نقاد الرّوايَة في سُوريّة فعالية النقد المقارن ـــ سمر روحي الفيصل
[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:100%;"][CELL="filter:;"][ALIGN=justify]تتجه الفعاليات النقدية التطبيقية هنا (*) اتجاهاً آخر خاصاً بالأدب المقارن، فتسجل بذلك ريادة في هذا اللون النقدي، لأن النقد الروائي في سورية لم يلتفت قبل الدكتور حسام الخطيب إلى سبر المؤثرات الأجنبية في الرواية السورية وهذا الكلام لا يعني أن الحديث عن المؤثرات الأجنبية جديد كل الجدة في النقد الروائي السوري، ولكنه يعني أن منهجية الأدب المقارن تتخذ عند حسام الخطيب منحى علمياً إضافة إلى دلالتها الفنية (1) وكانت –قبل ذلك –معنية بالإشارة إلى الترجمات والمصادر الفردية للأفكار، كما هي الحال عند شاكر مصطفى في كتابه "محاضرات عن القصة في سورية حتى الحرب العالمية الثانية". وسنلاحظ –في هذا الكتاب –نموذجاً آخر للعناية بالمؤثرات الأجنبية، يطرحه نبيل سليمان دون التمسك بالمنهجية العلمية المعروفة في الأدب المقارن، مما يجعل نموذج النقد المقارن عند حسام الخطيب وحيداً في سورية. وقد سبق القول أن الفعالية النقدية عند الدكتور الخطيب محدودة بحدود الأعوام (1937 –1967) ضمن ثلاث مراحل (2)، إضافة إلى أنها تشمل القصة بالمعنى العام لها ( القصة والرواية) ومن الملاحظ أن النقد المقارن هنا يلتزم الأطر نفسها، ولكننا –في حدود الدراسة –مضطرون لملاحقة جانب النقد الروائي من هذه الفعالية المقارنة، دون أن يعني ذلك أي إغفال للقصة القصيرة وللخيوط المشتركة بينها وبين الرواية.
المنطلقات النقدية المقارنة
بعد أن حدد الدكتور الخطيب الإطار المنهجي العام لدراسته (3) وضع لنفسه المنطلقات النقدية التالية:
أ-حدود مراده من مصطلح المؤثرات الأجنبية، وهو: "إبراز المؤثرات القصصية المباشرة، والتركيز على دراسة الشكل الذي اتخذته في القصة السورية الحديثة، مع إظهار المؤثرات الأخرى الفكرية والفنية بمقدار ما يكون لها من علاقة بالموضوع المدروس (4)".
ب-أهمل الحديث عن تأثير الغرب في الشرق، وعن تاريخ عصر النهضة، وعن التأثيرات العقائدية، لأن هذه الأمور تدخل في نطاق اختصاص باحثين من نوع آخر، ولأن الباحث الأدبي لا يستطيع أن يعطي آراء ذات طابع خاص، إضافة إلى خطر الانسياق وراءها وإغفال التركيز على الظاهرة النوعية المدروسة.
ج-رأى أن استقصاء المؤثرات الأجنبية كلها يقتضي جهوداً طويلة قد لا تكون مجزية، ولذلك آثر تسجيل الظواهر المشتركة للمؤثرات الأجنبية إلى جانب إبراز الطابع الخاص الذي اتخذته في القصة السورية.
د-تجنب الخوض في التقويم الفني ما أمكنه ذلك. وركز على طبيعة المؤثرات ومدى استيعابها في القصة.
ه-حدد لنقده المقارن الأهداف التالية:
+ إيضاح طريقي المؤثرات: طريق الترجمة، وطريق الاتصال المباشر.
+ دراسة التيار الوجودي وتتبعه منذ الخمسينات حتى منتصف الستينات.
+ إبراز فعالية التجربة الوجودية في القصة، وتجربة ما يسمى بأدب الضياع أو التفتت.
توضح المنطلقات النقدية ميل الدكتور الخطيب إلى المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن (5). فهو معني في أثناء التمهيد للمراحل الثلاث بالتحقق من اللقاء التاريخي بين الآداب الأجنبية واللغة العربية عن طريق الترجمة والاتصال الشخصي المباشر. يلاحق الروايات التي ترجمت إلى اللغة العربية، فيعدد لغاتها وأسماء مؤلفيها وعنواناتها، مستنداً في المرحلة الأولى إلى الأبحاث التي تناولت الأوضاع الثقافية قبل الحرب العالمية الثانية، وإلى الإشارات الثقافية في الأعمال القصصية، ويلاحظ في المرحلة الثانية أثر اللغة الفرنسية والإنكليزية دون غيرهما، ويذكر الأعمال الأخرى التي ترجمت آدابها إلى العربية عن طريق هاتين اللغتين. ويلاحق في المرحلة الثالثة أسباب نمو حركة الترجمة، واللغات الجديدة المستخدمة في ذلك. أما الاتصال الشخصي المباشر فيلاحقه عند شكيب الجابري ومطاع صفدي وجورج سالم قبل أن يكشف عن طبيعة التأثر عند هؤلاء الروائيين (6) ولا يخفى على أحد أن الحديث السابق عن التحقق التاريخي يتضمن المبدأ الأول من مبادئ المدرسة الفرنسية، وهو اختلاف اللغات، مما يعني التزام الأدب المقارن، وبخاصة المدرسة الفرنسية دون غيرها من مدارس الأدب المقارن، كالمدرسة الأمريكية التي يستوعب الأدب المقارن عندها "كل الدراسات المقارنة بين الآداب المختلفة، أو بين الآداب وغيرها من الفنون بوجه خاص، وبينها وبين غيرها من المعارف الإنسانية بوجه عام" (7) وهذا المنحى مرفوض عند أتباع المدرسة الفرنسية الذين يتمسكون بالأدب المقارن في معناه الخاص، أي الأدب الذي لا يتجاوز دائرة الآداب إلى غيرها من الفنون أو المعارف (8).
من الملاحظ أيضاً أن المنطلقات النقدية لا تعير البحوث العامة أي اهتمام خوف الانسياق وراءها وإغفال التركيز على الظاهرة القصصية المدروسة، وبالتالي فإن التحقق التاريخي لا يلتفت إلى تأثير الغرب في الشرق، وإنما يلتفت إلى انتشار لغة معينة وما يتبع ذلك من انتشار أدبها أو انتشار آداب أخرى عن طريقها، مما يشير إلى الصلة التاريخية بين اللغتين، ويوضح انطلاق حسام الخطيب من أن تأثير الغرب في الشرق واقع لا محالة، ومن هنا يروح يرصد اللغات التي تم انتشار الآداب الأجنبية عن طريقها ليجعل وقفته النقدية عند طبيعة هذه المؤثرات. ومتابعة لجهد الدكتور حسام الخطيب الخاص بالتحقق التاريخي يشير المرء إلى المسابقة التي أعلنت عنها مجلة "الحديث" (9) عام 1931، وهي مسابقة خاصة بتأثير الأدب العربي بالآداب الأجنبية. وهذه خلاصة رأي الفائزين في المسابقة:
1-الفائز الأول: إيزاك موسى شموس
أ-كان الأدبان الفرنسي والإنكليزي أبعدا أثراً من غيرهما في الأدب العربي، لأن الأحوال السياسية التي نشأت بعد الحرب الكونية الأولى حملت الأدباء على درسهما دون غيرهما (10)
ب-حبب الأدب الفرنسي إلى الناس الأدب الروائي والقصصي، في حين حبب الأدب الإنكليزي إلى الناس الشعر الذي ينطلق من إسار القديم.
ج-دفع الأدبان الأدباء إلى:
-مذهب البساطة في التعبير.
-تحرير الأفكار وتنويع الموضوعات واختراق حرمة البحوث القديمة.
-الأدب العاري في طابعه العالمي الخالص الهادف إلى النصح والإرشاد.
د-أشار إيزاك شموش إلى حاجة الأدب العربي إلى ترجمات للأدبين الواقعي والرمزي.
ونص على أن هدف الجمعيات التي أنشئت هو ترجمة الآداب الغربية (11).
ه-ينتهي شموش إلى رأي محدد هو (الرأي السديد أن نترك الأدب العربي يتابع سيره في الاقتباس والنقل والترجمة عن الآداب الأجنبية بلا قيد ولا شرط".
2-الفائز الثاني: نديمة المنقاري
أ-ترى أن الآداب الغربية أثرت في الأغراض والمعاني والأساليب.
ب-حددت مجالات التأثير بالأمور التالية:
-إدخال السياسة على الأدب (الأدب السياسي).
-العناية بالموضوعات العلمية والاجتماعية، أي نقل الأدب من التعبير عن نزعة فردية إلى تصوير حالة المجتمع.
تجنب رثاء الفرد وهجائه.
-التعرف إلى المذهب الابتداعي (الرومنتي).
