|
حين يتنفس الحاضر على خشبة تسكنها الذاكرة د. نوال بكيز
1
حين يتنفس الحاضر على خشبة تسكنها الذاكرة
قراءة في مسرحية بشار الخيرللدكتور "محمد الكغاط " نموذجا
ملخص المقال:
يتناول هذا المقال احدى المسرحيات التي نجحت في توظيف التراث الشعبي بأسلوب معاصر ، حيث استطاع المؤلف الدكتور "محمد الكغاط " رحمه الله أن يعيد إحياء الحكايات الشعبية و الموروث الشفهي و الأغاني الفلكلورية ضمن رؤية فنية حديثة تتماشى مع متطلبات جمهور اليوم. حيث تظهر المسرحية تفاعل الماضي مع الحاضر من خلال استخدام رموز و مرويات شعبية مألوفة و لكن ضمن قالب درامي جديد، يوظف تقنيات الإضاءة و الموسيقى والإخراج المعاصر ، مما يجعل التراث أكثر حيوية و تواصلا مع الجيل الجديد.يستعرض هذا المقال أيضا كيف أن هذا النوع من المسرح يساهم في الحفاظ على الهوية الثقافية ، و يجعل من التراث الشعبي مادة حية قابلة للتجديد، لا مجرد ذكريات محفوظة. كما يناقش التحديات التي تواجه هذا الاتجاه، مثل ضرورة التوازن بين الوفاء للموروث و الانفتاح على الحداثة.
في النهاية ، يؤكد المقال أن المسرح الذي يوظف التراث الشعبي بشكل إبداعي لا يكتفي باعادة الماضي، بل يصنع منه جسرا نحو المستقبل.
2
مقدمة :
في زمن تتسارع فيه خطوات الحداثة ، و تكاد فيه الأصوات القديمة تختفي خلف ضجيج المعاصرة ، يطل المسرح كمساحة حية تستعيد الحكاية ، و تمنح التراث الشعبي فرصة ثانية للنبض على الخشبة . ليس من باب الحنين فقط ، بل من باب التجديد و الابداع، حين يلتقي الماضي بالحاضر في لحظة فنية واحدة .
لقد بات المسرح اليوم أكثر من مجرد عرض ، انه وسيلة لإحياء الذاكرة الجماعية، و طرح تساؤلات معاصرة من خلال استلهام رموز و حكايات الجدة و أهازيج القرى و ملامح الفلكلور، و في هذا السياق جاءت مسرحية "بشار الخير" لتقدم نموذجا فريدا في توظيف الموروث الشعبي ، لا بوصفه مادة تراثية ساكنة، بل كأداة فنية نابضة، يعاد تشكيلها بروح العصر.
المبحث الاول:
المادة التراثية التي استلهمها الدكتور "محمد الكغاط "في مسرحيته "بشار الخير"
1- التراث الشعبي: المفهوم و المصطلح
إن التراث الشعبي هو ذلك المخزون الثقافي الكامن في وعي الإنسان و في تتابع أجياله ، كما أنه يشكل بالإضافة إلى ذلك الركيزة الثقافية التي تحدد الشخصية المميزة لكل مجتمع أو شعب على مر العصور و الأجيال . و قد ظهر مصطلح التراث الشعبي في ثقافتنا المعاصرة " كمصطلح يدل على مواد التعبير الموروثة الحية، المعاشة ( ....) بل اصطلح أيضا على استخدام التراث الشعبي الحي كتأكيد لهذه الحيوية باعتبار أن عناصر هذا التراث تضرب في عمر الزمان إلى أكثر من ألفي عام ، و تمتد في أصولها الحضارية إلى ما هو أبعد من ذلك " (1) و إلى جانب هذا المصطلح - أي التراث الشعبي- نجد مصطلح "فلكلور " كمصطلح يدل على مواد الأدب الثقافي للأمة ، و على الأغاني و الموسيقى و على مختلف أشكال الإبداع الفني الشعبي بعامة (.....) كما شمل التعريف أيضا وسائل التعبير الدرامي و ما ارتبط منها بمورثات أسطورية أو معتقدات تراثية مثل حفلات الزار و غيرها أو ما ارتبط بمناسبات دينية في الأعياد و الاحتفالات الموسمية (2).هذا بالإضافة إلى ما يشتمل عليه مصطلح "الفلكلور" من وسال تعبير تشكيلية و فنون تطبيقية لها قيمتها الجمالية كما نجد مصطلح "الفن الشعبي " كمصطلح عربي يدل على نفس ما يدل عليه الفلكلور .
إن التراث الشعبي أولا و أخيرا هو تعبير عن الشخصية الجماعية أكثر منه تعبيرا عن الشخصية
3
الفردية .لأن الإنسان يستجيب بطبيعته دائما للعادات و التقاليد التي تصبح كقانون يقيد سلوكه ضمن جماعة معينة ترسبت في نفسها هذه العادات. و الواقع أن " التراث الشعبي عموما هو القوام الثقافي الموصول في الشعب ، أي أنه يتألف من العناصر الثقافية التي يبتكرها الشعب أو يتأثر بها من جماعة لأخرى ، و هذه العناصر متطورة أبدا تكمن و تتغير و تثبت و تفيد بالابتكار"(3) .فمن التراث ما كان شائعا في عصر من العصور ثم كان عرضة للاندثار ر أو التغيير .إلا أن هذا التغيير لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يلغي السمات الأساسية و الجوهرية التي تؤسس كل شكل من الأشكال التراثية و لنأخذ " الجلابية المغربية " كمثال فقد تعرضت لعدة تغيرات و ابتكارات تواكب ( موضة العصر ) ، إلا أنها تبقي زيا شعبيا. فما الذي يكفل لها هذا التميز؟
إنها تلك السمات الأساسية و الجوهرية التي لا يمكن أن يلغيها أي تغير أو ابتكار ، .انه ذلك السنن الثقافي الذي يوجد مسبقا في الأذهان و الذي يجعلك ترى صورة هي عبارة عن خطوط مجردة فتقول إن الأمر يتعلق بإنسان أو حيون أو نبات . "فالتراث الشعبي يظل دائما له سحره ، و هو يصعد على الدوام من الطبقة حاملة التراث إلى الطبقة الأخرى ليتخذ شكلا حضاريا جديدا ، ثم يعود هذا القديم الجديد مرة أخرى إلى الطبقة حاملة التراث لتكيفه وفقا لمتطلبات حياتها "(4) و تبعا لذلك فإننا نجد العديد من مواد التعبير الشعبي التي تصعد من القاع – عل حد تعبير نبيلة ابراهيم – لتستغل سياحيا أو فنيا .إن التراث الشعبي و نظرا لتعقده بحكم استمراريته في تبادل التأثير و التأثر و اشتماله على انتاجات كثيرة و مختلفة من آداب و فنون و رقص و تقاليد و حكايات و أساطير . و استيعابه لكل ما أنتجته اليد الشعبية من صناعات و حرف كالطب الشعبي مثلا بالإضافة إلى ما أنتجته البيئة المثقفة على السواء فانه بالتالي يستعصي علينا الخروج بتعريف يحيط بكل جوانب هذا التراث . و مع ذلك يمكن أن نستعين بالتعريف الذي يقدمه د / فائق مصطفى ، لأنه يبدو اقرب إلى هذا الشمول الذي يميز تراثنا الشعبي. يقول "هو الأدب الشعبي مضافا إليه الفنون الشعبية التي ترتبط بالأدب و غيره "(5) و فكرة الاهتمام بالتراث الشعبي لم تعد مقصورة على الباحثين في المادة . فبالإضافة إلى الجهود الأكاديمية و الدراسات التي نفضت الغبار عن هذا التراث و أعادت النظر فيه هناك جيل واع من الفنانين على امتداد العالم العربي جعلوا من التراث الشعبي أداة فعالة يمكن توظيفها في أشكال أدبية كثيرة خصوصا فيما يتعلق بالشعر و في مجال التأليف المسرحي أو القصصي أو الروائي و كذلك في فن الرسم و النحت . و" هذه الجهود الجادة الواعية كان لها أكبر الأثر في تحويل مسار الثقافة العربية المعاصرة .(....) فقد فجرت هذه الجهود القومية منابع جديدة للتعبير الفني و الفكري ، و أعادت للإنسان العربي ثقته بنفسه ، بل فتحت أمام الفنان العربي باحات جديدة يطل منها و يخرج من خلالها إلى الإنسان في كل مكان في العالم ، يقدم للإنسانية بل و للحضارة المعاصرة رؤية جديدة و أصيلة تكشف عن قدرات الإنسان في صنع الحياة داخل مجتمعه و خارجه " (6) . و قد كان "محمد الكغاط "من بين الكتاب الذين اهتموا بالتراث الشعبي و توظيفه في مجال التأليف المسرحي بالمغرب و ذلك يبدو جليا من خلال مسرحيته " بشار الخير " . لقد جعل محمد الكغاط
4
من التراث الشعبي مادة لعمله أولا من أجل تحقيق التواصل يقول :" كان على الإنسان أن يقطع فترة طويلة من حياته ليصل إلى مرحلة التواصل بالكلام . و منذ أن وعى أن هذا التواصل ممكن و هو يتكلم و يبحث في نفس الوقت عن طرق جديدة للكلام و في كل يوم يطلع علينا بالجديد في أشكال التواصل بواسطة الكلام معتمدا على القديم كقاعدة للانطلاق .. و لكنه لم يقل ، و لن يستطيع أن يقول بأنه وصل إلى الصيغة التي تصلح لكل الناس في كل العصور "(7) و ثانيا بحثا عن هوية المسرح المغربي التي غدت باهتة في ظل الاستلاب الاستعماري . فكانت " بشار الخير " ابتكارا جاء نتيجة لعدة احتجاجات بما فيها حاجتنا إلى مسرح مغربي " (8) . إن مسرحية " بشار الخير" نالت حظها من التجديد في إطار الرؤية المعاصرة للتراث و هذا ما سأحاول أن الامسه خطوة خطوة بتحليل هذه المسرحية .
