التسجيل قائمة الأعضاء



 
القدس لنا - سننتصر
عدد مرات النقر : 137,847
عدد  مرات الظهور : 162,311,818

اهداءات نور الأدب

العودة   منتديات نور الأدب > جمهوريات نور الأدب > الجمهوريات العامة > جمهورية الأدباء العرب
إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 04 / 10 / 2009, 11 : 07 PM   رقم المشاركة : [1]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

مدينة الشاعر محمود درويش

[align=justify]

محمود درويش وفتنة الكلام

· طلعت سقيرق
لا أدري لماذا تحطّ عيناي دائما على عنوان ديوان الشاعر الراحل محمود درويش " كزهر اللوز أو أبعد" وتسبحان بعدها في فضاء لا نهائيّ من التساؤل حول سرّ هذا الشاعر الذي استطاع أن يدرس خطواته بشكل مدهش ليدخل حقا في صورة لا نهائية من فتنة الكلام ..كل مفردة عند محمود درويش مدروسة أو قل آتية من مشاعره الفياضة لتصبّ في مكانها المحدد دون زيادة أو نقصان .. الشاعر في هذه الحالة مشبع بل مليء بذهب الإبداع وعصير كرمته حتى لتراه مرتويا في كل كلمة،قابضا على جمرة التوهج الجميل بل الرائع في كل جملة ..
طبعا لا يأتي ديوان " كزهر اللوز أو أبعد " مفردا في الحكم ، فأنا أقصد عموم شعر درويش وصفحته الإبداعية كلها ، ولكن لقرب الديوان مني متناولا وقراءة أراني في كثير من الأحيان أعود إليه منقبا مفتشا عن معاني السر والسحر معا .. ومن قرأ هذا الديوان لا بدّ أن يلحظ أنّ محمود درويش قد صفى الكلام أو دوزنه على قياس خاص يدخل في اليوميّ ولا يترك الوطنيّ، ويدخل في الوطنيّ دون أن يغادر اليوميّ ، فكان هذا المشترك في التعبير عنوان يوميات الإنسان الفلسطيني بكل حالاته .. فهناك "أنا" الشاعر ، وهناك "هو" المتصلة بالشاعر ، وهناك تداخل بين الاثنين بصورة حاول الشاعر محمود درويش أن يجعلها فريدة قدر المستطاع بعيدا عن أي ّ ضجيج أو استغراق في الصور البلاغية لذلك كانت إشارته في مطلع الديوان من كلام التوحيدي :" أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم ".. معبرة خير تعبير عما أراده من عزفه المنفرد ربما في هذا الديوان ، وهو عزف جماليّ فيه الكثير من ملامح محمود درويش ، مع محاولة قصّ الزوائد التي تحملها بنية الصورة البلاغية أحيانا فتذهب بالشاعر بعيدا عما كان يريد أن يقول لتكون الصورة هي المسيطرة .. هنا لا يريد محمود درويش شيئا من كلّ هذا فهو يفرد الكلام الذي يقارب أو يداخل الذات في تعدد حالاتها بانيا ما هو خاص في صورته بعيدا عن أيّ شرك قد تنصبه البلاغة أو الصورة البلاغية للشاعر ..
يقول في قصيدة " كما لو فرحت " معبرا عن حالة عادية جدا لكن بلغة الشاعر المصفاة :" كما لو فرحتُ : رجعتُ ضغطت على / جرس الباب أكثر من مرة وانتظرتُ / لعلـّي تأخرتُ لا أحدٌ يفتحُ الباب لا /نأمةٌ في الممرّ / تذكرتُ أنّ مفاتيح بيتي معي فاعتذرتُ / لنفسي : نسيتكَ فادخلْ / دخلنا أنا الضيف في منزلي والمضيف / نظرتُ إلى كلّ محتويات الفراغ ، فم أرَ / لي أثرا ربما ...ربما لم أكن هاهنا .لم / أجد شبها في المرايا ففكرت أين / أنا ،وصرختُ لأوقظ نفسي من الهذيان / فلم أستطع ..وانكسرتُ كصوت ٍ تدحرج / فوق البلاط وقلتُ : لماذا رجعتُ إذا ؟؟.. / واعتذرتُ لنفسي : نسيتك فاخرج / فلم أستطع .ومشيتُ إلى غرفة النوم / فاندفع الحلم نحوي وعانقني سائلا : / هل تغيرت ؟؟. قلت تغيرتُ فالموتُ/ في البيت أفضل من دهس سيارة / في الطريق إلى ساحة خالية.."..
السطر المدور ، الاقتصاد في المفردات ، الحكاية ، الهاجس ، اللعب على وتر الغياب والحضور، دوران الذهن في معنى الحياة ومعنى الوجود ، الشعور بالوحدة الضاغطة .. والكثير غير ذلك في مفردات قليلة مليئة بنبض الشعر وعلوه ووصول الشاعر إلى صفاء الرؤيا وفلسفته للحياة والوجود .. كل ذلك ، وما نجده في شعر درويش ، يبقيه شاعر فتنة الكلام بامتياز ..
[/align]

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 07 / 10 / 2009, 47 : 07 PM   رقم المشاركة : [2]
محمود درويش
كاتب نور أدبي

 الصورة الرمزية محمود درويش
 




محمود درويش is on a distinguished road

رد: مدينة الشاعر محمود درويش

وعاد في كفن

يحكون في بلادنا
يحكون في شجن
عن صاحبي الذي مضى
و عاد في كفن
*
كان اسمه.. .
لا تذكروا اسمه!
خلوه في قلوبنا...
لا تدعوا الكلمة
تضيع في الهواء، كالرماد...
خلوه جرحا راعفا... لا يعرف الضماد
طريقه إليه. ..
أخاف يا أحبتي... أخاف يا أيتام ...
أخاف أن ننساه بين زحمة الأسماء
أخاف أن يذوب في زوابع الشتاء!
أخاف أن تنام في قلوبنا
جراح نا ...
أخاف أن تنام !!
-2-
العمر... عمر برعم لا يذكر المطر...
لم يبك تحت شرفة القمر
لم يوقف الساعات بالسهر...
و ما تداعت عند حائط يداه ...
و لم تسافر خلف خيط شهوة ...عيناه!
و لم يقبل حلوة...
لم يعرف الغزل
غير أغاني مطرب ضيعه الأمل
و لم يقل : لحلوة الله !
إلا مرتين
لت تلتفت إليه ... ما أعطته إلا طرف عين
كان الفتى صغيرا ...
فغاب عن طريقها
و لم يفكر بالهوى كثيرا ...!
-3-
يحكون في بلادنا
يحكون في شجن
عن صاحبي الذي مضى
و عاد في كفن
ما قال حين زغردت خطاه خلف الباب
لأمه : الوداع !
ما قال للأحباب... للأصحاب :
موعدنا غدا !
و لم يضع رسالة ...كعادة المسافرين
تقول إني عائد... و تسكت الظنون
و لم يخط كلمة...
تضيء ليل أمه التي...
تخاطب السماء و الأشياء ،
تقول : يا وسادة السرير!
يا حقيبة الثياب!
يا ليل ! يا نجوم ! يا إله! يا سحاب ! :
أما رأيتم شاردا... عيناه نجمتان ؟
يداه سلتان من ريحان
و صدره و سادة النجوم و القمر
و شعره أرجوحة للريح و الزهر !
أما رأيتم شاردا
مسافرا لا يحسن السفر!
راح بلا زوادة ، من يطعم الفتى
إن جاع في طريقه ؟
من يرحم الغريب ؟
قلبي عليه من غوائل الدروب !
قلبي عليك يا فتى... يا ولداه!
قولوا لها ، يا ليل ! يا نجوم !
يا دروب ! يا سحاب !
قولوا لها : لن تحملي الجواب
فالجرح فوق الدمع ...فوق الحزن و العذاب !لن تحملي... لن تصبري كثيرا
لأنه ...
لأنه مات ، و لم يزل صغيرا !
-4-
يا أمه!
لا تقلعي الدموع من جذورها !
للدمع يا والدتي جذور ،
تخاطب المساء كل يوم...
تقول : يا قافلة المساء !
من أين تعبرين ؟
غضت دروب الموت... حين سدها المسافرون
سدت دروب الحزن... لو وقفت لحظتين
لحظتين !
لتمسحي الجبين و العينين
و تحملي من دمعنا تذكار
لمن قضوا من قبلنا ... أحبابنا المهاجرين
يا أمه !
لا تقلعي الدموع من جذورها
خلي ببئر القلب دمعتين !
فقد يموت في غد أبوه... أو أخوه
أو صديقه أنا
خلي لنا ...
للميتين في غد لو دمعتين... دمعتين !
-5-
يحكون في بلادنا عن صاحبي الكثيرا
حرائق الرصاص في وجناته
وصدره... ووجهه...
لا تشرحوا الأمور!
أنا رأيتا جرحه
حدقّت في أبعاده كثيرا...
" قلبي على أطفالنا "
و كل أم تحضن السريرا !
يا أصدقاء الراحل البعيد
لا تسألوا : متى يعود
لا تسألوا كثيرا
بل اسألوا : متى
محمود درويش غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 24 / 11 / 2009, 53 : 03 AM   رقم المشاركة : [3]
أسماء بوستة
أستاذة وباحثة جامعية - مشرفة على ملف الأدب التونسي

 الصورة الرمزية أسماء بوستة
 





أسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to behold

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: تونس

رد: مدينة الشاعر محمود درويش

أسرار مراوغات (لاعب النرد) مع الموت
حكاية شاعر فلسطيني أعار إيقاعه لمأساة شعبه فبقي يرصد رحيل الشهداء ويحرسهم

