كنت أتأمل رسومات المعتقل التي نشرتها وسائل الإعلام الفلسطينية لتزين جدران المخيمات ، هذه الأعمال المرسومة بألوان الشمع و المذيلة باسم الفنان و الموسومة بعبارة " معتقل عسقلان " كانت تشدنا بعنف و تحلق بنا في فضاء الوطن و تقربنا إلى ساحته ، و كانت تثير فينا انفعالات الإعجاب و الدهشة و الإجلال و التقدير الكبير لأولئك الذين يحولون قماءة الاحتلال إلى تحد يتلون بإرادتهم القوية ، و يصطبغ بعمق وعيهم ، و كنا نتساءل كيف يستطيع أولئك القابعون تحت ظروف الاعتقال أن يبدعوا أعمالاً بهذه الروعة من الألوان التي تمتلئ حياة و حيوية بتقنيات بسيطة !!و كيف تخترق القضبان لتصل إلينا !!؟؟ و اسئلة كثيرة كانت تدور في البال حينها . و شاءت الظروف أن ألتقي بالفنانين زهدي العدوي و محمد الركوعي بعد تحررهما عام 1985 ، و هنا أفرد الحديث لإضاءة تجربة الفنان زهدي العدوي الذي تحدث إلي في أكثر من لقاء . و أرى أنه من المفيد أن أوجز سيرته الفنية قبل الاعتقال لتوضيح أثر المعتقل بأعماله فيما بعد .
فهو من مواليد مخيم النصيرات في غزة عام " 1952 " التي هاجر أهله من اللد إليها بعد عام " 1948 " ، و يبدو زهدي العدوي الطفل مولعاً بالرسم يتنقل هنا و هناك حاملاً بكفه الصغيرة طباشير يخط بها على جدران المخيم رسوماته الأولى التي سرعان ما كشفت عن طاقة هائلة تتفجر إلى الحد الذي مكنه من رسم البورتريه لشخصيات فنية و هو ما يزال في التاسعة من عمره ، و أياً كان مستواها فقد لفتت إليه الأنظار و جعلته محط إعجاب و دهشة من المحيطين به ، الأمر الذي جعل مدرسيه يكلفونه بالكثير من الرسومات التوضيحية لدروسهم ، بالإضافة إلى تكليف الإدارة له برسم لوحات توجيهية و دعائية كبيرة على جدران المدرسة .
في المرحلة الإعدادية يبدأ التميز أكثر ، و التشجيع من قبل المدرسين و المحيطين يمنحه دافعاً أكبر لمواصلة العمل ، فكان يغتنم خلواته ليرسم الطبيعة ، أو يرسم مقلداً الفنانين .
و في عام " 1967 " يغتصب الاحتلال الصهيوني قطاع غزة ، و ينخرط زهدي العدوي في العمل الوطني عام " 1969 " و هو طالب في المرحلة الثانوية ، حيث وصل في دراسته إلى التوجيهي " الثالث الثانوي " ، ثم انتقل إلى مركز التدريب المهني الـ " VTC " قبل أن ينهي التوجيهي .
إلا أنه في 8/4/1970 ، و هنا تبدأ قصة مرحلة من النضال صاغته ثقافياً و فنياً و وطنياً ، فقد استطاع أن يحصل على التوجيهي ثلاث مرات و هي أعلى مرحلة دراسية سمح لهم بها .
أما على صعيد العمل الفني فهي قصة طويلة تحمل المغامرة و المخاطرة ، فقد حصل المعتقلون بعد إضرابهم عن الطعام على بعض حقوقهم و منها الدفاتر و الأقلام ..
و هنا لم يستخدم زهدي دفاتره بغرض الكتابة ، لكنه بدأ ينمي هوايته في الرسم ، فقام بدراسات سريعة " كروكيات " لزملائه استراقاً ، و استفاد من مميزاتهم الشكلية و التعبيرية فحصل على قوة تشريحية للأشخاص ، و عندما بدأ يرسم صورهم الشخصية كانت تدريباً مهماً وظفه فيما بعد في بناء اللوحة الفنية ..
و لأن الدفاتر تسلم إلى إدارة المعتقل فقد لفتت إليه الأنظار و جلبت له المضايقات ، لأن العدو يدرك خطورة هذه الممارسات عليه ، خاصة عندما تصبح هذه الأعمال متداولة بين المعتقلين ، وتغدو محرضاً قوياً و وسيلة للسخرية كما هو الحال عندما تناول بلوحة أشبه بالكاريكاتورية غدارة السجن و ضغوطها الوحشية بشخص مدير السجن الذي صوره بذنب طويل متشعب والمناضلون يمسكون به و يقومون بقصه ..