-تصوير خلجات النفوس وخفايا الضمائر (تأثير علم النفس).
-موج الجد بالهزل.
-إدخال الأدب القصصي التمثيلي.
التزام الصراحة الفكرية، وعدم التقيد بالآداب العامة.
-تطوير النقد الأدبي.
-تطوير الأسلوب والميل به إلى البساطة وعدم التقعر اللغوي.
يضاف إلى ذلك كله أنّ أعداد مجلة "الحديث" مملوءة بالقصص المترجمة عن الفرنسية والإنكليزية، وفي أحايين قليلة عن التركية. وقد نشرت عن طريق اللغتين المذكورتين قصص كثيرة من الآداب العالمية، وبخاصة الأدب الروسي. وهذا الأمر يؤكد ما أشار إليه شاكر مصطفى وحسام الخطيب من أن الترجمة كانت عاملاً أساسياً من عوامل التطور الثقافي في فترة ما بين الحربين، وإن كانت المسابقة تدل على حساسية مبكرة في شأن المؤثرات الأجنبية. كما تؤكد أعداد مجلة "الحديث" نقطة أخرى هي اعتماد السوريين اعتماداً كبيراً على الترجمات التي قام بها الأدباء المصريون. فمن النادر أن يخلو عدد من أعداد المجلة من دراسة لطه حسين أو محمد حسين هيكل أو إبراهيم عبد القادر المازني أو محمود تيمور، أو من قصص ودراسات مترجمة لهم ولغيرهم من الأدباء المصريين. والواضح أن صلة المجلة بمصر قوية، لأن سامي الكيالي حين زار مصر أقيم له استقبال كبير حضره رجالات الثقافة في مصر، ضمن برنامج زمني للقاء الشخصي والثقافي. وقد عرف السوريون بوساطة مجلة الحديث ترجمات لتشيخوف وفولتير وأناتول فرانس وبيير فالدانيو ولامارتين وبرناردشو وغوستاف لوبون وبيدر وولف وويلز وبوكاتشيو، وغيرهم من القصصيين والشعراء والمسرحيين وعلماء الاجتماع. وقد قدم المصريون غالبية النصوص المترجمة. بل إن قضية الموازنة بين رواية "إبراهيم الكاتب" للمازني ومسرحية "الشاردة" للكاتب الإنكليزي جلزو ورذي، التي ترجمها المازني بعنوان "بيت الطاعة" وادعاها لنفسه، وبين رواية "ابن الطبيعة" لسانين، التي ترجمها المازني أيضاً (*) ثم أورد بعضها في روايته "إبراهيم الكاتب"، أثيرت على صفحات المجلد بعد أن اتهم بعض الكتاب المازني بسرقة المسرحية وفصول من الرواية. وكان من نتائج هذه المشادة الثقافية (12) أن كثرت المقالات التي تدور حول تأثر المازني بغيره. والمعروف أن رواية "إبراهيم الكاتب" لإبراهيم عبد القادر المازني صدرت في القاهرة قبل أشهر قليلة من بدء المشادة والاتهام (13).
إن منطلقات الدكتور حسام الخطيب النقدية سليمة لأنه من العبث تقصي الكتب التي تمت ترجمتها إلى اللغة العربية في سورية، أو ملاحقة تأثيرها في القصة السورية من خلال الحديث ذي الطابع العام. ومن هنا يعلن المرء اطمئنانه إلى مبدأي المدرسة الفرنسية في نقد حسام الخطيب المقارن. فقد التزم الظاهرة القصصية بعد أن تأكد لديه اللقاء التاريخي بين اللغتين العربية والفرنسية /الإنكليزية، وهذا الأمر واضح من الأحكام العامة التي استنتجتها بعد استقراء التيارات الثقافية في المراحل الثلاث:
المرحلة الأولى (1937 –1949) (14)
1-"هذه المرحلة مرحلة تشكل ثقافي تفاعلت فيها عناصر الثقافة العربية التقليدية مع عناصر الثقافة الأوروبية. وكانت نوافذ سورية تنفتح بالتدريج على حدائق الثقافة العالمية دون أن تكون هناك خطة منظمة للاقتباس، بل إن الحد الأدنى من الاصطفائية أن يستهويهم من هذه الثقافة ما كان أقرب إلى نفوسهم وأسهل متناولاً، فكان أن أقبلوا إقبالاً عظيماً على الأدب الابتداعي (الرومانتي)".
2-"كانت الفرنسية أكثر اللغات الأجنبية نفوذاً في سورية طوال الثلاثينات والأربعينات، ولكن سورية عرفت بعض روائع الآداب الروسية والإنكليزية والألمانية أيضاً. أما الآداب الأخرى كالإيطالية والإسبانية فنادراً ما يشار إليها في كتابات المرحلة الأولى".
3-"لم يستطع كتِّاب هذه المرحلة تمثل المؤثرات الأجنبية وقنعوا باستخدامها وسيلة للمباهاة، وكانوا يعاملون الأسماء الأجنبية بمنتهى الاحترام".
4-"في الوقت نفسه كان تعلق الكتاب السوريين بالثقافة العربية واللغة العربية قوياً جداً، وليس هناك ما يوحي بأن اتصالهم بالأدب الأوروبي، ولا سيما القصة الأوربية زين لهم الحط من قيمة ثقافتهم القومية"
5-أثر الأدباء المصريون في السوريين تأثيراً كبيراً، وكان إنتاج هؤلاء رافداً آخر من روافد المؤثرات الأجنبية، لأنه نسخة محورة عن الآداب الأوربية ولا سيما الفرنسية.
6-شرعت بوادر المؤثرات العلمية تظهر في الأفق الثقافي.
المرحلة الثانية (1950 –1958) (15)
1-تمثل المرحلة الثانية قدرة على تمثل المؤثرات، واتصافها بالتنوع والتعقيد.
2-انخفضت في هذه المرحلة درجة التباهي.
3-تعكس أعمال القصصيين السوريين الأفكار الدارجة في الأدب الأوربي المعاصر لهم مع تفاوت واضح بين التقليد الأعمى والاقتباس الواعي.
المرحلة الثالثة (1959 –1967) (16)
1-ظهرت وزارة الثقافة في هذه المرحلة وأسهمت في تنظيم عملية الترجمة.
2-برز الأدب الأنكلو أميركي إلى جانب الأدبين الروسي والفرنسي.
3-اتضح الاتجاه الاصطفائي إزاء ما يقرؤه السوريون، وازدادت ثقتهم بأنفسهم إلى حد المبالغة، وبرزت الرواية الواقعية المستفيدة من المؤثرات المختلفة كرواية العصاة لصدقي إسماعيل مثلاً، كما ازداد الإقبال على أدب الضياع واللامعقول.
المؤثرات الأجنبية في الرواية السورية
اختار الدكتور حسام الخطيب عدداً من الروايات السورية، ضمن المراحل الثلاث، وراح يبحث طبيعة المؤثرات الأجنبية فيها.
المرحلة الأولى:
درس فيها روايات الدكتور شكيب الجابري لأنه أول روائي سوري، ولأنه أبرز كتَّاب المرحلة الأولى، ولأن رواياته تحمل طوابع التأثيرات الأجنبية بأشكال مختلفة (17).
وقد وضع الدكتور الخطيب يده على المؤثرات التالية ضمن كل رواية على حدة.
1-نهم:
أ-السيطرة الكاملة للعنصر الغربي (إنها رواية غربية كتبت بالعربية).
ب-استقيت حبكتها من علم النفس الفرويدي.
ج-يوضح موضوعها قولاً للشاعر الألماني غوته: الأنوثة الخالدة تجذبنا إليها.
د-تدور الرواية في جو غربي: الأسماء الألمانية، ومفهوم الحب غربي، البطل كازاروف مثقف ثقافة غربية أدبية وفنية.
2-قدر يلهو:
1-استمرار طبع الرواية بالطابع الغربي ولكن بدرجة أقل مما في "نهم" يشعر القارئ أن الجابري يقسم جوه وشخصياته مناصفة بين العنصر الشرقي والعنصر الغربي).
ب-تتراوح الإشارات الثقافية بين قطبين متباعدين، فمن إشارات إلى موسيقيين (بيتهوفن –فاغنر) إلى إشارات علمية (عصيات كوخ).
3-قوس قزح:
أ-تعج الرواية بإشارات إلى الثقافة الأجنبية، ولا سيما الكلاسية الإغريقية والثقافية الألمانية الحديثة. وهذه الإشارات مستعملة في مواضعها المناسبة.
ب-تكشف الرواية عن استيعاب جيد للثقافتين الكلاسية والألمانية، ولكنها تفتقر إلى اللمسة الشخصية والتعليقات الأصيلة، كما هي عند توفيق الحكيم.