2- المادة التراثية التي استلهمها الدكتور "محمد الكغاط في مسرحيته " بشار الخير"
ان أول سؤال تباذر إلى ذهني و أنا اقرأ مسرحية بشار الخير لكاتبها الدكتور محمد الكغاط هو حول ما اذا كان الامر يتعلق في هذه المسرحية، بالحلايقي أو المداح أو السمايري، أو بهما معا؟
لقد أتيحت لي فرصة رؤية نموذج لكل من الحلايقي و المداح و استطعت الحديث معهما إن صدفة أو عمدا .إلا انه و للأسف لم تتح لي فرصة مشاهدة السمايري و لذلك فسأكتفي بما رواه لي بعض الأصدقاء و الأقارب .
الأول : الحلايقي و قد التقيت به عند زيارتي لمدينة فاس ( بباب بجلود )، و كان قد أرشدني إليه بعض أقاربي و ذلك في شهر نوفمبر 1993 ، و تجدر الإشارة إلى انه اعتزل هذه الحرفة منذ مدة ليست بقصيرة . و بعد أن استعرضت عليه - بلغة دارجة - الأسئلة التي كنت أريده أن يجيبني عنها اختار أن يروي لي قصته مع الحلقة مؤكدا على أن في ذلك إجابة على جميع تساؤلاتي و قد حاولت أن أصوغ ما رواه لي باللغة الفصحى كالتالي :
هو "زروال بن عبد القادر" المولود سنة 1942 على أقرب تحديد، لأنه غير متحقق من عمره .كان يقطن بادية في نواحي فاس أيام الاستعمار، اضطر إلى مغادرتها إلى مدينة فاس و هو ابن العشر سنين فعمل "متعلم خراز" مدة خمس سنوات إلا أن الأجرة لم تكن كافية ثم مارس حرفة تلميع الأواني الفضية ( السواني ) . و قد كان إنسانا يتميز بروح النكتة و كان له قدرة على تسلية الناس و إضحاكهم. فكان ( العمال و الصنايعية ) دائما متجمهرين حوله . فاقترح عليه احدهم ذات يوم أن يمارس ( فن الحلقة ) فاستهوته الفكرة خاصة و أن حرفته ( تلميع الصواني) لم تكن تدر عليه ما يكفي لإعالته و اسرته الصغيرة. إذن فلا ضير من أن يجرب حظه؟ فقصد " باب المكينة " التي كان يجتمع
5
فيها ( الحلايقية ) . فاعترته الدهشة بادئ الأمر و بدأ يتساءل عن كيفية إثارة اهتمام الناس ، و بعد تردد لم يطل أخذ يصيح، فلاحظ أن الناس بدأوا يجتمعون حوله و ذلك إيمانا منه أن الناس لا يجتمعون إلا حول ما يثير فضولهم و عاود الصياح مرة أخرى ، فلما وجد نفسه وسط جمع لا بأس به بدأ يروي لهم ما صادفه من متاعب من أجل الوصول إلى فاس المدينة بطريقة تثير الضحك و الشفقة في آن واحد. و لابد من الإشارة إلى أن كل ما كان يرويه فيه بعض الحقيقة و كثير من الخيال . و لما لاحظ اهتمامهم و سمع ضحكهم ازدادت ثقته بنفسه . و في أحيان كثيرة كان يوقف سرده ليتحفهم بالعديد من النكات، ثم بعد ذلك و ليتمكن من جيوبهم ، فانه يسترسل في الحديث عن فقره و حاجته وقلة حيلته ، فتقدم واحد من الجمع و نقده خمسين فرنكا ، و كانت ذات قيمة في ذك الوقت . فدعا له و لم يشعر إلا و كل الناس تنقده .
و عندما أنهي حلقته و عاد إلى محل إقامته في ( فندق باب بجلود )، تفقد ما حصل عليه في يومه فوجد أنه يفوق ما كان يتوقعه بكثير. و هكذا كانت البداية ، و أصبحت الحلقة حرفته، و كان يوم الجمعة هو أفضل الأيام بالنسبة لمن يمارس هذه الحرفة ، و أفضل لقاءاته مع الجمهور - الذي كان أكثره من الأميين، الصناع و الحرفيين – تتم بين الرابعة و السادسة زوالا و كان مكانه المفضل هو السوق الذي كان يسمى ( سيدي جبل بن جبل ) الذي يوجد " بشراردة " و قد كان هناك إقبال كبير على هذا الفن آنذاك و خاصة حلقته ، لأنه كان ينوع حكاياته ، و قد يكررها من حين إلى آخر إذا كانت تعجبهم . و قد كان يستمد موضوعاته من صميم الواقع ، فبالرغم من أن الظروف التي كان يعيشها مع الجيران هي ظروف سيئة غير أنها كانت ايجابية بالنسبة له. فقد كانت تلك المناقشات و الشجارات التي كان يشاهدها سواء بين الزوج و زوجه او الأب و أولاده او الجار و جاره مصدرا ملهما يمده بمواضيع حلقته ، إلا أن هذا لا يعني أنه كان يتعامل معها حرفيا ، بل كان يضيف اليها من خياله بعض التحسينات و النواذر و النكات المضحكة التي تسلي الجمهور. و عندما سألته عن سبب انعزاله عن الحلقة ،أجابني أنه لم يكن في نيته أبدا أن ينسلخ عنها لأنها مكنته من تكوين أسرة و لكن ( للضرورة أحكام )، فبعد أن منعتهم الحكومة من مزاولتها "بباب المكينة"، انتقل إلى باب بوجلود ليسترزق رغم مطاردة الحكومة، إلى أن مل هذا الرزق المهدد، و انقطع عنها لبيع الملابس المستعملة لينفق منها على أولاده الأربعة.
الثاني المداح : رايته بلباسه التقليدي وسط جمهوره الذي كان ينتظره في ساحة الشيخ الكامل بمدينتي مكناس في شهر دجنبر 1993 و هو لا يتوسل في هذا الفن إلا بدراجة قديمة تقله من مكان إلى مكان ، و كرسي يجلس عليه عندما يحس بالتعب ، و كيس اتضح لي فيما بعد أنه مليء بالأدوية و العقاقير الشعبية، بالإضافة إلى مكبر صغير للصوت ملصق بالآلة الموسيقية التي تسمى ( السنيترة ) .فاستهل كلامه
6
بالبسملة ، و دعا جمهوره إلى الاقتراب و بدأ يذكره بأحداث قصة كان قد روى لهم بدايتها في آخر لقاء له معهم ، و يتعلق الأمر بحكاية ولية من أولياء الله الصالحين، توجد قبتها ( بسيدي بنعيسى ) و خلال روايته لبقية أحداث الحكاية استنتجت مجموعة من الملاحظات:
1- أن أحداث قصته تتمحور حول سلسلة من الآفات الاجتماعية، كالطمع، شهادة الزور و الغرور و ما ينتج عنها من عواقب سيئة .
2- أن (مداح النبي ) هذا كما يسمي نفسه ، كان يوقف سرده في كل مرة لمجموعة من الأسباب هي كالتالي :
• ليفسر ما قد يبدو غامضا في الحكاية أو القصة .
