(رأس البر) مغامرة في نقطة تلاقي النيل والبحر
منير الفيشاوي
"مصر هبة النيل" تعبير غني بالبلاغة أطلقه المؤرخ الإغريقي "هيرودوت" إبان زيارته لمصر في القرن الخامس قبل الميلاد، عبّر فيه عن عظمة هذا النهر السارية مياهه في عروق مصر والمصريين، جالباً معه الخيرات وأسباب الحياة عبر رحلة طويلة تبلغ 6695 كم مرورا بعشر دول إفريقية ، تنتهي في شمال مصر بفرعين يمثلان ما يسمى بـ"دلتا نهرالنيل"، أحدهما يدعى "فرع رشيد" وينتهي عند مدينة رشيد القريبة من الإسكندرية، والآخر"فرع دمياط" وينتهي عند شبه جزيرة رأس البر، بتلامس إعجازي ساحر مع مياه البحر الأبيض المتوسط. وتتجسد معجزة هذا التلامس (وليس المصب) في عدم مخالطة المياه العذبة لنهر النيل مع المياه المالحة للبحر على الرغم من التقائهما، مصداقا لقول الله تعالى في كتابه العزيز في "سورة الرحمن":"مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان"، بمعنى أن الله تعالى قد أرسل مياها مختلفة في الخواص والمذاق في البحرين، وقدر لهما أن يلتقيا عند نقطة تماسهما، وبإعجاز إلهي لا يقدر عليه سواه عز وجل جعل بينهما مانعاً أو حاجزاً غير مرئي للمشاهد أشارت إليه الآية الكريمة بـ"البرزخ" يمنع اختلاط العذب والمالح من هذه المياه، كي لا تفقد كل منها خواصها التي خلقت من أجلها. وقال تعالى "لا يبغيان" أي لا يبغي أو يطغي أحدهما (النهر أو البحر) بأن يصب في مجرى الآخر. يالها من معجزة إلهية، تتجلى ذروة روعتها عند مشاهدتها ورؤيتها رأي العين في موقعيها الأصليين، وخصوصاً في شبه جزيرة رأس البر.
تعد منطقة اللسان برأس البر بمثابة مسرح طبيعي مفتوح لمشاهد تجسد وتفسر آيات قرآنية على أرض الواقع وتشهد بمعجزة إلهية. وقد أطلق على هذه المنطقة اسم "اللسان" نسبة إلى ذلك النتوء الصخري الطبيعي المطل على كليهما (النهر والبحر) عند نقطة تلامسهما والممتد ما بين المياهين في شموخ، والذي تطور حالياً بأيدي المصريين ليصبح نتوءاً حجرياً أسمنتياً لدعمه وحمايته من عوامل التعرية والتآكل.
ويبلغ طول اللسان حوالي مائتي متر، وعرضه حوالي عشرين متراً، لا يصد ضغط المياهين بقدر ما هو شاهد عليهما، فحين مشيت عليه كان النيل إلى يميني والبحر إلى يساري وأمامي. وعند نهايته ميدان دائري يتوسطه فنار متوسط الإرتفاع. وإلى يمين هذا الميدان، هناك مضيق محدود بكتل حجرية تنتهي بفنار آخر صغير. و ما بين الفنار الصغير واللسان تقع نقطة تلامس المياهين، والتي كانت حتى أوائل السبعينيات من القرن الماضي مرئية بوضوح بالعين المجردة، نتيجة اختلاف لوني المياهين، حيث كانت مياه النيل مختلطة آنذاك بالطمي الذي كان يكسوها باللون البني المائل للإحمرار، قبل حجز السد العالي للطمي في السنوات اللاحقة؟. وكان اختلاف اللون هذا عن مياه البحر بزرقته الصافية المائلة للإخضرار مشهداً مذهلاً ورائعاً لخط طبيعي واضح يشير إلى عدم اختلاط المياهين، وهو ما ليس متوفراً في الآونة الحالية لتماثل لونيهما.
ولغرض التحديد الدقيق لموقع البرزخ، قمنا بخوض غمار تجربة مثيرة، حيث ركبنا أحد القوارب وقررنا العبور به من النيل إلى البحر والعكس لنرى ماذا سيحدث. وكانت بحق رحلة مثيرة، حيث سار بنا القارب فوق صفحة النيل المستقرة بسهولة ويسر، وفجأة أعلن البرزخ عن نفسه وموقعه حيث باغتنا القارب بالقفز إلى أعلى والإرتطام بصفحة المياه، مع الإرتجاج بشدة يمنة ويساراً لبضع ثوان. وهنا بالضبط إنتقلنا إلى مياه البحر، واستقر بعدها مساره على صفحة مياه البحر المضطربة جراء حالة الموج والمد والجزر. وفي رحلة العودة إلى النيل ثانية حدث العكس، حيث صفع القاع الخارجي للقارب صفحة مياه النهر بشدة أيضاً وشعرنا أن القارب قد غاص قليلاً في الماء.
تعد مدينة رأس البر، الواقعة على بعد 210 كم شمال القاهرة، منتجعاً صيفياً مصرياً شهيراً، كان حتى ستينيات القرن الماضي يقصده علية القوم ومشاهير المجتمع من طبقة الباشوات والحكام والفنانين، ولكن مع تطور المدن الساحلية الأخرى انسحب هؤلاء منها بحثاً وراء الجديد. إلا أن رأس البر حافظت على طبيعتها التي تتسم بالبساطة والهدوء والأمان، والتفرد في الطابع المعماري البسيط والمتلخص في صيغة الفيلات المقسمة إلى شقق بارتفاعات غير مسموح بأن تتعدى الثلاثة طوابق باستثناء بعض الفنادق المعدودة. وتتخذ مدينة رأس البر شكل شبه جزيرة صغيرة الحجم، فطولها لا يتعدى الخمسة كيلو مترات وعرضها كيلو مترين عند أطول أضلاعها، وهي مدينة صيفية بالأساس، حيث يرتادها راغبو الإستجمام في شهور الصيف وبعض من الربيع والخريف. وهم يستمتعون في الصباح بأهم مواقعها، وهي: شاطىء البحر، وشاطىء النيل (الجربي)، ومنطقة اللسان. فشاطىء البحر ذو الرمال الصفراء يعج بالحركة، حيث ينصب المصطافون المظلات ويجلسون تحتها، ويـمـارس الباقون كافة ألعاب ورياضات البحر. أما شاطئ النيل بضفة رأس البر والذي يدعى"الجربي" فله طابع آخر، حيث تصطف المقاهي والكافيتريات والمطاعم والنوادي والمساجد في صف واحد متجاورة بإطلالة على صفحة النهر الخالد.
منير الفيشاوي
السياحة الإسلامية: 25 نوفمبر/تشرين الثاني2008