التسجيل قائمة الأعضاء



 
القدس لنا - سننتصر
عدد مرات النقر : 137,860
عدد  مرات الظهور : 162,362,866

اهداءات نور الأدب

العودة   منتديات نور الأدب > جمهوريات نور الأدب > جمهوريات الأدباء الخاصة > أوراق الباحث محمد توفيق الصواف > الدراسات والأبحاث الأدبية والنقدية
إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 20 / 06 / 2009, 00 : 10 PM   رقم المشاركة : [1]
محمد توفيق الصواف
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب


 الصورة الرمزية محمد توفيق الصواف
 





محمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really nice

الشخصية العسكرية العدوانية ودور الأدب الإسرائيلي في بنائها

[align=justify]
ثمة محددات عديدة تساهم مجتمعة في تشكيل الهوية الخاصة لأي أدب من الآداب، ومن أبرز هذه المحددات، نوعية الأهداف التي يسعى، هذا الأدب أو ذاك، إلى تحقيقها، ونوعية الوظيفة التي تفرض عليه هذه الأهداف القيام بها.
على افتراض صحة هذه الرؤية، وفي ضوئها، قد يكون من الممكن التوصل إلى تحديد مبدئي لجانب مهم من جوانب هوية الأدب الإسرائيلي الذي كان بناء الشخصية العسكرية ذات الأهداف التوسعية الاستعمارية والمشبعة بالروح العنصرية/العدوانية، واحداً من بين أهم الأهداف التي وظف مؤلفو هذا الأدب أنفسهم ومواهبهم، من أجل تحقيقها. وفي ضوء الدراسة الموضوعية لعدد كبير من نصوص هذا الأدب، يبدو من الصعب الادعاء بأن قيام معظم مؤلفيه بهذه الوظيفة، هو من باب الافتراء عليهم، لأن ضلوعهم في ممارستها تؤكده النتائج التي تقود إليها مثل هذه الدراسة لنصوصهم.
وكنموذج، يمكننا من خلال مناقشته التعرف على جانب من الكيفية التي يمارس بها الأدب الإسرائيلي ومؤلفوه هذه الوظيفة، يمكن اختيار قصيدة (هتسنحانيم بوخيم = المظليون يبكون) للشاعر الإسرائيلي (حاييم حيفر). فهذه القصيدة، ابتداء مما يوحيه عنوانها، وانتهاء بآخر بيت فيها، تبدو، بملامحها وقسماتها، قصيدة موظفة لخدمة الأهداف والغايات العدوانية للسياسة الإسرائيلية، وخصوصا هدفها المتمثل بتحريض الشباب الإسرائيلي على خوض الحروب التي تخطط قياداتهم لشنها على العرب، وتريد منهم المشاركة فيها للمساهمة في تحقيق الأهداف التوسعية لهذه القيادات والتي تعد الأهم بين جملة أهدافها الأخرى..
ومن الملاحظ، أن الشاعر لم يحاول تحريض الشباب الإسرائيلي على خوض تلك الحروب التوسعية، بشكل مباشر، بل قام بذلك من خلال إغراء قراء قصيدته من الشباب الإسرائيلي بانتهاج خط شخصيات هذه القصيدة الذين راح يحيطهم بهالات التقديس، تقديرا لهم على نجاحهم في احتلال القدس العربية.. كما ابتعد الشاعر عن المباشرة، أيضا، في إحاطتهم بهذه الهالات، حين عمد إلى تصوير ما فعلوه، في عدوان حزيران 1967، على خلفية تاريخية ـ دينية صممها الشاعر، بعناية تبدت واضحة في نسيجها الذي ربط فيه، ربطا محكما، بين عدوانية الحاضر ومزاعم الماضي التاريخية والدينية، ليضمن بذلك التأثير الأقوى لقصيدته، في نفسية قارئها اليهودي، قبل غيره، ودفعه إلى الاقتناع بما يريد أن يوحيه له من أفكار تالية، وإلى القيام، من ثَمَّ، بمحاولة تجسيد هذه الأفكار واقعا.
