((أحلام محرَّمة)) للأديب محمد توفيق السهلي ـــ قراءة نقدية - د.سمر روحي الفيصل
[align=justify]
لا تؤرِّق قضية البدايات الروائية والقصصية بعض الأدباء والنقّاد، بينهم دون شك محمد توفيق السهلي، وإنْ كانت القضية نفسها موضع اهتمام وجدل بين عدد غير قليل من الأدباء الذين يعدّون الريادة في الفن مكانة معنوية عالية، تضفي علامات إيجابية على مَنْ يتصف بها. مرَّ هذا الأمر في خاطري حين رأيتُ مجموعة (أحلام محرَّمة) لمحمد توفيق السهلي مطبوعة عام 1998، وكأني تذكّرتُ نصوصاً قصصية قصيرة له قرأتها قبل أكثر من عقدين. وقد رسَّخ هذه الذكرى ما أشار إليه الأديب الناقد طلعت سقيرق في أثناء تقديمه مجموعة (أحلام محرّمة)، وزادها رسوخاً ما لاحظته في أثناء القراءة من حرصٍ على التكثيف، وهو تكثيف تتسم به عموماً القصة القصيرة جداً، ولكن نسبته لدى محمد توفيق السهلي كبيرة جداً، حتى إن بعض القصص لا يجاوز ثلاث عشرة كلمة كقصة (ماذا يهم؟)، أو أربع عشرة كلمة كقصة (الحناء).
أقول: لم يكن من اهتمامات محمد توفيق السهلي، هذا الباحث المعروف في التراث الشعبي الفلسطيني، الإشارة إلى ماضيه في كتابة القصة القصيرة جداً، وحسناً فعل.
فالقضية لا تكمن في البدايات والريادة وما إلى ذلك، بل تكمن في الفن. وهذا أمر سيسجَّل في تاريخ السهلي وإنْ تأخّر إعلانه إلى عام 1998، عام إصداره (أحلام محرّمة). ذلك لأن إنعام النظر في قصص هذه المجموعة، وهي أربع وثمانون قصة (لعل النسخة التي أملكها مخرومة الآخر، إذ تنتهي في الصفحة الخمسين، دون فهرس للمحتوى، إضافة إلى أن طلعت سقيرق ذكر في أثناء تقديمه لها أنها تضم ستاً وثمانين قصة]، يقود القارئ إلى أن بنية القصة القصيرة جداً عند السهلي تنهض استناداً إلى ثنائية اللمحة الدالة والتكثيف غالباً، ويضاف إليهما القفز الزمني أحياناً.
يبدو مصطلح اللمحة الدالة قلقاً هنا، ولكنه المصطلح القريب الآن مما أفكّر فيه. فقصص السهلي لا تضم حدثاً بالمعنى القصصي، أي عملاً مركّباً ذا فاعل قصصي معيَّن، يؤول تفاعله مع الحدث إلى صدام فلحظة تنوير. بل تضم لمحة أقرب إلى الصورة الحكائية، ولكنها لمحة دالة، لأن حركتها تقود إلى شيء غير متوقَّع، ولكن الدلالة تكمن فيه دون غيره. فالقَدُوم (راح يدق الرؤوس من حوله بلا رحمة فيهرسها). هذه هي الصورة، ولكنها صورة تتحرّك ولا تبقى جامدة، فقد (أطلّت من بين الرؤوس رأس كبيرة)، وهذه الإطلالة تالية على الصورة زمنياً، ومن ثَمَّ كان عامل الزمن عامل تحريك فيها. ولا بدَّ لهذه الصورة من نهاية دالة هي (فصار القَدُوم سنداناً). والملاحظ أن القصة كلها في ثماني عشرة كلمة، وهذا العدد القليل من الألفاظ دال على التكثيف الشديد في بنية هذه القصة، وهو أيضاً الجسد اللغوي الحامل للمحة الدالة. ولولا هذا الجسد لما كانت هناك دلالة لهذه القصة القصيرة جداً. والواضح أن القصة التي أشرتُ إليها، وعنوانها: (السندان)، نموذج لبنيةٍ تضم بعدين ليس غير، هما: اللمحة الدالة والتكثيف، شأنها في ذلك شأن كثير من قصص المجموعة، كالقصص التي تحمل العنوانات الآتية: جموح- القيود- ثقيل- بعد فوات الأوان – دستور من خاطركم...