ج-تتردد في الرواية أسماء أجنبية كثيرة (أورفيوس –ليسبوس –أبيقور ––يوليس –الاسكندر الأكبر –يوليوس قيصر –تشيخوف –فرويد –ليوناردو - رافائيل –ميشيل أنجلو)، ويظهر فيها إعجاب محدد بغوته وفاغنر.
د-تعج الرواية بأسماء الأعلام الألمان مفكرين وفنانين، كما تعج بأسماء الأمكنة ومحال المتعة مقرونة بملاحظات تفسيرية.
المرحلة الثانية:
انصرف الدكتور الخطيب في هذه المرحلة إلى دراسة المؤثرات الأجنبية من خلال الاتجاه القومي الوجودي، واتخذ مطاع صفدي نموذجاً لهذه المؤثرات، وراح يدرس روايتيه "جيل القدر –ثائر محترف" بتفصيل لم ينصرف إليه في روايات الجابري في المرحلة الأولى وهذه هي ملاحظاته حول هاتين الروايتين مع تمهيد يتناول علاقة مطاع صفدي بالاتجاه القومي الوجودي:
تمهيد:
-كان مطاع صفدي أقوى الأصوات المتبنية للاتجاه القومي الوجودي، سواء في كتاباته النظرية أو قصصه ورواياته. وقد حاول مطاع في الستينات بلورة هذا الاتجاه، وكان من ذلك روايتاه القدر وثائر محترف.
-أسس هذا المشروع تقوم على تغذية مفهوم النضال القومي بمضمون فلسفي وجودي يمكن أن يجعل من القومية العربية أيديولوجية قائمة بذاتها على مضاهاة الأيديولوجيتين الأخريين المنافستين: الأيديولوجية الدينية، والأيديولوجية الأممية.
جيل القدر:
1-التوصل إلى فهم وجودي للإنسان من خلال ذاته وعن طريق المعاناة المستمرة والجدل المتواصل.
2-القيم الأساسية ووسائل التفكير المسيطرة على الرواية ذات طابع وجودي سافر.
3-العلاقة العاطفية التي تستمر خلال الرواية كلها بين نبيل وهيفاء الفتاة الدمشقية البرجوازية علاقة مفهومة من خلال المصطلحات الوجودية.
4-يسيطر على مناقشات الأبطال اعتداد واضح بالوجودية، ورغبة في الإشارة إلى أفكارها وآثارها كلما سنحت الفرصة.
5-يحاول الكاتب خلال الرواية أن يضفي فهما وجودياً على الأحداث القومية المختلفة التي يعالجها. وعلى الرغم من وجاهة هذه المحاولة فإن المرء لا يملك إلا أن يلاحظ أنها أحياناً تنحدر إلى أن تبدو أشبه بتمرينات فلسفية غرضها تطبيق أفكار سارتر وكامي على المواقف السياسية وتفسيراتها، من ذلك مثلاً فهمه الوجودي لمأساة فلسطين.
6-القتل بين سارتر ومطاع صفدي:
آ-كل ما في عملية قتل "الديكتاتور" من أفكار وتحليل يذكِّر بتمثيلية الأيدي القذرة لجان بول سارتر، وإن كان ذلك لا يعني تماماً أن هناك نوعاً من نقل الفكرة أو تقليدها. فالكاتب يأخذ المشكلات الفكرية التي تتعلق بموضوع القتل السياسي ويناقشها على مستوى آخر، ويطعِّمها بعناصر من واقع النضال القومي العربي. إلا أن هذه العناصر تبقى في معظم الأحيان تطعيماً خارجياً لا عضوياً، وتظل المشكلة الرئيسية كما هي في الأيدي القذرة مشكلة وجودية فردية أكثر مما هي مشكلة قومية سياسية.
ب-يدور الخلاف حول معاني القتل الفلسفية والسياسية، وحول دوافعه، وحول مسألة الإرادة والتصميم. وهنا تنحو الرواية نحواً واضحاً باتجاه تمثيلية "العادلون" لألبير كامي.
ج-مشكلة القتل ودوافعها سابقة لأوانها في تلك المرحلة المبكرة من عملية القتل، لأنها تُطرح طرحاً نظرياً جدالياً ولا تتوالد توالداً طبيعياً من خلال المعاناة أو المواقف. وهذا النقاش المسبق بالذات نموذج لمحاولة مطاع صفدي الدائمة فرض مطالعاته الفكرية وثقافته الفلسفية على شخصياته بدلاً من إعطائها فرصة التصرف الطبيعي الذي يقودها إلى مواجهة مشكلات وجودها بموقف حي أصيل.
د-تقود المقارنة بين جيل القدر والأيدي القذرة إلى تحديد مشكلات مشتركة بين العملين في موضوع فعلة القتل هي: معاني القتل –دوافعه –التصميم –الاختيار –شرعية القتل السياسي –الشعور بالإثم –مشكلة الفعل –سرقة الفعل.
ه-الملاحظ بوجه عام أن أبطال مطاع كانوا (أفصح وجودياً) من هيغو (بطل سارتر)، ولكننا نستطيع أن نجد أساساً لمعظم ما قالوه في تصرفات هيغو وفي أقواله أيضاً، مع التأكيد على وجود التلاحم بين أفعال هيغو وأقواله والتباعد النسبي بين أقوال جماعة مطاع وأفعالها.
ثائر محترف:
1-تتضمن ثائر محترف تراجعات كبرى عن تبشيرية جيل القدر، واعترافاً بأن التوفيق بين الثورة الوجودية القومية ليس بالسهولة التي تخيلها نبيل في ملحمته السمفونية الملهمة.
2-إن البطل الوجودي –هنا –كما هو في جيل القدر عرضة لأهوائه الفكرية ونزعاته ومواقفه اللاملتزمة ونزواته الجنسية المستمرة. وهو حيناً في (غثيان) وحيناً في (إرهاق) وحيناً في (انسحاب) وحيناً في (إعادة نظر)، وهي قيم أثبتت تجربتا مطاع نفسه –من حيث أراد أو لم يرد –أنها غير قابلة للتصالح مع مفهوم الثورة كعمل جماعي قائم على الالتزام.
خاتمة:
1-لم تكن الأفكار الوجودية هي المؤثرات الوحيدة بل كانت أبرز هذه المؤثرات. وإذا كانت المؤثرات الثقافية في أعمال مطاع الأولى تبدو صارخة ومقحمة أحياناً فإنها في ثائر محترف تتحول إلى مناقشات فكرية بين الأبطال، وتصبح من صميم الرواية ويصعب فيها إطلاق مصطلح المؤثرات.
2-تعتبر ثائر محترف نموذجاً لما يمكن أن نسميه بالتقنية الحديثة في فن الرواية، وهي تستفيد فنياً من معطيات علم النفس كما تستفيد من التجارب الجزئية لكتَّاب تيار الوعي، وتعتمد اعتماداً رئيسياً على التداعي الحر.
المرحلة الثالثة:
تابع الدكتور الخطيب دراسته للمؤثرات الأجنبية في هذه المرحلة، فتوقف عند الاتجاه الواقعي الماثل في رواية العصاة لصدقي إسماعيل، واتجاه أدب الضياع والتفتت المائل في رواية "المهزومون" لهاني الراهب، ورواية "في المنفى" لجورج سالم، ولم تكن دراسة المؤثرات الأجنبية في الروايات متشابهاً. ففي حين درس رواية العصاة من جوانبها كلها، وكانت المؤثرات الأجنبية جزءاً من هذه الدراسة، فإنه التفت في الروايتين الأخريين إلى تأثير كاتب أجنبي معين في الروائي السوري، فقارن بينهما جزئياً في نموذج هاني الراهب، وتفصيلياً في نموذج رواية جورج سالم التي يراها مثالاً كلاسياً للتأثر المباشر بالآداب الأجنبية.
أدب الضياع:
النموذج الأول في المنفى لسالم والمحاكمة لكافكا
1-مفهومات الخطيئة الأصلية والبراءة والنفي الكوني والعذاب الإنساني والحتمية المفروضة وانحداد الرؤية، مفهومات مشتركة بين الروايتين.
2-المقارنة ليست في صالح جورج سالم على الإطلاق. تبدو روايته نسخة مبسطة عن رواية المحاكمة، تتبع خطواتها الأساسية ولكنها تفتقر إلى التفصيلات الواقعية البارعة التي تصف الظروف الغريبة المعقدة المحيطة ببطل الرواية جوزيف ك.
3-المقارنة بين العناصر الفنية (تؤدي إلى نوع المقارنة الفكرية).
آ-بطلاً القصتين متشابهان مضموناً وشكلاً إلى حد بعيد. فهما غريبان مدانان سلفا دون أن يدركا السبب أو يشعرا على نطاق الوعي العقلي بأنهما ارتكبا أية خطيئة جذرية.
يعاني البطلان من معضلة مشتركة لا يستطيعان فهمها، إذ يواجهان باقتناع السلطات والآخرين بأنهما مذنبان، ويصبح شغلهما الشاغل فيما بعد معرفة التهمة التي تلصق بهما.
