ويلاحظ المرء، أنه إذا كان الخيَّاط الباريسي الشهير" فرانسيس سمالتو" هو الذي يحافظ على علاقة دائمة مع قادة المغرب العربي،لأنه يقدم لهم خبرتــه وذوقه في التفصيل والخياطة، فإن الرجل السياسي الفرنسي يقف شاهدا ً على هشاشة الزمن الحاضر، حتى أن المغرب العربي بات لا يملك من أمل فيالوحدة سوى " ظل أيديه ".
لقدبدأت وحدة المغرب العربي كمشروع بناء إقليمي، تتردد في الخطاب الرسمي للأنظمةالسياسية الحاكمة، ولدى النخب السياسية والثقافية، منذ أن أصبح أسلوب خلط الأوراقفي السياسة الرسمية المغاربية، وقلب التحالفات على أرضية لجم التناقضات المستعصية بالتوفيق فيما بينها، تقليدا ً عريقا ً عند الأنظمة، في ظل سيطرة ممارسة تركيزالمحاور، وتكوين التجمعات الإقليمية.
وهكذا،ولدت معاهدة "الإخاءو الوفاق" بين تونسوالجزائر في 11 آذار/مارس 1983،انضمت إليها موريتانيا لاحقا ً، وبالمقابل تشكل "الاتحاد الإفريقي – العربي "الموقع في جدة في 3 آب/آب / أغسطس1984، بين الملك الحسن الثاني والعقيد معمر القذافي.وعرفت العلاقات المغاربية – المغاربية جو الصفاء والتقارب خلال أزمة الثمانينيات. وتأسست نواة اتحاد المغرب العربي على قاعدة سياسيةرسمية ـ أي اتحاد النظم بدلا من اتحاد الشعوب ـ في 17 شباط/شباط / فبراير 1989.
وكانت المعوقات الكبرى التي اصطدم بها مشروع بناء"وحدة المغرب العربي" هي التالية:
أولاً: الإشكاليات التي برزت على الحدود بين الدول المغاربية المعنية (الجزائر والمغرب) خلال المرحلة الماضية، سواء من حيث تحديد الحدود وحل النزاعات الترابية، باعتبارهذا يدخل في نطاق استكمال بناء "الدولة الوطنية" بمفهومها القطري، أم من حيث الحيلولة دون تحول هذه الحدود إلى معبرٍ للقوى المعارضة، يستخدمها نظام معين في صراعه السياسي مع نظام آخر، كما هو الحال على الحدود الليبية ـ التونسية، والحدود الجزائرية – التونسية، والحدود الجزائرية – المغربية الخ...
ثانياً:حرب الصحراء الغربية القائمة منذ العام 1975، وأثرها المباشر في احتدام صراع المحاورالإقليمية بين المغرب والجزائر،والموقع الذي احتلته في استراتيجية التطويق والمحاصرة لدى كل من النظامين.
ثالثًا: التناقضات الأيديولوجية والسياسية العميقة التي كانت تفصل أنظمة المغرب العربي بعضها عن بعض، جراء انحياز كل نظام لاختياراتٍ اقتصاديةٍ –اجتماعيةٍ، وارتباطاتٍ دوليةٍ محددتين.وفضلا ً عن ذلك، فإن التصور المستقبلي لبناء هذا المشروع الإقليمي المغاربي كان مفقودا ً أو غائبا ً،ومرجئا ًإلى الزمان الذي تتوافر فيه حلول لهذه المعضلات القائمة التي تم ذكرها.
وإذاكان من نافلة القول أن مسار البناء السياسي لأنظمة المغرب العربي(باستثناء الجماهرية الليبية) انصب بشكل رئيسٍ على بناء الدولة القطرية، في تناقض جذري مع خطالبناء القومي والوحدة العربية، والتحرر من السيطرة الإمبريالية، فإنه من المفيد التذكير بالعوامل الرئيسة التي دفعت أنظمة المغرب العربي إلى التوجه نحو بناء هذاالتكتل الإقليمي "اتحاد المغرب العربي". علما ًأن الاتحاد العربي الشامل لم يتحقق،والاتحادات الإقليمية لم تنجح في الماضي.
إن المواطنين العرب ما عادوا يكترثون كثيراً، عندما يسمعون أنباء إعلان اتحاد بين دولتين عربيتين أو أكثر.لا لأنهم غير معنيين بالوحدة، بل لأنهم ما إن تعلن حتى تنطفىء. فهناك أكثر من مشروع وحدة اتحادية أعلن وانطفأ. ونذكر من ذلك: الاتحاد الهاشمي بين الأردن والعراق. والوحدة الاتحادية بين مصر وسورية والعراق سنة 1963. واتحاد الجمهوريات العربية بين مصر وسورية وليبيا سنة 1971. وهناك اتحاداث ثنائية،وسوق عربية مشتركة، واتفاق دفاع مشترك.