أوس داوود يعقوب


[align=justify]خمسة وعشرون عاماً هي المسافة الزمنية الفاصلة بين إصابة محمود درويش بالذبحة القلبية الأولى وبين مواراته الثرى في تراب رام الله إثر العملية الجراحية التي أودت بحياته.
وقد كان درويش في عامه الأخير، يدرك أن مواجهته مع الموت قد دنت. وكان كمن يريد تأجيل مواجة يشعر أنها قد تكون نهائية وقد تكون خاسرة، أو كان كمن يريد أن يستعد لهذه المواجهة، وهو مدجج بمزيد من الشعر.
وفي عمله الأخير الذي ظهر إلى العلن بعد رحيله ( لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي ) ، تطالعنا وقائع اللحظات الأكثر قساوة من حياة درويش ، فهو يكمل ما بدأته (الجدارية) من تفاصيل المواجهة الضارية بين الشاعر والموت.
وإذا كانت رائعة محمود درويش الجارحة المودعة (لاعب النرد) المكتوبة في الأصل تحت هاجس كونها القصيدة الأخيرة ، هي أقرب ما تكون إلى البيان الشعري الختامي وبخاصة من خلال خاتمتها المؤثرة التي بدا سطرها الأخير (مَنْ أنا لأخيب ظن العدم) تراجعاً واضحاً عن صرخته السابقة (هزمتك يا موت الفنون جميعها).
ورغم أن البعض رأى أن درويش لم يعلن اليأس في هذه القصيدة ، لأنه لم يتكلّم عن الموت بل عن العدم. و بحكم معرفته بأن للنصوص حياة خاصة، تستمر بعد أصحابها، وأن الكينونة بالمعنى الفيزيائي مرشحة للعدم، ولا أحد يمكنه التحايل على ما هو عكس الوجود. و في ظل كينونة مرشحة لعدم لم يعد من الممكن تأجيله، حتى عن طريق صدفة غير متوّقعة . وأن درويش لا يستعيد في النص المفارقات الصغيرة، والمصادفات الكثيرة في حياته، في ظل ما يشبه النشيد الجنائزي، بل ينظر إليها بقدر كبير من حس الفكاهة كأنها تخص شخصاً آخر.
ففي مطلع القصيدة يتكلّم محمود درويش عمّا ورثه من العائلة، فيعدد ست صفات من بينها أمراض القلب. وهي حقيقة يعرفها كل من عرفه عن قرب. فإلى جانب معاناته الخاصة مع أمراض القلب، عانى اثنان من أخوته من مشاكل في القلب، ويبدو أن المشكلة جينية بالفعل. أما المصادفات الأخرى، فتتعلّق بما يحدث للفرد، الذي يجد نفسه، فجأة، ضحية تحوّلات تاريخية، غالبا ما تصنع المصائر الفردية، بطريقة لا تنسجم بالضرورة مع ما يريده في الأحوال العادية. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالطفل الذي كان في السابعة من عمره في العام 1948، فإن ما حدث آنذاك يمثل اللحظة التي تغيّرت فيها حياته مرّة واحدة وإلى الأبد.
ولكن اللافت في هذا السياق هو أن إحساس الشاعر بالموت لم يكن يقينياً بما يكفي لكي يحصر قصائده الأخيرة بفكرة العدم وحدها، لذلك فقد وسّع شبكة اهتماماته ليقارب أموراً مختلفة تتعلق بالحب والهوية والمكان والعلاقة بالآخر، كما برثاء الأحبة والأصدقاء مثل إميل حبيبي و نزار قباني.
• كتب أجمل قصائده ومقالاته في رثاء أحبته من شهداء فلسطين والأمة العربية
توقف محمود درويش عند لحظة الموت منذ بداياته الشعرية، حيث أعار إيقاعه لمأساة شعبه فبقي يرصد رحيل الشهداء وظل يحرسهم من هواة الرثاء.
و لم يستطع أصدقاء درويش والمقربون منه ، أن يتمالكوا أنفسهم ، ويكتمون خوفهم ورهبتهم حين تداولوا ديوان ( أثر الفراشة) ، إنتاجه قبل الأخير، كان الجو العام الذي تركته النصوص في هذا الديوان وكأن شاعرنا ؛ بوصلة إحساسنا الوطني ؛ يرثي نفسه وبذلك يرثي قضيتنا الفلسطينية ويدخل حقبة جديدة من اليأس.
وشعر المقربون منه بعد قراءة نصوص (أثر الفراشة) بالقلق حين تمعنوا في قصيدته (أنت منذ الآن أنت) التي تختم الديوان وتصف رحلته إلى الكرمل في قوله :
( لم أَرَ جنرالاً لأسأله: في أي ّ عامٍ قَتَلتَنِي ؟
لكني رأيت جنوداً يكرعون البيرة على الأرصفة.
وينتظرون انتهاء الحرب القادمة، ليذهبوا إلى
الجامعة لدراسة الشعر العربي الذي كتبه موتى
لم يموتوا . وأنا واحد منهم! )
ولعل قصيدة (أثر الفراشة) هي القصيدة التي يريدنا محمود أن نتذكر تجربة حياته بواسطتها ، فهو أخ الفراشة وتلميذها ، وهو اللاجئ الذي يتنقل من زهرة إلى أخرى ليبقى أثره هناك ويساهم في عملية استمرار الحياة لغيره بمساعدة الأزهار على عملية اللقاح. فرغم أننا نجد في جميع نصوصه بأن ما يكتبه إنما هو فكر يلخص تجربة شعب لاجئ. والفكر لا يرى ولكنه لا يزول.
و يرى الناقد فخري صالح أن في شعر درويش ( تعبيراً عن الروح الفلسطينية المعذبة الباحثة عن خلاص فردي ـ جماعي من ضغط التاريخ والجغرافيا).
مضيفاً :)إن درويش ربط حكايته الشخصية مع الموت بأرض فلسطين، حيث يدور بينه وبين السجان حوار عن الحاضر المسكون بالماضي وعن السجان السجين)، ويتابع صالح :)إن شبح الموت لا يستطيع محو الحكاية المركزية.. حكاية الشاعر الفلسطيني المقيم في سفره الطويل).
وقد حاول درويش في رحلة حياته أن يرسم في كثير من شعره ونثره صوراً قلمية للأحبة و رفاق الدرب و الأصدقاء .. كما حدثنا في مراثيه عن حكايات الأيام ، مع الوجوه التي عرفها وآنسه وجودها ، ورافقته دروب النضال والعطاء و الإبداع ، تلك الحكايات التي تثير في النفوس أشجان الحزن على فراق شهداء فلسطين الكبار ، وفراق أحبته من صناع التاريخ العربي المعاصر.
شهداء فلسطين والأمة العربية الذين كانوا أحبته ، وكتب أجمل قصائده ومقالاته فيهم بدءاً من غسان كنفاني مروراً بكمال ناصر و راشد حسين و ماجد أبو شرار و عز الدين قلق و خليل الوزير و معين بسيسو و إميل حبيبي و إبراهيم أبو لغد و فدوى طوقان و ادوارد سعيد و إسماعيل شموط و توفيق زياد و سليمان النجاب و ياسر عرفات . وصولاً إلى الكبار من أبناء أمتنا العربية من قادة وشعراء وكتاب ومفكرين أمثال الزعيم جمال عبد الناصر والشعراء أمل دنقل و صلاح جاهين و عاصي الرحباني و محمد الماغوط و ممدوح عدوان و المفكر اللبناني الشيخ حسين مروة و الدبلوماسي التونسي حمّادي الصيد و الكاتب الصحفي جوزيف سماحة و شهيد الكلمة الحرة سمير قصير.
وقد كتب درويش عن ميتات محبيه وأصدقائه ، الذين سبقوه ، كما لم يكتب أحد ، وسألهم أن لا يموتوا وان ينتظروا سنة واحدة فقط: (سنة أخرى فقط تكفي لكي اعشق عشرين امرأة وثلاثين مدينة).
وكان وهو يكتب قصيدته هذه كأنه يرسم صورة للموت المرتبط بالمقاومة والأرض والهوية ويربي الأمل للوصول إلى الحياة الأجمل.
كما كان مؤمناً أن (الموت ضربٌ من الغدر) ، قال مرة في رثاء له للدبلوماسي والمثقف التونسي حمّادي الصيد ، وكونه لاعبًّ الموت وتهربًّ منه مرًّتين ، قال: ( أما الموت فلا شيء يهينه كالغدر: اختصاصه المجرّب).
هل طلب محمود ( سنة أخرى فقط ) في حجرة العمليات التي أقلّته إلى موعده كما قال في كتابه (في حضرة الغياب): ( فلأذهب إلى موعدي فور عثوري عل قبرلا ينازعني عليه أحدٌ من أسلافي) .
• في مرحلة الطفولة علّمه اضطهاد الصهاينة بأنّ الشعر قد يكون سلاحاً
يوم السبت 9 آب (أغسطس) 2008 ، رحل كاتب الملحمة الفلسطينية الأكبر التي رافقته منذ تهجيره من قريته في شمال فلسطين وعودته إليها ، ثم أوديسته الطويلة بين البلدان والعواصم . نعم رحل سيد الكلام ، نجم فلسطين وزينة شبابها ، بعد رحلة طويلة من النضال و العطاء و الإبداع ، بدأت في 13 آذار (مارس) 1941 ، يوم ولد محمود درويش في قرية (البروة) ، التي تقع مسافة 9 كيلومترات شرق عكا، وكان الابن الثاني في أسرة فلاّحية تتكون من ثمانية أفراد، خمسة أولاد وثلاث بنات. وقد عاش طفولة بريئة في أحضان هذه القرية الوادعة الواقعة على هضبة خضراء ينبسط أمامها سهل عكا.
في سنّ السابعة ، توقفت ألعاب الطفولة ، كما يعبّر درويش في وصف ليلة النزوح من قريته ، تحت ضغط العدوان الصهيوني التي شنتها ، عصابات النازيين الجدد ، بهدف تفريغ قرى الجليل من الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين. ونراه يخبرنا عن تفاصيل تلك الليلة التي لا تنسى قائلاً : (إني أذكر كيف حدث ذلك... أذكر ذلك تماماً: في إحدى ليالي الصيف، التي اعتاد فيها القرويون أن يناموا على سطوح المنازل، أيقظتني أمّي من نومي فجأة، فوجدت نفسي مع مئات من سكان القرية أعدّو في الغابة. كان الرصاص يتطاير من على رؤوسنا، ولم أفهم شيئاً مما يجري. بعد ليلة من التشرّد والهروب وصلت مع أقاربي الضائعين في كلّ الجهات، إلى قرية غريبة ذات أطفال آخرين. تساءلت بسذاجة: أين أنا ؟ وسمعت للمرّة الأولى كلمة (لبنان ).
يخيلّ إليّ أنّ تلك الليلة وضعت حدّاً لطفولتي بمنتهى العنف.
فالطفولة الخالية من المتاعب انتهت. وأحسست فجأة أنني أنتمي إلى الكبار. توقفت مطالبي وفُرضت عليّ المتاعب. منذ تلك الأيّام التي عشت فيها في لبنان لم أنس، ولن أنسى إلى الأبد، تعرّفي على كلمة الوطن. فلأوّل مرّة، وبدون استعداد سابق، كنت أقف في طابور طويل لأحصل على الغذاء الذي توزعه وكالة الغوث. كانت الوجبة الرئيسية هي الجبنة الصفراء. وهنا استمعت، لأوّل مرّة، إلى كلمات جديدة فتحت أمامي نافذة إلى عالم جديد: الوطن، الحرب، الأخبار، اللاجئون، الجيش، الحدود... وبواسطة هذه الكلمات بدأت أدرس وأفهم وأتعرّف على عالم جديد، على وضع جديد حرمني طفولتي ).
بعد عام تسلّل درويش، برفقة عمّه والدليل الذي يعرف مجاهل الدروب في الجبال والوديان، عائداً إلى فلسطين ليستقرّ في قرية (دير الأسد)، لأنّ قريته الأصلية (البروة) كانت قد هُدمت تماماً وأقيمت بدلاً عنها مستوطنة صهيونية. ولم يطل الوقت حتى فهم الفتى أنه فقد أرض الأحلام الأولى نهائياً: ( كلّ ما في الأمر هو أنّ اللاجىء قد استبدل عنوانه بعنوان جديد. كنتُ لاجئاً في لبنان، وأنا الآن لاجىء في بلادي (...) وإذا أجرينا مقارنة بين أن تكون لاجئاً في المنفى ، وأن تكون لاجئاً في الوطن، وقد خبرت النوعين من اللجوء، فإننا نجد أن اللجوء في الوطن أكثر وحشية. العذاب في المنفى، والأشواق وانتظار يوم العودة الموعود، شيء له ما يبرره.. شيء طبيعي. ولكن أن تكون لاجئاً في وطنك، فلا مبرر لذلك، ولا منطق فيه ).
وفي مدرسة القرية كان المدير والأساتذة يحبّون هذا الفتى المتفوّق في الدراسة والرسم، والذي كان يحاول كتابة الشعر الموزون على غرار قصائد الشعر العربي القديم، وكانوا يخبئونه كلما كانت الشرطة الصهيونية تأتي إلى القرية لأنه يُعتبر في حكم (المتسلل)، وكانوا يحذّرونه من الاعتراف بأنه كان في لبنان، ويعلّمونه أن يقول إنه كان مع إحدى القبائل البدوية في الشمال .
وكان اللجوء إلى الشعر هو أحد أشكال بحث محمود درويش عن (وطن لغوي) ، يخفّف من حدّة النفي داخل الوطن الحاضر والغائب معاً.
وفي وصف ذلك يقول درويش: ( بدأت علاقتي بالشعر عن طريق علاقتي مع المغنّين الفلاحين، المنفيين من قبل الشرطة. كانوا يقولون أشياء غريبة على درجة من الجمال بحيث أنني لم أكن أفهمها، ولكني كنت أشعر بها (...) وهكذا وجدت نفسي قريباً من أصوات الشعراء الجوّالين المغنّين، وفيما بعد أخذت أستمع إلى الشعر العربي الكلاسيكي الذي يروي مغامرات عنترة وسواه من الفرسان، فاجتذبني هذا العالم وصرت أقلّد تلك الأصوات، وأخترع لنفسي خيولاً وفتيات، وأحلم في سنّ مبكرة أن أتحوّل إلى شاعر (...) وقد مررت بتجربة مبكرة علمّتني أنّ ما أفعله، وما ألعبه، هو أخطر بكثير مما أتصوّر. ذات يوم دُعيت لإلقاء قصيدة في المدرسة، ومن الغرابة أنّ المناسبة كانت ذكرى (استقلال إسرائيل) . وكنت وقتها في الثانية عشرة من عمري، وكتبت شيئاً سمّوه قصيدة، تحدثت فيها عن عذاب الطفل الذي كان فيّ، والذي شُرّد وعاد ليجد (الآخر) يقيم في بيته، ويحرث حقل أبيه. قلت ذلك كلّه ببراءة شديدة. وفي اليوم التالي استدعاني الحاكم العسكري، وهدّدني بشيء خطير جداً. ليس بسجني، بل بمنع أبي من العمل. وإذا مُنع أبي من العمل، فإنني لن أتمكن من شراء الأقلام والأوراق لكي أكتب. ساعتها فهمت أنّ الشعر حكاية أكثر جدّية مما كنت أعتقد، وكان عليّ أن أختار بين أن أواصل هذه اللعبة الأكثر جدّية مما أتصوّر، أو أن أتوقف عنها. وهكذا علّمني الاضطهاد بأنّ الشعر قد يكون سلاحاً ).
• كان صوت فلسطين الحضاري المتواصل بآلامه وأحزانه وطموحاته
تمر السنين و يواصل محمود درويش اللعبة ! بين سنتي 1961) و1967( سُجن خمس مرّات. كانت الأسرة قد انتقلت من قرية (دير الأسد) إلى قرية (الجديدة)، أمّا محمود فقد استقرّ في مدينة حيفا، وانتسب إلى الحزب الشيوعي هناك ، وعمل في صحيفتي (الاتحاد والجديد) اللتين كانتا المنفذ الإعلامي الشرعي الوحيد للمثقفين الفلسطينيين في الوطن المحتل.
وفي عام 1971 قطع درويش دورة دراسية في موسكو وظهر فجأة في القاهرة، فأثار خروجه ضجة كبرى . و بعد إقامة في القاهرة استغرقت سنتين، انتقل بعدها إلى العاصمة اللبنانية بيروت، وعمل رئيساً لتحرير فصلية (شؤون فلسطينية)، ثمّ أسّس الفصلية الثقافية (الكرمل) التي ستصبح أهمّ دورية ثقافية عربية. وفي عام 1982، إثر الاجتياح الصهيوني للبنان، غادر درويش إلى تونس ثمّ إلى باريس التي بقي فيها حتى عام 1995 حين عاد إلى مدينة رام الله، واستأنف فيها إصدار (الكرمل).
ومحمود درويش شاعر المنفى واللجوء ، لم يتوقف عن دفع الشعر العربي إلى مراتب نسيها منذ أزمان. وبين مجموعة شعرية وأخرى أخذت سلطة درويش الأدبية تتعاظم وتترسخ ، فأدرك أن موقع الشاعر الناطق باسم الوجدان الجمعي للأمة يقتضي قبل أي شيء آخر تطوير الموضوعات والأدوات والأساليب التي تضمن للشعر أن يواصل الحياة تحت اسم وحيد هو الشعر، وأن لا ينقلب إلى تعاقد سكوني شبه إيديولوجي بين الشاعر الذي ارتقى إلى القمة ، وبين الوجدان الجمعي الذي أسلم للشاعر قسطاً كبيراً من الحق في تكييف الميول وردود الأفعال. ومنذ هذا الطور واصل درويش وفاءه لتعاقد ثنائي ـ شاقّ وخلاّق ـ مع موقعه كشاعر: تعاقد مع مشروع شعري لا بدّ له من أن يتطور ويتكامل وفق دينامية متصاعدة، وتعاقد مع قارىء واع ٍ يتشبث بالطور الراهن من خطاب شاعره لأنه يجد فيه الملاذ.
و لقد تجاوز درويش بشعره وحضوره الثقافي والإنساني المميز كل الحدود محطماً قيود الوطنية الضيقة والانتماءات الصغرى ليكون بحق صوت فلسطين الحضاري المتواصل بآلامه وأحزانه وطموحاته مع روح العصر والفكر الإنساني العالمي المبدع .
وتكمن عظمة درويش الأساسية في البلورة الشاعرية الثاقبة للذاكرة التاريخية الفلسطينية خصوصاً في قضية اللاجئين.
وقد قسم الناقد السوري الأستاذ صبحي حديدي تطوّر تجربة محمود درويش الشعرية إلى تسعة مراحل هي :