يُظهر البطلان جرأة في تحدي السلطان الغامض للمؤسسات، ويدخلان أمكنة محظورة عليهما مما يضاعف من ذنبهما وخطورتهما.
من أخطر عيوب البطلين أن فضولهما لا يقف عند حد، بل إن جرأتهما تجاوزت الحدود المرسومة.
تتشابه تفاصيل البطلين: غياب المعلم عن المدرسة دون أن يهتم أحد بغيابه، وقيام أحد المعلمين بتدريس صفه وصف المعلم معاً. كذلك جوزيف لا يهتم أحد لغيابه ويقوم السكرتير بإنجاز أعماله في المصرف.
ب-مصير البطلين متشابه إن لم ينقل متطابقاً: مشهد الإعدام عند سالم وقتل جوزيف في المقلع المهجور، البطلان يتعرضان للإعدام دون أن يكون في مقدورهما الاعتراض.
يتم التنفيذ بقسوة باردة في عراء بعيدين عن المدينة، بل إن كلا منهما يرى قبل موته الفتاة التي تربطه بها علاقة تعاطف ومودة.
ج-مشهدا إلقاء القبض على البطلين متطابقان تقريباً.
د-قاضي التحقيق هو نفسه في القصتين بفساده وغرابة أطواره ولا مبالاته وعدم استعداده للفهم. فساد القضاة والرسميين الكبار (من رشوة ووساطات وعلاقات نسائية ومباذل) عنصر مشترك في الروايتين.
ه-تتقدم لمساعدة البطلين امرأة لها علاقة مشبوهة بالقاضي وبالسلطان الأعلى.
و-الحاكم في رواية سالم كالقاضي في رواية كافكا ظل مختفيا ومجهولا ولم يستطع أحد معرفته أو التوصل إليه، وكان يُعرف بأعماله وآثاره لا بشخصيته.
خلاصة:
1-جورج سالم متأثر تأثراً شديداً بكافكا، وهو يتتبع خطاه وينسج على منواله.
2-تُفرغ رواية "في المنفى" المحاكمة من محتواها الخاص ولا تقدم بديلاً معتبراً لها. كما أنها تفتقر إلى صفات الدقة والتنوع والإيحاء والوصل المفصل، تلك الصفات التي جعلت من المحاكمة رواية مقنعة ومثيرة لاهتمام مستمر في عالم الأدب.
3-وصف الأشخاص عند سالم باهت جداً لا يساعد على تصورهم كأناس موجودين ولو بشكل نسبي، بسبب إغراق الرواية في الرمزية.
4-الرواية خالية من التشويق أو المفاجأة ومفتقرة إلى المراوغة التي نجدها في المحاكمة.
5-شخصية المعلم ذات الطابع الفكري تبدو مفتقرة جداً إلى الحياة، تتضاءل أمام شخصية جوزيف ك وذبذباته النفسية التي لم تتوقف عن الحركة ثانية واحدة خلال الرواية كلها، وهي توحي للمرء طوال الرواية بأن المحاكمة واقع حقيقي لا لغز رمزي.
التشكل التدريجي لعقدة الذنب عند جوزيف في مقابل سذاجة التقريرية التي وصف بها سالم شعور المعلم بالإثم.
6-استعار جورج سالم شكلاً معيناً أعجب به ليصل إلى نتائج مختلفة، ولكن قصته باعتبارها رائدة وتجربة أولى لم تستطع أن توصل وجهة نظره بدرجة مقبولة من الوضوح.
النموذج الثاني: المهزومون: لهاني الراهب.
1-تقدم الرواية بطلاً شبيهاً بميرسو بطل الغريب لألبير كامي، من حيث رفضه المبدئي لتقبل المواصفات الاجتماعية والتفسيرات المألوفة للحياة، وكذلك من حيث انقطاع الصلة بينه وبين القوانين العامة التي تتحكم بحياة الناس الاجتماعية، وعدم الاعتراف بأية اعتبارات للتصرف سوى تلك الاعتبارات التي تنبع من أعماق ذاته المفعمة بالغموض والصدق معاً.
2-هناك تلاق بين ميرسو وبشر بطل "المهزومون" يتجاوز الخطوط العامة السابقة:
آ-الموت عندهما هو الحقيقة الوحيدة الملموسة، في حين أن حقائق الحياة الأخرى تبدو لهما سديمية.
ب-إنهما عاجزان عن فهم الموت نفسه، ولا يستطيعان إدراك الطقوس التي ترافق وفاة والدتيهما.
ج-يعود كل من البطلين إلى المدينة بعد حضور جنازة والدته ويستأنفان حياتهما الخاصة دون أن يذكرا لمن حولهما شيئاً عن الحادث المحزن، بل دون أن يبدو عليهما أن شيئاً ما غير عادي قد وقع.
الاتجاه الواقعي: العصاة.
1-تتويج للمؤثرات الأجنبية ومثال للمرحلة المتقدمة التي بلغتها القصة العربية في سورية، من حيث قدرتها على الاستفادة المباشرة من مختلف المؤثرات الفكرية والفنية واستخدامها في سبيل معالجة القضايا العربية المحلية، بحيث أصبحت هذه المؤثرات وسائل فعاله بيد الكاتب، وجزءاً طبيعياً من عدته الفكرية والفنية، وعلامة واضحة على عمق انتمائه للعالم المعاصر، ومقدرته على استيعاب عناصر الثقافة الحديثة.
2-استطاع المؤلف الاستفادة بذكاء من التقنيات الفنية وأساليب الكتابة الأوربية وأنواع العلوم الإنسانية الحديثة ولا سيما علم النفس، ومن معطيات الفكر الفلسفي السياسي.
3-قام المؤلف برصد التطور الثقافي لأشخاص روايته وللجيل الذي يمثلونه، وقدم لنا وثيقة فكرية تبين التدرج في الانتقال من الولاء المطلق للثقافة القديمة إلى الإقبال على ثقافات العالم المعاصر.
من السهولة بمكان القول أن النقاط التي توقف عندها الدكتور حسام الخطيب في الروايات السورية السابقة تدور حول ميدان واحد هو الكشف عن التأثر (18)، وهو أسس الأدب المقارن وهدفه. إلا أن فعالية الأدب المقارن عند حسام الخطيب لا يكفي في وصفها تحديد ميدان عملها، إن المرء يجد نفسه أمام منهج هذه الفعالية ومجالات عمله، وبحثها في أنواع التأثر ودلالات وجوده في الروايات المدروسة. وبالتالي فإن رصد هذه الفعالية يحتاج إلى مجادلة المؤثرات المذكورة في الروايات السورية السابقة، لأنها الدليل الوحيد على اتجاهات عمل الباحث ضمن ميدان التأثر.
توضح النقاط الواردة في نقد روايات شكيب الجابري وصدقي إسماعيل أن هناك نقلة في قضية المؤثرات من التأثر المباشر عند الجابري إلى التأثر غير المباشر عند صدقي إسماعيل. صحيح أن لهذا الأمر دلالة عامة كامنة في تقبل الرواية السورية للمؤثرات الأجنبية خلال تطورها عبر ثلاثين سنة (1937 –1967)، إلا أن ذلك لا يجعلنا نغض الطرف عن نقطة نقدية أكثر أهمية في فعالية النقد المقارن عند حسام الخطيب هي "الهضم والتمثل". فهذه النقطة دليل من دليلين (19) على وجود التأثير الأجنبي في النص الروائي العربي. ولعلنا نذكر –على وجه الدقة –سيطرة العنصر الغربي، واستقاء الحبكة من علم النفس الفرويدي، وكثرة الإشارات للثقافتين الإغريقية الكلاسية والألمانية الحديثة، عند شكيب الجابري. بمعنى أننا أمام تأثر مباشر لم يكن صاحبه قادراً على تمثل المؤثرات وهضمها وجعلها شيئاً من النص الروائي العربي، بل تركها تطفو على السطح في نوع من المباهاة الثقافية. وهذا العمل نقيض ما تشير إليه رواية العصاة من أنها هضمت المؤثرات وتمثلتها. وكان طريق حسام الخطيب إلى بيان هذا الهضم هو تحليل أسلوب الرواية وعاطفتها، فهي –في رأيه –"تتويج للمؤثرات الأجنبية، ومثال للمرحلة المتقدمة التي بلغتها القصة العربية في سورية من حيث قدرتها على الاستفادة المباشرة من مختلف المؤثرات الفكرية والفنية واستخدامها في سبيل معالجة القضايا العربية المحلية، بحيث أصبحت هذه المؤثرات وسائل فعالة بيد الكاتب، وجزءاً طبيعياً من عدته الفكرية والفنية".
