التسجيل قائمة الأعضاء



 
القدس لنا - سننتصر
عدد مرات النقر : 137,825
عدد  مرات الظهور : 162,233,296

اهداءات نور الأدب

العودة   منتديات نور الأدب > مـرافئ الأدب > هيئة النقد الأدبي > الدراسات > دراسات أدبية
إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 07 / 07 / 2010, 35 : 11 PM   رقم المشاركة : [1]
د.حسين جمعة
كاتب وأديب ، رئيس اتحاد الكتاب العرب

 الصورة الرمزية د.حسين جمعة
 





د.حسين جمعة is a jewel in the roughد.حسين جمعة is a jewel in the roughد.حسين جمعة is a jewel in the roughد.حسين جمعة is a jewel in the rough

دور الأدباء والكتاب في مواجهة الأزمات والنكبات ــــ أ.د.حسين جمعة

ــ مقدمة:
يحاول الإبداع أن يُجمِّل الحياة أو يصنع حياة أحلى من الخيال، وإلا فيمكنه أن يصورها بحلوها ومرها... فالنص الإبداعي يمتد في بعدي الزمان والمكان ليتشكل فناً موازياً للواقع الذاتي والموضوعي... أي إن الأنساق الخارجية تدخل إلى الذات المبدعة الداخلية لتنصهر بقوة الاستجابة للانفعال والحساسية المرهفة والرؤى الكامنة في الذهن... ولتصبح تجربة إبداعية ذات قيمة مميزة لصاحبها؛ وليصبح النص الإبداعي نتاجاً لدوافع عِدَّة...

وفي صميم ذلك يشتمل النص أسراراً شتى تحتاج إلى تفكيكها وتحليلها في إطار المرجعيات التي تعتمدها ثقافياً واجتماعياً وسياسياً وفنياً و... فالنص مخزون لرؤية ثقافية فكرية، وتعبير عن شعور عالٍ بالدوافع الخارجية والموضوعية... وهذا كله يضع الكتاب والأدباء أمام رسالتهم... فإذا اختار إنسان ما، أو دولة ما الدم والقتل والتدمير والتهجير، ورجع كل منهما إلى عصور وحشية وبهيمية، وشاعت مفاهيم الغابة كان على الكتاب والأدباء أن يرسموا صورة مقززة لذلك كله. فالمبدعون يمكنهم أن يسموا بالروح الإنسانية إلى الطهر والنقاء والإخاء... ويمكنهم أن ينتشلوا القاتل المجرم الأحمق من جنونه ومن انتكاسته إلى بهيميته الأولى.

أما إذا فرض القتل على الإنسان فلا بد له من أن يدافع عن وجوده وحياته، ويصبح المرء ملزماً حينذاك بالمجابهة، لأن الدم الشريف النقي يقاوم الدم القبيح الملوث بالشر والفساد والإفساد.

وهنا يغدو الدم المسفوح من الأحرار والشرفاء مثار إبداع للحرية والكرامة، ومثار رسالة للأدباء والكتاب تعنيهم قبل غيرهم لأنهم يمثلون ضمير الوطن والأمة، ويؤصلون قيم الانتماء والأخلاق في مجتمعاتهم...،

ومن ثم فعلاقة الأدباء والكتاب بالنكبات والأزمات التي تواجه وجودهم وحياتهم وهويتهم ومقدساتهم وثقافتهم وتراثهم ليست علاقة طارئة أو جديدة؛ وإنما هي علاقة متجذرة في التاريخ والحياة؛ وهي رسالة خلقية وجمالية ضد كل أشكال القبح والشر؛ وبخاصة إذا كانت في مواجهة المحتل الغاصب والطامع في خيرات هذه الأمة قديماً وحديثاً أي إن رسالة الأدباء والكتاب تتجاوز الفردية الذاتية، والجزئيات التفصيلية التي يعتمدها السياسي ومصالحه الضيقة والمحدودة وإن وقع بعض الكتاب والمثقفين من الصف الأول في حالة التردد أو الصمت إذا كانت الأزمة خطيرة وعاصفة كما حدث في غزة أخيراً. أو سقط عدد منهم في الانحراف والإعراض والتبعية و... وهذا وذاك لا يغير رسالة الأديب الملتزم بقضايا مجتمعه أو وطنه وأمته؛ مدافعاً عنها مهما تعرض للعزلة أو النفي أو السجن، أو التعذيب أو القهر والإذلال، أو القتل...