• ليضرب مثلا من الأمثال و من ضمن ما قال " الكرش الشبعانة مادتها فالجيعانة " "عاش من عرف قدر نفسه " "ضرب الحديد ما حدو سخون ".
• لإلقاء بعض النكات التي تسلي جمهور الحلقة.
• ليسال الجمهور عن رأيه فيما يرويه له، فإذا أعجبته الحكاية يستمر و إلا فانه يغيرها .
• ليطلب من الجمهور الانتباه و الإنصات لأنه لا يحب أن يشوش على استرساله احد .
• ليدعو الناس للصلاة على النبي أو إلقاء بعض الأحاديث النبوية التي تلائم أحداث القصة.
3- أنه كان يتحدث باللغة العامية ، و كان يروي كل مقطع من الأحداث نثرا ليعيده مصحوبا بالآلة الموسيقية " السنيترة " .
4- أنه يستعطف جمهوره قبل نهاية القصة لينقده شيئا من الدراهم، حتى يستطيع إتمام قصته و يطمئن لقوت يومه ، و الجمهور وهو في غاية الشوق إلى معرفة تتمة القصة لا يتوانى عن رميه ببعض الدراهم . فيدعو له ثم يتم قصة ليبدأ أخرى و هو يعلن عن اختتام حلقته بالصلاة على النبي دون ان ينهي القصة و يعدهم بإتمامها في لقاء أخر و بذلك يكون قد مارس على الجمهور أسلوب التشويق ، حتى يطمئن إلى أن هناك جمهورا سينتظره في فرصة أخرى ليستمع إلى باقي القصة.
5- قبل أن يتفرق شمل الحلقة بقليل، يستغل المداح هذا التجمع ليمارس الطب الشعبي ، فيعرض عقاقيره و وصفاته الشعبية المصنوعة من الأعشاب الخضراء و اليابسة وقد فاجأني فعلا ما شاهدته من إقبال على هذه الأدوية .
مع الغروب استعد المداح لمغادرة المكان ، تقدمت إليه لأساله بعض الأسئلة حول ربحه اليومي و عما إذا كانت الحلقة فنا ورثه عن أجداده و كذلك عن سبب انقراض هذا الفن . فأجابني بأنه توارث فن الحلقة عن شيخه الذي كان مؤلفا للقصص التي يرويها ( المداحون و الحلايقية ) و أن الحلقة فن يعتمد على الصبر بالدرجة الأولى . أما عن ربحه اليومي فقد كان جوابه كالتالي : "كل نهار و رزقو مرة ثلاثين درهم ، مرة عشرين درهم على حساب الوقت" . ان انقراض هذا الفن راجع إلى أنه
7
لم يعد حرفة يمكن للإنسان أن يعيش منها في الوقت الحاضر و هو لذلك يمارس الطب الشعبي إلى جانب الحلقة . كما أن عيد المولد النبوي الذي كان يشكل مصدر رزق مهم بالنسبة لجميع " الحلايقية " منع منذ عامين و قد ظننت انه لم يكن هناك نص يعتمد عليه المداح في روايته إلا أنه فاجأني مرة أخرى حينما فتح كيسه و أراني كتيبا يتضمن قصة واقعية – على حد قوله – معنونة كالتالي "ديمة الخمر " لمؤلفها " محمد المكناسي " و هو الاسم الذي اشتهر به هذا المداح الذي استنطبت من طريقة حديثة انه شخص معتد بنفسه و بفنه.
الثالث : السمايري : نجد أن هذا الاسم يتردد كثيرا في مسرحيتنا و يطالعنا من بدايتها الى نهايتها . و لعلنا نتساءل عن السبب الذي جعل " محمد الكغاط " يختار السمايري دون المداح أو الحلايقي ؟
يبدو ان الأمر بسيط، فمن المعلوم ان السمايري " كان يتحايل و يقوم بما يشبه السرقة و الاغتصاب " (9) إلا أن ما يميزه عن السارق العادي هو كون هذا الأخير يسرق بطريقة مباشرة بينما نجد الأول يسرق بطريقة غير مباشرة ، ذلك انه يلجأ إلى التحايل و التمثيل على الضحية حتى يتمكن من إقناعها ، و السيطرة على عقلها و وجدانها و ذلك بالضرب على اوتارها الحساسة ، لذلك فهو يمارس نوعا من أنواع السحر و الشعودة حتى يتمكن من جيب ضحيته و الضحية و كأنها مسلوبة الإرادة تنفذ ما يطلبه منها ، و لا تكتشف أنه السمايري إلا بعد فوات الأوان تماما كما يحدث في مقامات بديع الزمان الهمداني حيث لا يتم الكشف عن شخصية " أبي الفتح الاسكندري " إلا بعد عملية النصب . فالسمايري و لكي ينصب على ضحيته و يتمكن منها يمكن أن يتحول إلى مداح أو حلايقي ، و هو يتلون بكل الألوان ، و هذا لابد و أنه يتطلب منه مهارة فائقة و قدرة كبيرة على الإقناع و هكذا يتضح لنا أن الحلايقي هو شخص يقوم بفرجة ذات مواصفات معينة تكاد تتكرر كل يوم " كان الحلايقي يرتجل نكتا لا قيمة لها و لكن الجمهور يضحك للحركة " (10) و هناك المداح الذي تقوم فرجته على ذكر الامداح النبوية و غيرها من القصص الدينية بالدرجة الأولى و هناك السمايري الذي يجمع كل هذه الصفات . و لعلها احدى الخاصيات التي جعلت "محمد الكغاط" يستلهم السمايري في مسرحيته. يقول " وقع اختياري على السمايري لأنه يتوفر على المؤهلات التي تستطيع أن تحوله إلى شخص و ممثل و فنان " (11) و هناك خاصية أخرى تحكمت في هذا الاختيار و تتمثل في أن الأمر يتعلق في مسرحيتنا بسمايري واعي ، مثقف يهدف إلى التربية و الإصلاح و هو هدف نبيل ينطلق فيه من الإنسان ليعود إليه .
" السمايري" : "الإنسان ، أي الإنسان
سيد الزمان
8
غير أن اختلاف اللون و المكان :
جعل الإنسان سيد الإنسان
(.....)
و تحرر الإنسان من الإنسان
غير أن الإنسانية إلى الآن
لم تتحرر من عقد زمان (12)
و "محمد الكغاط" حينما استلهم "السمايري" ليوظفه في مسرحيته أخذ منه طريقته الايجابية في التمثيل التي توهم بكثير من الصدق و تتوفر على قدر كبير من الإقناع . يقول :" فنحن عندما نأخذ السمايري مثلا لنبعثه في المسرح ،نأخذ إيمانه بقدرته على الإقناع ... نأخذ موقفه من جمهوره ، نأخذ جمالية الحوار الموقع التي تحدد في ذهننا فكرتنا عن السمايري (13 )
3- الحلقة :
تشكل الحلقة في الحقيقة رافدا مهما من روافد الثقافة الشعبية و هي فن لا يمكن ان نرجعه إلى تاريخ محدد لأنها مرتبطة بالتجمعات البشرية و من تم أصبحت تقليدا متبعا يلعب الزمان و المكان فيه دورا أساسيا لان وجودها ارتبط بالمدن العتيقة التي تتوفر على ساحات واسعة كفاس و مكناس و مراكش . و تعتبر ساحة جامع الفنا النمودج الأوحد الذي لا زال يؤكد على ظاهرة المسرح الشعبي الارتجالي . كما أن تغير الزمن أدى إلى التقليل من الدور الشعبي للحلقة و يرى "المسكيني الصغير" أن الحلقة قد تأثرت بالجانب العمراني نظرا لانعدام تخطيط يأخذ بعين الاعتبار الساحات التي يمارس فيها هذا الفن ، إلى جانب النظرة التحقيرية التي اصبح الناس يوجهونها لها على اعتبار أنها متجاوزة بينما هي في الحقيقة غير متجاوزة . لأنها تقدم فرجة مفتوحة بثمن رخيص لا يتعدى درهما أو درهمين . و لكي لا تفقد الحلقة هويتها يجب ان يتم تخطيط مساحات الثقافات الشعبية و إقامة دراسات ميدانية في هذا المجال '14)
في مسرحيتنا وظفت الحلقة و لكن بطريقة أخرى ، " يرفع الستار ... السمايري وسط جمهوره المتكون من سبع عرائس عملاقة ، تمثل نماذج من الأشخاص القديمة بلياس قديم (15) هناك حلقة و لكنها تختلف عن الحلقة بمفهومها الشعبي فإذا كانت هذه الأخيرة تقوم فقط على التسلية و الترفيه و خلق جو من المسرح و جمهورها ، جمهور حقيقي فان الحلقة الموظفة في مسرحيتنا جمهورها
9
عبارة عن "عرائس" "عملاقة" و لا يمكن حصرها في جانب الترفيه بل نجدها تتعداه الى ما هو ابعد من ذلك لأنها تحمل كذلك مضمونا إصلاحيا يهدف إلى التغيير أولا و أخيرا . و تجدر الإشارة الى ان الحلقة في مسرحيتنا تضمنت كل عناصر الفرجة بما في ذلك .
