عائد إلى حيفا
بين الرواية والسينما
كثيرة هي الأعمال السينمائية التي أخذت عن روايات معروفة، بل ان بعض الروايات حققت سينمائياً عبر أكثر من رؤية، وبأكثر من مكان، كما الملك لير والحرب والسلام، وأيضاً عائد إلى حيفا، وغيرها..
وعندما كتب غسان كنفاني <<عائد إلى حيفا>> عام 1969، كانت المقاومة الفلسطينية المعاصرة في ذروة تألقها، ولم تكن قد عرفت أياً من الإجهاضات والهزائم. من هنا جاءت الرواية متماهية مع المرحلة، ومدركة لأهدافها، كما هو شأن غسان في كل أعماله الإبداعية.
فالسكون، والانتظار المرهون بالشلل، الذي كان يعيشه الشعب الفلسطيني منذ أيام النكبة الأولى، وحتى لحظة كتابة <<رجال تحت الشمس>> عام 1963، دفع غسان لقرع جرس الإنذار.. لماذا لم يدقوا <<تدقوا>> جدران الخزان؟
في عام 1966 عندما بدأت الحوارات الجنينية، في أكثر من مكان، أحياناً همساً وأحياناً جهاراً، حول ضرورة انبعاث الكيان الفلسطيني، وثورة التحرير، كتب غسان <<ما تبقى لكم>> حيث كل الأشياء تدق وتنبض، فالساعة تدق، والخطوات فوق الصحراء تدق، والجنين ينبض في رحم الأم، وأيضا الصمت يدق.. وكان في ذلك رصد للحراك الجنيني المبشر بالانبعاث والولادة.
ولاحقا، في رواية أم سعد، تحققت الولادة، ولدت خيمة الفدائي بمواجهة خيمة المخيم، و<<خيمة عن خيمة تفترق>>.
المتتبع لهذه الأعمال سوف يكتشف ذلك التلازم بين الإبداع والواقع.. بين الإبداع والقضية التي نذر ذلك الإبداع من أجلها.
وسوف يكتشف ذلك التوازن المدهش بين البنية الفنية المتجددة دائماً وبين أهداف تلك الأعمال المحملة بالرمز الذي يحيل الى العديد من القراءات، والذي وفر لها الديمومة فلم تعد رهينة بزمان محدد، وغسان المبدع كان على وعي كبير بما يريد.
والسؤال، هل كان لغسان أن يكتب رجال تحت الشمس في زمن أم سعد، وهل كان سيكتب عائد الى حيفا زمن رجال تحت الشمس؟ والإجابة القاطعة، لا.. لأن غساناً كان يكتب عبر واقعية صارمة، لا تصادر استشرافاً لواقع لاحق مغاير.
كتب غسان <<عائد الى حيفا>> عام 1969 عندما أصبحت الثورة الفلسطينية حقيقة ملموسة على الأرض، وأصبح هاجسه تحديد هوية تلك الثورة من جهة، والتحريض للذهاب بها حتى مداها من جهة أخرى. كل ذلك عبر حدث مفترض: سعيد. س وزوجته صفية يجبران على ترك ابنهما الرضيع <<خلدون>> في سريره بمنزلهما في حيفا عام 1948، ويفشلان في استعادته عبر كل الوسائل بعد أن قذف بهما اللجوء بعيدا عن الوطن.
هاجس محاولة استرداد الطفل ولاحقا الابن ظل هاجسا يسكن قلب وعقل الأبوين عبر إفصاح أحيانا، وسكوت متواطأ عليه أحيانا أخرى.. وعندما أصبح ذلك ممكنا بعد فتح بوابة اندلبوم عام 1967، تطلب صفية من زوجها سعيد أن يصطحبها معه إذا قرر الذهاب الى <<هناك>> وهكذا كان.
يلتقي الأبوان بابنهما الذي لم يعد <<خلدونا>> بل حمل اسما آخر <<دوف>> بل وأصبح ضابطا في الجيش الإسرائيلي. وهنا يدور بينه وبين من يفترض أنه أبوه حوار طويل يطرح كل منهما حججه، فالأب يحاول إقناع خلدون أو دوف بأنه ابنهما، وهو إنما قدم مع أمه لاسترداده لكنفهما، فيما يصر دوف على أن ليس له من أم أو أب غير تلك السيدة اليهودية البولونية التي ربته.. ويسأل أين كنتما كل تلك المدة.. وتدور تساؤلات حول الانتماء والوطن تعصف بالعديد من القناعات الماضية لتؤكد أن الإنسان قضية، و<<أن الوطن ليس هو الماضي فقط، وليس مجرد تفتيش تحت غبار الذاكرة، فلسطين أكثر من ذاكرة، أكثر من ريشة طاووس، أكثر من ولد>>.
وهكذا وأمام هزيمة سعيد. س بمواجهة دوف وبمواجهة القناعات الجديدة، لم يجد ما يدافع به عن نفسه سوى أن يضع دوف في ما ظنه مأزقا، حيث ادعى أن لديه ابنا آخر اسمه خالد وهو الآن مع الفدائيين فيما كان دائما يمنعه من الانضمام إليهم، ويسأل، إذا صدف وتجابهتما أنت وأخوك، فما هو موقفك؟ وتأتي الإجابة المريرة، إما أقتله وإما يقتلني، فلكل منا قضيته والإنسان قضية.
لم يكن أمام سعيد. س سوى الاعتراف بصدق تلك المقولة، الإنسان قضية بعيدا عن أي انتماء عرقي أو قومي أو طائفي، معلنا هزيمته في مهمته، فتسوية الأمر <<تحتاج لمعركة أخرى>>. فلا استرداد صورة فارس اللبدة ولا استعادة خلدون تعني شيئا.. وكل ذلك سيكتسب مشروعيته تلقائيا، فقط بعد استرداد الوطن.