1 ـ مرحلة (الطفولة الشعرية) : وتمثّلها مجموعة (عصافير بلا أجنحة) عام 1960 التي سيتخلّى عنها درويش سريعاً لأنها، بالفعل، كانت تمثّل محاولات مبكّرة لا تعكس صوته الخاصّ بقدر ما تردّد أصداء تأثّره بالشعر العربي الكلاسيكي والحديث الرومانتيكي.

2 ـ المرحلة (الثورية) : وتمثّلها مجموعته (أوراق الزيتون) عام 1964، حين انتقل درويش من الهمّ الذاتي إلى الهواجس الجماعية، والحلم الثوري، والتغنّي بالوطن، وتثبيت الهويّة (كما في قصيدته الشهيرة ـ بطاقة هوية ـ، التي ستشتهر باسم آخر هو السطر الاستهلالي فيها: ـ سجّل أنا عربي ـ والتي تحوّلت إلى أيقونة لأفكار المقاومة والصمود والإعلان عن الهويّة، في الشارع العربي العريض أكثر بكثير من الشارع الفلسطيني نفسه)، وحسّ الالتزام الثوري، والتضامن الإنساني والأممي ، كما في قصائده (عن إنسان، وعن الأمنيات ، و لوركا .(

3 ـ المرحلة (الثورية ـ الوطنية) : وتمثلها مجموعاته (عاشق من فلسطين) عام 1966 ، و(آخر الليل) عام 1967 ، و(العصافير تموت في الجليل) عام 1969 ، و(حبيبتي تنهض من نومها) عام 1970. وفي هذه المرحلة كان شعر درويش قد أصبح جزءاً أساسياً من الحركة التي عُرفت في العالم العربي باسم (شعر المقاومة)، وضمّت شعراء من أمثال توفيق زياد وسميح القاسم. وكان شعره يتطوّر ضمن المنطق ذاته ، والموضوعات ذاتها، ولكنه امتاز عن أقرانه في خصائص عديدة من بينها غزارة إنتاجه، والأفق الإنساني الأعرض لموضوعات قصائده، وحُسن توظيفه للأسطورة والرموز الحضارية الشرق أوسطية والهيللينية، وبراعته في أسطَرة الحدث اليومي والارتقاء به إلى مستوى ملحمي في الآن ذاته، ورهافة ترميزه للمرأة بالأرض، ومزجه بين الرومانتيكية الغنائية والتبشير الثوري، وسلاسة خياراته الموسيقية والإيقاعية، وحرارة قاموسه اللغوي، وميله إجمالاً إلى الصورة الحسية بدل الذهنية.