- الأغنية الشعبية التي يرى الدكتور عبد الحميد يونس " انها تعتمد على الكلمة بشكل ظاهر و لأنها تساير دورة الحياة الكاملة للإنسان فهي تستقبل المولود الجديد، و تعينه على البقاء، و تحفزه على إشباع غرائزه و إلى احتمال قصوره، و إلى معاونته على النوم الهادئ (...) و هي تقوم بوظيفتي التربية و التعليم في فجر الوعي ، و من خصائص الكائن الإنساني أن الحضانة فيه أطول منها في الكائنات الأخرى، و من هنا جمعت الأغنية الشعبية الحركة و الإشارة و الإيقاع (16) و بهذا تؤسس الأغنية عنصرا مهما من العناصر المتجدرة في الطبيعة الإنسانية . فقد شكلت متنفسا لأفراحه و أحزانه، و قد وظف "الكغاط" الأغنية بنفس هذه الأبعاد و ذلك من خلال اغنية " اوليد الناس" التي جاء نصها في ص 95 و 96
- " ولدي ....ولدي...
- عندي وليد يا الناس
- كان عندي يا الناس سميتو و سهرت عليه
- كان عندي يا الناس " (17)
- الامثال :" إن الامثال و كما يعرفها شوقي ضيف هي " عبارات تضرب في حوادث مشابهة للحوادث ..الأصلية التي جاءت فيها ( 18) و من هنا وجب أن نميز بين مضرب المثل حيث يتم استحضار المثل لتبرير تصرف ما أو نقده ،و بين مورد المثل و يقصد به الحادثة الأصلية التي اقترنت بالمثل و حفزت على ابتداعه و يمكن في هذا الصدد أن نجد أمثالا شعبية من المدونات و يمكن ان نصادف أخرى من ثمرات الاحتكاكات في الحياة اليومية . و قد وظفت هذه الامثال في كثير من النصوص المسرحية من بينها " بشار الخير " و التي اعتمدت على امثال عديدة توافق أحداث المسرحية .
- " الله ينجينا و ينجيكم من المدركات " " الدوام كيثقب الرخام-" – سلم للخاوي تنجي من العامر –" "- و ياتيك بالاخبار من لم يزود -"" – اذا اغلق باب فتحت ابواب -"" - كم يحدث للانسان ان يعرف متاخرا –" " – كم تصدق وعود النساء ، كم تخلف وعود الرجال –" الخير مرا و الشر مرا -" – و اللي جاي عندك لا تمشي لعندو-.
- ظاهرة "كناوة" لقد انتقلت الينا هذه الظاهرة من السودان و هي مرتبطة بالتين لا يمكن الاستغناء عنهما و لا يمكن ان تقوم الابهما . الاولى تسمى " القرقبة" و الثانية تسمى " الهزهوز" ، هاته الاخيرة التي ما هي
10
في الحقيقة الا الاصل الذي اقيمت عليه آلة "العود" و قد جعلت ظاهرة كناوة خصيصا لخدمة الجن و كثيرا ما تتردد هذه الكلمة في مسرحيتنا. فقد "تخيل البدوي الصحراء اهلة بكائنات ذات طبائع وحشية سماها الجن و العفاريت؟ و ظلت أقاصيصه تدور عنها في فلك الاساطيرو الخرافات الى ان ظهر الدين الاسلامي فأكد وجودها، و قد وردت على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم أحاديث كثيرة بهذا الشأن. أما الفكرة السائدة عنها فهي أنها مخلوقات غيبية لا ترى الا في حالة استثنائية"(19) و هي ترانا و تراقبنا و قد اتى ذكر لذلك في القرآن الكريم في سورة الأعراف (انه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم .إنا جعلنا الشياطين أولياء ، للذين لا يؤمنون ) (20) و الجن لهم قدرة كبيرة على تغيير أشكالهم، كما أن لديهم طاقة هائلة تمكنهم من القيام بالأعمال القاسية ، و الدليل على ذلك أن الله سخر لسليمان مجموعة من الجن يقومون له بالبناء و الغوص في البحار ، و بعض الأعمال الصناعية التي يعجز عن القيام بها البشر. وظاهرة كناوة تشبه حفلات "الزارالمصري" حيث يتقدم " المريوح " أو " المريوحة " ( اي الرجل أو المرأة اللذان يملكهما أو يسكنهما الجن ) لتأدية رقصة معينة كنوع من التطهير . و عادة ما تؤدي المريوحة هذه الرقصة و هي ترتدي لونا معينا يشير إلى اسم الجن أو الجنية التي تسكنها و إلى هذه الظاهرة يشير الكغاط بقوله " لكن الانسان .... عز عليه ان يزول ما كان
- فجمع العفاريت من كل مكان
- و اسكنها في بيوته .... في ذهنه ....
- و في جسده .........
- ثم سماها ، ثم لون أذواقها ....
- ثم عرف ايقاعها...(21)
- ظاهرة اللجوء إلى الأضرحة : و هي ظاهرة متفشية في المجتمع المغربي و خاصة لدى النساء حيث تتوجه الواحدة منهن إلى ضريح معين تقدم له القرابين أو الذبائح عساه ان يحقق لها مطلبها . و هذا ما جاء على لسان السمايري في هذا الخصوص .
" ظلت أمي تبحث في كل مكان
تلجأ إلى كل ضريح ..... كل فقيه كل سيد
كل إنسان (22)
- خيال الظل : " و معناه " ظل الخيال" لان المشخصين لا يقومون بالتمثيل بأنفسهم ، و إنما تقوم عنهم ظلال أشخاص و مشاهد. و قد استلهم هذا الفن نوابغ في أدبنا العربي الخاص من أمثال
11
محمد بن دانيال الذي توفي عام 1311 م ( 23) و يقول علي الراعي عن " خيال الظل " انه مسرح شعبي بالجمهور و للجمهور ، و فن متنوع يمزج الحقيقة بالخيال و الجد بالهزل ، و يعتمد على أوسع قدر من مشاركة الناس فيه، بالمال و الحضور و الاستماع (24) و قد أشار "محمد الكغاط" الى هذا اللون الشعبي : السمايري " (في عمل آخر، يقوم بالدعاية لصاحب الفرجة أمام ستار عندما يزيحه، نشاهد امرأة ترقص في "خيال الظل " ....( 25 ).
" انارة على احدى العرائس ، الطيف يتحرك نحوها .. صوت الطيف : أي بني
أي بني كتب عليك أن تلعب دورا أكبر منك .."
- الحكاية الشعبية : و "التراث الشعبي حافل في مجموعاته بشخصيات طريفة تخرج عن المألوف في العلاقات و الأحداث و الحكاية الشعبية لا تقترن دائما بالواقع كما أن الحكاية الخرافية لا تعني البعد من الواقع .هذا و قد شكلت الحكاية بشخصياتها الوهمية الواقعية مصدر الهام و جاذبية بالنسبة للمسرحيين العرب المغاربة . و من بينهم '' محمد الكغاط" الذي استلهم حكاية ابن يقضان ل " طفيل الغنوي " إلا أن توظيفه لها لم يكن حرفيا . و هي تروي حكاية طفل تربى في أحضان الغابة، و قد ربته ضبية ، و عاش معها يعاملها كأمه و كانت هي بدورها تحنو عليه أكثر من أولادها ، عاش معها إلى أن ماتت. و مؤلفنا و إن احتفظ بأحداث الحكاية الاصلية كما هي باستثناء الضبية التي استبدلها بذئبة إلا انه حملها بعدا جديدا ، و مغزى آخر. و هو ان الحيوان أصبح أكثر كرما و عطفا من الإنسان و هذا ما نستنتجه حينما يقول :
- " وضعوا امرأة في الغابة ،
وجدت ذئبا رضيعا
قتلته
قتلت أمه
(...)