ومما يؤكد صحة هذا التحليل، أن الشاعر، وابتداء من العبارة الأولى في قصيدته، انطلق من العزف على رمز تاريخي أريد له، صهيونيا، أن يتمتع بقدر كبير من القدسية، في الوجدان الديني اليهودي، وخصوصا لدى المتطرفين من المتدينين اليهود، وهذا الرمز هو (حائط المبكى) المعروف في مدينة القدس العربية المحتلة... إذ افتتح الشاعر قصيدته بمحاولة تنصيب هذا الحائط شاهدا تاريخيا على أحداث كثيرة مرت به، لكنها جميعا، على أهميتها، أبقاها مختلفة عن الحدث الأخير الذي أشار إليه، في نهاية المقطع الأول من قصيدته، هذا المقطع الذي يقول فيه:
/هذا الحائط سمع صلوات كثيرة/ هذا الحائط شهد أسواراً كثيرة تسقط/ هذا الحائط أحس بأيدي نساء تتغلغل فيه وتدس حجب الأدعية بين حجارته/ هذا الحائط شهد إمبراطوريات تنهض ثم تندثر/ لكن هذا الحائط لم يشهد، من قبل، مظليين يبكون/.
فمن خلال التمعن في قراءة هذا المقطع، يمكن القول: إن لانطلاق الشاعر في قصيدته من وصف (حائط المبكى)، على هذا النحو، عدة أهداف:
أولها وأهمها، تأكيد مزاعم الصهيونية وإسرائيل بخصوص ما تسميانه (الحق التاريخي لليهود في فلسطين)، ولاسيما في مدينة القدس العربية التي استكملت إسرائيل احتلالها بنتيجة عدوان عام 1967، ومن الملاحظ أن الشاعرلم يلجأ، في محاولته لتأكيد هذا الزعم، وإسباغ المصداقية عليه، إلى الاستناد ـ كما جرت العادة ـ على النصوص الصهيونية المنتقاة من التوراة، انتقاء وظيفيا مقصودا، من قبل مهندسي الأيديولوجية الصهيونية، لخدمة أهداف مشروعهم الاستعماري/الاستيطاني، في فلسطين، بل حاول تأكيد ذلك الزعم التاريخي، بالاستناد إلى زعم صهيوني آخر هو (استمرارية تعلق اليهود، روحيا ودينيا، بأرض فلسطين)، طيلة الفترة التي تزعم الصهيونية أنهم عاشوا، خلالها، بعيدين عن هذه الأرض.
أما ثاني أهداف (حيفر) من تنصيب (حائط المبكى) شاهدا على استمرارية الارتباط الديني/الوجداني بين اليهود وأرض فلسطين، فمتصل بالهدف الأول، وقائم على أساسه. وأقصد بذلك محاولة الشاعر تسويغ احتلال مظليي قصيدته لمدينة القدس، بناء على ما زعمته الصهيونية لهم من (حق تاريخي) فيها.
وثالث أهداف الشاعر من هذه المحاولة، هو ما أشرت إليه آنفا، من رغبته في تهيئة نفسية قراء قصيدته من اليهود الشباب، وخصوصا المتدينين منهم، للإعجاب بأولئك المظليين، والنظر إليهم على أنهم (أبطال مقدسون) يستحقون التقدير والثناء، من قبل أولئك القراء، لاستطاعتهم تحقيق ما تصفه أجهزة الدعاية الصهيونية والإسرائيلية، بـ (المعجزة) التي طالما تطلع اليهود إلى تحقيقها، عبر تاريخهم الطويل، والمقصود بها احتلال القدس. ولعل مما يساعد على هذه التهيئة لنفسية القارئ اليهودي، وإيهامه بأن ما قام به مظليو القصيدة أشبه بالمعجزة، ذلك الجو الديني المشبع بغبار الصلوات، والمتوتر بأدعية الحجب، وتبرك أيدي النساء بملامسة حجارة الحائط، الجو الذي اصطنعه الشاعر، بمكر فني مدروس، يسعى لإظهار ما قام به مظلييوه، وكأنه استجابة طبيعة منتظرة لتلك الصلوات والأدعية!!!
ومما يساهم في زيادة إيهام القارئ اليهودي بأن ما فعله أولئك المظليون أشبه باجتراح المعجزة، قيام الشاعر بوضع كل ما شهده حائط المبكى من أحداث، طيلة تاريخه المديد، في كفة ميزان، ووضع منظر المظليين الباكين في الكفة الأخرى؛ ثم الإيحاء بترجيح الكفة الثانية، عبر محاولة أنسنة الحائط، وتحريك طبيعته الجامدة بفيض من انفعالات الدهشة التي ينسبها إليه الشاعر، ويجعلها تنتابه، حين يرى المظليين الذين احتلوا قدسه يبكون!!!
