[frame="10 98"][frame="1 10"]
بعد بضع أَنَّاتٍ ودمعتين، سيُغلِقُ هذا القلبُ بابه ويُسْدِلُ ستائرَ وجعه اليومي، كي يُخلِدَ لفرحٍ عميق وُعِد به، منذ أن استقرَّت، على الجودي،سفينةُ نوح (عليه السلام).. صحيحٌ أنَّه فرحٌ مقصوصُ الجناحين أبكم، لكنه فرحٌ فريدٌ رائع.. وروعتُه من كونه يتدفَّقُ، بسرعة اللهفة المشحونة بالشوق واللوعة، صوراً تنبض كلٌّ منها بلحظة حياة لمُحبٍّ قضى حزناً، أو هاجرَ خوفاً وأملاً، أو صارَ رقماً مجهولاً في قائمة الضياع السورية الطويلة...
وكلَّ ليلةٍ، يتدَفَّقُ الفرح نقياً، في هذا القلب، حَالَمَا يبدأ أصحاب تلك الصور بمغادرة حضورهم الساكن على ورقها، ويهرعون كائناتٍ مشتاقة ًإلى عناق حياتهم الماضية التي تركوها مُكرهِين..
يهرعون طائرِين على جناحَي رغبتهم الجامحة إلى الخلاص من الإحساس بتلك اللوعة التي ذاقوها مُجَرَّحَةً بكلِّ مُدَى الأخوة العربية والإسلامية والانسانية..
يهرعون مشتاقين إلى وسائدهم التي مازالوا مُتأكِّدين بأنَّها، حتى أثناء غيابهم عنها، ظلَّت تفوح وطناً بطعم الحب، يُدعى (سوريا)..
أهيمُ في صبوة عشق دمشقية تمتدُّ، في البال المشتعل بحرائق القلق والخوف،حَارَةً طينيةً قديمة تغفو وادعةً على ذراع طفلةٍ أبدية اسمها (دمشق)..
حارَةٌ... وأيُّ حارَة تلك التي ما زلتُ أهيمُ عشقاً بها.. إنَّها ذاكرةُ انتمائي الدمشقية التي مازال يسري في جدرانها الرطبة حنينُ التراب إلى التراب؛ ومازالت تفوح، من أطراف حدائقها المُخبَّأة وراء الجدران العالية لبيوتها، روائح كثيرة تأبى أن تُمحى من الذاكرة:
أولاها، رائحة أبي وهو يخطُرُ، في باحة الدار، مُتألِّقاً بنخوته وكَرَمِه،وبدفء ذلك الحبِّ الخاص الذي يتسعُ للجميع، الحبُّ الذي امتاز به الإنسان السوري على مرِّ الدهور..
وثانيتُها، رائحة أمي التي امتزجَت فيها، على نحو غريب رائع، روائح خبزها التنُّوري وقهوتها المُطيَّبةِ بالحبِّ وغسيلها المعطَّر بالحنان..
وثالثتُها، روائح المكان الدمشقي المُمَيَّزَة التي يستحيلُ أن تُغادر أيَّ ذاكرةٍ دخلَتْها.. إنها روائح زهر النارنج والكبَّاد والياسمين البلدي والورد الجوري، ممتزجةً ومُعَتَّقةً معاً، في وطنٍ اسمه سوريا، يرتسمُ ابتسامة حبٍّ صادقة اعتاد أبناؤه أن يُطوِّقوا بها كلَّ مَن دقَّ بابه مضيفاً أو لاجئاً أو خائفاً أو طالبَ حاجة..
ولسبب ما، مازال غامضاً، اتهمَ العالم الماديُّ القاسي كلَّ هذه الروائح بالإرهاب، خصوصاً بعدما تأكَّد له أنَّ كلَّ مكوناتها طبيعية..
ولسبب ما، ما يزال غامضاً أيضاً، اتخذ قراره الظالم بإحراق مُوَلِّدات كل تلك الروائح بنار الكراهية والحقد والفتن..
فهل ثمة من يأتي ليُصحِّحَ مسار النظر الخاطئ هذا، ويؤكد لهذا العالَم المادي الأبله أنَّه حين يُحرِق بلدَ تلك الروائح الرائعة، فإنَّه يُحرق ذاكرة العطر الأسمى والأقدم لإنسانية الإنسان وحبِّه لأخيه الإنسان؟!
