حارة دعبل !! ( قصة قصيرة من الأدب الساخر )
د . ناصر شافعي
"حارة دعبل" حارة شعبية بسيطة ، نسخة تكوينية معمارية مكررة من الحارات الشعبية المصرية في الأحياء العشوائية . التكوين الترابي لما يسمى طريق و المنازل الصغيرة الطوبية و الخشبية ، المتقاربة المتشابكة التي تتعانق و تتقارب في رغبة أكيدة و مُلحة لتأكيد ضرورة و حتمية الحياة و البقاء. . و تأصيل مبادئ يفرضها عليهم الواقع المجتمعي ، التلاصق المعيشى لمقاومة الفقر ، و الإتحاد من أجل الخوف من إزالة مساكنهم العشوائية !! .. وهناك لا مكان لخصوصيات الحياة ، ولا مجال لوجود أسرار في البيوت .. فقط حكايات و فضائح لا تحتمل الكتمان و السكوت !! ..
إختلاف واحد يميز هذه الحارة عن مثيلتها . هذا الإختلاف هو إختلاف جوهري وكبير .. إنه عنصر البشر و الحياة المحرك الرئيسي لإيقاع و نمط المعيشة و التعايش بين الناس . رغم أن البشر هم البشر، المصريون البسطاء الفقراء الكرماء ، إلا أنهم توحدوا و إنصهروا في بوتقة واحدة ، جعلت منهم نسيجاً فريداً من البشر . فهم جميعاً يتحلون بصفة واحدة و هي خفة الدم .. و يمتهنون مهنة و احدة .. وهي الكوميديا !! ..
نعم إنها الكوميديا على إختلاف أشكالها و ألوانها .. تخصصوا في إسعاد البشر و إدخال السرور على قلوبهم .. منهم الممثل و البلياتشو و المهرج و المنولوجست و الساحر و الفرقة الموسيقية المصاحبة ، صاحبة الطبول و آلات النفخ النحاسية ، التي تتقن العزف بنغمات ساخرة نشازية.. تبعث على الضحك و السخرية.
الساحر الذي يتصنع السذاجة و الفشل في ألعابه السحرية فتضحك الناس من شدة غبائه .. مطرب العشوائيات الذي لديه القدرة الغريبة في أن يثير إشمئزاز السميعة ، ويدفعهم لضربه وهو سعيد !! .. فتلة هانم الممثلة الفاشلة التي يزن جسمها أكثر من مائة و خمسين كيلو جراماً على أقل تقدير ، و تحمل فوق جسمها رأساً ذو ملامح طفولية ساذجة .. تكّون مع زوجها الرجل النحيل القصير الضعيف ثنائي تمثيلي يثير الشفقة و العطف .. والمهرج الغلبان الذي يرتدي ملابس رثة ممزقة .. لا يتعمدها .. إنما فرضها الواقع المؤلم عليه .. يقف أمام الجمهور ليحكي لهم عن المصائب و المأسي التي يلاقيها في حياته هو وأهله .. فيضحك الناس على غُلبه و فقره و تعاسته .. إنه تَخَصص في الكوميديا السوداء .
والأب الذي يقدم هو وبناته الصغار فاصلاً من الغناء المرح الخفيف .. ويستعرض مقدرة طفلته الفذة على تقليد أصوات و حركات نجوم الفن الكبار .. وتستعرض الطفلة الصغيرة مهارة أبيها الفريدة في التحاور معها وتحفيزها على الحركة والتعبير . وشباب و فتيات الحركة و الشقلبة ، التي لا تمت بصلة للجمال الحركي أو الإيقاعي أو الرياضي .
إنحصرت الأضواء من على فناني أهالي "حارة دعبل" .. أصبح ليس لهم تواجد أو طلب على فنهم في الأفراح الراقية .. أو حتى في الأفراح الشعبية المتواضعة .. وأصبح دخلهم الوحيد ومصدر إعاشتهم القليل ، هو الفرح الريفي في الأقاليم .. أصبحوا يرتضوا بقليل القليل من المال مقابل إحياء الفرح في القرية .. حتى و لو كان المقابل مصاريف الإنتقال و العشاء فقط . وتستمر حياتهم البسيطة ، تحركها الحياة يوماً بيوم . ويعودون إلى مساكنهم قرب الفجر سعداء قانعين بما رزقهم الله ، متفاخرين بما قدموا من أعمال و أمجاد ، وما نالوه من إعجاب و تصفيق و إستحسان ..
كانت ليلة حزينة طويلة .. مرت على أهل "حارة دعبل" كشهور طويلة كئيبة .. تلك الليلة التي سُرق فيها بيت العمدة .. و إتهم العمدة الغرباء بالسرقة .. وقضوا ليلتهم في حجز قسم الشرطة ، حيث تعرضوا للتفتيش الذاتي و الضرب و الإهانة والمهانة .. وعلى رأي حكيمهم الساحر " كل ده .. علشان مالناش ضهر و لا حماية .. يبقى لازم ناخد على قفانا " .
وقبيل الفجر .. ثبتت براءتهم جميعاً و قبض على الفاعل الحقيقى .. بعد أن تقطعت كرامتهم و ثيابهم .. وأملهم في النجاة !!
في طريق العودة ، قرروا تخطى المحنة بقوة و عزيمة و إصرار .. فإنطلقوا جميعاً يغنون بمرح ممزوج بالمرارة ، تجمعهم سيارة نقل قديمة تتمايل في سيرها ، بمعاناة عجوز سقيم . أوقف المهرج المتعب الغناء فجأة ، وطلب من الجميع الدعاء بمصيبة ، على " دعبل " وكيل فناني الحارة السعيدة !!
تحياتي .
د. ناصر شافعي