4 ـ مرحلة (البحث الجمالي) : وهي التي تبدأ مع خروج درويش إلى العالم العربي وانتقاله من القاهرة إلى بيروت. لقد أراد البرهنة على أنّه شاعر صاحب مشروع جمالي منذ البداية وقبل أيّ تصنيف آخر، وأنّ اقتران تجربته بـ (شعر المقاومة) لا يعني أنه لم يكن يسعى إلى تطوير موضوعاته وأدواته ولغته الشعرية على نحو يتفاعل مباشرة مع حركة الحداثة الشعرية العربية ويغني تيّاراتها. في عبارة أخرى هذه هي مرحلة (صراع) محمود درويش مع قارئه العربي الذي أحبّه وأراد أن يسجنه في صورة (شاعر المقاومة) فقط، في حين أنّ درويش كان يعاند في البرهنة على أنّ شاعر المقاومة ينبغي أن يكون شاعراً حقيقياً أوّلاً، وشاعراً جيّداً ثانياً وأساساً.
ومنذ عام 1972، حين صدرت مجموعته (أحبّك أو لا أحبّك)، وهي الأولى له خارج فلسطين، واصل محمود درويش تطوير مشروعه الشعري على نحو منتظم وعنيد، بحيث كانت كلّ مجموعة جديدة تشكّل نقلة أسلوبية عن المجموعة التي سبقتها: (محاولة رقم 7) عام 1973 ، تضمنت مزجاً بين الموضوع الغنائي والاستعادة التاريخية ـ الأسطورية للمكان الفلسطيني ـ الكنعاني، ( كما في قصائد النزول من الكرمل ، والخروج من ساحل المتوسط ، وطريق دمشق)؛ ومجموعة (تلك صورتها وهذا انتحار العاشق) عام 1975 مثّلت نقلة أكثر وضوحاً نحو القصيدة الطويلة التي تمزج بين التأمّل الغنائي والسرد الملحمي؛ ومجموعة (أعراس) التي تعود إلى الموضوع الوطني ولكن ضمن صياغات إنسانية ـ ملحمية أوسع، وأخرى تسجيلية ذات ارتباط بوقائع محدّدة في الزمان الفلسطيني (كما في قصائد كان ما سوف يكون ، وأحمد الزعتر ، وقصيدة الأرض).

5 ـ المرحلة (الملحمية) : وهي التي تعقب الاجتياح الصهيوني لبيروت عام 1982 وخروج الفلسطينيين من لبنان إلى بحر جديد وتيه جديد. وفي هذه المرحلة كتب درويش قصيدته الطويلة الشهيرة (مديح الظلّ العالي) عام 1983 ، التي صنّفها في ما بعد تحت تسمية (قصيدة تسجيلية) لأنها تصف أجواء مقاومة الاجتياح، ومعنى مدينة بيروت، ومجزرة صبرا وشاتيلا، وأسئلة الوجود الفلسطيني بعد الخروج إلى أوديسة جديدة. وإلى هذه المرحلة تنتمي أيضاً مجموعة (حصار لمدائح البحر) عام1984 ، التي احتوت على (قصيدة بيروت) بوصفها العمل الشعري الطويل الثاني الذي يكمل ملحمة الخروج الفلسطيني من لبنان.

6 ـ المرحلة (الغنائية) : وهي تشمل القصائد التي كتبها درويش في باريس، وظهرت بعدئذ في مجموعتَيه (هي أغنية، هي أغنية) عام 1986 ، و (وردٌ أقلّ) عام 1986.
وفي هذه القصائد استمرّ البحث الجمالي الذي بدأ في بيروت وانقطع فجأة مع الاجتياح الصهيوني وخروج الفلسطينيين من لبنان، وبدا أنّ درويش يتفرّغ أكثر من ذي قبل لهواجس الذات والتأمّل الميتافيزيقي، والمحاورة الغنائية بين الشاعر والعالم. وهي أيضاً مرحلة استكشاف مسائل الشكل والبنية الموسيقية للقصيدة، إذْ كتب درويش الرباعيات، وحاول محاكاة إيقاع العزف المنفرد في الموسيقى، وكتب القصيدة القصيرة المعتمدة على (الفقرة) الشعرية المتصلة بدل السطور، أو القصيدة الطويلة المعتمدة على قصائد قصيرة من عشرة سطور (كما في مجموعته ورد أقلّ). ولعلّ هذه الفترة هي أكثر مراحل تجربة درويش قلقاً وتجريباً وتطويراً وخصوبة.

7 ـ المرحلة (الملحمية ــ الغنائية) : وتمثلها قصائد مجموعتَيه (أرى ما أريد) عام 1990 و (أحد عشر كوكباً) عام 1992. وهذه هي المرحلة التي شهدت عودة درويش إلى القصائد الطويلة والمشهد الملحمي العريض الذي لا يقهر النبرة الغنائية حتى وهو يستعيد الموضوع التاريخي، والذي ينفتح على تجارب إنسانية تراجيدية كبرى (المغول، الهنود الحمر، الأندلس، طروادة) ويبحث للفلسطيني عن موقع فيها، للفلسطيني ذاته أوّلاً ثمّ للإنسانية بعدئذ. وفي هذه المرحلة كان درويش يستكمل الفصل الأنضج من تجربته في مصالحة الموضوع الملحمي مع الموضوع الغنائي، وكان يقدّم صياغة فذّة لمراوحة الفلسطيني بين صورة البطل الملحمي الملتَقط على هيئة ضحية، وصورة الفلسطيني العادي الواقف أمام منعطف السلام واستحقاقات اتفاقية أوسلو. وكان درويش يرسم صورة شعرية رفيعة لآلام وآمال هذه المراوحة.

8 ـ مرحلة (الموضوعات المستقلّة) : وتشمل مجموعتَي (لماذا تركتَ الحصان وحيداً) عام 1995 ،التي تدور حول موضوعة السيرة الذاتية للشاعر منذ الطفولة وحتى الآن، كما تدوّن سيرة المكان حين تحتويه الجغرافيا وينبسط فيه التاريخ، وسيرة دلالات المكان حين تنقلب إلى محطات للجسد وعلامات للروح؛ ومجموعة (سرير الغريبة) عام 1999 ، التي تدور حول موضوعة قصيدة الحبّ إجمالاً، و(اغتراب الرجل في المرأة والمرأة في الرجل ودمجهما معاً) كما يقول درويش.
هذه هي مرحلة التفات درويش إلى شؤون نفسه كشاعر وإنسان، وإلى شؤون الفلسطيني بعد أن غادر مرحلة (البطولة) وانتقل إلى مرحلة (اليوميّ والعاديّ.(
وضمن مرحلة الموضوعات المستقلة هذه يمكن احتساب مجموعتين صدرتا ضمن سياقات خاصة، شخصية ذاتية تخصّ الشاعر، وأخرى وطنية عامة تخصّ الأوضاع في فلسطين.
وهكذا صدرت)جدارية) عام 2000 ، وهي قصيدة طويلة تقارب الـ 1000 سطر، لكي تسجّل سلسلة تأملات ملحمية كثيفة في موضوعة الموت على خلفية رمزية وأسطورية وتاريخية محتاشة بتوتر الوجود ومقاومة العدم وموقع الشعر والفنون في هذا الخضمّ كلّه، وذلك من وحي تجربة شخصية عاشها الشاعر حين خضع لعملية جراحية دقيقة في القلب عام 1998. كما صدرت (حالة حصار) عام 2000 ، لتدوّن يوميات الفلسطيني في سنوات استشراس آلة الاحتلال العسكرية والأمنية الصهيونية قبل وبعد مجزرة جنين وأعمال النسف والتصفيات الجسدية وبناء الجدار العنصري العازل. ولكنّ اليوميات لم تكن تسجيلاً حزيناً أو محزناً لعذابات الفلسطيني، بل أرادت أساساً القول إنه باق على قيد الحياة ، يقاوم في صيغة آدمي من لحم ودمّ وليس في صيغة أسطورة ملحمية ورمز بطولي.

