الرسم التشخيصي الاســـــــــــــلامي
بغداد - موفق مكي
ان النهي عن تمثيل الكائنات الحية في بداية تأسيس الدولة الاسلامية لقرب الرسوم التي تجسد الانسان خصوصا، من ذكرى الاصنام التي انتهى دورها السياسي الديني منذ دخول الاسلام الى مكة، معقل تلك العبادة المتمثلة بالتماثيل والرسوم واستبدالها بعبادة الله الواحد،
هذا النهي جعل الكثير من الناس يعتقدون بان فن الرسم التشخيصي بقي تحت طائل التحريم من دون ان يجد لنفسه مخرجا.
الا ان النتائج الفنية التي برزت في العصور اللاحقة للدولة الاسلامية التي اخذت بالتطور تجعلنا نستطيع القول ان الفن التشخيصي اصبح اكثر الفنون الاسلامية تعقيدا واكثرها دقة ومهارة.
قد ينطوي هذا الرأي على مفارقة ولكن الحقيقة هي ان العملية التي ادت بالرسم التشخيصي ان يصبح في نهاية الامر اكثر الفنون الاسلامية غنى ونموذجية، تابعت سيرها بصورة اعتيادية.
اذ لما كانت محاكاة الرسم للكائنات الحية تقع تحت طائلة التحريم فلم يكن هنالك بد للفنانين من ان يبتكروا نمطا جديدا من القوانين الجمالية، التي تجعل فنهم يفلت من هذه التحريمات، وبذلك فقد اختطوا لانفسهم جمالية اسلامية خاصة.
فبدلا من القيام بتصوير تشبيهي خال من الانسان ومن الكائنات الحية فضل الفنانون تزيين المساجد بالخط العربي وبفن الارابيسك التجريدي.
واذا كان فن الخط وفن الارابيسك قد خطيا منذ البداية هذه الخطوات الواسعة بحيث اصبحا فنين عظيمين في سلم قيم الفنون الاسلامية حسب التصور التقليدي فمرد ذلك يعود الى رفض الرسم التشبيهي كوسيلة لتزيين القرآن والمساجد.
التباس فلسفي
لكننا نواجه هنا نوعاً من الالتباس بين مضمون الفكرة ومحتواها وبين مادية الحروف وجماليتها وقدرتها التعبيرية الجمالية البحتة.
كما يوجد خلط افاد منه الخطاطون كثيرا فيما يتعلق بمركزهم الاجتماعي لكنه يقوم على اسس خاطئة اذ ان الخط لا يملك من الحقيقة جمالية دينية بصورة خاصة، بالاضافة الى انه استخدم لتزيين مؤلفات دنيوية ايضا.
فالخط فن مادته الاساسية عربية تماما، وهو في الحقيقة الفن الوحيد من بين جميع الفنون التجسيمية التي انتجتها الحضارة العربية الاسلامية.
اما فن الارابسك الذي يتركب اساسا من خطوط مستقيمة او منحنيات فانه على العكس يستقي مفرداته في نطاق الاشكال الاولية من الفنون التي برزت منذ زمن بعيد في البلاد التي فتحها العرب.
فالفن السومري والفن الاشوري في العراق رفدا ذلك الفن بالاقحوانات والاشكال الهندسية التي ترمز الى حركة الكواكب في العصور القديمة فيما بين الرافدين، سيؤدي هذا الامر الى اعتبار الفن التجريدي فنا رئيسيا كما نعتبره اليوم تماما وليس مجرد فن زخرفي مخصص لملء المساحات الفارغة بين الكتابات.
لاشك اننا هنا ازاء ثورة منحت هذا الفن التجريدي العربي الاسلامي صفاته المميزة العميقة، وهذه الثورة هي التي تفسر لنا توسع هذا الفن والتقدير الذي حظي به الى جانب فن الخط.
