[frame="1 98"][align=justify]
..في البداية..في المشهد الأول..تنطلق الرحلة في دعة وعذوبة..إنسان الكوكب الأزرق ، يودّع مجرّته ..ينظر إلى السماء ، نظرة مودّع !فيرى أضواء تذوب..ومعه ننتقل من حالة إلى أخرى..من حزن ..إلى فرح!! فيصبح القلب هو البطل .. وينتقل الكاتب ، (ساكن المجرّة الزرقاء) ، من ضمير المتكلّم إلى الراوي! ليترك العنان إلى قلبه..لينقله من قلب مارد فارغ إلى عصفور حالم! وقد مارس الكاتب في رسم هذا المشهد سطوته اللغوية وجبروته البياني!وكأني به يعيد رسم صورة شعرية بالغة السحر إلى سياقات نثرية أكثر سحرا! ويطير القلب..بعيدا..ومع كلّ خطوة ، مجرّة جديدة! إنه يسافر بسرعة الضوء..إنه يعرج ! وبعد مسيرة ألف عام أو يزيد ، يلمح مجرّة عجيبة ، يكسوها جليد بنفسجي ، وذات بوابة قوس قزحية عليها حارس دمعيّ!
ويستمر الكاتب متّكئا على ضمير الغائب..لقد نزع أناه ! فمن (نظرتُ) إلى (ابتسم) مرورا ب (يلمحُ) و (راح يدور) إلى (قرأ)..ليتكلّم القلب..القلب الآن يتكلّم..وعاد ضمير المتكلّم..ضمير القلب المتكلّم..(وأنا طيّبٌ يا سيدي..! سأفعل..أنظر..)
وتستمرّ الرحلة ، وتستمرّ معها الدهشة ! إنه عالم سحري ..غير مألوف ! إذ ليس للخيال حدود..ويستمرّ الحوار..ويستمر السقوط..وندنو شيئا فشيئا من النهاية..أهي العودة إلى (المجرّة الزرقاء)؟ لا..لا نظنّ ذلك ! أم هي سقوط في جهنم ؟ لا..لا نظنّ ذلك! لتأتي الخاتمة ، ويعود إلينا الفعل(نظر) مرّة أخرى ومعه الحزن والحيرة ..كما استهلّ الكاتب رحلته بقوله:
(في بداية الرحلة، نظرتُ إلى السماء فوجدتُ آخرَ أضواء النهار تذوبُ بشهيةٍ في جبهة أُفقٍ حزين، وكان قلبي مارداً ينتعل خُفَّيّ حُنَيْن!!!) ..
يختمها بقوله:
(نظرَ إليَّ نظرة ملؤُها العتاب، ثم قال لي:
- أحقا لم تعرف بعد؟!!!)
والملفت في هذه القصّة ، هو أنّ النّاص أحسن توظيف الحواس ..بجميع جزئياتها وتفاصيلها وما يصاحبها من أحاسيس !! فلنتأمّل كل ذلك في هذه المقتطفات التي رصدتها ، ولا أدري كيف شغلتني ، فرحتُ أتتبّعها بإعجاب شديد :
يَلْمَحُ مَجرةً مغطَّاةً بجليد بنفسـجي يفتنُ العين ويَخْلِبُ العقل.....
وعلى البوابة حارسٌ له هيئة الدمعة...
إذا أردتَ الدخول، فاخلع أَنَاكَ عن كَتِفَيْ روحك!
وعلى شفتيه تَرِفُّ ابتسامةُ طفلٍ وليد:
مَزَّقْتُ أنايَ بأظافري وأسناني، ثم نزعتُ مِزَقَهَا عن ذاتي،
مَدَدْتُ إليه يدي مصافحاً،وما إن تَمَاسَّتْ كَفَّانا حتى فُوجئتُ به يذوبُ ويتلاشـى،
إلى عدد لا يُحصى من البسماتالمضيئة، تَفْتَرُّ عنها شفاهُ نجوم طفلة!!!
عبرتُ البوابة، مُتَهَيِّباً، أُقَدِّمُ رِجْلاً، وأُؤَخِّرُ أخرى،
بصوت دَوَّى في أذنيَّ كالرعد،
فانحلَتْ مفاصلي في ثانية واحدة
ومضت لحظات هائلة قبل أن أتمالك نفسي،
رفعتُ رأسي، والخوفُ ما زال ممسكاً بكلِّ كياني،
وفيما أنا غائبٌ في متعة النظر إلى تلك الأجساد .
ثم تُطَوِّقُ عنقي بقسوة،
في هُوَّةٍ فاغرةِ الفمّ لا قرارَ لها،
فراحَتْ تَنْضَغِطُ تحت قدميَّ الحافيتين بلطفٍ مثير..
شيخاً هرماً أبيضَ الشعر واللحية،
شعرتُ بالجوع يَقْرِصُ معدتي التي تذكَّرتُ أنَّها خاوية،
فتحتُ فمي، فأدخلَ فيها أُصْبُعَي يمينِه،
أَخَذَتَا تنتشران في فمي وحلقي.
وأدخلتُ رأسي بين رُكْبَتَيّ،
يا إلهي، ما هذا؟! نفسُ الوجه والملامح..
فهل بعد هذا ترك الصواف جزءا ؟! وحين يوظّف الكاتب الحواس والأعضاء ، وكل ما يتّصل بالذّات والجسد ، إنّما يحيلنا على المحسوس ووظيفته لنتقبّل جوّ عالمه الخيالي الموغل في الخيال ..وأن تجعل للقلب (ركبة أو عنقا أو حلقا أو..أو..) أمر غير مقبول وغير معقول حتى على مستوى التخيّل ! وإن نزع البطل أناه ، لا يمكن أن نفصله عن قلبه ، ولا يمكن فصل القلب عن الكاتب..وهنا تكمن قوّة الكاتب السردية في الوصل والفصل ، في ذكاء النقل من وإلى..في أنسنة الجمادات واستنطاقها ..وكلّ هذا خدمة لفكرته المحورية وغايته الجوهرية من القصة..فمرارة وقسوة الواقع الذي يعيشه العربي ، وعلى جميع المستويات ، كابوس بأتمّ معنى الكلمة..وعادة ما نرى مثل هذه الكوابيس في منامنا جرّاء إرهاصاتنا اليومية..وجرّاء ما نراه وما نسمعه وما نقرأه من أحداث متضاربة متناقضة متداخلة وغير مستقرّة مسرحها العالم العربي..كذلك جاءت هذه الرحلة معبّرة أيّما تعبير عن كلّ ذلك..
فشكرا لدكتورنا الفاضل على قصة مفتوحة على كلّ التّأويلات ..هي فعلا حلم يمكن تفسيره أو تأويله على عدّة أوجه..وهذا وجه من تلك الأوجه ، وقراءة متواضعة جدّا في قصة ممتعة ماتعة لكاتب اعتدتُ أن أقرأه حرّا وعلى طريقتي.
[/align][/frame]
[align=justify]
رابط القصة: http://nooreladab.com/vb/showthread.php?t=30756[/align]