9 ـ المرحلة الراهنة في شعر درويش تستأنف برنامج البحث الجمالي والفنّي الذي بدأه الشاعر في بيروت مطلع السبعينيات وفي باريس مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، ولكن في نطاق محدد أكثر هذه المرّة، هو تطوير شكل القصيدة العربية المعاصرة وجَسْر الهوّة بين الشكلين الرئيسيين السائدين في الكتابة الشعرية الراهنة، أي قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. ولأنّ درويش يؤمن بثراء البنية الإيقاعية للشعر العربي، وأنها ما تزال غنية وخصبة وقابلة للكثير من التطوير والتجريب، فإنّ هاجسه في المجموعات اللاحقة انصبّ على التطوير المرن والحيوي للتفعيلة عبر تطويعها ضمن تشكيلات موسيقية سلسة الوقع وخافتة الصوت تكفل تقريب المسافة بين الوزن والنثر. هذه هي السمة الكبرى في مجموعتَي (لا تعتذر عمّا فعلت) عام 2004 ، و(كزهر اللوز أو أبعد) عام 2005، وكانت النماذج المبكرة لهذا البحث الجمالي والفنّي قد تبدّت كذلك في )سرير الغريبة( عام 1999، لكنها لا ريب تبلغ ذروة دراماتيكية في كتاب درويش (في حضرة الغياب) عام 2006 ، الذي شاء الشاعر أن يطلق عليه صفة (نصّ) لأنه في الواقع يستكشف أرحب آفاق شعرية النثر، وينجز صيغة فريدة وفذّة من امتزاج الشعر والنثر في قول ينفكّ عنهما معاً ويشكّل جنساً مستقلاً جبّار الإيحاء وعبقريّ التأثير. وأمّا عمله الشعري قبل الأخير (أثر الفراشة) عام 2008 ، الذي يجمع بين التفعيلة والنصوص النثرية، فقد كان أكثر أعمال درويش اقتراباً من قصيدة النثر، خصوصاً وأنّ الشاعر تعمّد إنصاف الوزن حين أعاد إنتاج تشكيلات إيقاعية عالية تذكّر بتقنيات قصيدته في أواسط السبعينيات، كما أنصف النثر حين تلمّس شعريته على نحو جمالي ولغوي غير مسبوق في نتاجه. وإلى جانب الأعمال الشعرية ، (وهي 23 حتى الآن) و( يعد ديوان [لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي] العمل الشعري الـ [24]) ، كان درويش قد اعتاد كتابة المقال السياسي والثقافي منذ أيّام عمله في صحيفتَي (الاتحاد" و"الجديد) في الداخل، وخلال رئاسته لتحرير الشهرية الثقافية (شؤون فلسطينية) في بيروت خلال السبعينيات، وتأسيسيه لمجلة (الكرمل)، الفصلية الثقافية الأشهر في العالم العربي، التي صدرت في بيروت، ثم انتقلت بعدئذ إلى نيقوسيا، وعادت مؤخراً إلى رام الله. ومقالات درويش جُمعت في الكتب التالية: "شيء عن الوطن"، "وداعاً أيتها الحرب، وداعاً أيها السلام"، "يوميات الحزن العادي"، "في وصف حالتنا"، "عابرون في كلام عابر"، مجموعة "الرسائل" المتبادلة مع الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، و"حيرة العائد" الذي ضمّ منتخبات من مقالاته على امتداد عقدين.
غير أنّ كتابه النثري الأشهر يظلّ "ذاكرة للنسيان"، وهو عمل شبه روائي يصوّر فيه درويش تفاصيل العيش اليومي تحت الحصار الصهيوني لبيروت عام 1982 على نحو مذهل في بساطته وعمقه وشاعريته العالية. وقد اشتهر كثيراً ذلك المقطع الذي يصف فيه درويش نضاله من أجل الانتقال تحت القصف من صالون البيت إلى المطبخ لصنع فنجان قهوة، وكيف تحوّل غلي القهوة إلى طقس إنساني فريد واستثنائي.
وإذا كان مشروع محمود درويش الشعري هو مشروع تراجيدي في الجوهر، لأنّ (وعي الفلسطيني بالتراجيديا عالٍ بدرجة تكفي لكي يتماهى مع أي تراجيديا منذ الإغريق وحتى الآن) حسب تعبيره، فإن الملحمية الغنائية هي السمة المركزية في هذا المشروع.
لقد حاول درويش (إطلاق اللغة الشعرية في أفق ملحمي يكون فيه التاريخ مسرحاً لمناطق شعرية فسيحة تتسع لتجوال غير محدود للشعوب والحضارات والثقافات، ولبحث عن عناصر الهوية الذاتية ضمن اختلاط وتصادم وتعايش الهويات)، كما يقول الشاعر عن نفسه.
• صدّقت أنّي متُّ يومَ السبت ، وأريد جنازة هادئة، وتابوتاً أنيق الصنع
وفي السنة الأخيرة من حياته شعر أصدقاء درويش المقربون ، أنه أصبح مشدودا أكثر من أي وقت مضى لفكرة الموت والرحيل. فقد مثل اقتران الموت بالحياة عنده وبخاصة في السنوات الأخيرة ظاهرة كبيرة في شعره لا ترتبط بمرضه بل تعود إلى الإطار الذي عاش فيه وعاينه، وتجلت فيه صور الموت في حالات مرعبة متجددة بدءا من الاقتلاع من الأرض والبيت مرورا بالمنافي ورحلة العودة إلى الوطن الحلم.
وقد أظهرت هذه المراوحة بين تأمل الموت الفردي والجماعي الرؤية التي ينطلق منها درويش ليصوغ أفكاره وتأملاته في قصائده ونصوصه.
والغريب أن درويش كتب موته شعراً، مقرراً أن الكتابة حياة وأن سلطة الحياة تأخذ الشاعر وتترك قصائد في ضيافة الحياة. وتشاء الأقدار أن يكون رحيل محمود يوم السبت كما توقع في قصيدته (إجازة قصيرة) ، في ديوان (أثر الفراشة) إذ قال:
صدّقت أنّي متُّ يومَ السبت
قلتُ عليَّ أن أوصّي بشيءٍ ما
فلم أعثر على شيء
وقلتُ : عليّ أن أدعو صديقاً ما
لأخبره بأني مت
لكن لم أجد أحداً ...
وقلتُ : عليّ أن أمضي إلى قبري
لأملأه فلم أجد الطريق
وظلّ قبري خالياً منّي
وقلتُ / عليّ واجبً أن أؤدي واجبي :
أن أكتبَ السطر الأخير على الظلال
فسال منها الماء فوق الحرف ..
قلتُ / عليّ أن آتي بفعل ٍ ما
هنا ، والآن
لكن لم أجد عملاً يليق بميّت
فصرختُ / هذا الموت لا معنى له
عبثٌ وفوضى في الحواس
ولن أصدّق أني قد متُّ موتاً كاملاً
فلربما أن بين بين
وربما أنا ميّت متقاعد
يقضي إجازته القصيرة في الحياة ..
ودرويش الذي تأهب للرحيل بعدما ذاق مرارة الإخفاق الفلسطيني ، يبدو أنه لم يرغب في أن يترك لنا أية وصية مكتوبة ، وكأنه اكتفى بما أوصانا به في كتابه النثري ، شبه الروائي ، (ذاكرة للنسيان) عن أيام حصار بيروت 82 ، والتي جاء فيها :
( أريد جنازة حسنة التنظيم، يضعون فيها الجثمان السليم، لا المشوّه، في تابوت خشبي ملفوف بعلم واضح الألوان الأربعة، ولو كانت مقتبسة من بيت شعر لا تدل ألفاظه على معانيه، محمول على أكتاف أصدقائي، وأصدقائي - الأعداء. وأريد أكاليل من الورد الأحمر والورد الأصفر، لا أريد اللون الوردي الرخيص، ولا أريد البنفسج لأنه يذيع رائحة الموت. وأريد مذيعاً قليل الثرثرة، قليل البحة، قادراً على ادعاء حزن مُقنع، يتناوب مع أشرطة تحمل صوتي بعض الكلام. أريد جنازة هادئة، واضحة، وكبيرة ليكون الوداع جميلاً وعكس اللقاء. فما أجمل حظ الموتى الجدد، في اليوم الأول من الوداع، حين يتبارى المودعون في مدائحهم.
فرسان ليوم واحد، محبوبون ليوم واحد، أبرياء ليوم واحد.. لا نميمة ولا شتيمة ولا حسد. حسناً، وأنا بلا زوجة وبلا ولد، فذلك يوفر على بعض الأصدقاء جهد التمثيل الطويل لدور حزين لا ينتهي إلا بحنو الأرملة على المعزّي. وذلك يوفر على الولد مذلة الوقوف على أبواب المؤسسات ذات البيروقراطية البدوية.
حسنٌ أني وحيد.. وحيد.. وحيد.. لذلك ستكون جنازتي مجانية وبلا حساب مجاملة، ينصرف بعدها المشيعون إلى شؤونهم اليومية. أريد جنازة وتابوتاً أنيق الصنع أطل منه على المشيعين، أسترق النظر إلى طريقتهم في الوقوف، وفي المشي وفي التأفف، وفي تحويل اللعاب إلى دموع، وأستمع إلى التعليقات الساخرة: كان يحب النساء، وكان يبذخ في اختيار الثياب. وكان سجاد بيته يصل إلى الركبتين، وكان له قصر على الساحل الفرنسي اللازوردي، وفيلا في إسبانيا، وحساب سرّيٌ في زيوريخ، وكانت له طائرة سرية خاصة، وخمس سيارات فخمة في مرآب بيته في بيروت.
ولا نعرف إذا كان له يخت خاص في اليونان. ولكن في بيته من أصداف البحر ما يكفي لبناء مخيم. كان يكذب على النساء. مات الشاعر ومات شعره معه. ماذا يبقى منه؟ لقد انتهت مرحلته وانتهينا من خرافته.
أخذ شعره معه ورحل. كان طويل الأنف واللسان.. وسأستمع إلى ما هو أقسى عندما تتحرر المخيلة من كل شيء. سأبتسم في التابوت، سأبذل جهداً لأن أقول: كفى! سأحاول العودة فلا أستطيع ).
ويوم ودّع النسر قمته في الأعالي، عالياً، حراً... كان لسيد الكلام ما أراد فعلاً .. جنازة حسنة التنظيم ، هادئة ، وكان وداعه جميلاً ، كما أراد ، وكما كان حضوره دوماً بيننا هادئاً ، جميلاً .
[/align]
توقيع أسماء بوستة
 [frame="15 85"]
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إن لم يكن دينه إلى ديني دان
لقد صار قلبي قابلا كل صورة :
فمرعى لغزلان و دير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
و ألواح توراة و مصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه
فالحب ديني و إيماني
إبن عربي
[/frame]
أسماء بوستة غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 24 / 11 / 2009, 12 : 04 AM   رقم المشاركة : [4]
أسماء بوستة
أستاذة وباحثة جامعية - مشرفة على ملف الأدب التونسي

 الصورة الرمزية أسماء بوستة
 





أسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to behold

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: تونس

رد: مدينة الشاعر محمود درويش

عاشق من فلسطين
محمود درويش

فلسطينية العينين والوشم

فلسطينية الاسم

فلسطينية الأحلام والهم

فلسطينية المنديل والقدمين والجسم

فلسطينية الكلمات والصمت

فلسطينية الصوت

فلسطينية الميلاد والموت

رأيتك عند باب الكهف.. عند الغار

مُعَلقَة على حبل الغسيل ثيابَ أيتامك

رأيتك في المواقد.. في الشوارع

في الزرائب في دم الشمس

رأيتك في أغاني اليتم والبؤس

رأيتك ملء ملح البحر والرمل

وكنت جميلة كالأرض.. كالأطفال.. كالفل

وأقسم..