ولمد هذه المحاولة بمزيد من عناصر قوة التأثير، في نفسية قراء قصيدته من الشباب اليهود، نلاحظ أن الشاعر، قد وظف قدرته الإبداعية، في صياغة أسلوبية موحية، تقود القارئ اليهودي من خلال ما تولده هذه الصياغة في نفسه من مشاعر، إلى الإحساس بانفعالات الحائط. فبعد أن يسرد الشاعر ما انتخبه من أحداث مرت بالحائط سرداً هادئاً، إذا به، يطرح، وعلى نحو مفاجئ، صورة بكاء المظليين، معتمداً الاستدراك الملفت للانتباه، باستعماله أداة الاستدراك /لكن/، على نحو يتراءى معه للقارئ وكأن الحائط ينفعل مندهشاً بما يراه للمرة الأولى في تاريخه:
/لكن هذا الحائط لم يشهد من قبل مظليين يبكون/.
ولا شك أن هذه اللعبة الفنية الساعية إلى طرح نوعية خاصة من المبالغة في تضخيم قوة الجندي الإسرائيلي، تبتعد، إلى حد كبير، عن نوعية تلك المبالغات الكاريكاتورية المباشرة والمضحكة التي نجدها عادة في كثير من نصوص الأدب الإسرائيلي الأخرى، والتي تحاول أن تقدم، بمباشرة فجة، الشخصية الإسرائيلية، لقراء هذا الأدب من اليهود، خاصة، كما لو كانت شخصية سوبرمانية خارقة، تستعصي على الهزيمة.
بتعبير آخر: إن المبالغة في هذه القصيدة تسعى، وبأسلوب بسيط مموه بواقعية مدروسة بعناية، وبعيد عن المباشرة، إلى إسباغ هالات من القدسية على ممارسات الجنود الإسرائيليين وملامحهم وتصرفاتهم. وربما من هنا تأتي الخطورة المضاعفة لمثل هذه الصورة التي ترسمها القصيدة لأولئك الجنود الممثلين في شخص مظلييها. فهي من جهة تبدو غير صاخبة، مما يمنحها قدرة أكبر على الإيهام بواقعية ملامح الشخصيات التي تظهر فيها، ومن جهة أخرى تأتي جزئيات هذه الصورة مثقلة بهالات التقديس الديني، ومن اجتماع هاتين الصفتين فيها، تبدو وكأنها أقدر على التأثير في نفسية الشاب اليهودي الذي تخاطبه القصيدة، لا سيما إذا كان متديناً. إذ تفتح له بوابات أحلام اليقظة على مصاريعها لينطلق منها، متخيلاً نفسه واحداً من أولئك المظليين الذين يقدسهم الشاعر. وإذا ما وصل القارئ اليهودي الشاب إلى هذه المرحلة من التأثر، فإن انجرافه في التيار الذي يسعى الشاعر إلى استدراجه نحوه، يغدو ممكناً. إذ سرعان ما تتكوَّن لدى هذا القارئ الاستجابات النفسية المطلوبة لتحوله إلى شخصية عسكرية، تمتلك الاستعداد للتطوع، تلقائياً، في خدمة المصالح والأهداف الصهيونية التوسعية/ العدوانية، دون أن يتبادر إلى وهم صاحبها أي شك بأنها (أهداف نبيلة). وهكذا تكون قصيدة الشاعر قد أدت وظيفتها في خدمة المشروع الصهيوني والتطلعات التوسعية لمنفذيه من القيادات الإسرائيلية المتعاقبة، عن طريق جذب المزيد من الشباب الإسرائيلي الراغبين في التحول إلى (أبطال)، ينهجون على غرار (أبطال) القصيدة.
ولعل مما يزيد في توضيح هذه الغاية الوظيفية للقصيدة، الاطلاع على بقية أبياتها التي ترسم للمظلين المعتدين صورة مغرية أراد الشاعر، بواسطتها، العبث بالبناء النفسي لقارئها اليهودي الشاب، بشكل خاص، ليتسنى له تشكيل هذا البناء، بعد ذلك، على نحو يتفق وتنفيذ مخططات التوسع العدوانية المستقبلية للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية. ولتأكيد صحة هذه القراءة لأهداف القصيدة، لنتابع، تاليا، ملامح مظلييها، كما رسمها الشاعر، بقوله:
/هذا الحائط رآهم تعبين ومنهكين/ هذا الحائط رآهم جرحى ومصابين/ يركضون إليه بقلب متوثب، تارة يهدرون وتارة بصمت/ وهم منطلقون كالوحوش الكاسرة عبر أزقة المدينة العتيقة/ وهم مكسوون بالغبار ومحترقو الشفاه/ وهم يدمدمون: إن أنساك يا قدس، إن أنساك يا قدس/وهم خفاف كما النسر، وبدباباتهم ـ مركبة النبي إلياهو ـ يعبرون كالرعد/ يعبرون بغضب/ ويتذكرون الألفين من السنين الرهيبة/ التي لم يكن لنا أثناءها حتى حائط نذرف الدموع أمامه/.
إن الصفات التي يشتمل عليها هذا المقطع من القصيدة هي صفات المحارب المنتصر، الفرح بانتصاره إلى درجة البكاء، بعد أن خاض معركة، حاول الشاعر تصويرها بأنها كانت معركة شرسة، ضد أعداء أقوياء، كما يستشف من علائم التعب والإنهاك التي جعلها تبدو على مظليي قصيدته الذين يقدمهم لقارئها، مكسويين بغبار الحرب، وبعضهم مصاب بالجراح، إثر خروجهم من المعارك التي خاضوها.
ولكي يضفي على أولئك المظليين ما يشاء له خياله من هالات التقديس، دفعا لقارئ قصيدته اليهودي، إلى مشاركته في تقديسهم، واستثارة له إلى السير على نهجهم، نراه يعود مجددا إلى ربط ما قام به أولئك المظليون بالمعتقدات الدينية اليهودية، لاسيما ذات الصلة منها بتقديس أماكن معينة في فلسطين، وخصوصا في القدس، وذلك حين جعلهم يدمدمون، وهم يقتحمونها بجزء من العبارة الدينية اليهودية المعروفة: (لتنسني يميني إن أنساك يا قدس)... هذه العبارة التي طالما دستها أجهزة الدعاية الصهيونية والإسرائيلية، في شعاراتها التحريضية لليهود، بهدف حثهم على خوض الحرب التوسعية تلو الأخرى، ضد العرب وأراضيهم، ولإيهامهم بأن تلك الحروب التي تدفعانهم إلى خوضها ليست حروبا عدوانية، بل تهدف إلى استرجاع بعض ما تسميانه بـ (المناطق التي اغتصبها العرب من إرث الأجداد القدامى لليهود)..
وإمعانا من الشاعر في العزف على وتر المشاعر الدينية اليهودية، تحريضا لقارئه الإسرائيلي، وخصوصا إذا كان من المتدينين، على التأسي بنهج مظلييه، نراه يستخرج من التاريخ اليهودي القديم، رمزا آخر، ويضمنه أحد أبيات قصيدته، وهذا الرمز هو (مركبة النبي إلياهو).. وكلمحة مختصرة عن الخلفية الدينية لهذا الرمز ودلالاته، يمكن القول إن هذه المركبة التي تتصل بإحدى الأساطير التوراتية، تعد رمزا للقوة العسكرية اليهودية القديمة، المدعومة بقوى إلهية، تؤهلها للتغلب على قوى أعداء اليهود القدامى وعرباتهم، من مثل المؤابيين وغيرهم. لهذا، قد لا يكون خطأً الظن بأن الشاعر أراد من تضمين ذكر تلك المركبة في قصيدته، أن يرمز بها إلى طائرات جيش الاحتلال الإسرائيلي التي نقلت مظليي تلك القصيدة، إلى القدس، ليقوموا باحتلالها، وهو ما يساهم في إضفاء المزيد من القدسية على هذا الاحتلال الذي أراد (حيفر) إبرازه في صورة ما تصفه الأدبيات الصهيونية والإسرائيلية بالحلم اليهودي القديم، حلم عودة اليهود إلى القدس الذي استمر قرابة ألفي عام، كما يقول (حيفر)، في بيت آخر، والذي حققه، في النهاية، مظليو القصيدة.