رغم أنهم قالوا لها :
كانت ذئبه يوما
أرضعت طفلها (27)
- الحرف الشعبية : " و أول ما ينبغي أن نلتفت إليه أن كل عمل يدوي ليس من الضروري ان يحكم عليه بالشعبية مع التسليم بأن الصناعات اليدوية عريقة ، و أنها تساير جميع المراحل الثقافية في تاريخ الجماعات و الشعوب (26) إلا أن ما أتى على ذكره الكغاط في مسرحيته من حرف هي صناعات يدوية عريقة جدا " كالطرز على المنوال "" الدرازة" "الحدادة " "و الفلاحة ".
12
- التراث الاسلامي : و ذلك من خلال توظيفه لقصة " موت سليمان " كما جاءت في القرآن يقول تعالى في هذا الصدد " فلما قضينا عليه بالموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته . فلما تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبتوا في العذاب المهين " (29) و قد قيل " أن سليمان كان في محرابه فأدركه الموت و هو جالس متكئ على عصاه ، فجاءت الأرضة ، و اشتغلت بأكل طرف العصا فأكلت بعضه فانهار الجزء الذي أكلته فاختل توازنه فخر ، و ذلك أن حمل العصا من شارات الرياسة ، و من كان ملكا كسليمان لا يترك عصاه ما دام صحيحا معافى (...) و لما علم الجن المسخرون بالأعمال الشاقة ، موت سليمان أدركوا أنهم لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين هذه المدة الواقعة ما بين موته و علمهم به ( 30). لقد تعددت أقوال المفسرين لما جاء في النص القرآني، إلا أن هذه هي اقرب رواية لما جاء في مسرحيتنا التي احتفظت بنفس الوقائع.
هكذا، و مما سبق يتضح لنا أن " الكغاط" احتفظ بأهم السمات المميزة للمادة التراثية التي وظفها في مسرحيته، إلا فيما يتعلق بشخصية السمايري التي غير بعض سماتها التي تتنافى والسمايري الحقيقي، لان السمايري الذي وظفه الكغاط في مسرحيته يهدف الى غاية نبيلة اهمها توعية الجمهور ، بمشاكله ، و دفعه الى تغييرها . و فيما عدا السمايري . فقد احتفظ "محمد الكغاط" بأهم المقومات التي تؤسس الفرجة الكاملة، من تحاورمع الجمهور ، و دعوته إلى الصلاة على النبي، و إتحافه بالأمثال.... الخ.
المبحث الثاني:
البنية الدرامية و إدارة الفضاء عبر الحوار و الارشادات المسرحية في مسرحية "بشار الخير" : قراءة و تحليل
1- دور البنية الدرامية في خلق صور مؤثرة:
على مستوى البناء الدرامي يمكن تقسيم مسرحية "بشار الخير" إلى شقين أساسيين:
الشق الأول : قبل رفع الستار و يستهل بدخول الجمهور إلى القاعة حيث يقوم السمايري بمخاطبة الجمهور مذكرا إياه بوقته الضائع . و هذه الطريقة تشكل محاولة من المحاولات التاصيلية . فنفس الشيء نلمسه عند الحلايقي و هو يحاول أن يجذب جمهوره و يثير فيه الاهتمام .
يقول السمايري : " عندما تتهيئون ...
عندما تستعدون ...
نبدأ . (31)
و بعد ذلك يظهر السمايري و قد امسك '' فرشاة " و "بالبيت" ليرسم في الهواء مجموعة من
13
الخطوط، أوحت في المرة الأولى برجل يمسك بطفلين، و في المرة الثانية بامراة متسولة أمامها طفل يلعب، و في المرة الثالثة برجل أعمى يمسك بعصا يقوده طفل، و في المرة الرابعة يتعلق الأمر بامرأة تحمل طفلها على ظهرها، ثم بعد ذلك يظهر طفل بدوي يبحث في صندوق القمامة. و كل لوحة من هذه اللوحات يعقبها ظلام يترك الفرصة للوحات كي تظهر على الخشبة بشكل واقعي .و هي لوحات تجسد في مجموعها نماذج بشرية تشكل الطبقة المسحوقة من عامة الشعب، و هي نماذج لشخصيات يمكن أن تصادفها في أي شارع من شوارع العالم الثالث، و خصوصا اللوحة الاخيرة التي تلي هذه اللوحات، حيث يظهر صف من الاطفال في حالة انتظار ، ترى ما مصير هؤلاء الاطفال؟؟ انه مصير غامض. ثم يظهر
السمايري مرة أخرى تطارده مجموعة من الأطفال، ثم يعود لمخاطبة الجمهور بعد انصراف الأطفال ، ممهدا بذلك لرفع الستار. ثم "يخرج من جهة اليمين خائفا من المطاردة كما دخل يختفي"(32)ثم ينتهي الشق الأول من المسرحية.
الشق الثاني: بعد رفع الستار يظهر السمايري وسط جمهوره الذي هو عبارة عن سبع عرائس عملاقة "تمثل نماذج من الأشخاص القديمة بلباس قديم " (33).يروي لهم قصة الحاكم سليمان مع العفاريت .
يبدو أن كل ما جاء على لسان السمايري في هذه اللحظة يمكن ان نعتبره تمهيدا يوحي بأننا على أبواب قصة محزنة .
" تقول الأخبار يا سادة يا كرام .
الإنسان أي الإنسان
سيد الزمان .
غير أن اختلاف اللون و المكان
جعل الإنسان سيد الإنسان
فباع الإنسان الإنسان ...."
و تبدأ القصة، بعد أن يقوم السمايري بالدعاية لصاحب الفرجة و تجسد هذه القصة الوضعية المزرية التي تتخبط فيها أم و طفلها في غياب الأب ، حيث تسعى الأم لمواجهة ما قد يصادفها من مشاكل بكثير من الصبر و الصمود .و من اجل أن تربي طفلها . فهي تتحمل هذه الوضعية المتردية من اجل من ؟ و هي تفني ذاتها في عملها من اجل من ؟ طبعا من اجل صغيرها تقول : " أطرز للبنات الجميلات :
لمن زفافهن على الأبواب ....."
من أجلك صغيري
14
أغلق باب ، فتحت أبواب ...."
أمك ياصغيري عاملة ماهرة :
فقيرة تطرز للاغنياء
تنام على منوالها
ليرضى الزبناء
تصحو على منوالها
دون جزاء ......" (35 )
(.....)
واحد النهار اخرج يلعب مع صحابوا يا الناس
واحد النهار بغا يعرف
بحال الناس يا الناس
اخطفوه و اقضاوا عليه
اشكون شافوا يا الناس "(36 ) .
و كذلك من خلال صوت البراح : " ا عباد الله...
يا من شاف ؟ يا من را ؟
واحد الدري :
ولد فلان الفلاني
راه بالبشارة و بالامارة ...." (39)
و من خلال صوت المذياع :
إعلان : " هذا واحد الراجل عندو 25 عام لي شافو منكم أيها السادة يخبرو بلي مو مزالا تتقلب عليه " (40 )
إن ما جاء في هذا الإعلان الأخير يبين أن الطفل منذ اختفائه لم يعثر له على اثر ، لقد مر على اختفائه مدة طويلة ، إلا أن أمه لا زالت تعيش على أمل أن تلقاه و تتناسى انه عداها ، ليس هناك من يهمه امر اختفاء طفل ، فالأطفال كثيرون . هكذا تنتهي القصة و الأم لا زالت تبحث عن طفلها الضائع .
ثم يعود السمايري لمخاطبة الجمهور و توديعه مذكرا إياه بأنه هو الآخر يمثل ضحية أخرى من ضحايا المجتمع .فمجتمعه متخلف و الظروف السيئة التي تحاصره من فقر و جهل و مرض هي التي جعلت منه "سمايري . فهو يمارس هذه الحرفة و هو غير راض عن نفسه و هو يلعن الظروف السيئة التي جعلت منه "سمايري " فلو كان في مجتمع متقدم ظروفه أحسن لاختلف الأمر و لاستطاع ان يكون شخصا مهما على الأقل خصوصا و أن الأمر يتعلق بسمايري متعلم و مثقف كما توحي بذلك
15
لغته.يقول :
" فانا منكم .
يحاصرني الفقر: الجهل ...الأمراض .
برؤوس سبعة
يحاصرني الوحش :اقتل واحدا ينمو ...
اقتل ثانيا ينمو ...
اقتل
اقتل
(.....)
سبع رؤوس تسكن رأسي
دخلت ذهني في زمن البراءة
ان بدا شيء منها الآن :
فانا منكم .