من رموش العين سوف أخيط منديلا

وأنقش فوقه شِعْرا لعينيك

راسما حين أسقيه فؤادا ذاب ترتيلا

يمد عرائس الأيك

سأكتب جملة أحلى من الشهداء والقبلْ

فلسطينية كانت ولم تزلْ

توقيع أسماء بوستة
 [frame="15 85"]
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إن لم يكن دينه إلى ديني دان
لقد صار قلبي قابلا كل صورة :
فمرعى لغزلان و دير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
و ألواح توراة و مصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه
فالحب ديني و إيماني
إبن عربي
[/frame]
أسماء بوستة غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 25 / 11 / 2009, 25 : 02 AM   رقم المشاركة : [5]
أسماء بوستة
أستاذة وباحثة جامعية - مشرفة على ملف الأدب التونسي

 الصورة الرمزية أسماء بوستة
 





أسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to behold

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: تونس

رد: مدينة الشاعر محمود درويش

اختلاجات في حضرة محمود درويش


سعدي يوسف


السابعة مساء التاسع من آب

مساء التاسع من آب (أغسطس) ٢٠٠٨ ، كنت في برلين، أدخلُ مع الشاعرة الإسكتلندية جوان ماكنْلِي
مقهىً يرتاده ذوو الحاسوب المحتضَن (اللابتوب).
كانت الساعة حوالي السابعة.
صيفٌ ألمانيٌّ.
في الرصيف التابع للمقهى زبائنُ يدخّنون سجائرهم.
أنا أنظر عبر الزجاج إلى الرصيف وأهله.
جاءت جوان ماكنلي بكأسي جُعةٍ آبيرتين.
ما زلتُ أنظر إلى الشارع عبر الزجاج. مددتُ يدي إلى كأس الجُعة، فارتدّتْ.
كنت أحسُّ بإحباطٍ وإنهاكٍ، وبين لحظةٍ أخرى تعتريني رجفةٌ خفيفةٌ.
لم أكن في المكان.
كان شيءٌ ما يأخذني بعيداً عن المكان، عن جليستي، عن كأس البيرة الألمانية، عن كل شيء.
قلتُ لجوان: أنا أرتجف برداً!
لم نكن في مهبٍّ للريح. لكنّ برداً قادماً من سيبيريا ما كان يدخل إلى المقهى، ليُرعدَني وحدي.
اقترحتْ عليّ أن نصعد إلى الطابق الأوّل، اتّقاءَ بردٍ خاصٍّ بي.
حملتْ كأسَي البيرة.
وهناك بين ذوي اللابتوب المنهمكين جلسنا. ثانيةً لم أمدّ يدي إلى الكأس.
حالةُ القنوطِ ظلّت ملازمةً.
لم يكن القنوط وحده.
كنت ضائعاً، أتيهُ بين فلواتٍ بلقعٍ، في قرٍّ مؤذٍ. في عالَمٍ من أذىً صافٍ دائمٍ كالقانون الطبيعيّ.
تلك الليلةَ، لم أقوَ على العودة إلى شقّة ابنتي شيراز في ضواحي العاصمة الألمانية، فأويتُ إلى شقّة
جوان لأنامَ كمداً!
* * *
عدتُ في الضحى العالي إلى ابنتي.
قالت لي إن اسماعيل خليل (المسرحي) اتصلَ بي منتصف الليل.
هل قال شيئاً؟
كان يريد أن يخبرك، برحيل محمود درويش!
* * *
إذاً...
في حوالي السابعة من مساء التاسع من آب (أغسطس) كان محمود درويش، يرحل عنا، في مستشفاه
الأميركيّ.
هل كنتُ أحاولُ الاتصال به، وأنا في المقهى؟
هل مرقتُ في خطفةٍ أمام عينيه الغائمتَين؟
لقد كنا في باريس، في السابع من حزيران هذا.
جاء إلى أمسيتي بمسرح الأوديون. لكنه قال لفاروق مردم ألاّ يخبرني بأنه هناك.
التقينا بعد انتهاء الأمسية.
قال لي: أنا راحلٌ غداً.
هل حملت كلماتُه هذه، الأقصى ممّا يمكن أن تحمل؟
هل كنا نقول: وداعاً؟
* * *
قالت لي منى أنيس: كان محمود يودّعك!.
لندن ٢٧/ ٨ / ٢٠٠٨ م


مساءٌ في آب ١٩٨٢ بيروت

الصيف المنكسرُ، يستمرّ حتى في المساء.
بيروت محاصَرة، والإسرائيليون على الأبواب.
الظلام يُطْبِق على المدينة كما يطْبِق الدخان الثقيل. شارع الحمرا يبدو مهجوراً للوهلة الأولى. إلاّ أنه
محتشدٌ بالأشباح، أشباحِنا، وأشباحِ رؤانا، محتشدٌ بأنفاسنا المختنقة. لا ماء في المدينة. لا كهرباء.
نحن، السائرين
هائمين في الظلام، وحدَنا، نخدشُ حقيقةَ أن المدينة ميتةٌ وقد غادرَها أهلُها، إلى الشمال: طرابلس
والضّنّيّة،
أو جنوباً حتى المناطق التي احتلّها الإسرائيليون.
الغرباء في المدينة هم السائرون في الظلام...
نسير في العتمة.
مصابيحنا اليدوية ذوات البطاريات الصغيرة ستضيء لنا السلالم آنَ نعود إلى غرفنا التي تظل تهتزّ
حتى في الليل من انفجارات النهار.
مصباحٌ يدويّ يتّقد فجأةً.
أأنت هنا؟
محمود درويش في ليل الحمرا!
* * *
وجهانا في دائرة الضوء الضيّقة كانا متّسعَينِ.
لندن ٢٩ / ٨ / ٢٠٠٨ م


أواسط السبعينيات ببغداد

ربما كان ذلك في النصف الأول من السبعينيات.
كنا، على ما أتذكر في منزل ناهدة الرمّاح.
محمود درويش كان في بغداد المتفتحة (على آفاق كاذبة؟) آنذاك.
زار "طريق الشعب"، واحتفى بلقاء شيوعيين وشعراء كان عرفهم في أكثر من مكان ومناسبة.
تلك الليلة امتدت السهرة أكثر من المعتاد.
أغانٍ وموسيقى وأنهارٌ من الرحيق المصفّى.
وكان عليّ أن أوصل محمود درويش إلى فندقه بسيارتي الرينو ١٦ التي كادت تنفجر بعديد ركابها.
محمود درويش كان إلى جانبي.
ننحدر من جسر الجمهورية.
فجأةً يغيب كل شيء أمامي.
ألتفت لحظةً إلى محمود درويش لأسأله: أهذا شارعٌ أم حائطٌ؟
يقول: هل أوصاك أحدٌ بقتلي؟
السيارة تندفع في شارعٍ بغداديّ، بلا مارة ولا سيارات...
شارعٍ بغداديّ في الفجر المبكر.
محمود درويش سيظل يسألني كلما التقيتُه، متذكراً رعب تلك الليلة:
أشارعٌ أم حائطٌ؟
لندن ٢٩ / ٨ / ٢٠٠٨ م

قمرُ بغدادَ الليمونيّ

لستُ أعرف سبباً ل "نرفزة" كتّابٍ عراقيين معيّنين، من وصفِ محمود درويش قمرَ بغداد بالليموني.
قمرُ بغداد ليمونيّ، حقاً، لكن يبدو أن العراقيين لا ينظرون إلى السماء جيداً.
ألم يقُل الجواهريّ العظيم:
لم يعرفوا لونَ السماءِ لفرْطِ ما انحنت الرقابُ
ولفرْطِ ما دِيسَتْ رؤوسُهمو كما دِيسَ الترابُ
ما علينا...
أكان ذلك في أواخر الثمانينيات؟
١٩٨٩ مثلاً؟
آنذاك كنت مقيماً، على قلقٍ، بباريس.
محمود درويش كان يسكن بالتروكاديرو، عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
كنا نلتقي.
أحياناً أدعوه إلى الخروج معي.
أقول له: دعني آخذك يا محمود إلى باريس الأخرى. إلى مقاهي الجزائريين، وحانات المغاربة،
ومطاعم الأفارقة. دعني آخذك إلى الضواحي...
يقول لي: أنا أحسدك. أنت تتجول كما تشاء. تتعرف على باريس بطريقتك. أمّا أنا فسوف يتبعُني خمسةٌ
من الحماية!
* * *
في أحد الأيام تلقّيتُ مكالمةً هاتفيةً من محمود.
قال: يجب أن أراك اليوم.
قلت: ليكُنْ!
كان اللقاء في مطعمٍ غير بعيدٍ عن مسكنه. طلبتُ بطّاً، فجاءني طبقٌ به لحمُ بطّ شبه نيّء، في رقائقَ
تكاد تشِفّ!
* * *
من كان معنا؟
لا أتذكر جيداً، لكني أظن فوّاز طرابلسي الجليسَ الثالث.
* * *
قال محمود: عدتُ اليوم من النرويج. من قريةٍ قصيّةٍ بالنرويج. أريد رأيك في أمرٍ مُلِحٍّ.
قلت: أمرك!
قال: يا سعدي، اسمعْني...
تلقّيتُ دعوةً لحضور المربدِ، ولجائزةٍ تُسَلَّمُ إليّ إنْ وقّعتُ مسبقاً على قبولها. رفضتُ الأمرَينِ كليهما.
ورغبةً مني في تجنُّب الأخذ والردّ، سافرتُ إلى النرويج، وأقمتُ في قريةٍ قصيّة. لكني في منتصف
الليل تلقّيتُ مكالمةً هاتفيةً من أبو عمّار، نصُّها: هل تريد أن تخرب بيتنا يا محمود؟ يجب أن تذهب إلى
بغداد!
قلت: هكذا؟
قال محمود: نعم...
الآن أريد رأيك!
إنْ قلتَ لي: لاتذهبْ، فلن أذهب!
* * *
ما كنتُ بحاجةٍ إلى أن أُنعمَ النظرَ.
قلت له: أنت في هذا الموقف، لستَ محمود درويش. أنت عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير
الفلسطينية. ممثلٌ رسميٌّ لشعبك وقضيّته. أنت تضحّي من أجل قضية شعبك. ليس بمقدوري، ولا من
حقي أن أقول لك لاتذهبْ.
لكني سأظل أتذكر، بكل اعتزاز، أنك استشرتَني، مبدياً استعدادك للأخذ بما أرى!
* * *
قمر بغداد الليمونيّ!
لندن ٣٠/ ٨/ ٢٠٠٨ م
توقيع أسماء بوستة
 [frame="15 85"]
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إن لم يكن دينه إلى ديني دان
لقد صار قلبي قابلا كل صورة :
فمرعى لغزلان و دير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
و ألواح توراة و مصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه
فالحب ديني و إيماني
إبن عربي
[/frame]
أسماء بوستة غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 25 / 11 / 2009, 33 : 02 AM   رقم المشاركة : [6]
أسماء بوستة
أستاذة وباحثة جامعية - مشرفة على ملف الأدب التونسي