واستمرارا من الشاعر في محاولة إيهام قارئه بأن احتلال القدس يتمتع بالقداسة الدينية، نراه يجانس بين نوعين من البكاء، في القصيدة، مجانسة فنية مقصودة، وذلك حين يساوي بين بكاء الفرح بالنصر والبكاء الديني المعروف الذي يمارسه اليهودي المتدين أمام حائط المبكى. وفي هذه المجانسة محاولة خفية وجديدة، من الشاعر، لتسويغ احتلال الإسرائيليين للقدس العربية، على خلفية دينية، دون الإتيان على أي إشارة لحق العرب التاريخي والأصيل في هذه المدينة..
إنها محاولة مدروسة لقلب حقائق التاريخ والواقع، رأسا على عقب، ولقلب الأدوار بين العرب واليهود رأسا على عقب، أيضا.. فحسب ما توحي به أبيات القصيدة، يظهر العرب في دور (المحتلين الغاصبين) للقدس التي تزعم الصهيونية وإسرائيل أنها (إرث اليهود الراهنين من أجدادهم القدامى)، كما يظهر أولئك اليهود بدور (المحررين لذلك الإرث) ممن تصفهم الصهيونية بـ (غاصبيه العرب).. وهو منطق يناقض، بشكل صارخ، كل حقائق الواقع والتاريخ التي لا يأتيها الشك من بين يديها ولا من خلفها..
فاليهود، وكما تؤكد توراتهم ذاتها، دخلوا فلسطين، قديما، غاصبين لأرضها من أصحابها الكنعانيين، وكما تؤكد التوراة ذاتها، تمت عملية الاغتصاب (التاريخية) تلك بكثير من الهمجية والوحشية.. ولأن أولئك اليهود القدامى كانوا غاصبين، لم يطل عمر وجودهم في الأرض التي اغتصبوها.. وليس في التاريخ الإنساني أي شرعة، باستثناء الأيديولوجية الصهيونية، تقول إن من حق حفيد الغاصب استرجاع الأرض التي اغتصبها جده، بعد أن حررها أصحابها الأصليون منه..
لقد تعمد الشاعر (حاييم حيفر) إغفال كل هذه الحقائق، ولجأ، على طريقة مهندسي الأيديولوجية الصهيونية، إلى أسلوبية الانتقائية التي تخدم أهداف هذه الأيديولوجية ومشروعها الاستعماري في فلسطين، فلم يستوحِ من نصوص التوراة إلا ما يخدم هذه الأهداف..
وعلى هذا، يمكن القول: إن البناء الفني الناجح لقصيدة (حيفر) قد أقيم على أرضية هشة، لأنها أرضية مصنوعة من سلسلة طويلة من الأكاذيب والتلفيقات المفبركة التي تتناقض، تناقضا صارخا، مع حقائق التاريخ المؤكدة.. وبالتالي، فإن مجرد مواجهة تلك التلفيقات بما يناقضها من الحقائق، سوف يؤدي إلى تقوض الأرضية التي قام عليها بناء قصيدة (حيفر)، وإلى إظهار مظلييه، بالتالي، على حقيقتهم، أي مجرد جنود احتلال وغزاة، تماما كأجدادهم القدامى.. الأمر الذي لابد أن يؤدي، في المحصلة، إلى سقوط هالات التقديس الديني وهالات البطولة الزائفة التي أسبغها الشاعر على كلا الطرفين، الأجداد والأحفاد معا.
وبإسقاط هذه الهالات الزائفة عن مظليي القصيدة، وعن كل جنود جيش الاحتلال الإسرائئيلي، وأجدادهم من الغزاة اليهود القدامى لأرض فلسطين، يُفترَض أن تنقلب الصورة المشرقة التي رسمها الشاعر لهم، في عيني قارئ قصيدته، إلى صورة قبيحة جداً، إذ ما من إنسان إلا ويكره المحتل، كما يكره ما يرتسم على وجهه من فرح باحتلاله لأرض غيره. بل إن النظر إلى وجهه وهو يتهلل فرحا بنجاح احتلاله، لا يثير الإعجاب، في نفسية أي إنسان سوي، بل النفور والاشمئزاز.. ولكن هل يُنتظَر من القارئ الإسرائيلي أن ينظر إلى هذه المسألة بنفس هذا المنظار الذي يكشف الحقائق وينفي الأكاذيب والمغالطات التاريخية ويعريها؟