أفرزني مجتمع حيران "(41)
2- : تفاعل االحوار و الارشادات المسرحية في تشكيل المشهد المسرحي:
1- جمالية الحوارفي صناعة الشخصية و بناء الفكرة
- الحوار : malogue
اذا كان الحوار يفترض وجود شخصين يتحادثان ، المرسل و المرسل إليه ، أو الباث و الملتقى ، فان هذا النوع من الحوار الى جانب المونولوج و المناجاة هي أشكال غائية عن مسرحيتنا حيث يتوجه السمايري مباشرة الى الجمهور . و هكذا نجد انفسنا امام بنية اخرى للحوار و هي :
- مخاطبة الجمهور :adresse publique
قد كانت هذه الاخيرة ممنوعة في البنية الدرامية التقليدية و ذلك من اجل الحفاظ و التأكيد على الإيهام المسرحي لان مخاطبة الجمهور من شانها أن تكسر هذا الإيهام لتصبح وسيلة لتوسيع المحادثة الداخلية للشخصيات في محادثة مباشرة مع الجمهور .(42 ) و في المسرح الملحمي نجد أن بنية الحوار
16
هذه متداولة و مشروعة ، و هي تتجلى من خلال الحوار المقدمة أو الحوار و الخاتمة أو حينما يطلب الممثل نصيحة الجمهور . و المخاطبة تكون دائما دعوة لحسن التصرف (...) و هي تحاول أن تثبت ممرا بين عالم الخيال المسرحي و الحالة الواقعية للمتفرجين (43)
و يبدو ان " الكغاط " اعتمد على هذا النوع من الحوار اعتمادا كليا متأثرا ب "بريخت " الذي طالما دعا إلى تكسير الجدار الرابع الفاصل بين الخشبة و الجمهور عن طريق إشراك الجمهور في العرض المسرحي يقول بيسكاتورفي هذا الصدد : " ان إزالة الحواجز بين الخشبة و المسرح ، و سحب كل فرد من أفراد الجمهور المتفرج إلى داخل الحدث الدرامي قد يصهر الحالة كلها في كتلة واحدة ، و لم تعد الجمالية بالنسبة لهذه الكتلة المنصهرة أملا منشودا بل حقيقة ملموسة " (44) و باختصار فان مخاطبة الجمهور تختزل المسافة بين الممثل و الجمهور ، وتصل عالم الخيال المسرحي بعالم الواقع اليومي .
وفي مسرحيتنا يمكن ان نسجل النمادج الآتية :
السمايري : " لقد رفع الستار
فلنبدأ الحوار
وجودكم هنا بهذا العدد
منتظرين كما انتم
منتبهين كما انتم
نوع من رفع الستار
(....) (45)
السمايري : "تقول الاخبار : يا سادة يا كرام ،
الانسان أي الانسان
سيد الزمان ،
(...) (46 )
و كذلك تتجلى مخاطبة الجمهور من خلال :
أ- الحوار المقدمة .
السمايري : "عندما تتهيئون ....
عندما تستعدون ....
عندما تريدون ....
نبدأ
الوقت عندنا - الرخا لله-
17
(..)
في مدينتي يدور الانسان حول نفسه .
في ظرف 24 ساعة
(....)
أما شحال تيدور في الهدرة
و بشمن ساعة
فانتم تعرفون ( 47 )
ب - الحوار الخاتمة :
السمايري : " يا سادة يا كرام
إلى ان يصيح فينا صوت الإنسان
عسى أن يصيح الآن
عندما تخرجون
تغادرون هذا المكان
تتساءلون
(...)
فانا منكم
يحاصرني الفقر ... الجهل ...الأمراض
(....)
فانا منكم
أفرزني مجتمع حيران (48)
أما إذا تساءلنا عن وظائف الحوار فإننا سنجدها متوفرة في مسرحيتنا على الشكل التالي:
1- الحوار يعرف بالشخصيات : هناك شخصية واحدة رئيسية و هي السمايري و هو تارة يعرف بنفسه و بالمستوى الطبقي الذي ينتمي إليه : السمايري : " في هذا المهد كنت أنام
عالم صغير تتهدده الأخطار
(....)
الأطفال المقهورون
يجبرون على النوم
احتج
الأطفال الفقراء
18
لا ياكلون
احتج
(....)
و هو تارة يعرف بأمه
صوت الام "(...)
أمك يا صغيري عاملة ماهرة
فقيرة تطرز للأغنياء
تنام على منوالها
ليرضى الزبناء
(..) (50)
2- الحوار يعبر عن الأفكار : نلاحظ في مسرحيتنا أن هناك اللوحات و من خلال مأساة الأم .إلا
أن هذه الأفكار هي في مجموعها تعدد لفكرة واحدة تعرض لمشكلة الفقر و الجهل و المرض الذي يتهدد الطبقة الكادحة من المجتمع .
3- الحوار يطور الحدث : مسرحية " بشار الخير " تقدم سلسلة من الأحداث التي جاءت مروية على لسان السمايري و يتعلق الأمر بحكاية مأساوية لام ، بدأت بموت زوجها و اضطرارها إلى المزاوجة بين عملها الذي هو " التطريز لفتيات الأغنياء " و تربيتها لابنها و انتهت بفقدانها لهذا الطفل الذي كان يشكل الشمعة الوحيدة التي تضيء حياتها .إن هذه المواقف لم تزد الأم إلا إصرارا على الدخول في صراع مستميت مع الحياة من اجل إيجاد شمعتها المفقودة و إضاءتها من جديد . و الدليل على ذلك أن المسرحية انتهت و الأم لا زالت تبحث عن طفلها .
4- الحوار و مساعدته على الإخراج : بخصوص هذه الوظيفة نجد نموذجين فقط و هما كالتالي :
السمايري : " في هذا المهد كنت أنام
عالم صغير تتهدده الأخطار (51)
صوت الطيف :" ما أجملك
منحنية على المنوال (52)
• التركيز و الاقتصاد في الحوار : بما أننا بصدد حوار مع الجمهور من بداية المسرحية إلى
19
نهايتها ، فانه لا مجال للحديث هنا عن الاقتصاد في الحوار لان السمايري يدخل في حوارات طويلة مع الجمهور و أطول حوار هو الحوار الخاتمة .. فقد استغرق صفحتين ، إلا أن الطول لم يكن ليحدث ضررا بالسير الطبيعي للمسرحية بل على العكس من ذلك كان اكثر وقعا على العقل و الوجدان .
• الاقناع المباشر و التاثير على الآخر : لقد استطاعت " بشار الخير " ان تحقق هذا العنصر ، فباستلهامها للتراث المحلي ، و بانطلاقها من آلام الجمهور وآماله تمكنت من أن تمارس سحرها عليه ، وتقنعه بما ترمي اليه من تغيير على مستوى الواقع.
• الوظيفة المزدوجة للحوار الدرامي : لابد من الإشارة إلى " أن النص المسرحي الجديد ، في الحقيقية ، أشبه بإناء مصنوع من الطين ، أما الحرارة التي تحوله إلى فخار ، و تظهر ألوانه الحقيقية و قيمته العامة، فتتمثل في جمهور المشاهدين (53) فالحوار لابد ان يتجاوز الممثلين إلى الآخر المتفرج . و نظرا لان مسرحتنا اعتمدت من ضمن ما
اعتمدت عليه " مخاطبة الجمهور ، فإننا يمكن أن نقول و باطمئنان أنها حققت التواصل .فقد سبق و أن عرضت و كان لها صدى طيب لدى الجمهور .و ذلك بالمملكة العربية السعودية تحت عنوان " البشار ".
2- : الارشادات المسرحية: لغة صامتة تبني المعنى و تقود الحركة على الخشبة
الارشادات المسرحية:les indicqtions theatrales
1- اسماء الشخصيات : les nems du personnqges
لا وجود لأسماء الشخصيات في مسرحيتنا بل يكتفي المؤلف بذكر نعوتها أو وظائفها هناك شخصية رئيسية واحدة على طول المسرحية و هي "السمايري" و هناك شخصية ثانوية تتمثل في "الأطفال" و "البراح" و تجدر الإشارة إلى أن السمايري قد تقمص شخصية الأم و الأب .
صوت الأم : " يا راري يا راري
يا كبار الدراري
كبر لي وليدي
و نشوفو فداري "(54)
صوت الطيف :"أي بني
20
كتب عليك ان تلعب دورا اكبر منك ؟ '(55)
2- الفضاء الدرامي : l’espa ce ramatique
انه فضاء غير محدد . ففي مسرحتنا من الصعب جدا العثور على مكان واضح و معين و كأن الكغاط قد تعمد ذلك بالفعل ليجعل المكان أكثر عمومية إلا انه من خلال اللوحات التي رسمها السمايري يمكن أن يبرز الشارع كمكان رئيسي ، فكل ما تتضمنه هذه اللوحات هو في الواقع مأخوذ مما يجري في الشارع ، و كل هذا يمكن ان نستشفه من خلال حوار السمايري و هو في مقدمة الخشبة قبل رفع الستار .
