فيض اللغة
[align=justify]
ـ اللغة، مفهوماً ونشأة وبنية:
قد لا يكون ما نتناوله جديداً كلالجدة، في طبيعته ومضمونه؛ فهو موضوع ذو شجون تعاورت عليه أقلام محلية وعربية عدة،ولكنّه يعدُّ ضرورة ملحة نحتاج إلى تأكيدها فيما آلت إليه حياتنا عامة، وما تعانيهلغتنا العربية الفصحى خاصة؛ وعلى صُعُد ومستويات عدة… فقد غدت لغتنا مأزومة بعددغير قليل من أبنائها، ما جعلها تعاني إشكاليات كثيرة في مفرداتها وتراكيبهاوأساليبها… وما وجود هذه الإشكاليات واستمرارها إلا نتيجة طبيعية لضعف الوعيالاجتماعي ـ الثقافي الوطني والقومي للغة العربية… ولذلك كان علينا أن نعرف اللغةلننتهي إلى الوسط الذي تعيش فيه لنناقشه…
فاللغة هي مجموع الأصوات والرموز،والإشارات و... وقديماً قيل: هي الألفاظ التي يعبر بها الناس عن مشاعرهم وحاجاتهموأفكارهم([1])، وأغراضهم بحسب طرائقهم.. أو هي ألفاظ تدل على معانٍ سواء كانت اسماًأم فعلاً أم حرفاً على حين يرى العالم اللغوي (دي سوسور) ـ أحد علماء القرن العشرينـ أنها «عبارة عن نظام من القيم الخاصة فحسب»([2]).
واللغة: مفرد، والهاءفيها تعويض عن الواو، والجمع اللغات… والفعل لغا يلغو.. ولَغِيَ يلغى… والمصدر منهااللَّغْوُ؛ واللغو: النُّطْق. فنقول: هذه لغتهم التي يَلْغون بها: أي يَنْطِقون.. ولغات الطير: أصواتها؛ قال ثعلبة بن صعير:
قبل الصباح وقبل لَغْوِ الطائر
باكرتهم بسباءِ جَوْن ذارعٍ
ولغيبالشيء يَلْغَى لَغىً: لَهِج.
واستلغاني الناس: سمعوا لغتي، كقول الشاعر:
بَرِمْتُ فأَلْفَوني بسرِّك أعجما
وإني إذا استلغانيالقومُ في السُّرى
واللغة: اللسان، ويكنى باللسان ـ أيضاً ـعن الكلمة كقول الشاعر أعشى باهلة:
من عَلْوَ لا عَجَب منها ولاسَخَرُ
إني أَتتني لسانٌ ما أُسَرُّبها
فاللسان: اللغة، وعليه قوله تعالى: ]وما أرسلنا من رسولإلا بلسان قومه[ (إبراهيم 14 /4) أي بلغة قومه ومثله اللِّسْن، كقولالمتنبي([3]):
تجمّع فيه كُلُّ لِسْنٍ وأُمَّةٍ
فماتُفهِمُ الحُدَّاثَ إلا التراجم
وهنا نُبين أن لفظ اللغة لميرد في القرآن الكريم؛ وإنما ورد المصطلح الدال عليه وهو مصطلح «اللسان».... وهذاالمصطلح أحدث ما انتهت إليه الدراسات اللسانية في القرن العشرين بينما استعملهالإسلام قبل أربعة عشر قرناً لأنه مادة النطق.
