قضت شهورا قبل أن يسمح لها بالخروج .. لتقضي النهار في رياض العشاق ساهمة .. وتعود مساء إلى منزل أحد أقربائها بحي الباربورين وفي يدها دفتر وقلم .
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|