أما أدلة الهضم والتمثل فقد رآها الباحث في قدرة صدقي إسماعيل على الاستفادة بذكاء من التقنيات الفنية، وأساليب الكتابة الأوربية، وأنواع العلوم الإنسانية الحديثة، ولا سيما علم النفس، ومن معطيات الفكر الفلسفي والسياسي. كما تتضح الأدلة نفسها حين نقارن عمل الجابري بعمل إسماعيل: شكل الأسلوب عند الجابري لم يغتن بالأفكار والعواطف التي تأثر بها، بل بقيت رواية "نهم" مجرد رواية غربية كتبت باللغة العربية، في حين اغتنى أسلوب إسماعيل بالأفكار التي تأثر بها، وهذا باد في مقدرته على تطويعها لمعالجة القضايا العربية المحلية. وليس هناك شك في أن الأمر نفسه يشير –من جهة أخرى –إلى دقة حسام الخطيب في الكشف عن أدلة التأثر من خلال الهضم والتمثل.
إن مقارنة النصوص –وهي الدليل الثاني على التأثر –تلقى عناية كبيرة من حسام الخطيب، لأنها مجال خصب لعمل الناقد المقارن، بل لعلها أساس عمله، وميدان وقته، تبعاً لتعذر وضع اليد على دليل الهضم والتمثل، وصعوبة التفريق بين التأثر والتشابه، مما دفع عديداً من دارسي الأدب المقارن إلى التحذير المستمر من الخلط بين التأثر –وهو داخل في الأدب المقارن –والتشابه وهو إحدى مهمات الأدب العام. يقول بول فان تيجم: "ينبغي التفريق بين التأثير والتشابه؛ ينشأ هذا الضلال في معظم الأحيان من تشابه في نصين لكاتبين اثنين، فيخيل إلى الباحث أن هناك تأثيراً. ينبغي ألا تذهب إلى القول بوجود تأثير ما لم يكن التشابه بين النصين واضحاً من حيث الصورة، أو عميقاً من حيث الفكرة، بحيث لا يمكن أن يعزى شيء من ذلك إلى المصادفة" (20). لهذا كله تلقى مقارنة النصوص مزيداً من اهتمام حسام الخطيب، وقد استخدمها في أثناء الحديث عن رواية "المهزومون" لهاني الراهب، ورواية "في المنفى" لجورج سالم، أما رواية الراهب فقد قارنها مقارنة جزئية برواية الغريب لألبير كامي، بحيث جعل وقفته المقارنة مقصورة على صورة البطل في الروايتين، فدرس تأثر بشر بطل الراهب بميرسو بطل كامي. وقد خلص من المقارنة إلى ما يشبه التأثر المباشر أو الاقتباس والتقليد، فالبطلان يلتقيان من حيث رفضهما المبدئي لتقبل المواصفات الاجتماعية والتفسيرات المألوفة للحياة، وانقطاع صلتهما بالقوانين التي تتحكم بحياة الناس الاجتماعية، وعدم اعترافهما بأية اعتبارات للتصرف سوى تلك التي تنبع من أعماق ذاتها المفعمة بالغموض والصدق معاً.
إن هذا اللقاء بين البطلين يتجاوز الخطوط العامة إلى الجزئيات. فالموت عند البطلين هو الحقيقة الوحيدة الملموسة، في حين تبدو لهما حقائق الحياة الأخرى سديمية. وهما عاجزان عن فهم الموت نفسه وما يرافقه من طقوس، كما أنهما يعودان إلى المدينة بعد جنازة والدتيهما ويستأنفان حياتهما الخاصة دون أن يعلم أحد بما جرى معهما. صحيح أن الدكتور الخطيب يتجه بتعليقه وجهة أخرى يسلك فيها رواية الراهب في سلك الحملة التي شرع مطاع صفدي يقوم بها، إلا أن سياق نقده للرواية يدل على تأثر هاني الراهب المباشر واقتباسه من رواية ألبير كامي. وهذه النتيجة الواضحة جداً من خلال السياق هي التي دفعت الناقد إلى تجنب تقرير النتيجة اعتماداً على فهم القارئ لها من سياق المقارنة.
أما رواية "في المنفى" لجورج سالم فقد قارنها الناقد برواية "المحاكمة" لكافكا، ولكنه لم يكتف بالمقارنة الجزئية التي تتناول البطل وحده كما فعل في رواية هاني الراهب، بل تغلغل في النصين الروائيين، وراح يلاحق الخطوط العامة والجزئيات الصغيرة والعناصر الفنية. فمفهومات الخطيئة الأصلية والبراءة والنفي الكوني والعذاب الإنساني والحتمية المفروضة وانحداد الرؤية، مفهومات مشتركة بين الروايتين. ليس هذا فحسب، بل إن العناصر الفنية –وهي الطريق الموصلة إلى المقارنة الفكرية –متطابقة في الروايتين، لأن البطلين متشابهان شكلاً ومضموناً:
1-كلاهما غريب مدان مسبقاً دون أن يدرك السبب، أو يشعر بارتكابه أية خطيئة.
2-كلاهما يعاني من معضلة مشتركة لا يستطيع فهمها، لأنه يواجه باقتناع السلطة والناس بذنبه.
3-كلاهما يظهر جرأة في تحدي السلطان الغامض للمؤسسات، ويدخل أمكنة محظورة عليه.
4-مصيرهما، ومشهد إلقاء القبض عليهما، وعيوبهما، متشابهة إلى حد بعيد.
إن هذا التطابق يتجاوز الخطوط العامة إلى الجزئيات: من نحو غيابهما دون أن يهتم أحد بذلك، وفساد قاضي التحقيق، والمرأة التي تتقدم لمساعدتهما، واختفاء الحاكم، وكيفية تنفيذ الحكم عليهما.. هذا كله يجعل "المقارنة ليست في صالح جورج سالم على الإطلاق" لأن روايته تبدو "نسخة مبسطة عن رواية المحاكمة، تتبع خطواتها الأساسية".
نحن –هنا –أمام وحدة في الطرفين: المرسل –الآخذ على حد تعبير بول فان تيجم، وهذا يساعدنا كثيراً على فهم شخصية جورج سالم الذي أخذ من كافكا. ولكن الدكتور الخطيب لا يكتفي بمقارنة النصين، بل يروح يحدد مستوى الاقتباس والتقليد عند سالم، فيراه مفتقراً "إلى التفصيلات الواقعية البارعة التي تصف الظروف الغريبة المعقدة المحيطة ببطل كافكا". بل إن رواية سالم تفرّغ "المحاكمة من محتواها الخاص ولا تقدم بديلاً معتبراً لها. وهي تفتقر إلى صفات الدقة والتنوع والإيحاء والوصف المفصل، تلك الصفات التي جعلت من المحاكمة رواية مقنعة ومثيرة لاهتمام مستمر في عالم الأدب". ومن الواضح –بعد ذلك –أن أفكار كافكا لم تنتقل إلى جورج سالم فحسب، بل أن روايته بنصها قد انتقلت من الفرنسية على العربية دون أن تغتني أو تغدو أكثر تشويقاً، أو يستطيع المقلد تطويعها لمعالجة موضوع عربي جديد. وحين راح أحد الدارسين العرب يضفي علامات الإعجاب على رواية سالم لم يكن أمام الدكتور الخطيب سوى تحديد الوصف النهائي لمقارنة الروايتين، فقال (21):"إن جورج سالم استعار شكلاً معيناً أعجب به ليصل إلى نتائج مختلفة، ولكن قصته باعتبارها رائدة وتجربة أولى لم تستطع أن توصل وجهة نظره بدرجة مقبولة من الوضوح".
يبقى ضمن حيز النقد المقارن نموذج انتشار المذاهب الفنية وتأثر الرواية السورية بها. وهذا النموذج لا يخرج عن الإطار العام للتأثر وإن أشار إلى مذهب فني محدد.
وقد اختار الدكتور الخطيب الوجودية وراح يبحث عن تأثر مطاع صفدي بها ضمن الاتجاه القومي الذي تعلن عنه روايتاه جيل القدر وثائر محترف. وكان مسوغ الاختيار كامناً في أن مطاع صفدي أقوى الأصوات المتبنية لهذا الاتجاه "سواء في كتاباته النظرية أو قصصه ورواياته. وأسس هذا المشرع تقوم على تغذية مفهوم النضال القومي بمضمون فلسفي وجودي يمكن أن يجعل من القومية العربية أيديولوجية قائمة بذاتها وقادرة على مضاهاة الأيديولوجيتين الأخريين المنافستين: الأيديولوجية الدينية والأيديولوجية الأممية".