فاللغة ـ وأعلاها المنطوقةوالمكتوبة ـ أداة للاتصال والتواصل في حياة الناس، ووسيلة أصيلة لمعالجة شؤونمختلفة كالبحث والتحليل والنقاش، إنها نظام مجرد لكل ما هو مادي ومعنوي.. ما يعنيأن أي شعب يستعمل اللغة ليعبر بها عما يؤمن به ويشعر ويعتقد ويفكر... فهي وسيلةلبلوغ أهداف ووظائف يرغب فيها المرء سواء كانت منطوقة أم مكتوبة أم كانت إشارة أمرمزاً أم رسماً أم نحتاً... وكذلك هناك لغة الجسد، ولغة الحركة، ولغة النار... ولغةبريل... ولغة الموسيقى والإيقاع، ... ولكل منها وظائفها الخاصة بها وأنساقهاالفكرية الدلالية والجمالية والفنية.. وهي لغة تنشأ من الوظائف الاجتماعية والحاجةالتي تلبي رغبات الإنسان، منذ الطفولة ثم ترتقي طبيعة ووظائف. فالطفل يشكل عالماللغة الخاص به من المفردات التي يتعامل معها في محيطه ليكون مفاهيم محددة تعبر عنإرادته ومشاعره، وأفعاله. فهو مثلاً إذا لم يستطع أن يتسلق شجرة، فإنه يستخدم شيئاًوسيطاً للارتقاء إليها كطاولة أو غيرها، ولكل من هذه وتلك محددات لغوية خاصة؛ مايعني أن اللغة صورة طبيعية موازية لاستخدامها في الحياة؛ أي إن اللغة تدل على عقلإنسان ما وسلوكه، أو على خصائص شعب ما، إذ ترمز إلى مستواه الثقافي، ورقيهالحضاري... ثم هي ضرورة اجتماعية، وظاهرة ثقافية تصل الأجيال بعضها ببعض، ومن ثمتصل بين الأكوان والشعوب([4]).
فهناك علاقة جدلية بين اللغة والمجتمع من جهةوبين اللغة والفكر والثقافة والفن والأدب والشريعة والقانون.. من جهة أخرى. وكم منإنسان يرى فيها بأنها وعاء للفكر متعلقة به منذ وجودها، وهي تتميز بخصائص الجماعةالتي تنشأ فيهم، إذ تعبر عما يشعرون، ويفكرون، ويستعملون، ويجربون... وبها تثرىخبراتهم ومعارفهم في إطار التعبير عن التوسع والتنوع والاختلاف الذي يقع في الحياة،أياً كانت درجة القرابة وتشابه الأنساق فيها وفي أصحابها.
وهذا يشي بأناللغة كانت في الماضي السحيق أو القريب تنتمي إلى أُرومة واحدة ـ وكذا الكتابة ـولمّا تبلبلت الألسنة اختلفت اللغات وتباينت لشدة ارتباطها بالأنساق الزمانيةالمكانية؛ الاجتماعية والتاريخية. ولا شيء أدل على هذا الشأن من تباين اللغةالفرنسية عن الإسبانية على الرغم من انتمائهما إلى أصل واحد وهو اللغة اللاتينية،أما اللغة العربية الفصحى فقد بقيت ثابتة لثبات الخصائص الزمانية ـ المكانيةلأهلها، ولبنيتها الحيوية؛ على الرغم مما تعرضت له من غزوات شتى لإكراهها علىالتنازل لغيرها...
ولسنا نشك في أن اللغة العربية تعد الجسر الذي يصل بينالأجيال في الماضي والحاضر والمستقبل ما يؤكد ثباتها من جهة وتحولها إلى أشكالمتطورة من جهة أخرى في إطار الارتقاء المعرفي والعلمي. فهي بثباتها وتحولاتها تظلمحافظة على نظامها النحوي والصرفي والبلاغي والصوتي، ما يجعلها متماسكة في نقلالتراث وكأنه ممتد في الزمان والمكان والثقافة دون تغيير، بعكس ما يقع لعدد منأبنائها الذين يتحوّلون عنها. ومن ثم فإن النمط اللغوي العربي، يتطور شكلاً،ومضموناً دون أن يتناقض مع عنصر الثبات في الوقت الذي يدفعنا إلى القول: إن أي تطورلغوي في المفردات والتراكيب والصور والأخيلة يرتبط بالنسق السلوكي السائد في حياةقوم ما، فخبراتهم وثقافتهم وأدبياتهم وفنونهم، وعاداتهم وتقاليدهم و.... هي التيتحدد أوضاع اللغة، ما جعل (تايلور) يعرف الثقافة تعريفاً يلتصق باللغة الاجتماعية. فرأى بأنها ذلك الكل المركب والمعقد والمكتسب بكل ما يشتمل عليه من معارف وعقائدوعادات وأعراف وفنون وأخلاق وقانون.. أي إن الثقافة هي ذلك الشكل الذي يشتمل علىالإنجازات الاجتماعية والثقافية المادية والمعنوية للتراكيب اللغوية بكل عناصرهاومكوناتها([5]).