إلاأن كل هذه المشاريع، التي لم يحقق أي منها الاندماج، والمرتبط نجاحها بالتقلبات السياسية، الداخلية والخارجية، مازالت تطرح وتعلن. أما اتجاه الوحدة الشاملة، فقدأصبح جزءا ً من الماضي السحيق.
ولهذا فإن المواطن العربي، ما إن يسمع نبأ اتفاق وحدوي جديد، حتى يدير ظهره غير عابىء. ولذلك سببان: أولهما، يعود إلى أن المواطن العربي لا يثق بالاتجاه الوحدوي أوالاتحادي، بكل أنظمته. لأنها أنظمة، كما أثبتت التجربة غير معنية بكل ما هو وحدويأو اتحادي، أو حتى كل ما يمت للعلاقات الطبيعية بين دولة وأخرى.و ثانيهما، يعود إلىأن المواطن العربي لا يريد أن يخدع "بالهلوسات" الإعلامية الرسمية.
و معذلك، فقد كان إعلان قيام "اتحاد المغرب العربي"حدثا ًمهما ً، حتى لو م يبادرالمواطنون العرب إلى إعلان اهتمامهم.و يتسم تجمع اتحاد المغرب العربي، بما يلي:
لقدشهدت بلدان المغرب العربي خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي سلسلة كاملة من الانفجارات الشعبية الكبيرة، والانشقاقات العارمة، وشكلت جميعها حركة تصاعدية من النضال الاجتماعي والسياسي ضد الطبقات الحاكمة. وقد أحدثت هذه الانتفاضات اختلالا ًفي بنية الأنظمة السياسية، في تونس، والجزائر، والمغرب،و هو ما جعلها تقدم علىتقديم تنازلات اضطرارية، تمثلت في انتهاج سياسة "الانفتاح الديمقراطي والتعددية السياسية". غير أن هذا الإصلاح الديمقراطي المحدود والمبتور، والمقنن والمضبوطبقواعد جذرية، لم يقض على الاحتكار السياسي من قبل النخب الحاكمة، ولم يقض على التسلط الاستبدادي الذي تمارسه الأجهزة الأمنية على رقاب الجماهير والقوى الوطنية والديمقراطية.
و لما كانت هذه الأنظمة أصبحت تخاف إلى درجة كبيرة،من اندلاع انفجارات شعبية جديدة، قدتؤدي إلى الإطاحة ببعض الأنظمة الضعيفة، الأمر الذي سيكون لـه انعكاس مباشر علىمصير بقاء هذه النخب في الحكم، بات تطوير العلاقات السياسية، وتكثيف الاتصالات فيمابينها، وإقامة نوع من التضامن مبني على أسس سياسية جديدة، ووحدتها في إطار اتحادالمغرب العربي، أمرا ً ضروريا ً، من الناحيتين السياسية والتاريخية، في سبيل بقائهامحمية بهذا التكتل الإقليمي المرتبط بالسياسة الأمريكية.
وينطلق البناء الإقليمي لاتحاد المغرب العربي منالأرضية التي تقوم عليها هذه الأنظمة المعنية، أي أرضية التبعية والتخلف والتجزئة،والاستسلام لخط التسوية على الصعيد القومي. وهو كمشروع وحدة إقليمية، يحكمه منطق التعاون الجماعي المتعدد الأوجه بين هذه الأنظمة، في محاولة لبناء وحدة فوقية منطبيعة تأليفية بين الدول الخمس لبناء لبنة المغرب العربي الكبير، يحقق السلم لهذه الأنظمة عبر حل الأزمات المتفاقمة سياسيا ً واقتصاديا ً وأمنياً، ويعمل على منعالانفجارات غير المتوقعة، والسيطرة على بؤر التوتر، ويحمي فيه النظام القوي النظام الضعيف.
فهوبناء إقليمي يحافظ على الخصوصيات القطرية، ولا يعمل على إزالة الحدود الموروثة منعهد التقسيم الكولونيالي، والتي دعمتها ورسختها الطبقات والنخب الحاكمة. وهو لايعدوأن يكون محورا ً سياسيا ً مؤقتا ً محدود الأهداف، لا يلزم أطرافه بتغيير اختياراتهمالسياسية والاقتصادية، ولايقطع علاقاتهم بالإمبريالية الأمريكية، ولا يطرح موضوع الوحدة الاندماجية الكاملة التي تزيل الحدود، وهو ما طرحه العقيد القذافي مرارا ًدون أن يجد آذاناً صاغية.