السمايري : هذه اللوحة خليفتها بنية
استقاها الرسام من محيطه
كانت تصادفه في كل شارع ( 56)
وبعد رفع الستار يمكن ان تستشف من خلال الإرشادات المسرحية مكانا آخر و هو ساحة من الساحات الكبرى حيث يمكن أن نصادف مختلف أنواع الفرجة كالحلقة و خيال الظل :
رفع الستار ... السمايري وسط جمهوره المتكون من سبع عرائس عملاقة تمثل نماذج من
الأشخاص بلباس قديم (57)
" يظهر وسط القاعة ....مشكلا حلقة".(58)
في عمل آخر يقوم بالدعاية لصاحب الفرجة ، أما الستار فعندما يزيحه نشاهد امراة ترقص في خيال الظل ....(59)
3- الديكور : le décor
لقد جاء الديكور في مسرحيتنا هذه على شكل لوحات كل لوحة منها لها مميزاتها و أهدافها و هذه اللوحات كان لها دور كبير في الكشف عن مغزى المسرحية .ثم هناك " السبع عرائس التي يتوسطها السمايري و التي تحيل على أننا بصدد مكان معين و هو الحلقة و هكذا يتضح لنا أن الديكور في المسرحية كان وظيفيا
4- الاضاءة : l eclairage
21
لقد استعمل " الكغاط " الإنارة لعزل الديكور من خلال :
" إنارة على إحدى العرائس ..." (60)
" إنارة على الأم " (61) اي على واحدة من العرائس
5- الإكسسوارات : les accessoire s
إن الإكسسوارات الموظفة في مسرحيتنا هي وظيفية كذلك و هي كالتالي:
- هناك " حامل لوحات الرسم و '' الفرشاة " و هي إكسسوارات تشير إلى أن هناك عملية رسم . و توجد كذلك '' باليت " و هي عبارة خريطة افريقيا .
- -هناك " الأوراق الملفوفة " التي يستعملها الأطفال لمطاردة السمايري و هي تحيل على أن هؤلاء الأطفال هم فقراء . و لأنهم لا يملكون شراء لعب حقيقته فهم يستعملون الورق .
- أيضا هناك " المهد" و هو يرمز للطفولة .
- - " منوال الطرز " و هو يشير الى حرفة تقليدية ، كما انه يرمز إلى العمل المتفاني لان هذه الحرفة تتطلب الكثير من الدقة و المهارة و الصبر .
- المجمر : و يستعمل للبخور و ذلك من اجل الوقاية من "العين "
- المفتاح الحديدي : " الذي يوضع تحت وسادة الطفل وقاية له من الجن و الأرواح الشريرة .و استعمال المجمر للبخور و المفتاح الحديدي للأطفال ظاهرة مأخوذة من صميم عادات و تقاليد البيئة
المغربية .
6- الموسيقى : la musique
في مسرحيتنا نجد النماذج الاتية : " يأخذ الأم ( ..) موسيقى " (62) و هناك استعمال لموسيقى الهجهوج في ' ص 96 . و هي كما سبق و ان ذكرنا موسيقى شعبية مرتبطة بفرق "كناوة " و قد جاءت متناسقة مع ظاهرة أخرى هي ظاهرة زيارة المقابر و الأضرحة
7- الرقص: la dance
توجد في مسرحيتنا إشارات متعلقة بالرقص كالتالي :"في عمل أخر نشاهد امرأة ترقص في خيال الظل " ( 63) .
"مجموعة من الأطفال يلعبون أمام العرائس ... يرقصون "( 64) .
22
و الرقص كما هو معلوم يأتي في اغلب الأحيان كتعبير عن السعادة.
7- الملابس : les costumes
نجد خمس إشارات فيما يخص الملابس في هذه المسرحية "
- هناك الطفل الذي يظهر بلباس " راع بدوي " (65) . و هذا يشير إلى أن الشخص الذي يلبسه فقير .
- هناك العرائس العملاقة ب " اللباس القديم " (¬¬66) الذي يحيل على الأصالة .
- هناك " القناع" (67) الذي تضعه إحدى العرائس على رأسها.
- هناك الشال " (68) الذي يضعه السمايري على كتفي الأم و هو يحيل على الدفء و الحنان، و ربما يرمز إلى ذلك الغطاء الذي تستعمله الأم عندما تريد أن تحمل طفلها، كما يمكن أن يرمز إلى الحمل الذي يثقل كاهلها .
- -هناك " اللباس المميز " (69) الذي يلبسه احد الأطفال الذين يلعبون . فالمؤلف لم يحدد نوع اللباس إلا انه أشار إلى انه لباس مميز و ذلك لكي يتبين الملتقى عملية الاختطاف .
خلاصة:
نعم ، مرة اخرى نجد " الكغاط " من خلال مسرحيته " بشار الخير" يتعامل مع التراث ، و مرة أخرى نجده يحمله أبعادا جديدة ، و قد اعتمد في تبليغها على حوار مباشر مع الجمهور محاولا بذلك التأثير فيه و التأثر به تحطيما لكل الحواجز ، كما هو الشأن في أكثر أشكال الفرجة حتى و إن استعملوا قناعا أو زيا أو آلة " فان ذلك لا يفصلهم عن الجماهير الذين يساهمون معهم في تكامل المشاهد ، و في تبادل المشاعر و الأحاسيس (70) و الدليل على ذلك ظهوره في نهاية المسرحية وسط القاعة ليلقي عليهم الحوار الخاتمة. و رغم ما توحي به المسرحية للقارئ من أنها فردية ، إلا أنها في الحقيقة ليست كذلك ، و إذا كان "الكغاط" قد اختار أن يقوم السمايري بدور الراوي معتمدا على بعض عناصر القصة كتقمص شخصية واحدة لعدة ادوار ، فان ذلك لا يعني أن "بشار الخير " مسرحية فردية تماما ، " كما ان السمايري القديم لم يكن فرديا و هو يحاور جمهور حلقته "(71 ). و انا شخصيا اتفق مع "محمد الكغاط" وافهم نظرته هذه لأنني و إن لم أشاهد السمايري إلا أنني شاهدت المداح و الحلايقي و استطعت ان المس هذا التقارب و هذا التبادل في التأثر و التاثير بين رجل الحلقة و جمهوره .
و تجدر الإشارة إلى أن "بشار الخير " انطلقت من دراسة ميدانية. يقول مؤلفها : كان السمايري
23
يحضر إلى نادي التداريب و يقوم بحلقته أمام الممثلين .و قد لاحظت ان هذا السمايري كان معتزا بنفسه . كثيرا ما يصف نفسه بأنه "بشار الخير " و من هنا اخترت عنوان " بشار الخير "(72).كما أن "بشار الخير " هي تلك الحشرة التي يتفاءل بها الناس عندما يرونها ترفرف .
لقد سميت هذه المسرحية '' بشار الخير" و هي فعلا تحمل البشارة و تسعى إلى تنوير الناس، و ذلك بان تثير فيهم الأسئلة المقلقة، التي تحمل بذور التغيير نحو غد أفضل .
خاتمة :
إن تعامل "محمد الكغاط" مع التراث من خلال مسرحيته " بشار الخير " كان تعاملا مبدعا ناقدا تغلفه رؤيا جديدة تكشف عن فعالية هذا التراث . ذلك " أن الماضي لا يستطيع مهما بلغ من عمق على مستوى المعاني و الدلالات ان يفسر الحاضر و المستقبل و الا اصبحنا مجرد ظلال تحرك خيوطها اشباح الماضي . ان الماضي لا يرتقي الى مستوى الوضوح الكافي إلا من خلا ل اضواء الحاضر"(73) . يقول "محمد الكغاط " ردا على بعض الانتقادات التي تعتبر اللجوء إلى التراث انغلاقا يدعو الى التقهقر " إننا إذا قدمنا تراثا قديما بصيغة قديمة فان فعلنا هذا يعتبر اجترارا ، أما عندما نصب التراث إنسانيا كان أو عربيا في قالب جديد فاننا نبعث فيه دما جديدا و نحاول أن نبدعه من جديد "(74) .
فالعودة الى التراث ليست انغلاقا و لا عودة إلى الوراء و الراجح أن هؤلاء النقاد ينطلقون من بعض الاعمال التي لم تحسن استلهام هذا التراث و بعث الحياة فيه . و بالمقابل فان " الكغاط" يصور مرحلة متطورة في التعامل مع التراث المحلي بأسلوب أكثر نضجا و اكتمالا .