ولعل الكاتب المبدع شاء برؤية استشرافية مبكرة التأكيد على عقم الحوار مع الآخر، الذي هو العدو الصهيوني.
ترتقي الرواية لذروة التحريض عبر إشارتها للصمت الذي لف سعيد. س وزوجته طيلة طريق العودة <<فقد ظل صامتا طوال الطريق، ولم يتلفظ بأي كلمة إلا حين وصل الى مشارف رام الله، عندها فقط نظر الى زوجته وقال: <<أرجو أن يكون خالد قد ذهب.. أثناء غيابنا>>.
لقد تم تناول هذه الرواية كمرجع لعملين سينمائيين، أولهما حمل نفس عنوان الرواية <<عائد الى حيفا>> مجسدا أحداث وشخوص الرواية كما وردت عند غسان، وأنجز في زمن إنجاز الرواية تقريبا، حيث الواقع لم يتبدل بين زمن الرواية وزمن الفيلم.
أما ثانيهما فقد حمل عنوانا مغايرا، المتبقي، ولكنه اتكأ على الحدث الأساسي في الرواية، الطفل المتروك في سريره وحيدا في أحد منازل حيفا، حيث تتبناه عائلة يهودية. وهنا يتدخل المخرج الإيراني مغيرا بالحدث الروائي، فيقتل الأب والأم عبر محاولاتهما الرجوع الى المنزل من أجل إنقاذ طفلهما، ويضيف للفيلم شخصية جديدة غير موجودة في الرواية وهي الجدة، التي تعمل المستحيل لإنقاذ الطفل من العائلة اليهودية، الى أن تتمكن من ذلك عبر مغامرة خطرة فهي الفلسطينية التي تحف بها الشكوك من كل جانب.
قراءتنا للفيلمين لا تهدف لتقييم فني، بل لزاوية تناول كل منهما في زمنين مختلفين: زمن الحلم والنهوض وزمن الهزيمة.
فالعمل الأول كان مطابقا تماما لأحداث الرواية، فيما جاء العمل الثاني <<المتبقي>> في زمن الهزيمة وهذا ما دفع المخرج الإيراني للتدخل في المعالجة بإملاءات من واقع ثورة مهزومة.. وأصبح الطفل <<خلدون>> وليس دوف هو <<المتبقي>> بما يحيله ذلك الى المستقبل، وأصبحت الجدة هي الراعية لمستقبل مغاير تغذيه ذاكرتها. إلا أن المخرج الإيراني أقحم دورا باعثا على الشك من موقف المسيحيين ضمن عملية الصراع، وذلك بسبب إيديولوجية سابقة دفعت به للقفز عن الواقع.
والسؤال هنا هل أساء مخرج المتبقي للرواية بتدخله بأحداثها وشخوصها ومصائرهم؟ والسؤال يستدعي سؤالاً آخر، لو أن غسان كتب عائد الى حيفا زمن هزيمة الثورة وتراجعها، أي زمن إنجاز فيلم المتبقي، هل كان كتبها بنفس الأحداث والهواجس؟ للإجابة عن ذلك لا بأس من العودة لقصة قصيرة كتبها غسان بعد هزيمة حزيران عام 1967، وهو زمن مشابه لزمن إنجاز المتبقي بعنوان: <<الطفل يكتشف أن المفتاح يشبه الفأس>>.
تتناول القصة منزلاً في إحدى قرى فلسطين الشمالية له باب كبير ليس كأبواب منازل القرية، وله مفتاح لا يشبهه أي من مفاتيح أبواب منازلها، فهو مفتاح يشبه الفأس. وهكذا أصبح معروفا لأهل القرية ب<<المفتاح>>. يرحل أهل القرية الى لبنان عبر رحلة اللجوء، ويصطحب بطل القصة مفتاحه في تلك الرحلة، ويضعه في غرفة الجلوس في منزله الجديد في بيروت، واضعا مسمارا في حلقة المفتاح وآخر تحت ذراعه بحيث أصبح متوازيا مع الأرض. ويتزوج الرجل ويرزق بابن يكبر مع السنين، فيما تعتمل في صدر الأب أمنية، أن تتحقق المعجزة ويكتشف الابن أن المفتاح يشبه الفأس.
في أحد الأيام يعود التيار الكهربائي بعد انقطاع، ويصدر عن المذياع القابع تحت المفتاح صوت عال، يسقط على اثره المسمار الذي تحت ذراعه، ويبدأ بحركة تشبه حركة بندول الساعة. (فجأة قال ابني <<انظر، انظر، إنه يشبه الفأس>>).
قصة مفعمة بالرموز، وقصة تتماهى مع اللحظة، وقصة تستشرف مستقبلاً مغايراً لزمن الهزيمة، فمعظم الشهداء الذين سقطوا على أرض فلسطين اكتشفوها، كما اكتشف طفل غسان أن المفتاح يشبه الفأس.
في تلك الأيام فعلت تلك القصة فعلها، وليس في الأمر مبالغة إذا قلنا إنها أعادت الكثير من التوازن لأولئك الذين أودت بهم الهزيمة الى أعماق اليأس وأخذوا ينظرون الى المستقبل بكثير من الأمل.
أليس في المتبقي صورة مشابهة لطفل غسان الذي اكتشف بعد سنين أن المفتاح يشبه الفأس؟ ثم أليس هو ذلك الطفل المتبقي في المتبقي الذي يبشر بمستقبل مغاير؟
مع كل انتصار، وبعد كل هزيمة نقول: ما أحوجنا الى غسان؟
سعيد البرغوثي