وهذا ما سينهض به البحث بدءاً من تجلية المفاهيم، ومروراً بإيضاح أنواع الأزمات والنكبات وطبيعة مواجهتها وانتهاء بتقديمنا غزة أنموذجاً لطبيعة المواجهة ووظيفتها.

1ــ مفاهيم: النكبة والنكسة والأزمة
كثرت المصطلحات الفكرية والسياسية والعسكرية في أيامنا هذه؛ منها ما اتخذ دلالات وأبعاداً جديدة لم تكن لها في معناها الأول؛ ومنها ما ظل متصلاً بالمعنى الأصلي.

ولعل من سوء طالعنا أننا نعيش في عصر تبدل المفاهيم؛ أو تزييفها بكل وعي... نحن الجيل الذي تجرع الأزمات والنكبات والنكسات بكل أشكالها... فنحن عشنا على قصص اغتصاب فلسطين، ونكبة أهلها عام
(1948م) ومن ثم عشنا أحداثاً متصلة بها؛ في وقت تعاني منه الأمة العربية من التمزق والتخلف والجهل... وهذا يعني أن مواجهة الكتاب والأدباء للمآسي والمصائب تمثلت بأزمات شتى ونكبات تلو النكبات ما جعلهم مسكونين بالمفاهيم الخلقية والأدبية والفكرية و... محاولين استيعابها من جهة، ومجابهتها سلوكاً ووعياً من جهة أخرى... لهذا كان علينا أن نبرز مفهوم النكبة وارتباط النكسة بها، ثم مفهوم الأزمة كونها المفهوم الأشمل.

فالنكبة: المصيبة، وأصاب الدهر الإنسان بنكبة ونكبات ونكوب، ونَكْب، أي أصابته حوادثه بالنوازل الضارة؛ والهلاك المبير.

والنكباء: كل ريح، أو هي ريح بين ريحين... وهي تهلك المال، وتحبس القطر... ونكباء الشمال باردة جامدة تأتي على الحرث والضرع؛ ونكباء الجنوب حارة قاتلة تتناوح فيها الأصوات. (انظر لسان العرب: نكب)

لهذا كله أدركنا سبب تسمية أحداث عام (1948م) بين الصهاينة والعرب بالنكبة... إذ نكب العرب بصراعهم مع الصهاينة بمصائب كثيرة وكثر التناوح والبكاء والعويل لخسارتهم... ولم ينحصر مفهوم النكبة بالهزيمة العسكرية لذلك العام، وإنما اتخذت أبعاداً دلالية عامة في الاقتصاد والاجتماع والتعليم... وصارت جملة (نحن منكوبون بكذا وكذا) أي مبتلون ومصابون مشهورة على كل لسان...

فنحن منكوبون بأزمة النفاق والادّعاء، والكذب والشطارة و... ومنكوبون بضياع الهوية، والخصوصية الثقافية... فالنكبات في حياتنا غدت معضلة كبرى تقلب كل شيء رأساً على عقب...

ولهذا كله فالنكبة أكثر اتساعاً في الدلالة، وأعلى مقاماً في التأثير من النكسة؛ فإذا كانت النكبة خيبة ومرارة وهلاكاً في مجالات كثيرة فإن النكسة تنحصر في مجالات دون مجالات، علماً أنها ذلٌّ وصغار واستهزاء وضعف للأفراد والدول ، وفي اللغة نكس الإنسان رأسه إذا طأطأه من الذل والهوان، وعليه قوله تعالى: )ناكسو رؤوسهم عند ربهم( (السجدة: 32/12)... أي مائلو الرأس ومطرقوه خزياً وحياءً وندماً. لذا أراد العرب أن يقللوا من شأن هزيمتهم عام (1967م) مع الكيان الصهيوني فسموها نكسة. وشاع هذا الاصطلاح في المواجهة العسكرية التي أدت إلى تلك الهزيمة حتى صارت علماً لها فنقول نكسة (1967م)) أو انتكاسة... ولكن هذا لا يعني أن المصطلح اقتصر على هذا المعنى، فهو مصطلح شائع في مجال الطب، إذا ساءت حالة المريض، فنقول انتكس انتكاسة، ونكس نكسة...