وقد نبه الدكتور الخطيب إلى أن المؤثرات الوجودية ليست الوحيدة في روايتي مطاع صفدي، بل هي أبرز ما تضمه الروايتان، ولذلك آثر التركيز على المواقف التي "تتجلى فيها الأفكار الوجودية بشكل سافر". ولاحظ في أثناء حديثه عن رواية جيل القدر أن القيم الأساسية ووسائل التفكير المسيطرة على الرواية ذات طابع وجودي سافر، وأن العلاقة العاطفية بين نبيل وهيفاء مفهومة من خلال المصطلحات الوجودية، وأن المناقشات بين أبطال الرواية يسودها اعتداد واضح بالوجودية، وأن الكاتب يحاول جاهداً إضفاء فهم وجودي على الأحداث القومية المختلفة. وإذا كانت الأمور المذكورة تشير إلى انتشار الأفكار الوجودية في الرواية فإن مجال التأثر يتعدى الأفكار الوجودية العامة إلى أفكار سارتر وكامي الوجودية الخاصة كما تظهر في مسرحية الأيدي القذرة للأول، ومسرحية "العادلون" للثاني. فكل ما يدور حول عملية قتل الديكتاتور من أفكار في رواية جيل القدر يذكِّر بمسرحية الأيدي القذرة لسارتر، لأن مطاع صفدي يتناول المشكلات الفكرية التي تتعلق بعملية القتل السياسي بعد تطعيمها بعناصر من واقع النضال القومي العربي، ولكن هذه العناصر "تبقى في معظم الأحيان تطعيماً خارجياً ولا عضوياً، وتظل المشكلة الرئيسية كما هي في الأيدي القذرة مشكلة وجودية فردية أكثر مما هي مشكلة قومية سياسية". والأمر نفسه نجده في الخلاف حول معاني القتل السياسية والفلسفية، ودوافعه، مما يجعل الرواية تقترب من مسرحية "العادلون" لألبير كامي. وقد خلص الدكتور الخطيب إلى أن أبطال مطاع كانوا أفصح وجودياً من هيغو بطل سارتر، ولكننا نستطيع أن نجد أساساً لمعظم ما قالوه في تصرفات هيغو وفي أقواله أيضاً". بمعنى أن الفصاحة الوجودية عند أبطال الصفدي لا تجعلهم يبتعدون عن التأثر المباشر بمسرحية سارتر، ولكنها في الرواية الثانية "ثائر محترف" تنوس وتتنازل عن تبشيريتها لتعترف بأن التوفيق بين الثورة الوجودية والثورة القومية ليس بالسهولة التي تخيلها بطل الرواية على حد تعبير الدكتور الخطيب.
يستطيع المرء الاطمئنان إلى أن فعالية النقد المقارن عند حسام الخطيب متشعبة.
وقد لاحظنا تكوكبها حول جانب واحد من الأدب المقارن هو تأثر الرواية السورية بالآداب الأجنبية، واستخدامها في الكشف عن هذا التأثر دليلين: الهضم والتمثل –مقارنة النصوص، وعنايتها بالمصادر الفردية وبخاصة اقتباس الأفكار، وبالمجالات العامة: الانتشار –النجاح –الاقتباس والتقليد، وانصراف موضوعاتها –ضمن حيز التأثر –إلى مقارنة عمل أدبي بآخر، وإلى المذاهب الفنية. ويمكننا بسهولة ملاحظة عناية الدكتور الخطيب بأنواع التأثير، وبالذات تأثير سارتر وكامي بأفكارهما التي ذهبا إليها ونادى بها بعض الروائيين السوريين. وقبل ذلك كله يتمتع النقد المقارن عند حسام الخطيب بتقيد منهجي صارم بأساليب الاستقصاء، وبخاصة تحديد المسألة المراد درسها، وتحديد الفترة التي يتناولها البحث. وهو بذلك يحقق ما ذهب إليه محمد غنيمي هلال من أننا "نقصد بدراسة الأدب المقارن الوصول إلى شرح الحقائق عن طريق تاريخي، وكيفية انتقالها من لغة إلى أخرى، وصلة توالدها بعضها من بعض والصفات العامة التي احتفظت بها حين انتقلت من أدب إلى آخر، ثم الألوان الخاصة التي فقدتها أو كسبتها بهذا الانتقال" (22).
على أنه من المفيد القول إن الغرض من"المقارنة" عند الدكتور الخطيب لا يكمن في شرح الحقائق عن طريق تاريخي فحسب، بل إن هناك غرضاً نقدياً هو التوصل إلى تقييم الروايات السورية، وتذوقها أفضل من خلال معرفة المؤثرات الأجنبية فيها. وليس هناك شك أن في هذا الغرض النقدي يكفل وضع الروايات في المكان الذي تستحقه دون مبالغة في الإعلاء من شأنها، من قيمتها الفنية. يقول الدكتور الخطيب: "اعتماداً على نتائج الأدب المقارن يستطيع الناقد أن يحدد مدى الابتكار والأصالة في الأعمال الفنية، أو مدى اعتمادها على التقليد. ويستطيع كذلك أن يعلل وجود ظواهر فكرية أو فنية غير متوقعة في أعمال معينة، كما أنه يستطيع الإفادة من سلاح المقارنة في تحديد القيمة الجمالية للأعمال المدروسة. وقد كانت المقارنة وما تزال أقوى برهان في مجال التذوق. كما أن الربط بين التجارب الأدبية المحلية والخارجية يعين الناقد كثيراً على حسن التذوق، ويقيه من المبالغة في تقدير قيمة أعمال محلية قد لا تصل إلى مستوى أعمال مماثلة لدى أمم أخرى. وفي العصر الحديث بالذات تزداد كثيراً قيمة النتائج التي يقدمها الأدب المقارن للنقد، وذلك تبعاً لازدياد التفاعل الثقافي في العالم المعاصر، وما نجم عنه من اشتراك في الأفكار والأذواق وطرز التعبير، بحيث أصبح من غير المعقول إقدام الناقد على إصدار أحكام جمالية وذوقية على الأعمال المحلية دون الاستنارة بموجة الأذواق العالمية. ولا شك أن الإطلاع على كل هذه الأمور هو من صميم عمل الناقد المتبصر، ولكن عمل الناقد يسهل جداً حين يقدم الأدب المقارن بين يديه نتائج دقيقة وثابتة علمياً (23). ومن هذه الوجهة النقدية يمكننا القول إن كتاب "سبل المؤثرات" عيِّنة (أو حالة دراسية Case Study) قابلة للتعميم في الدراسات العربية، بحيث تؤدي الدراسات بمجموعها غرضاً محدداً هو التعرف إلى الخارطة العامة للمؤثرات الأجنبية في الأدب العربي الحديث، وإلى طبيعة هذا الأدب. على أن الوجهة النقدية نفسها تقود إلى الأمور التالية:
1-إن المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن، تلك التي رأينا ميل الدكتور الخطيب إليها، تستبعد قضايا التذوق والتقييم والعلاقات الجمالية، وهي أمور واردة في فعالية النقد المقارن عند حسام الخطيب، إن لم نقل إنها غرض رئيسي عنده. وهذا يعني أن التزمت المنهجي غير وارد عنده. فهو لا يتعصب للآراء التي يطرحها أصحاب المدرسة الفرنسية وحدهم، بل ينفتح على آراء أصحاب المدرسة الأمريكية، في محاولة جادة لتجاوز الاعتراضات التي يصبها الباحثون المقارنون على المفهوم الفرنسي.
2-ينفي مفهوم المدرسة الفرنسية أن تكون المقارنة أداة نوعية للتذوق الجمالي؛ بمعنى أنه يستبعد النقد الأدبي من منطقة الأدب المقارن، ويراه فعالية أخرى مستقلة.
والمسوغ المطروح لهذا الاستبعاد هو الانصراف إلى البحث العلمي؛ أي دراسة التأثيرات المبنية "على أساس البينات الملموسة، المستندة غالباً إلى الوثائق الشخصية" (24)، ومن الواضح أن الدكتور الخطيب لم يتقيد بالفصل بين الأدب المقارن والنقد الأدبي، بل راح يقوي الصلات بينهما، بغية تأسيس منطقة مشتركة قادرة على تحقيق أهداف الاثنين معاً. وقد اعتمدنا على هذا الأمر منذ بداية الدراسة، فأطلقنا عبارة "فعالية النقد المقارن" على عمل الدكتور الخطيب، تبعاً لما رأيناه عنده من عناية بإثبات التأثر والتأثير على البينات الملموسة المستندة إلى الوثائق المبنية على التذوق الجمالي سلاحاً لتقييم الروايات السورية، وهو عمل مرفوض من قبل المدرسة الفرنسية، مقبول من المدرسة الأمريكية، مما يؤكد الانفتاح المنهجي عنده، ويجعل عمله أكثر دقة وإقناعاً للقارئ.