منالجدير بالذكر هنا أن مفهوم القومية العربية الذي يحيل في الخطاب الأيديولوجي والسياسي في المشرق العربي على أيديولوجية الوحدة العربية التي جسدتها كل من الناصرية والفكر البعثي،يتموقع في الخطاب السياسي المغاربي كهوية عربية معيشة. ذلك أن العروبة السياسية التي تبدو كمرجعية قوية في المشرق العربي، نجدها في المغرب العربي مبنية بشكل أضعف.إذ لم تستطع بلورة منطقها المستقل في هذه البلدان، لأنها ارتبطت بردود الفعل الوطني في جل مراحل تطوره.
وتتميز العروبة في بلدان المغرب العربي،وبالتأكيد لعدة عوامل، منهاإخفاق التجارب القومية العربية بالمشرق، وطبيعة سلوك النخب السياسية المغاربية الحاكمة، بسمتين طبعاها بشكل واضح:
1 ـالتشبث بالدولة الوطنية، ذلك أن النخب السياسية التي قادت حركات التحررالوطني ضمن الشروط التاريخية والسياسية محددة لتطور حركات الاستقلال وسيرورتها في هذه البلدان،اتخذ وعيها القومي العربي معناه الكامل في الوعي الوطني الخاص، واضطرت إلى تفضيلالجانب الوطني.
2 ـالتلازم بين العروبة والإسلام، إذ تشكل هذه العلاقة عنصرا ً يميز المغرب عن المشرق. ففي المغرب العربي يستحيل العثور على وعي قومي عروبي من دون الرجوع إلى الإسلام سواء في الكتابات المغاربية في فترة ما قبل الاستعمار، أو في النصوص السياسيةالمعاصرة. فالأمر يسير وكأنه لا انفصام بين بعد العروبة والإسلام في الخطاب السياسي المغاربي.
إن الميتودولوجيا المغاربية للوحدة تقوم على التدرجية، ذلك أن الخطابات السياسيةالمغاربية مرحلية في عمقها ومنطقها. ومع ذلك استبشرت الجماهير العربية خيرا ًلولادة هذا الاتحاد المغاربي، الذي يشمل المنطقة من حدود ليبيا مع مصر،إلى نهرالسنغال. وفي هذا الاتحاد دولتان مهمتان، من حيث الموقع وعدد السكان، هما المغرب والجزائر. فقد حاولت الجزائر أن تلعب الدور الرئيس في اتحاد المغرب العربي، إلا أنها لم تتمكن من ذلك، لتخلف قيادتها السياسية، وضعف جيشها، واضطراب وضعهاالاقتصادي، ودخولها في أتون حرب أهلية طاحنة طيلة عقد التسعينيات بين العسكر والأصولية الإسلامية، وإن كان النظام المغربي، الأدهى سياسيا ً لم يستطع الفوزبالسبق، بسبب تفاقم مشكلاته الاقتصادية، وعدم رغبته في تنمية قواته العسكرية، وعد مقدرته عليها، إضافة إلى قضية الصحراء الغربية التي تمثل عقدة الاستعصاء في تطبيع العلاقات الجزائرية – المغربية.
لقد قام الاتحاد المغاربي، والحركة الشعبية مقموعة، والأحزاب والقوى السياسية مسلمة لقياداتها، والحركة القومية العربية منيت بهزيمة تاريخية عادلة، وبالتالي، فإنالحركة الشعبية وقوى ومنظمات المجتمع المدني لا تستطيع أن تدعي أنها أسهمت الآن في فرض قيام مثل هذا التجمع الإقليمي، أو أن لها برامج لتطويره.
إنشهر العسل هذا المرتبط بقيام اتحاد المغرب العربي، لم يطل إلا قليلا ً مع اندلاعالصراع بين بعض الأنظمة المغاربية والحركات الإسلامية الأصولية، وفرض الحصار الدوليعلى الجماهيرية بسبب أزمة لوكربي، وبلوغ أزمة العلاقات بين المغرب والجزائر حالةالاختناق القصوى بتمادي الجزائر في خلق الفرص وافتعال الذرائع بشأن قضية الصحراءالغربية،ما يعني أن قضية توتر العلاقات المغاربية أصبحت تشكل الخطر الكاسح، وأنالحديث عن المغرب العربي الكبير أصبح حديث خرافة، وأن هذا الاتحاد دخل مرحلة الموتالسريري ويوشك أن يلفظ أنفاسه في غيبة أسرته التي تشتت شملها نتيجة التلاعب بمصيرالوحدة المغاربية الذي كان حلم الجماهير في كل بلدان المغرب العربي أيام الكفاحالوطني ضد الاستعمار الفرنسي.