بيد أن هناك قصصاً أخرى تستند بنيتها إلى القفز الزمني إضافة إلى اللمحة الدالة والتكثيف، كقصة (طعام الكلاب). فقد استخدموا الحمار (أعواماً طوالاً. نقلوا فوق ظهره الحجارة والصخور. امتطوا ظهره في ترحالهم). هذه هي اللمحة، ولكنها لمحة من الماضي. ففي هذا الماضي تمَّ الاستخدام والحمل والنقل والامتطاء. ولكن الصورة لا تجمد عند الماضي، بل تقفز إلى المستقبل. فقد (كبر الحمار)، أي مرَّت عليه سنوات وهو مُسْتخْدَم حاملٌ ناقلٌ ممتطى. ودلالة اللمحة تكمن في المستقبل، بعد أن كبر الحمار و (نحل جسمه. صار جلداً على عظم. تثاقلت مشيته). عندئذ صار الحمار (طعاماً للكلاب). وليست هناك قصص كثيرة في المجموعة تتشبَّث بنيتها بالقفز الزمني، ولعل القصص الآتية نموذجات واضحة لهذا النوع من القفز الزمني: الجنة- عقوق- السيف والجراد- الزعتر المدمّى- وضوء- الحطب- الكوز والجرّة- الظهر- القط- الجوز الفارغ- الكلمة. وإذا كنتُ أكثرتُ من ذكر نموذجات القفز فلأنني لا أرغب في أن يعتقد أحد بأن القفز الزمني شيء عابر في بنية القصة القصيرة جداً عند السهلي. ومن المفيد أن أشير هنا إلى أن القفز الزمني يتخذ في قصص السهلي ثلاثة أشكال:
أولها: قفز صريح، ينص فيه السهلي على الزمن الذي تمَّ القفز فوقه، كما هي الحال في قصة (عقوق)، حيث وردت عبارة صريحة في دلالتها على القفز، هي: (بعد أعوام). ومثلها في ذلك قصة (الجوز الفارغ) التي ضمّت عبارة (دارت الأيام).
وثانيها: قفز ضمني، يستعمل السهلي فيه عبارة دالة على الزمن، كما هي الحال في عبارة (وبعد حين) المذكورة في قصة (الظهر).
وثالثها: القفز الإيحائي الذي لا يستعمل السهلي فيه قفزاً محدَّداً كالأعوام والأسابيع والأيام، ولا قفزاً مبهماً كلفظة (حين) أو (وقت)... بل يستعمل الإيحاء بالقفز الزمني، كما هي الحال في قصة (القط). فقد ذكرت اللمحة قدوم جموع الفئران لوداع القط وهو ذاهب إلى الحج، ثم قفزت في العبارة التالية قائلة إنه عاد من الحج. كذلك الأمر في قصة (الكلمة) حين استعمل السهلي عبارة (جار الزمان) بعد أن كان البطل (نافذ القول).
مهما يكن الأمر فإن اللمحة الدالة لا تنتسب إلى فن القصة ما لم تضمّ شخصية. وهذا أمر ليس بالجديد، فالشخصية وسيلة من وسائل القصة القصيرة جداً وليست غاية لها. ولكن اللافت للنظر أن يتابع محمد توفيق السهلي التقليد الذي بدأ يتّضح لدى القاصين الذين يبدعون في هذا الجنس الأدبي، وهو اعتماد الأنسنة. ومن ثمَّ كانت الحيوانات والجمادات أبطالاً لغالبية القصص القصيرة جداً. بل إن الحيوانات في قصصه، كالديك والفأر والقط والكلب... أكثر عدداً، في حين تبدو الجمادات قليلة لديه، كالنخلة مثلاً. ويوازي الجماد في القلّة عند السهلي اعتماد الإنسان بطلاً للقصة. وهذا كله يثير جانباً من النقاش لن أعرض له هنا على الرغم من أهميته، هو جانب الترميز، وليس الرمز في القصة القصيرة جداً.
إضافة إلى جانب آخر لن أعرض له أيضاً، هو اللقاء بين قصص الأطفال التي تعتمد الترميز بوساطة الحيوانات خصوصاً، وقصص الكبار القصيرة جداً التي تعتمد الأمر نفسه. ذلك لأن الترميز في قصص السهلي يستحقّ وحده مقالة، بل دراسة مستقلة، تبعاً لعمق الإيحاء فيه، ودقّته، وشموله جوانب سياسية واجتماعية وإنسانية في المجتمع. وفي مقابل ذلك تبرز تقنية التكثيف الشديد التي اتسمت بها بنية قصص السهلي، فهي تقنية تستحق التحليل والإشادة، ولكن حدود المقالة لا تتسع لما تضمه مجموعة (أحلام محرّمة). وإلا فإن الحديث عن الترميز والإيحاء سيقودنا – شئنا أم أبينا- إلى الجرأة، كما سيقودنا الاستمرار في تحليل بنية القصص إلى (الوحدة)، وحدة الانطباع واللمحة الدالة. وقد يقودنا ذلك إلى ما سمّاه الباحث المجتهد أحمد جاسم الحسين الإدهاش الذي حلَّ، في رأيي، محلَّ لحظة التنوير في القصة التقليدية.
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|