الامر على خلاف ذلك بالنسبة للرسم التشخيصي الذي ازدهر ازدهارا رائعا في نطاق المنمنمات اذ بقي الموضوع يتعلق بتمثيل الانسان والحيوان ولكن من دون ان يسقط الفنان تحت طائل التحريمات ولتحقيق ذلك كان من الواجب ابتكار جمالية تتلاءم مع هذه التحريمات.
وقد حقق الفنانون براعة فلسفية خارقة او بجرأة فنية ثورة حقيقية اساسية تنصب على غاية التصوير التشبيهي ذاتها، وعلى المثل الاعلى الفني للعمل بصورة تجعل الرسم التشخيصي للانسان ولمجموعة العمل الفني يتلاءم مع متطلبات ذلك التحريم.
فقد ابتكروا مبدأ ان الفن ليس واجبه تقليد الطبيعة، وان المحاكاة ليست هي التي تؤسس قيمة العمل الفني، بل على العكس ما يؤسسها هو الابتكار، اي خلق عالم جديد يمكن ان يكون مختلفا بل متعارضا مع المظاهر الحية للطبيعة بل وحتى متعارضا مع حقيقتها واحتماليتها.
والواقع ان الفنانين بدأوا يطبقون مبدأ الاستحالة وهم يستكشفون بصورة خاصة فيما بعد بان العمل الفني يتجاوز مظاهر”العالم الممثل “ وانه”عالم مستقل “ اي عالم مصغر تتخذ فيه الاشكال مواضعها لاسباب باطنه في العمل الفني بصورة محضة، لا لغرض محاكاة الطبيعة او لرسم حكاية بصورة مطابقة لما سوف يحدث.
لاشك ان مفهوم”الكائن الحي “ الذي تأمل فيه الفنان الاسلامي هو دائما مخلوق متفرد مختلف عن الافراد الاخرين، وهكذا ادرك الفنان بان التحريم يقع على المحاكاة الحقيقية والرغبة في تحقيق نسخة امينة للغاية لفرد متوحد اي بالخلاصة هي الصورة الشخصية.
عالم مخترع
وليكون باستطاعة الفنان رسم الانسان وحيواناته كان لابد له ان يقنع فقهاء الدين بان هدفه لم يكن محاكاة الكائنات الحية.
ومن اجل اظهار حسن نيته كان لابد من اقامة عالم ممثل لا يشبه الطبيعة ابدا، وهذا ما حصل عليه عندما يحذف المنظور ويستبعد تضاؤل الاشياء بمفعول المسافة وعندما يصور البشر والحيوان كمفاهيم وكمعان كلية.
تصور مؤرخو الفن الاسلامي فترة طويلة بان الفنانين المسلمين لم يكونوا يعرفون المنظور وكانون يجهلون حساب النسب الصحيحة.
والحقيقة هي ان كل هذه الامور كانت مقصودة وضرورية بجعل رسم الكائنات الحية والانسان امــرا جائزا قبل كل شيء.
يكفي ان نلقي نظرة على منمنمات المخطوطات العربية لنتحقق بان الارض والصخور والمرج والماء والاشجار والازهار والسماء، كلها مبتكرة ولا تمت الى صورتها الحقيقية بصلة سواء من ناحية اشكالها او الوانها. وهو مبدأ الاستحالة الذي اشرنا اليه.
هذا يعني ان الفنانين طبقوا هذا المبدأ بصورة منهجية على كل ما كان مسموحا به ليبينوا بانهم لا يريدون المحاكاة.
من المؤكد بان الموهبة والدقة الفنية اللتين تميز بهما الفنانون المتحدرون من العراق الذين يمتلكون تقاليد فنية موغلة في القدم هما اللتان اتاحتا ابتكار هذه الوسائل الفنية لتحاشي التحريم، وبذلك خلقتا تصويرا اسلاميا اخذ بالتطور حتى وصل الى اعلى درجات الرقي الحضاري.
منقول من جريدة الصباح العراقية
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|