لا يبدو هذا متوقعا، ولكي لا يحدث، في أي يوم من الأيام، جند الأدب الإسرائيلي نفسه، مع غيره من وسائل الدعاية الصهيونية والإسرائيلية، لمنع حدوثه، بأي ثمن، وذلك عبر حشد ما تستطيع فبركته قرائح مصممي هذه الدعاية من أوهام ومغالطات وأكاذيب، في صياغات فنية متقنة وجذابة ومؤثرة، أدخلوا في نسيجها، كل ما يحرك الوجدان الديني والعاطفي لليهود، على نحو ما رأينا، في قصيدة (حيفر) آنفة الذكر.. ولكثرة ممارستهم لفن التلفيق وإتقانهم لصياغة المغالطات، تمكنوا، في النهاية، من جعل القارئ اليهودي لأدبهم يرى الحقيقة كذبا، والكذب حقيقة، ويؤمن بما أدخلوه في وهمه من مزاعم، ويعتقد به، ويدافع عنه..
بتعبير آخر: لا يبدو متوقعا عدم تأثر القارئ اليهودي لقصيدة (حيفر) ومثيلاتها، في الأدب الإسرائيلي، بما حفلت به من مغالطات، وما دعت إليه من أهداف عدوانية، أُسبغت عليها هالات التقديس الديني، بل العكس هو ما حدث وسيظل يحدث.. أي أن هذا القارئ الذي أُتقن تضليله، طيلة نصف قرن، ويزيد، ستملك عليه هذه القصيدة نفسه، وستثير مشاعره، وستدفعه، بالتالي، إلى الإيغال أكثر في التعلق بالوهم الصهيوني الذي يقول له: (إن هذه الأرض هي إرثك من أجدادك)، وهذا كله سوف يؤدي، في النهاية، إلى جعله يؤمن أكثر بما يصفه له مضلِّلوه، من أدباء وسياسيين، على السواء، بأنه جزء من واجبه في الحفاظ على البقاء فوق تلك الأرض التي احتلها، وأن عليه أن يكرس حياته وكل ما يملك، من أجل عدم إعادتها أو إعادة إي جزء منها إلى العرب/أصحابها الأصليين.
بل إن الصهيونية وإسرائيل، أدباً وفكراً، لا تكفان عن تحذير القراء اليهود من مغبة رفضهم القيام بهذا الواجب، وذلك عن طريق تذكيرهم، ليل نهار، وبشتى الأساليب والوسائل، بما مر بهم، في ما يسمى بـ (زمن الشتات) الذي يظهر دائماً على صفحات الأدبين الصهيوني والإسرائيلي مقترناً بتوصيفات مثل (رهيب وفظيع) وغير ذلك.. لذا، فإن الأقرب إلى الواقع، والأكثر احتمالا، انسياق القارئ اليهودي وراء ذلك الوهم، وتصديق ما يتصل به من أكاذيب ومغالطات، وبالتالي، تكوُّن الاستعداد لديه للتحوُّل إلى شخصية عسكرية محاربة، بنفسية عدوانية شرسة.
وبعد، فهذه هي اللعبة التي أخذ الأدب الصهيوني ثم الإسرائيلي، من بعده، على عاتقهما مهمة القيام بها. وهذه اللعبة تقصد، بالدرجة الأولى، شباب إسرائيل قبل غيرهم من يهود العالم، لأنها تستهدف تحويل المجتمع الإسرائيلي كله، إن أمكن، إلى مجتمع محارب معبأ بروح عدوانية وأطماع توسعية.. ونلحظ تركيز القصيدة، على الشباب الإسرائيلي، في خطابها، من خلال توجيه هذا الخطاب، في أحد أبياتها، خصيصاً، إلى من وصفهم الشاعر بـ (الرجال ذوي التسعة عشر عاما الذين ولدوا مع قيام الدولة).
وبالطبع يقصد الشاعر بهؤلاء (جيل الصابرا)، أولا، أي جيل اليهود المولودين في فلسطين المحتلة، بعد إقامة إسرائيل عليها، والمعروفين بزيادة قسوتهم العنصرية، وإن كان لا يقتصر، في خطابه، على هؤلاء فقط، بل يشمل به جميع شبان إسرائيل، أيضاً.
وأخيراً، وبعد ما لمسناه من خلال مناقشة قصيدة الشاعر/حاييم حيفر/ هذه، يمكن القول: إن ما قيل فيها وعنها، أثناء المناقشة الآنفة لمضمونها وبنائها الفني، ينسحب، وإلى حد كبير، على قطاع واسع من النتاج الأدبي الصهيوني والإسرائيلي. وإذا صح هذا، فإن سمات الهوية الحقيقية، الهوية العدوانية، لهذين الأدبين، تظهر بجلاء ودون أقنعة، معلنة أن أهم ما يميزهما، هو عدم قدرة أي منهما، في النهاية، على الانتماء إلى دائرة الآداب الأخرى ذات الأهداف الإنسانية النبيلة.
#######