المسافة بين رغبتي وحلمي ألفُ ليلة ودمعة..، كلُّ ليلة بألف حكاية ممَّا تَعُدُّون.. في كلِّ حكايةٍ وجوهٌ أليفة نُحِبُّها.. وجوهُ نُحادثُ أصحابها ويحادثوننا، حتى بعد أن ابتعدوا عنا وغابوا..، نبكي وإياهم من فرحٍ تارةً ومن الحزن والألم تارات..
إيهِ أيها الشوقُ رفقاً بقلبي، فما عاد يحتملُ نبضَك القويَّ في سويدائه الهرِمَة.. فحنانيكَ، ورفقاً ثانيةً بمَن أدمنَ، بعد فراق الأحبة، الحديثَ يومياً مع حجارة الأرصفة التي يسير عليها بين بيته وعمله..
في كلِّ صباح، تُذكِّرُني أرصفةُ الوطن الثاكل بمن غابوا وأنقلُ إليها آخرما وَصَلَني من أخبارهم.. فتُؤكِّد لي أنَّ شوقها لهم قد شقَّقَ اسمنتَ حجارتها، وأُؤكِّد لها أن شوقي إليهم مزَّق قلبي وفَتَّت كبدي.. تسألني مُنرفِزَةً، لماذا رحلوا وتركوك في صقيع وحدتك معي، فأجيبُها، بعد طول صمت: ربَّما ليُعلِّموني أن أشتاق إليهم، ولِيُفهِموني كيف يكون الحبُّ في أعلى درجاته.. أو.. رُبَّما لِيُنجِب الوطن غدَه الأحلى من رحمِ أشواقي وأشواقكِ إليهم..
ذات مساء سوري مُثقَلٍ برائحة الأسى، جلستُ إلى شرفة رغائبي، آملاً أن أرى ذكرى جميلةً مَضَتْ أغفو على ساعدها مُستذكِراً سعادةً غابرة، أو أرى حلماً جميلاً يتحقَّق في غيبٍ قريبٍ مُقبِل، فلم أرَ إلَّا عملاقاً بطول التاريخ البشري، اضطرَتْه طعناتُ الغدر إلى الانطواء على نفسه.. رفعتُ رأسه لأعرفَمن يكون، فإذا به شعبي، قد اتحدَ الألم في نظراته بالغضب..
على غير إرادة مني، انفلتَتْ (لماذا) كبيرة من فمي، وانطلَقَت تجوبُ أرجاءالعالم صيحةً مُوجَعَةً مُتوتِّرَةً بكثير من الاستياء، آملةً أن تلقى أُذناً صاغية أو ضميراً ما زالت به من الحياة باقية..
لكن.. كم كانت دهشتي كبيرة، حين رأيتُ صيحتي تتقاذفها سخريةُ "أخٍ" عربي من هنا ولامبالاة "أخٍ" عربي من هناك..
ثم تدوسها بلاهة "أخٍ" مسلم أُوهِمَ أنَّه خرج ليُحارب "الإرهاب" فلم يَقتل سوى الأبرياء من أتباع دينه، وقام عدوُّه "المسلم" الواقف على الطرف الآخرمن الخندق بقتل كلِّ المسلمين الذين صوَّرَهم له جهلُه كفرةً ومارقين..
وبين ساخرٍ وشامتٍ، من "أخوتنا العرب والمسلمين"، وبين لامبالٍ ومُكَفِّرٍ ومُحاربٍ للإرهاب، نَبَتَ نَبْتٌ شيطانيٌّ آخر أشدَّ إثماً ولؤماً، ذاك هو "الأخ" الذي غَطَّى شهوته بعباءة الرغبة في العمل الصالح، وجاء إلى خيام لاجئينا لشراء أعراض بناتهم الصغيرات بلقيماتٍ تُنقذُ باقي أسرهِنَّ من الموت جوعاً..
وبالإضافة لهؤلاء جميعاً، لم يعدم أبناء شعبي، والحقُّ يُقال، مَن لفَّ فضلاته بورقة زاهية الألوان، كَتَبَ عليها (صَدَقَة)، ثمَّ دَلَّاها لهم من علياء تكَبُّرهِ مربوطةً بحبل من المَنِّ والأذى غليظ...
أبعدَ هذا، ثمةَ من يمكن أن يلومَ السوريين إنْ كفروا بـ "الأُخُوَّتين العربية والإسلامية" المُعاصرَتَين؟!