ولعل من أهم الأشياء التي لفتت انتباهي في مسرحية "بشار الخير" و هي من الأهمية بمكان، هي تلك اللغة المستعملة فيها ، و التي توحي بأنها لغة ثالثة تمزج بين الفصحى و العامية . غير أنها في الحقيقة هي : لغة فنية ليست عامية و لا فصحى و لا لغة ثالثة و إنما هي لغة يفرضها الموقف نفسه ، إنها لغة قريبة إلى الفصحى تستلهم منها شعريتها و خفتها و سلاستها ، و تستغني عن أدوات الربط التي تدخل في إطار العوائق التي تقف في وجه الممثل و المتلقى. أما ما ورد فيها بالعامية فهو في الغالب يدور حول الأمثال المغربية التي يستدعيها السياق و هذا ما يقصده الكغاط بقوله : ما أجمل اللغة البدائية ! "(75) .لقد أضفت هذه اللغة على النص المسرحي بعدا جماليا لان المؤلف حاول أن يستفيد من صفاء اللغة و بساطتها و جماليتها الموسيقية يقول : " إنني عندما اكتب نصا مسرحيا لا افرض عليه لغة معينة ، و إنما اترك الموقف نفسه يفرض لغته و هذا ما اسميه باللغة الفنية "(76)
في نهاية المطاف لا استطيع إلا أن ابدي إعجابي بهذا العمل للأستاذ " محمد الكغاط" حيث يتجلى حسن استعماله للتراث الشعبي في قدرته على إحياء مكوناته الأصلية – من حلقة و سمايري و أنشودة شعبية إلى خيال ظل و امثال و طقوس كناوة و لجوء إلى أضرحة و حكاية شعبية - ضمن رؤية معاصرة تمنحها حياة
24
جديدة و معنى متجدد. لقد نجح في تحويل هذه العناصر من مجرد موروثات ثقافية ترتبط بالماضي إلى أدوات فنية و دلالية تنير أسئلة الواقع الراهن، و تعزز حضور الهوية الجماعية، و تفتح أفقا للتأمل في تحولات المجتمع و تحدياته في تلك الآونة، وهكذا يصبح التراث الشعبي، في سياق اشتغال المؤلف ليس مجرد خلفية جمالية أو زخرفا حكائيا ، بل طاقة رمزية و فكرية تسهم في بناء وعي جديد، و تقدم للمتلقي جسرا بين الأصالة و المعاصرة ، بين الذاكرة و الراهن. لقد حاول هذا العمل المسرحي أن يقترب إلى الجمهور المغربي بمختلف شرائحه، فقد حاول السمايري في مسرحية " بشار الخير " أن يكسر الحاجز الذي يحول بينه و بين المتلقي و ذلك بان دعاه إلى التحاور و المشاركة الفعلية في العرض و لكن، هل استطاع فعلا أن ينسينه المكان المسرحي الذي يتحدث منه ؟
************************************************** *****
المصادر و المراجع:
1- صفوت كمال، التراث الشعبي و أثره في الثقافة العربية المعاصرة، مجلة الدوحة، مطابع علي بن علي، 1984، ص: 123.
2- المرجع السابق، ص: 122.
3- عبد الحميد يونس، كتابك، عدد:91، دار المعارف، القاهرة، 1979، ص: 3.
4- نبيلة ابراهيم، عالمية التعبير الشعبي ، مجلة فصول، جزء: 3، مجلد: 3: عدد: 4، ص:25.
5- د. فائق مصطفي، أثر التراث الشعبي في الأدب المسرحي النثري في مصر، دار رشيد للنشر، ص: 15.
6- صفوت كمال، التراث الشعري في الثقافة العربية المعاصرة، ص: 123
7- محمد الكغاط ، مسرحية بشار الخير ، مطبعة ظهر المهراز، 1993، ص:55.
8- نفس المصدر، ص: 61.
9- نفس المصدر، ص: 59.
10- نفس المصدر.
11- في حوار مع الدكتور محمد الكغاط، في مدينة فاس، بتاريخ نونبر، 1993.
12- محمد الكغاط، مسرحية بشار الخير، ص:75.
13- نفس المصدر، ص:60.
25
• يعرف د. حسن المنيعي الحلقة في كتابه " ابحاث في المسرح المغربي" فيقول : " كانت الحلقة عبارة عن مسرح شعبي يشرف على تقديم فرجاتها بعض الافراد المختصين في فن الحكاية و الاماءة و الالعاب البهلوانية، و كان الممثل الذي قد يكون "مداحا "أو "بقشيشا "أو شخصية مسلية يعرض ابداعاته في الاسواق و في ساحات المدن الكبري: كباب عجيسة و باب فتوح بفاس و باب الجديد و باب منصور العلج بمكناس، و باب جامع الفنا بمراكش." ص: 15.
14- برنامج، "بالواضح" بالقناة الثانية، بتاريخ15/2/1994غلى الساعة السادسة و خمسون دقيقة.
15- مسرحية بشار الخير، ص:75.
16- عبد الحميد يونس ، التراث السعبي، ص: 40-41.
17- مسرحية، بشار الخير، ص:95-96.
18- شوقي ضيف، الفن و مذاهبه في النثر العربي ، دار المعارف، الطبعة السادسة، ص:20.
19- هناء رضوان، الميثولوجيا عند العرب، مجلة الفكر العربي المعاصر، ص: 6.
20- القران الكريم، سورة الأعراف، اية: 26.
21- مسرحية بشار الخير، ص: 77.
22- نفس المصدر، ص: 97.
23- د. عبد الحميد يونس، التراث الشعبي،ص: 49.
24- د. علي الراعي، المسرح في الوطن العربي، مطابع اليقظة ، الكويت،1980، ص:26.
25- مسرحية بشار الخير، ص: 79.
26- نفس المصدر، ص:85.
27- نفس المصدر، ص: 74.
28- عبد الحميد يونس، التراث الشعبي، ص: 53.
29- سورة سبأ، اية: 14.
30- عفيف عبد الفتاح طبارة، مع الانبياء، دار العلم للملايين، طبعة: 14،1985، ص: 296.
31- مسرحية بشار الخبر، ص:75.
32- نفس المصدر.
33- نفس المصدر.
34- نفس المصدر.
35- نفس المصدر، ص: 84-85.
36- نفس المصدر، ص: 92.
37- نفس المصدر، ص: 87.
38- نفس المصدر، ص:95-96.
26
39- نفس المصدر، ص: 96.
40- نفس المصدر، ص: 98.
41- نفس المصدر، ص:100.
42- Patris Pavis , Dicionnaire du theatre, P : 32
43- بيسكاتور،نقلا عن أحمد عثمان، قناع البريختية، مجلة فصول،الجزء الثاني،
المجلد: 2، عدد،: 3، ص: 78.
44- مسرحية بشار الخير، ص: 72.
45- نفس المصدر، ص: 75.
46- نفس المصدر، ص: 64-65.
47- نفس المصدر، ص: 99-100.
48- نفس المسرحية، ص: 82-83.
49- نفس المصدر، ص:84-85.
50- نفس المصدر، ص: 82.
51- نفس المصدر، ص: 87.
52- د.ابراهيم حمادة، طبيعة الدراما، كتابك، دار المعارف، عدد: 62، ص:9.
53- مسرحية بشار الخير، ص: 81.
54- نفس المسرحية، ص: 85.
55- نفس المصدر، ص:66-67.
56- نفس المسرحية، ص: 75.
57- نفس المصدر، ص:99.
58- نفس المصدر، ص: 79.
59- نفس المصدر، ص: 85.
60- نفس المصدر، ص: 90.
61- نفس المصدر، ص: 92.
62- نفس المصدر، ص: 79.
63- نفس المصدر، ص: 93.
64- نفس المصدر، ص: 70.
65- نفس المصدر، ص: 75.
66- نفس المصدر: ص: 80.
67- نفس المصدر، ص: 92.
27
68- نفس المصدر، ص: 94.
69- عبد الحميد يونس، التراث الشعبي، مرجع سابق، ص: 48.
70- مسرحية بشار الخير، ص: 61.
71- في حوار لي مع الدكتور محمد الكغاط، بفاس، بتاريخ، نونبر1993.
72- محمد مسكين، النص المسرحي و حالة الكشف،مجلة التاسيس، مطبعة الانباء، السنة الاولى، عدد:1، ص: 53.
73- في حوار لي مع الدكتور محمد الكغاط، بفاس، بتاريخ نونبر، 1993.
74- نفس الحوار.
75- مسرحية بشار الخير، ص: 58.
76- في حوار لي مع الدكتور محمد الكغاط، بفاس ، بتاريخ، نونبر، 1993.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|