3-يحتاج الناقد المقارن إلى مؤهلات ثقافية تختلف قليلاً أو كثيراً عن المؤهلات الثقافية للباحث المقارن وللناقد الأدبي. فهو يحتاج إلى المعرفة الدقيقة بالأدبين (أو الآداب) المعنية بالدراسة، ومعرفة أخرى بالأفكار والأذواق، كي يكون قادراً على استخدام المقارنة سلاحاً في تقييم الروايات وتذوقها. وهي القول أن المعرفة الدقيقة بالأدبين هي عدة الباحث المقارن، وأن معرفة الأفكار والأذواق هي عدة الناقد الأدبي، ولكن الناقد المقارن مطالب بالتسلح بالمعرفتين كلتيهما قبل أن يمارس فعالية النقد المقارن، وقد لاحظ المرء، من خلال تتبع عبارات كتاب "سبل المؤثرات" ومقاطعه، أن الدكتور الخطيب يملك هاتين المعرفتين والمؤهلات الثقافية المطلوبة لهما، وبخاصة الأمور الأربعة التالية:
أ-أدوات الباحث المقارن:
من البدهي أن يملك الناقد المقارن ما يملكه أي باحث في الأدب المقارن، وبخاصة اللغات والآداب، وفي حالة الدكتور حسام الخطيب تكفي الإشارة إلى اللغات الثلاث التي يملكها (الإنكليزية والفرنسية والعربي)، وإلى كتابه: محاضرات في تطور الأدب الأوربي (25)، لأن هذين الأمرين يشيران إلى مقدرته على قراءة النصوص التي يرغب في معرفة صلات بعضها ببعض، وإلى الآداب، من حيث اتجاهاتها وأفكارها وأساليبها، وعلاقاتها السياسية والاجتماعية والفلسفية والدينية والعلمية والفنية والأدبية (26).
ب-الإحاطة:
تتجلى الإحاطة في معرفة الناقد الخطيب بوضع الأدب المقارن في العالم، من حيث مفاهيمه الرئيسية، ومعضلاته، ومنطقة عمله، فكتاب "سبل المؤثرات" تطبيق آراء المدرسة الأمريكية، مما يشير –بشكل مباشر –إلى إحاطة الدكتور الخطيب بآراء الاتجاهين الرئيسين في الأدب المقارن، ووجه الاختلاف بينهما، والاعتراضات التي تنصب على كل منهما، ثم: مدى الاستفادة معاً في حالة دراسية لنصوص روائية عربية وليس هناك شك في أن الإحاطة لا تتجلى في كتاب "سبل المؤثرات" وحده، بل هي بادية أيضاً في دراسات الناقد الخاصة بتتبع تطورات الأدب المقارن في العالم (27)، وفي تحديده النظري لمفهومات هذا الأدب، وبخاصة ما يتعلق منها بـ:
-دراسة الأدب الشفوي.
-دراسة الصلات بين أدبين أو أكثر.
-مطابقة الأدب المقارن مع دراسة الأدب في شموله؛ أي مطابقته مع "الأدب العالمي" أو "الأدب العام".
-ابتعاد العصر عن التزمت في منهجية الأدب المقارن، والمطالبة بأن تتوسع نظرته "لتشمل البحث عن المشابهات في الأفكار الأدبية وفي الذوق الجماعي، لأنه بغير ذلك لا يكون النقد المقارن فعالية حية مرتبطة بقضايا العصر" على حد تعبير الدكتور الخطيب.
ج-دراسة الترجمة:
يحتاج الباحث المقارن إلى دراسة الترجمة كي يتمكن من أداء عمله (28)، ولكن هذه الدراسة تتطلب منهجية متطورة واستعداداً لغوياً وثقافياً، وقد لاحظ المرء هذه الصفات عند الدكتور الخطيب من خلال تتبعه لحركة الترجمة من الآداب المختلفة إلى اللغة العربية، وملاحقته ما تم نشره من كتب خلال مراحل البحث الثلاث، وما صدر في الدوريات الثقافية، وما صرح به الأدباء، وما تمت ترجمته داخل سورية وخارجها، وما تُرجم إلى العربية من لغته الأصلية، وما تمت ترجمته باستخدام اللغة الوسطية، وأسماء الأدباء الأجانب الذين ذاع صيتهم في تلك الفترة، والذين مروا بالحياة الثقافية العربية مروراً عابراً، وأسباب انتصار أدب دون آخر في فترة معينة، وما إلى ذلك، وهذه كلها أمور غير مطلوبة من الباحث الأدبي العادي، لأنها كفاءات عالية تنم على اتساع في أفق الناقد المقارن وبصيرته.
د-المعرفة الواسعة بالأفكار والأذواق:
من الواضح أن معرفة الدكتور الخطيب بالاتجاه الوجودي في فرنسا هي التي أهَّلته لدراسته في الرواية السورية، كما أن معرفته بالأفكار السائدة في الخمسينات والستينات هي التي جعلت أحكام القيمة الخاصة بالاتجاه القومي الوجودي أو أدب الضياع والتفتت دقيقة عنده، كقوله: "إن المرء ليتساءل هنا لماذا كان لأدب الضياع والتفتت مثل هذا التأثير الصارخ ابتداء من الخمسينات؟ لا شك أن هناك عوامل كثيرة بعضها نوعي وخاص... ولكن هناك عوامل أخرى يمكن أن تتلخص في أن أدب التفتت كان يمنح الجيل الصاعد فرصة براقة للهرب من الواقع المر، فقد شهد هذا الجيل منذ أواخر الأربعينات سلسلة من النكبات والمآسي ابتدأت بنكبة فلسطين سنة 1948 التي أشاعت في الأمة العربية وفي الجيل الناشئ خاصة شعوراً عميقاً بالذنب والعار والعجز. وكان هذا الشعور يتعمق بالتدريج كلما ثبت إخفاق الوسط الرسمي العربي في معالجة المسألة الفلسطينية، يضاف إلى ذلك أن التغيرات السياسية السريعة في بلد كسورية كان لها تأثير مدمر على أفكار الجيل وقيمه بوجه خاص، إذ جعلت الجيل كله يعيش بدون نموذج قيادي بما في ذلك الشباب الملتزمون سياسياً" (29). إن معرفة الأرضية السياسية والاجتماعية التي ينطلق منها الجيل الجديد هي التي أعانت الناقد على تلمس شيوع لون معين من الأفكار دون غيره. وهذه المعرفة تعين الناقد على استخلاص أحكام قيمة تستمد قوتها ووجاهتها من مقدرتها على الحكم على النصوص الروائية بحسب معطيات المجتمع الذي ولدت فيه، وبحسب الأذواق الأدبية السائدة آنذاك، دون أن يكون هناك أي لبس بين زمن النقد وزمن تأليف النص.
أخيراً فإن الحذر من إطلاق الأحكام بين التثبت من صحة التأثر أبرز ما يمكن أن يلقاه المرء في فعالية النقد المقارن عند الدكتور الخطيب، لئلا يخلط بين التأثر والتشابه، وليستطيع التفريق بين الأفكار والاتجاهات والنواحي الفنية التي تعبر عنها النصوص الروائية، ومن الواضح أن الحذر المستمر من إطلاق الأحكام هو الذي قاد الدكتور الخطيب إلى لب الأدب المقارن، وجعله يحلل العناصر لدى الكاتب الأجنبي المرسل لها، والكاتب العربي الآخذ بها، وطريق انتقالها وشيوعها، بغية التثبت من الاقتباس والتأثر على نحو دقيق لا يخالطه الشك ولا تعوزه اللطافة النفسية التي يجعلها بول فان تيجم ضرورة لأي باحث مقارن.
***
هوامش:
*انظر القسم الأول من هذه الدراسة في مجلة الموقف الأدبي –العدد 121 –أيار 1981.
1-يطرح بول فان تيجم في كتابه "الأدب المقارن" (دار الفكر العربي –القاهرة –السطر 1 -؟) ضرورة تفريغ كلمة "مقارنة" من دلالتها الفنية وإعطائها معنى علمياً. وهذا الأمر، الذي يعني نقل الأدب من باب الإنسانيات إلى باب العلم، يعبر عن الأساس العلمي للأدب المقارن. انظر ص 6 من: أبو زيد. د. أحمد –"الأدب المقارن" –عالم الفكر –الكويت –المجلد 11 –العدد 3 –تشرين الأول 1980.
2-المرحلة الأولى (1937 –1949) –المرحلة الثانية (1950 –1958) –المرحلة الثالثة (1959 –1967).
3-المراد: دراسة القصة السورية الحديثة ضمن المراحل الثلاث السابق ذكرها. انظر مقدمة كتاب: سبل المؤثرات الأجنبية وأشكالها في القصة السورية، الط 2 –اتحاد الكتاب العرب –دمشق 1974 –ص 5 –6 –7. ومن المفيد القول أننا سنعتمد اعتماداً رئيساً على هذا الكتاب الذي نشر أول مرة في معهد الدراسات العربية العالية –القاهرة 1973، ثم أعيد للمرة الثالثة في دمشق 1981. وسنقوم –في أثناء ذلك –بالاستئناس بكتاب: أبحاث نقدية ومقارنة، مكتبة أطلس –دمشق 1974، وببعض دراسات المؤلف الأخرى، وبخاصة ما هو موجود في مجلة المعرفة، وفي كتاب: ملامح في الأدب والثقافة واللغة –وزارة الثقافة –دمشق 1977.