وعليه فقد اشتدت عناية علماء اللغة والباحثين الاجتماعيينبالدراسات الأنثروبولوجية منذ بدايات القرن العشرين، حين ربطوا اللغة بالبيئةالاجتماعية والثقافية، وبذلوا محاولات حثيثة لقراءة التاريخ اللغوي وفق هذاالتصور... وقد تميزت الجامعات الأمريكية المعاصرة في هذه الدراسات منذ ستينياتالقرن العشرين، إذ ازدادت قيمة الدراسات الأنثروبولوجية على يدي اللغوي الأمريكيالأنثروبولوجي (دل هايمز Dell Hymes) حين قدّم جهوداً كبرى في هذا الاتجاه([6]).
ولعل الأمانة العلمية تحتم علينا الإشارة إلى أسبقية العرب في مثل هذهالدراسات، إذ عالجوا مضمونها، وإن لم يقفوا على مصطلحاتها. وكان «أبو الريحانالبيروني» قد تحدث عن قيمة اللغة واختلافها بين الأقوام تبعاً للبيئة الاجتماعيةوالثقافية؛ فقال: «يجب أن نتصور أمام مقصودنا الأحوال التي يتعذر استشفاف أمورالهند، فإما أن يسهل بمعرفتها الأمور، وإما أن يتمهد له العذر، وهو أن القطيعة تخفيما تبديه الوصلة؛ ولها فيما بيننا أسباب، منها أن القوم يباينوننا بجميع ما يشتركفيه الأمم، وأولها اللغة»([7]).
إذاً اللغة ـ باعتبارها الصوتي ـ عنصرمحايد، ولكنها في مجموع أصواتها لفظاً مفرداً وتركيباً ليست محايدة؛ إذ تصبح مجموعةألفاظ تعبر عن مشاعر جماعة ما، وما يتواضعون عليه من أفكار وثقافات، فضلاً عنالتصاقها بالبيئة الطبيعية التي تقطن فيها تلك الجماعة([8]).
هكذا قدَّمتلنا الدراسات اللغوية جملة من الإضاءات المفيدة والمثيرة حول مفهوم اللغة ونشأتهاوتطورها وأنواعها ووظيفة كل نوع فيها، في الوقت الذي عالجت خصائصها المميزة.. ودلَّت طبيعة أي لغة على معنى حضاري ما..
فاللغة ظلت تتجدد بتجدد الفكروالحاجاتوالعادات حتى انتهت في التاريخ القديم إلى الحروف والمقاطع؛ واخترع كل شعبما يلبي حاجته من تلك الحروف كما نجده في السومرية والأكادية، والهيروغليفية.. ولايستطيع بحث لغوي ما، مهما أوتي من العمق والإحاطة أن يبين لنا شكل اللغة الأولىللإنسان.. هل كانت محاكاة، والنفس تلتذ بالمحاكاة؛ ثم أصبحت تواضعاً؛ دون أن يتناقضهذا مع الرأي القائل: إنها توقيف في أصل تعليمها للإنسان، إذ وضع الله فيه الملكةوالقدرة على التعلم؛ باعتبار الإنسان صورة للصانع الأكبر؟([9]).. ولهذا فهو يمتلكبالقوة خواص الصانع الذي أحكم خلق الكون.. ثم انعقدت بين الإنسان والحياة والطبيعةعلائق وثيقة طوّرت لغته ومن ثم انشعبت تبعاً للبيئة الاجتماعية والاقتصاديةوالطبيعية…
ولا شك في أن مفهوم اللغة وتاريخ نشأتها يختلفان عن مفهومالكتابة؛ وتاريخها وتطورها؛ وإن ارتبط كل منهما بالآخر في أذهان الناس….. علماً بأنالكتابة تمثل رموزاً للغة؛ ولا سيما في نشأتها الأولى. وهنا نسجل لأجدادنا العربالقدامى من الكنعانيين والسومريين والآراميين والفينيقيين إجلال البشرية لهموتعظيمها لاختراعهم.. فقد احتلوا مكانة عظيمة في التاريخ الإنساني حين أبدعوا لناالأبجدية الأولى للبشرية التي وصلت إلينا من جبيل في لبنان ورأس شمرا في سورية.. هذه الأبجدية التي استطاع العلماء حل رموزها؛ وأدركوا في ضوء تحليلها عظمة قيمتهاالتاريخية والحضارية.