لم تنه القصة هنا بل تبدأ بإرادة أقوى و تحد أشد ، لقد أوجد الفنانون طريقة لتهريب ألوان الباستيل لداخل السجن الذي سيشهد منذ الآن ولادة فن المعتقل و تطوره يوماً بعد يوم .. و قد اتخذوا من أغطية الوسائد بعد أن قسموها إلى " محارم " مسرحاً لأفكارهم و انفعالاتهم في جو من المغامرة حيث كان المعتقلون يوفرون لهم الجو الأنسب و يقومون بالتغطية عليهم حتى لا تكتشف الأعمال و تصادر و يزج بالفنانين في الزنازين ، و حين تنتهي الأعمال تخبأ بطرق ذكية إلى حين تهريبها ببراعة و جرأة لتصل إلى الجهات المسؤولة خارج المعتقل ، فتقام لهم المعارض في المناسبات الوطنية كما حدث في جامعة بيرزيت ، و جامعة النجاح ، و الجامعة الإسلامية في غزة حيث شكلت هذه المعارض ملاحم وطنية لا توصف .. و أقيمت لهم معارض في لبنان ، و كذلك في المركز الثقافي السوفييتي بدمشق قبل تحررهم بعشرين يوماً في 1/5/1985 للفنانين زهدي العدوي و محمد الركوعي تحت عنوان " رسوم المعتقلين وراء القضبان " .
لقد أثارت هذه الرسوم جنون المخابرات الصهيونية و إدارة المعتقل حين عجزت المداهمات المستمرة و التفتيش المكثف عن ضبط هذه الأعمال و منع تهريبها الأمر الذي حدا بأحد ضباط الأمن الصهيوني أن يهدد زهدي العدوي معبراً عن عجزه و غيظه قائلاً : ( .. أنا لو أستطيع الآن لقطعت أصابعك .. لقد رأيت أعمالك في الخارج .. ) .
و إذا وقفنا قليلاً مع أعمال الفنان زهدي العدوي التي رسمها داخل المعتقل نجدها تتسم بعدة سمات تميزها عن أية تجارب أخرى ، فهي مدرسة بحد ذاتها ولدت تحت ظروف قاهرة بإرادة قوية دون تأثر بالمدارس الأخرى .
لقد نمت و نضجت خلف القضبان حين أخذ النضال شكلاً آخر في المواجهة ، يلاحها الإيمان الراسخ بالحق و التصميم والمثابرة .. فكانت أقلام الباستيل و أغطية الوسائد هي الوسيلة التي عبرت عن الوعي السياسي الذي سبره التنظيم العالي و الدقيق ن و الوعي الثقافي الذي انبثق من المعاناة و الاضطهاد ، مما أفرز شكلاً فنياً ذا جماليات خاصة اعتمدت على مخيلة الفنان و ذاكرته وتطلعه إلى الحرية و إلى حياة مشرقة الألوان زاهيتها .
فالتكوين ينفلت من البناء الهندسي إلى البناء الحر المعتمد على ذوق رفيع لعلاقات العناصر التشكيلية و قد حكمتها موهبة عالية صاغت ذاتها خارج الإطار الأكاديمي فأوجدت لها تكوينات متفردة بلغتها و محاكاتها لما يهجس في البال لتبشر بولادة فن جديد " هو فن المعتقل " فالعناصر تتكتل أحياناً في وحدة ديناميكية كل عنصر فيها يتولد من الآخر ليشكل استمرارية لباقي التكوين و يفرض نفسه كعنصر هام .
و أحياناً تظهر هذه العناصر ضمن تكوينات مستقلة في المضمون الواحد ، على أنها مرتبطة بتواصلها اللوني ، و قد تربطها مجموعة أخرى من العناصر الموصلة التي بلعب دور الوسيط في ربط التكوينات فيما بينها . و تأتي الألوان مشرقة ، زاهية تضفي على التكوينات ألقاً خاصاً لا نراه إلا في رسومات المعتقل ، و كأنها ردة فعل صارخة على الألوان الكئيبة بدءاً من لون الثياب الحمراء القانية القاتمة ، و أوعية الطعام و الشراب الصفراء الباهتة ، و الجدران ذات اللون الكريمي البشع ، إلى عدم وجود الأشجار و الخضرة ، و انتهاء بالزنزانات المظلمة الرطبة ...
و تشترك الألوان مع التكوين لتصب في خدمة الموضوع الذي يتشعب أحياناً ليحمل مجموعة أفكار متكاملة و مترابطة ، و كأنها نص أدبي يروي قصة موجزة ضمن مجموعة من الرموز و المؤشرات البصرية ، كالمرأة التي هي رمز الأمومة و الخصب و العطاء و الوطن ، و الشمس التي لا بد لها أن تشرق ، و القضبان المحطمة ، والأسلاك الشائكة المقطعة ، و الحصان الجامح ، و المشعل المضاء ، و البندقية ، و الكوفية ، والمناضل ، و قبضة السجان بهراوته الملطخة بالدماء .. الخ . فاللوحة هي بناء أدبي ثوري بصياغة فنية تشكيلية ضمن قوالب جمالية خاصة ، تستحق كل ما جنته من التقدير .
رد: فن المعتقل في تجربة الفنان - زهــدي العــدوي - التحدي و المواجهة
الأخت العزيزة نصيرة :
رغم أحلك الظروف ، و أكثرها مراة و مأساوية ،
تبقى بؤرة من الضوء داخلنا ، لا تخبو أبداً ،
منها تفاؤلنا ، و حرصنا المستميت على قادم جميل
يلفح وجه البسيطة بنور الجمال الخالد ،
نور الحق و العدل و الخير ...