4-سبل المؤشرات –ص 8. وقد اعتمدنا في المنطقات الأخرى على المصدر نفسه.
5-تستند هذه المدرسة إلى المبدأين التاليين:
الأول: أن اللغة هي التي تُعيِّن شخصية الأدب الذي يقارن بغيره من الآداب. بمعنى أن دراسة مقارنة تدور حول مدرستين أدبيتين ضمن نطاق أدب لغة واحدة لا تعد من الأدب المقارن في شيء، لأن اختلاف لغة الأدبين ضرورة لازبة.
الثاني: أن يتم لقاء تاريخي بين الأدبين. أما التشابه غير المبني على أساس من اللقاء التاريخي فلا يعتد به في دراسة الأدب المقارن.
لمزيد من التفصيل انظر ص 20 –21 –23 وما بعد من: كفافي، د. محمد عبد السلام: في الأدب المقارن –دار النهضة العربية –بيروت 1972. وص 11 من: هلال د. محمد غنيمي: الأدب المقارن –دار العودة –بيروت –الط 2؟. وص 75 وما بعد من: الخطيب، د. حسام: "الأدب المقارن بين التزمت المنهجي الانفتاح الإنساني"
المعرفة، دمشق، العدد 204 –شباط 1979، وص 77 من: مسعود، رشيد –مسألة الأدب المقارن" –المعرفة، دمشق –العدد 182 نيسان 1977. وص 63 من: شحيد، د. جمال: الأدب المقارن بين التقليد والحداثة –المعرفة، دمشق –العدد 182 –نيسان 1977.
6-هذا يعني لدينا أن الدكتور حسام الخطيب يهتم أولاً بإثبات الصلة بين الوسط الأجنبي المؤثر والوسط العربي المتأثر، ويستعين بما أدلى به المؤلف من تصريحات عن نوع ثقافته وتأثره بكاتب أو ثقافة بلد ما. وكان رصد الأدباء الأجانب الذين تكررت أسماؤهم في الدوريات السورية، وأسماء الكتب التي ترجمت لهم ومدى رواجها في سورية. وهذه الأمور هي سبيل الانتقال من لغة إلى لغة كما يرى الدكتور محمد غنيمي هلال في كتابه "الأدب المقارن" ص- 93.
7-في الأدب المقارن –محمد عبد السلام كفافي –ص 21. يوضح رماك النظرية الأمريكية في الأدب المقارن بقوله:
"الأدب المقارن هو دراسة الأدب خلف حدود بلد معين، ودراسة العلاقات بين الأدب من جهة ومناطق أخرى من المعرفة والاعتقاد من جهة أخرى. وذلك من مثل الفنون (كالرسم والنحت والعمارة والموسيقى) والفلسفة والتاريخ والعلوم الاجتماعية (كالسياسة والاقتصاد والاجتماع). والعلوم والديانة. وغير ذلك. وباختصار هو مقارنة أدب معين بأدب أو آداب أخرى، ومقارنة الأدب بمناطق أخرى من التعبير الإنساني". انظر ص 76 من: الخطيب، د. حسام: "الأدب المقارن بين التزمت المنهجي والانفتاح الإنساني" –المعرفة، بدمشق –العدد 205 /206 –آذار /نيسان 1979. ثمة إشارات واضحة إلى اهتمام المدرسة الأمريكية بالذوق والتحليل الشكلي والعلاقات الجمالية بين الآداب التي لم يؤثر أحدها في الآخر تأثيراً مباشراً. انظر ص 77 من: مسعود، رشيد: "مسألة الأدب المقارن" –المعرفة، دمشق –العدد 182 –نيسان 1977. وفي العدد نفسه انظر ص 64 من: شحيد، د. جمال "الأدب المقارن بين التقليد والحداثة".
8-نفسه –ص 23. ومن المعروف أن هناك دراسات مقارنة بين الفنون والمعارف في فرنسة، ولكنها لا تدخل في نطاق الأدب المقارن.
9-خلاصة هذه المسابقة أن وجيهاً حلبياً أعلن عن عزمه على تخصيص خمس ليرات ذهبية عثمانية للفائز في دراسة موضوعها "الأدب العربي ماضيه وحاضره. مبلغ تأثره بالآداب الغربية. وما هو المدى الذي ينبغي ألا يتجاوزه تطور الأدب العربي بتأثره بآداب الغرب". وقد استجاب سامي الكيالي صاحب مجلة الحديث للدعوة. وأعلن عن المسابقة في العدد الثامن من السنة الخامسة (آب 1931)، على أن يكون المتسابقون من حلب وحدها. وقد شكلت بعد ذلك لجنة تحكيم مؤلفة من الأب أغناطيوس سعد –أمين هلال –الدكتور علي الناصر –سامي الكيالي، اجتمعت في الحادي عشر من تشرين الثاني 1931، وقررت منح الجائزة مناصفة بين ايزاك موسى شموس ونديمة المتنقاري (صاحبة مجلة المرأة آنذاك)، كما أعلنت عن اسم الوجيه الحلبي فكان محمد سعيد الزعيم، وقد نشرت المجلة في عدديها الأول والثاني من السنة السادسة (ك2 /شباط 1932) نص الدراستين الفائزتين وقرار لجنة التحكيم.
10-قارن رأي ايزاك شموس برأي الدكتور حسام الخطيب في كتابه "سبل المؤثرات" –ص 49 –الهامش رقم 1.
11-المراد هنا: الرابطة القلمية التي أنشئت في المهجر، وعصبة العشرة في بيروت، وعصبة الأدب في حلب.
*نشرها في مجلة "مسامرات الشعب" عام 1922.
12-انظر مساهمة يحيى الجركس (منبج) وعمر أبو النصر (حلب) في الموازنة بين الروايتين العربية والإنكليزية في معرض الدفاع عن المازني –مجلة الحديث –س 6 ع4 –1932. وس 6 -ع5 –1932.
13-صدرت الطبعة الأولى من رواية إبراهيم الكاتب في تموز 1931 عن مطبعة دار الترقي بالقاهرة.
14-انظر: سبل المؤثرات –ص 48 وما بعد، وأبحاث نقدية ومقارنة –ص 167 وما بعد. والفقرة مدونة بنصها من هذين الكتابين، ولم يكن هناك تصرف إلا في القليل النادر.
15-سبل المؤثرات –ص 60 وما بعد.
16-نفسه –ص 63 وما بعد.
17-انظر: أبحاث نقدية ومقارنة –ص 165، وسبل المؤثرات –ص 46.
18-المعروف أن الميدان المقارن يشمل التأثير والتأثر، ولكن فعالية النقد –هنا –معنية بالتأثر أكثر من التأثير تبعاً لمنهجها وزاوية نظرها المختارة.
19-الأدب المقارن –بول فان تيجم –ص 143.
20-انظر: الأدب المقارن –ص 141.
21-انظر ص 73 من: الخطيب، د. حسام –في المنفى والمحاكمة، نظرة مقارنة. المعرفة، دمشق –العدد 147 أيار 1974.
22-انظر ص 13 من: هلال، د. محمد غنيمي: الأدب المقارن.
23-انظر ص 80 من الخطيب، د. حسام: الأدب المقارن بين التزمت المنهجي والانفتاح الإنساني –المعرفة، دمشق –العدد 204 –شباط 1979.
24-المرجع السابق نفسه –العددان 205 /06 –آذار /نيسان 1979 –ص 77.
25-جامعة دمشق 1975.
26-انظر ص 70 –71 من: تيجم، بول فان، الأدب المقارن. وقد نص المؤلف (ص 186) على أن المقارن (بكسر الراء) تكفيه لغتان فحسب.
27-لمزيد من التفصيل انظر: الخطيب، د. حسام:
-قضايا الأدب المقارن في مؤتمره العالمي الثامن. المعرفة، دمشق –العدد 177 –تشرين الثاني 1976.
-الأدب المقارن بين التزمت المنهجي والانفتاح الإنساني. المعرفة، دمشق –الأعداد: 204 –205 /206 –207، شباط، آذار، نيسان –أيار 1979.
28-تتفق المدرستان الفرنسية والأمريكية على أن "الترجمة" أهم قضايا الأدب المقارن. لمزيد من التفصيل حول النقاط التي اتفقت عليها المدرستان، انظر ص 12 –13 من: السكري، د. شوقي: مناهج البحث في الأدب المقارن، عالم الفكر الكويت –المجلد 11 –العدد 3 –تشرين الأول 1980.
29-سبل المؤثرات –ص 122 –123.
[/ALIGN][/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|