في ظلمة ليلٍ ثقيل، شَهِدَ غفلةَ أمَّةٍ خَدَّرَها أعداؤها بخليط من بارقِ المكر ورهبةِ الظلم، اجتمع كلُّ أبالسة العصر، وحفروا وادياً عميقاً ظَنُّوه يتسع لكلِّ قيمِ العروبة والإسلام وأخلاقهما ومبادئهما النقيَّة.. وإلى هذا الوادي، دفعوا العرب والمسلمين، ليُلقوا في غَيَاباته، طَوْعاً أوكَرْهاً، كلَّ ما يربطهم بتلك القيم والأخلاق والمبادئ، مُضافاً إليها كلَّ ما ورثوه من آبائهم وأجدادهم من أمجاد وذكريات ومآثر..
على شفير ذلك الوادي الرهيب، كانت تنتصبُ سنديانةٌ عُمرُها التاريخ اسمها(شآم)، أمرَتْ جذورَها التي غَطَّت قعر ذلك الوادي بامتصاص كل ما يُلقيه المُكرَهُون فيه بلا استثناء، ثم تسليمه لجذورها الأعمق في باطن الأرض كي تحفظه حيّاً..
لم يكتشفِ الأبالسةُ ما فعلَتْه (شآم) إلّا ليلةَ قرروا الاحتفالَ بردمِ واديهم، إيذاناً باكتمال مشروعهم.. ولشدةِ غيظهم مِن فِعلَتِها، أبقوا النار مُشتعلَةً فيها حتى صارت ساقُها وأغصانها وأوراقها رماداً أَلقَوه في الوادي قبل ردمه، ورحلوا..
بعد رحيلهم، تحرَّك ما اكْتَنَزَتْه جذور (شآمُ) العميقة من قيمٍ وذكريات ومبادئ، لتندفعَ من تلك الجذور حياةً جديدة، شَقَّتْ تربةَ الجريمة السوداء، وانبثقت منها بداياتٍ لأشجار فتيَّةٍ سرعان ما امتلأت بأغصانٍ كثيرة اكتسَت بأوراق صغيرة خضراء حلوة، راحت تضحك وتمرح بصخب، مُعلنةً ميلاد فجر إنساني جديد مُعَطَّر بكلِّ نقيٍّ وَأَدُوه من قيمِ العروبة والإسلام..
في الطريق التي صَحِبَتْنِي بها إلى ذاكرتها ذات السبعة آلاف ربيعاً، أتعبَ طولُ المسير هَرَمي، فأسندْتُ ظهري إلى جدار مسجدها الأموي لأرتاح، فإذابه يُسندُ ظهره إليها طالباً الراحة بدوره.. أمَّا هي، فمع أنَّها أكبرنا سِنّاً، بَقِيَتْ واقفةً تنتظر انتهاء استراحتنا، ولا أثرَ للتعب على وجهها..!
حين استأنفنا المسير، سألتُها عن المسافة الباقية، فأجابتني:
- أربعُ خطواتٍ فقط: عقلٌ حكيم، وقلبٌ سليمٌ مُحِبّ، ولسان صادقٌ، وكلمة طيبة..
أمسكتُ رأسي بيدي، وانتابني يأسٌ شديدٌ، وبكيتُ قهراً، فقد تراءى لي أنَّ المسافة، حسب كلامها، ما زالت طويلة..
فأشفقَتْ عليّ، ومسحَتْ دموعي بقطعةٍ من لطيف تاريخها، ثم طَمْأَنَتْنِي قائلة:
- هَوِّنْ عليك يا شيخ.. أمَا ترى أنَّنا أصبحنا على أعتاب الفجر؟التفتُّ إلى حيث أشارت، فرأيتُه قد صار في يُمناها وليداً في غاية الروعة.. قَبَّلَتْ جبينَه بحبِّ، ثم همسَتْ في أذنه بضع كلمات، ثم أَطْلَقَتُه ليبدأ مهمتَه فوراً، برفعِ آخر حُجُبِ الليل وأكثفها..
رَفَّتْ على شفتيَّ ابتسامة استبشار، فابتسمَتْ لي وقالت، غامزةً بعبَثٍ لا يُناسب عمرَها:
- أَلَمْ أَقُلْ لك؟!
[/frame][/frame]