رد: هنا يا حبيبي أسجل... عرفاني
في صحيفة الوفد لم أعد اقرأ العناوين والمانشتات ذات الخطوط العريضة السوداء وأختار الموضوع الذي يجذبني ، أو أشاهد الكاريكاتير الساخر من كل الأحوال المعوجة ! ، أو أقرأ كيف ينعون الموتى في صفحة الوفيات ، لم يعد يأتني بصحيفتك المفضلة أحد ، ولا بابنتي عمومتها صحيفتي الأهرام والأخبار ، لم يعد يهتم أحد حتى بائع الصحف والمجلات الذي كان ، قد قام بتغير مهنته وراح يمتهن عدة مهن الواحدة تلو الأخرى إلى أن ترقى ، وهو يعمل الآن كميت في إحدى المقابر التي وهبها أبناء الخير كصدقة جارية لمن لا مأوى لجثته بعد الموت ، والآن نحن لدينا الكثير والكثير من الأخبار المجانية التي نستدعها بضربة زر ، أو بالأحرى لمسة موضع معين لا يتعدى بضع مليهات من السنتيمتر على شاشة زجاجية تنام معنا على نفس الوسادة ، وربما في أحضاننا تبيت ! كأن كل منا يخشى ضياع عالمه الخيالي الخاص به ، فهي توفر لكل منا الطمأنينة والسكينة مادامت في قبضة يداه ، وبها من يقرأ لنا كل ما نريد قراءته من أخبار في جميع المجالات وهناك صحف ومجلات لا حصر لها ، وهناك دروب وسيعة وأخرى ضيقة كالأنفاق المظلمة ، وبها ليل ونهار لكن ليلها أبدا لا يشبه نهارها ، فهي ليست المحجة البيضاء !! ، لكنها أيضا من المنظور العام تكفل لنا حرية الإختيار ، السفر عبر الحياة ،وفرة الأصدقاء على سائر الملل ، الأجناس والألوان ، الأحلام الوهمية ، والمشاعر الإفتراضية أيضا ، تكفل لكل منا عالمه البديل الذي يعيشه بمعزل عن العالم الواقعي ، عالمه الوحيد الذي يحياه بمفرده كمشلول حركة يطير في وهمه ، كثائر يصرخ في صمته ، كحي يشبه الموتى ، بقي ليكتمل نعيه سطر أخير ، وأصبح الصمت حالة العصر المتفشية في أنحاء الصدور والأفواه ، وبرغم ذلك فللبعض أحوال أخرى ، فعلى سبيل الفكاهة المبكية ، العم علوي بائع الحليب والذي أطلق عليه في نفسي (معالي الباشا علوي أفندي ) لا علاقة لهم ببعض ولكن هكذا كان حظه مني ! يأتي كل ليلة عشاءا بسيارته الفارهة ، ليبيع لنا مواد مصنعة كيميائيا ينتج عن خلطها بنسب معينة سائل يشبه كثيرا في مذاقه مذاق الحليب ورائحته أيضا وفي الحقيقة له نكهة لذيذة ، ليت الشرفاء الذين كانوا يخلطون الحليب بالماء أبقتهم لنا الأيام , إيييه كانت أيامهم أيام خير وبركة !! رحم الله السنين ، ولا أخفيك سرا لقد انقسم العالم حولنا قسمين قسم الإنتهازيون ، قسم المشلولون الصامتون ، وأما الطيور فما زالت تطير بين السماء والأرض ، تهاجر تارة وتعود إلى أعشاشها تارة أخرى ، ولكنها تأثرت هي الأخرى بنا فهي تأكل فتاتنا الملوث بأفعالنا ، فالبعض قد يهوي قتيلا لأول وهلة ، والبعض يهرب ، والبعض الأخر يقف مشدوها فوق الشجر ، وقد يقذفه صائد فيصب الجمع بذات الحجر ، وربما لا يبتغي شيء سوى نشوة سقوطه قتيلا كان أم جريحا ، تلك قطرة من محيط أنباءنا التي صنفت ما بين الطريف المحزن والقاهر المضني ولا بأس ولا يأس .
|