وهناكإجماع لدى الباحثين والدارسين والسياسيين في منطقة المغرب العربي، يؤكد أن أسباب إخفاق التجربة الوحدوية لبلدان المغرب العربي تعود بالأساس إلى العوامل التالية :
ـغياب الإرادة السياسية والاستقالة التي تعيشها النخب المغاربية عن وظيفتهاالنقدية.
ـ انعدام حرية الرأي والتعبير، فقد حُكِمت بلدان المغرب العربي منذ الاستقلال بشكلفيه الكثير من التعسف ومنع لحرية التعبير، وهو ما جعل أغلبية المجتمعات العربية تعلن استقالتها من المشاركات في تدبير الشأن العام.
ـ عدم توفر قادة المغرب العربي على الإرادة السياسية اللازمة للقيام بهذه الخطوة، ولعل الصراع على زعامة المغرب العربي بين القيادات التاريخية التي حصلت على الاستقلال ـ بورقيبة الحسن الثاني أولا ً، وبين الحسن الثاني وهواري بومدين ثانيا ً، وبين قيادات شابة تميل إلى الثورية وتسعى إلى "تصدير " تصوراتها المجتمعية ـ القذافي – ثالثا ً،قد لعب دورا ً مهما ًفي تأخير نشوء هذا الاتحاد.
ـ اختلاف المسارات التي عرفتها بلدان المغرب العربي بعد الاستقلال، ففي حين اتجهت بعض البلدان شرقا ً إلى الاتحاد السوفييتي – ليبيا والجزائر – اتجهت بلدان أخرى غربا ً – تونس والمغرب – بل إن هذه الثنائيات نفسها عرفت صراعا ً كبيرا ً أو على الأقل هيلم تستطع أن توجد اتفاقا ً فيما بينها. فالصراع بين فرنسا وأمريكا على المنطقة انعكس في خلاف بين المغرب وتونس. كما أن البلدان التي اختارت أن تتجه شرقا ً لمتتمكّن من توحيد تصوراتها المجتمعية فشهدنا نظاما ً أقرب إلى هيمنة الأحزاب الستالينية في الجزائر في حين كانت ليبيا تعيش تجربة " الجماهيرية".
ـ إن القيادات السياسية المغاربية لم تكن واعية تماما بأهمية المشروع الوحدوي المغاربي.والحال هذه، ظلت العلاقات بين بلدان المغرب العربي مرتبطة إلى حد اليوم بطبيعة تلك القيادات السياسية، وحالاتها،وانفعالاتها، وهو ما يجعل القرارات السياسية بل النظم السياسية نفسها تتماشى حسب مخيّلات وخيارات تلك القيادات. وهذايعود بالأساس إلى غياب المؤسسات.
و كان من نتائج حالة الانغلاق السياسي وانعدام الحريات هروب عدد كبير من الكفاءات التيكان من المفترض أن تتحمل عبء التطوير والتغيير في بلدان المغرب العربي.
إنمشكلة وحدة المغرب العربي ليست مشكلة عيب التركيب الديني أو الثقافي الخاصب العروبة، بل مشكلة النخب السياسية الحاكمة التي أصبح همها الرئيس هو الاندراج في قنوات النظام الدولي الأمريكي بانضباط محكم للإستمرار في الحكم دون غاية غيرها.و هي نخب لا تشعر بأي نوع من الانتماء للعروبة السياسية،إسلامية كانت أم علمانية.ثم إن معظم الطبقات والفئات التي ظهرت في الجزء الثاني من القرن العشرين لتحكم المغرب العربي باسم شرعية قيادة حركة التحرر الوطني، لم تتمكن من كسب الحد الأدنى منالشرعية الديمقراطية تجاه شعوبها لفقدان الإنجازات الحقيقية في تحقيق الديمقراطية،وبناء دولة الحق والقانون بالتلازم مع بناء المجتمع المدني الحديث. كل هذا لم يتحقق، بل حصل عكسه تماما ًَ، أي بناء الدول التسلطية، وهبوب رياح القوميات القطريةالاصطناعية التي باتت تشكل "جدارا ً حديديا ً" يفصل بين بلدان المغرب العربي.