ملاحظة = قصيدة (هتسنحانيم بوخيم) منشورة باللغة العبرية في الجزء الثالث من كتاب (إلف مليم)، لتعليم اللغة العبرية للمهاجرين اليهود الجدد إلى إسرائيل، الصفحة: (57 ـ 58). وهي غير مترجمة إلى العربية، والأبيات المدرجة منها في سياق هذه الدراسة هي من ترجمة مؤلف الدراسة.
[/align]

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
محمد توفيق الصواف غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 29 / 06 / 2009, 11 : 04 AM   رقم المشاركة : [2]
محمد علي الهاني
شاعر - أستاذ بارز

 الصورة الرمزية محمد علي الهاني
 





محمد علي الهاني has a reputation beyond reputeمحمد علي الهاني has a reputation beyond reputeمحمد علي الهاني has a reputation beyond reputeمحمد علي الهاني has a reputation beyond reputeمحمد علي الهاني has a reputation beyond reputeمحمد علي الهاني has a reputation beyond reputeمحمد علي الهاني has a reputation beyond reputeمحمد علي الهاني has a reputation beyond reputeمحمد علي الهاني has a reputation beyond reputeمحمد علي الهاني has a reputation beyond reputeمحمد علي الهاني has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: توزر-تونس

رد: الشخصية العسكرية العدوانية ودور الأدب الإسرائيلي في بنائها

أخي الكريم المناضل / محمد توفيق الصواف

أفدتنا أفادك الله...

دمت ،ودام لقلمك التألق والتميّز...

لك شكري وودّي وتقديري.
توقيع محمد علي الهاني
 
خارِجٌ من لَظَى تَعَبِــي
داخلٌ في سماءِ الفـرحْ
اِغْـرِزُوا فــيَّ أنْيابَكُمْ
إِنَّ جُرْحِـيَ قوسُ قُزحْ

محمد علي الهاني - تونس
محمد علي الهاني غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الأدب الإسرائيلي محمد توفيق الصواف الدراسات والأبحاث الأدبية والنقدية 2 10 / 11 / 2016 40 : 12 PM
قراءة (3).. الحبُّ المُحَرَّم في الأدب الإسرائيلي... محمد توفيق الصواف الأدب الصهيوني و ثقافة الاحتلال 2 31 / 10 / 2016 12 : 12 PM
قراءة 2، ((الأدب الإسرائيلي)) وتسويغ استمرارية الحرب ضد العرب.. محمد توفيق الصواف الأدب الصهيوني و ثقافة الاحتلال 10 24 / 10 / 2016 30 : 07 PM
الأدب الإسرائيلي وتشجيع الاستيطان محمد توفيق الصواف الدراسات والأبحاث الأدبية والنقدية 0 11 / 12 / 2010 50 : 01 PM
الحب المحرم في الأدب الإسرائيلي / محمد توفيق الصواف محمد توفيق الصواف الدراسات والأبحاث الأدبية والنقدية 1 26 / 09 / 2009 35 : 06 PM


الساعة الآن 20 : 12 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى

|