 الصورة الرمزية أسماء بوستة
 





أسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to behold

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: تونس

رد: مدينة الشاعر محمود درويش

فكر بغيرك

محمود درويش




وأنتَ تُعِد فطورك، فكر بغيركَ

لا تَنْسَ قوتَ الحمام

وأنتَ تخوضُ حروبكَ، فكر بغيركَ

لا تنس مَنْ يطلبون السلام

وأنتَ تسدد فاتورةَ الـماء، فكر بغيركَ

مَنْ يرضَعُون الغمام

وأنتَ تعودُ إلى البيت، بيتكَ، فكر بغيركَ

لا تنس شعب الخيامْ

وأنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكر بغيركَ

ثمّةَ مَنْ لـم يجد حيّزاً للـمنام

وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكر بغيركَ

مَنْ فقدوا حقهم في الكلام

وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكر بنفسك

قُلْ: ليتني شمعةُ في الظلام


توقيع أسماء بوستة
 [frame="15 85"]
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إن لم يكن دينه إلى ديني دان
لقد صار قلبي قابلا كل صورة :
فمرعى لغزلان و دير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
و ألواح توراة و مصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه
فالحب ديني و إيماني
إبن عربي
[/frame]
أسماء بوستة غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 25 / 11 / 2009, 16 : 10 PM   رقم المشاركة : [7]
أسماء بوستة
أستاذة وباحثة جامعية - مشرفة على ملف الأدب التونسي

 الصورة الرمزية أسماء بوستة
 





أسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to behold

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: تونس

رد: مدينة الشاعر محمود درويش

الولادة على دفعات


محمود درويش

[align=justify]نادراً ما أقرأ مقدمات الشعراء لأعمالهم، وإن فعلت ذلك فلكي أحتفي بالفارق الجميل بين ما يود الشاعر أن يقوله عن قصيدته... وبين ما تقوله قصيدته. فالقصيدة كثيراً ما تفلت من سياق التفكير بها ومن مشروعها الذهني، ولا تخضع خضوعاً كاملاً لوضوح الفكر الذي يحركها، وكأنها، إذ تستقل في صيرورتها الذاتية، تستقل أيضاً عن شاعرها. فماذا سأفعل بما هو مطلوب مني بإلحاح: أن أقدم هذه المختارات؟

سأقول أيضاً: إن المختارات تنطوي دائماً على خدعة، ففي وسع من يختار أن يصنع بشاعره ما يشاء: أن يختار البؤرة المشعة في القصيدة تاركاً جانباً ما تحدق فيه من ظلام، مهملاً سياقها العام... سياق القصيدة وموقعها من شعر الشاعر. وفي وسعه أن يفعل العكس: أن يختار منها طريقها النثري إلى الشعر. وفي وسعه أيضاً التركيز على صورة، أو استعارة، أو خلاصة، أو حكمة شعرية... منحازاً إلى طريقته في فهم الشعر، وطبقاً لهذا الفهم الخاص نجعل من شاعر عادي شاعرا استثنائياًُ، ومن شاعر استثنائي شاعراً عادياً... باستحضار البؤر المشعة أو باستبعادها.

وهكذا، يبقى السؤال مثيراًُ للشكوك: هل نستطيع التعرف على حقيقة الشاعر الشعرية من خلال المختارات؟ سيبقى الجواب نسبياً وقابلاً للتضليل. ولكن السؤال التالي هو الأصعب: هل نستطيع التعرف على لغة الشاعر الجمالية من خلال مختارات مترجمة من لغة إلى أخرى؟ غني عن القول إن لكل لغة نظامها الدلالي وأسلوبيتها الخاصة وتركيبها النحوي. وبما أن اللغة في الشعر ليست وسيلة أو أداة فقط لنقل المعنى، والمعنى في الشعر ليس سابقاً لبنية القصيدة، فإن على الترجمة أن تنقل ما ليس وسيلة للنقل أصلاً.. إلى نظام لغة أخرى. وهنا، لا يكون المترجم ناقلاً للكلمات، بل مؤلفاً لعلاقاتها الجديدة. ولا يكون مصوراً لضوء المعنى، بل راصداً للظل، ولما يؤدي لا لما يقول. لذا، يتحول مترجم الشعر إلى شاعر مواز، متحرر من نظام اللغة الأصل، يفعل في اللغة الثانية ما فعله الشاعر في اللغة الأولى.

في فسحة التحرر هذه، ترتكب الخيانة الجميلة التي لا بد منها، الخيانة التي تحمي لغة الشعر المنقول من عناد وطنيتها، ومن اندماجها الكامل في مناخ لغة أخرى، في آن واحد. فعلى الشعر أن يحافظ على نفسه الإنساني العام، القادم من بعيد مشترك من ناحية، ومن ناحية أخرى، عليه أن يحافظ على ما يدلنا على أنه مترجم، أي قادم من خصوصية تجربة أخرى، عبرت عن نفسها بتركيب لغوي مختلف وفي سياق مرجعية ثقافية مختلفة. ولعل ذلك هو ما يغرينا بقراءة الشعر المترجم، لا للحوار مع المشترك والمختلف، والبحث عن غني التجربة الشعرية الإنسانية وتنوعها فقط، بل أيضاً لفتح قابلية التأثر التي تحتاج إليه لغتنا الشعرية، أية لغة، لتجديد أسلوبيتها وبناء جملتها، عن طريق الإصغاء إلى تجربة لغة أخرى.

هنا، يمتلك المترجم/ المبدع سلطة البناء والهدم. فكم من قصيدة كبرى قرأناها بأكثر من ترجمة، فلم تكن هي ذاتها، لا بسبب تعدد مستويات قراءتها، بل بسبب تحكم المترجم في مساراتها وطريقة تنفسها، فلم تعد قصيدة شاعرها فقط، بل قصيدة مترجمها/ شاعرها المؤول أيضاًُ. ولا يهمنا في هذا المجال إن كانت أفضل من الأصل أو أسوأ.

كيف نصدق الشعر المترجم إذا؟ سنصدق منه ما يتخفي، وما يتحفز للظهور، ذلك الظل المطل من خلف الكلمات، وربما ذلك البعد الذي يشير إلى وجوده ويغيب. وكيف نصدق المختارات التي اختارها الشاعر، وهنا، كيف تصدقونني؟ إن العنوان الثانوي لهذه المجموعة "مختارات شخصية" هو عنوان مجازي، لأنها ليست شخصية تماماً. فلو كان الأمر متعلقاً بي وحدي، دون تدخل أي أعتبار آخر، لما أخترت من شعري إلا ما كتبته في العقدين الآخيرين. لأن كل عمل جديد لي ينزع إلى قطيعة ما قائمة على استمرارية. في كل عمل جديد محاولة لهدم ما سبق، من خلال تطوير ما كان يبدو لي هامشياً وثانوياً، وتقريبه من المركز. ربما لأنني لا أسكن النهر، بل أقيم على الضفاف. وربما لأن الزمن يعلمني الحكمة، بينما يعلمني التاريخ السخرية، أو ربما لأنني أكبر واقترب من أسئلة ميتافيزيقية تتلاءم مع حيرة الوجود، وقد تحمي اللغة الشعرية من سرعة الراهن.

بيد أن صورتي العامة أقوى من قلقي. فأنا المسمى "شاعراً فلسطينياً" أو "شاعر فلسطين" مطالب مني ومن شرطي التاريخي بتثبيت المكان في اللغة، وبحماية واقعي من الأسطورة، وبإمتلاكها معاً لأكون جزءاً من التاريخ وشاهدا على ما فعله التاريخ بي في آن واحد. لذا يتطلب حقي في الغد تمرداً على الحاضر، ودفاعاً عن شرعية وجودي في الماضي الذي زج به إلى المناظرة، حيث تصبح القصيدة دليلاً على وجود أو عدم. أما سكان القصيدة، فلا يكترث بهم مؤرخو الشعر.

حين بدأت الكتاب، كنت مسكونا بهاجس التعبير عن خسارتي، عن حواسي، عن حدود وجودي المحدد، وعن ذاتي في محيطها وجغرافيتها المحددين، دون أن أنتبه إلى تقاطع هذه الذات مع ذات جماعية. كنت أسعى إلى التعبير، غير حالم بتغيير أي شيء سوى نفسي، ولكن قصتي الشخصية، الاقتلاع الكبير من المكان، كانت قصة شعب كامل. لذلك، وجد القراء في صوتي الخاص صوتهم الخاص والعام. فعندما كتبت حنيني إلى خبز أمي وقهوتها، داخل السجن، لم أقصد تجاوز تلك المساحة العائلية، وحين كتبت اغترابي في بلادي وشقاء الحياة والتوق إلى الحرية، لم أقصد إلى كتابة "شعر مقاومة" كما سماه النقد العربي، ووجد في القراء العرب تعويضاً شعرياً مبالغاً فيه عن هزيمة العرب في ما سمي بحرب الأيام الستة.

حين أتذكر الآن تلك المرحلة، أتذكر قدرة الشعر على الأنتشار حين لا يطلب العزلة هدفاً ولا يطلب الانتشار أيضاً. فلا الانتشار ولا نقيضه يصلحان معياراً للحكم على جمالية الشعر. كما أن هنالك ما هو أسوأ من الشعر السياسي، هو الإفراط في تعالي الشعر على السياسة، بمعناها العميق، أي الأصغاء إلى أسئلة الواقع وإلى حركة التاريخ، والمشاركة الضمنية في أقتراح الأمل. فاللاسياسة هي أيضا سياسة مبطنة. من هذا المنظور، لا تستطيع هذه المختارات أن تخدع قارئها أو شاعرها، بفصل البدايات عما وصلت إليه تجربتي الشعرية الآن. وهكذا، لا أستطيع تحديد النقطة التي حدثت فيها القطيعة النسبية في سياق الاستمرارية، لأن العملية متداخلة متشابكة، ولأن كل مرحلة سابقة تحمل بذور تطور المرحلة اللاحقة.

يهمني كثيراً أن أطور شعري بطريقة نوعية. ولكن هل يمكن فصل ذلك عن الحالة التراكمية؟ لا أدري. وهكذا أرى في مرحلة المنافي امتداداً للصوت الذاتي/ الجماعي على أرض عمل أخرى، أوسع في الجغرافيا وفي التنوع الثقافي واللغوي، يرافقها تطور في المعرفة، وإعادة نظر دائمة في مفهوم الشعر، واقتراب من الإدراك الشعري للتجربة الإنسانية. إن صبر المسافة، ومساحة التأمل من بعيد ما، توفر للشاعرية فرصة للتخفيف من درجة حماسة اللغة، وفرصة النظر إلى ذاتها وأدواتها بطريقة أبرأ وأهدأ من ناحية، وتحملها من ناحية أخرى أعباء استحضار المكان بذاكرته وعناصره خالياً من الغبار ومن الروتين!