ونرى أن هناك تطابقاً بين اللغة والكتابة في بدايةنشأة الكتابة، حين كان الإنسان القديم يرسم ما يريد التعبير عنه، وفق ما ظهر فيالكتابات القديمة للفراعنة كما تدل عليه الرسوم في (مدافن الملوك) بأقصر مصر... ومثلها كانت الكتابة السومرية في سورية وبلاد الرافدين... ثم ظهرت الحروفالأوغارتية التي بلغت ثلاثين حرفاً، على حين ظهرت الحروف الهيروغليفية التي بلغتاثنين وعشرين حرفاً وهي متطابقة في العدد مع أبجدية (جبيل)، وكلتاهما ترقى إلىالقرن الرابع عشر قبل الميلاد ـ كما نعتقد ـ.
ويبدو لي أن اللغة الكنعانيةانتقلت إلى الآرامية أو السريانية، وكلتاهما كتبتا بالأوغارتية... ثم امتدتا إلىاللغة العربية وحروفها على نحو ملموس، وفق ما سنشير إليه من ألفاظ كثيرة دخلت فيصميم اللغة اللفظي. وكان عدد من علماء السريان قد ترجموا عن اللغة السريانية إلىالعربية عدداً غير قليل من الكتب...
وفي صميم ذلك كله يبقى البحث في أصولاللغات مستمراً؛ لأنه ما من لغة بقيت كما هي؛ بل ارتقت بوساطة قوانينها وفِعْلأبنائها يوماً بعد يوم؛ فمثَّلت على الدوام حال كل أمة تنتمي إليها وتعبر عنها... وتبقى اللغة العربية متصلة بجذورها التاريخية التي تؤكد وحدة الثقافة، والحياة، فيالوقت الذي تؤكد فيه وحدة الشعور الذي ترعرع على الأرض العربية. وعلى الرغم من ذلكنقر بأن أيَّ باحث لم يستطع أن يقول في هذا الشأن القول الفصل؛ وإن تعمّقت الدراساتاللغوية بشكل كبير في القرنين الماضيين.. فهذه الدراسات استطاعت أن تقف عند مصادراللغة، وميزت بدقة طرائق كل لغة ومذاهبها في التعبير، والتأثيرات المتنوعة التيتعرضت لها.. ولكنها تناولت اللغة بما هو معروف للإنسان، لأنها عاجزة عن الإيغال فيأعماق التاريخ.. إذ ظلت هذه الآراء قائمة على التخمين فيما يتعلق باللغة الأولى.
وحين ندرس اللغة باعتبار تنوعها تبعاً للجنس البشري لا بد من أن نتحدث عنموقع لغتنا في إطار بنيتها ودلالتها ومستوياتها دون أن نخرجها ـ هنا ـ عما رآهاللغويون لأنها جزء من لغة الإنسان؛ وهي تنتمي إلى شكل من ثلاثة أشكالهي:
الشكل الأول: اللغات الفاصلة: وهي كل لغة لا تتغير بنية الكلمة فيها فيحال إفرادها وتركيبها.. ولا زالت اللغة الصينية تمثلها حتى الساعة، وهي تبلغ نحو (70) ألف كلمة، يستعمل الصينيون منها نحو أربعة آلاف كلمة.
الشكل الثاني: اللغات اللاصقه: وهي كل لغة احتفظت بصيغة ثابتة ـ للكلمة في حال الإفراد والتركيبثم سبقت بحروف أخرى أو ألحقت بها حروف لإيجاد معانٍ جديدة ليست لها في حالتهاالبنائية الأصلية؛ ويمثلها اللغة الفرنسية والإنكليزية واليابانية..
الشكلالثالث: اللغات المتصرفة: وهي كل لغة تتغير بنية الكلمة من داخلها؛ أو بإلحاق حروفبها أو تقديمها عليها، ومن ثم تتغير دلالاتها تبعاً لتغير المبنى.. ولا تكتفي بذلكبل تتغير دلالتها في حال التركيب تقديماً وتأخيراً، حذفاً وزيادة،.. وفي حال تنوعالتراكيب بين الحقيقة والمجاز.. والإيحاء والإيجاز والاطناب…. وتعد اللغة العربيةأبرز اللغات التي تتصف بذلك..
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|