إنني شديد الأصغاء إلى حركة الزمن، وإلى إيقاعات المشهد الشعري العالمي، لا أتوقف عن التدرب على كيفية الاقتراب من توفير حياة خاصة للقصيدة بشرطها التاريخي وباستقلالها عنه معاً. ولا أتوقف عن تدريب القصيدة على الاقتراب من سلالتها الاسطورية، لا بالاعتماد على رموزها فقط، بل بإنجاز بنيتها الأسطورية المعاصرة من عناصرها الذاتية. ولكن، كيف للشاعر أن يتقن الرحلة من داخله إلى خارجه، ومن خارجه إلى داخله، دون أن يغرق في "أناه" ودون أن يفقدها، بتحويلها إلى ناطقة باسم الجماعة، وكيف يحميها من قصدية التمثيل؟ لعل مصدر الشعر واحد، هو هويتنا الإنسانية، من ماضي غربتها على هذه الأرض إلى حاضرها المغترب. لقد ولد الشعر من أولى أسئلة الدهشة عن وجودنا، من ذلك البعيد الذي تساءل فيه طفلنا الإنساني عن أسرار وجوده الأولى. من هنا لم تكن العالمية، منذ البداية، إلا محلية.

في سياق السفر الواحد من الذات إلى العالم، في هذا السياق المتعدد اللغات والمناطق ودرجات التطور التاريخي، تتوحد التجربة الشعرية الإنسانية، وتحقق "عولمتها" الخاصة بها، متحررة من هيمنة المركز وتبعية الطرف، بإسهام كل محلية شعرية في صياغة ما نسميه الشعر العالمي. لكن، لا بد للجهات من تسميات على ما يبدو، فماذا يعني أن أقول إن شعري قادم من الجنوب، من شرط تاريخي لم تتحقق فيه حرية الفرد ولا تحرر الجماعة، ومن بلد أنكسرت فيه العلاقة بين المكان والزمان، وتحول فيه الكائن إلى شبح؟ إن ذلك لا يرمي إلى أكثر من الإشارة إلى مأزق الحداثة الشعرية العربية، على طريق الرحلة من القبيلة التي اندثرت خيامها إلى المدينة التي لم تنشأ بعد. ماذا تفعل الحداثة في مجتمعات عربية تعيش مرحلة ما قبل الحداثة؟ من الطبيعي أن تبقى هامشية ومجازية. ومن الطبيعي أيضاً أن تتشظى إلى حداثات لا يجمعها غير الشكل.

ليس الغموض هدف الشاعر. لكنه ينتج عن التوتربين حركة القصيدة وبين ما يحركها من فكر، وعن التوتر بين حالتها النثرية وحالتها الإيقاعية، وهذا الغموض، الشبيه بإيماءات الظلال، هو أحد أشكال صراع اللغة الشعرية مع الواقع الذي لم يعد الشعر مشغولاً بوصفه، بل بالنفاذ إلى جوهره، وبصراع اللغة مع مرجعياتها. ولعل هذا النوع من الغموض هو الفضاء المفتوح لدور القارئ في منح القصيدة حياة ثانية، إذ يوفر له دوراً إبداعياً في القراءة والتأويل، بدلاً من تلقي الرسالة كاملة نهائية. فليس هذا الغموض نقيض الوضوح، بل نقيض الوضوح التعليمي الذي يترك القارئ عاطلاً عن العمل. ولكن، لا غموضي ولا وضوحي هو ما أنقذ شعري من القطيعة مع قارئ يجددني وأجدده. فمن مفارقات تجربتي الشعرية أنها كلما طورت أدواتها التعبيرية وأسلوبيتها، كلما حفزت قارئها إلى القبول بالمزيد من التجديد. فتقاربت ذائقة الشاعر والقارئ الجمالية. ربما لأن أقتراحاتي الشعرية تنبع من سياق تاريخ الشعر العربي وإيقاعاته ومن داخل جماليات اللغة العربية.

ومن المعروف أن القصيدة العربية الحديثة لم تصل إلى ما وصلت إليه الآن دفعة واحدة. صحيح، أنه ليس هنالك من شاعر حقيقي يأذن لأي أعتبار خارجي، ولا لأي قارئ، بأن يراقب عملية الكتابة الشعرية، لكن الشاعر قارئ شديد المطالبة. وهو القارئ الأول لنصه. وما تنقيح النص مراراً إلا فعل قراءة كاتبة، يخضع لمعايير واعية لمدى ما في الذات الشخصية من لقاء مع ذوات أخرى. لكل شاعر طريقته الخاصة، أو تقاليده، في الكتابة، وأنا من أولئك الذين يكتبون النص مرتين: في المرة الأولى تقودني سليقتي الشعرية ولا وعيي. وفي المرة الثانية يقودهما إدراكي لمتطلبات بناء القصيدة. وغالباً ما لا تشبه الكتابة الثانية صورة الكتابة الأولى، لا تشبهها أبداً.

إن أحد تدريباتي على امتحان قصيدتي هو أن أنساها لفترة طويلة. وحين أعود لزيارتها للتحقق من طبيعتها الشعرية أحكم عليها بمدى الشبه بينها وبيني. فإذا تعرفت عليها من الوهلة الأولى أدركت أنها تقلدني أو أنني أقلد نفسي. أما إذا أحسست بأن شاعراً آخر هو الذي كتبها، متجاوزاً الشاعر الذي كنته. أدركت أنها قصيدة جديدة.

ولكن، من يعنيه هذا السر؟

إن ما يعنيني في هذه المختارات، التي شارك في اقتراحها عدد من الأصدقاء، هو أن تكون أمينة وصادقة في تمثيل تجربتي الشعرية وتطورها زمنياً وجمالياً، كما هي في بحثها عن الشعر في القصيدة، وفي بحثها عن القصيدة في الشعر. قليلون هم الشعراء الذين يولدون شعرياً دفعة واحدة. أما أنا، فقد ولدت تدريجياً وعلى دفعات متباعدة. وما زلت أتعلم المشي العسير على الطريق الطويل إلى قصيدتي التي لم أكتبها بعد.


(*) صدرت عن دار "غاليمار" الفرنسية، ضمن سلسلتها الشعرية الشهيرة، مختارات شعرية لمحمود درويش تحت عنوان "تضيق بنا الأرض، وقصائد أخرى"، تقع في ٣٩٦ صفحة، ترجمها الكاتب والمؤرخ اليأس صنبر. وهذه هي المقدمة الخاصة التي كتبها الشاعر لهذه المختارات.[/align]
توقيع أسماء بوستة
 [frame="15 85"]
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إن لم يكن دينه إلى ديني دان
لقد صار قلبي قابلا كل صورة :
فمرعى لغزلان و دير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
و ألواح توراة و مصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه
فالحب ديني و إيماني
إبن عربي
[/frame]
أسماء بوستة غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 26 / 11 / 2009, 27 : 12 AM   رقم المشاركة : [8]
أسماء بوستة
أستاذة وباحثة جامعية - مشرفة على ملف الأدب التونسي

 الصورة الرمزية أسماء بوستة
 





أسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to behold

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: تونس

رد: مدينة الشاعر محمود درويش

حوار في تشرين


محمود درويش



أحاور ورقة توت:

_و من سوء حظ العواصف أنّ المطر

يعيدك حيّه ،

و أن ضحيتها لا تموت

و أن الأيادي القويّة

تكبلها بالوتر!

سأدفع مهر العواصف

مزيدا من الحب للوردة الثاكله

و أبقى على قمة التل واقف

لأفضح سر الزوابع.. للقافلة

أحاور هبّة ريح :

إذا هاجر الزراع الأول

وعاث بحنطة القاتل

و إن قتلوه كما قتلوني

فلن تحملي الأرض يوما

و لن تنزعي جلدها عن جفوني

سأدفع مهر العواصف

مزيدا من الحب للوردة الثاكله

و أبقى على قمة التل واقف

لأفضح سر العواصف.. للقافلة !

أحاور روح الضحيّة :

و من سوء حظ العواصف أن المطر

يعيدك حيّة ..

و من حسن حظك أنك أنت الضحيّة

هلا.. يا هلا.. بالمطر!
توقيع أسماء بوستة
 [frame="15 85"]
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إن لم يكن دينه إلى ديني دان
لقد صار قلبي قابلا كل صورة :
فمرعى لغزلان و دير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
و ألواح توراة و مصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه
فالحب ديني و إيماني
إبن عربي
[/frame]
أسماء بوستة غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 26 / 11 / 2009, 00 : 01 AM   رقم المشاركة : [9]
نصيرة تختوخ
أديبة ومترجمة / مدرسة رياضيات

 الصورة الرمزية نصيرة تختوخ
 





نصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond repute

رد: مدينة الشاعر محمود درويش

رائع حقا ماأثريت به مدينة الشاعر محمود درويش, كم كان غنيا بتحركاته,بثقافته, بمايحمل ويخزن بداخله ليخرجه بفن بديع.
شكرا لك أسماء,
نصيرة تختوخ غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 26 / 11 / 2009, 47 : 02 AM   رقم المشاركة : [10]
أسماء بوستة
أستاذة وباحثة جامعية - مشرفة على ملف الأدب التونسي

 الصورة الرمزية أسماء بوستة
 





أسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to beholdأسماء بوستة is a splendid one to behold

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: تونس

رد: مدينة الشاعر محمود درويش

شكرا نصيرة على مرورك و ثناءك
محبتي
توقيع أسماء بوستة
 [frame="15 85"]
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إن لم يكن دينه إلى ديني دان
لقد صار قلبي قابلا كل صورة :
فمرعى لغزلان و دير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
و ألواح توراة و مصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه
فالحب ديني و إيماني
إبن عربي
[/frame]
أسماء بوستة غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
غريب في مدينة بعيدة --محمود درويش نصيرة تختوخ محمود درويش 0 02 / 05 / 2012 29 : 11 PM
إلى محمود درويش .. الشاعر الإنسان رشيد الميموني كلـمــــــــات 5 29 / 08 / 2011 29 : 02 PM
الشاعر محمود درويش قاسم فرحات شخصيات لها بصمات 6 11 / 08 / 2008 31 : 02 AM
صمت من أجل غزة -الشاعر محمود درويش..! تيسير محي الدين الكوجك محمود درويش 0 19 / 04 / 2008 29 : 03 AM
الانتظار / الشاعر محمود درويش قاسم فرحات محمود درويش 0 15 / 01 / 2008 25 : 01 AM


الساعة الآن 49 : 09 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى

|