أما الأزمة ــ مفرد الأزمات ــ فهي ذات دلالات كثيرة كلها تدل على الشدة والقحط والجدب والاستئصال والمصيبة مثلها مثل النكبة؛ وأعظم ... وقال العرب: أزمتهم السنة أَزْماً وأزمة، أي تتابعت في شدتها حتى استأصلتهم... والأزمة، ــ أيضاً ــ من الأَزْم، وهو المكان الضَيِّق بين جبلين والمأَزِم: المَضيق، والمأزوم: (اسم مفعول)... (اللسان أزم)

ولعل هذه الدلائل لا تغترب في طبيعتها ووظيفتها عما يدل عليه معنى الأزمة في الاستعمال المعاصر، ولكنه يتناوب بين الدلالة الحسية والدلالة المعنوية في الإطار الذاتي والفكري والسياسي والاجتماعي... فنقول هو مصاب بأزمة نفسية أو سياسية أو... أي شدة وضيق وتشويه وإلغاء؛ و... والأزمات تتنوع وتتلون، تصغر وتكبر، تدوم وتزول؛ أي قد تكون آنية أو مؤقتة تستشري في مجال ما على الصعيد الداخلي والخارجي وقد تكون دائمة... وهذا ما يمكن أن نشير إليه فيما يأتي.

2ــ أنواع الأزمات والنكبات
الأدب الذي يواجه الأزمات والنكبات ــ أياً كان نوعها ــ أدب إنساني يؤكد الانتماء الأصيل للأديب، ويثبت قيمة الهوية المميزة لطبيعة الشعوب المؤسسة على القيم الخلقية وكراهيتها لنزعة الشر التي تنتاب النفوس الضعيفة والمريضة. وفي ضوء ذلك فالأزمات أو النكبات ذات اتجاهات وأنواع شتى في حدتها ووطأتها وعمق تأثيرها في حياة الأفراد والمجتمعات والدول، فعلى الصعيد الداخلي هناك أزمات كثيرة مثل (أزمة الأمية، وأزمة التعليم، والثقافة... وأزمة التخلف، وأزمة الحرية، وأزمة العدالة، و.... وأزمة الإعلام، وأزمة المياه، وأزمة التلوث، وأزمة العمران، وأزمة الغاز، و... وأزمة الأسعار، وأزمة توزيع الثروة، والأزمة المالية، وأزمة البطالة، وأزمة العمالة، وأزمة التهريب، وأزمة الفساد، والأزمة الصحية و... وهناك أزمة محلية، وأخرى عربية، وأزمة دولية، و... وما يقع في مكان ما من أزمات قد لا يقع في مكان آخر كأزمة العمالة في الخليج ــ مثلاً ـ.

ومن ثم فإن الإحباطات التي تصيب الأدباء والكتاب من أزمة ما تحدث هنا أو هناك كثيرة.. تصل إلى حدّ الاضطراب النفسي والفكري، ما يؤدي بهم إلى حالة من الاستلاب ــ أحياناًــ والانعزال، مؤثرين السلامة... ولكن هذا ليس قاعدة فقد تصدى بعضهم لمعالجة عدد منها كما يحدث في حالة الكتابة عن الفساد كالرشوة وسوء توزيع الثروة،... إذ نسمع أصواتاً عالية تصرخ في وجه الفاسدين والمفسدين، أو تصرخ في وجه الظلم والاستبداد والقهر، ولو انتهى بها الأمر إلى السجن أو النفي أو..

ولاشيء أدل على هذا من صرخة عبد السلام حبيب في وجه الخونة؛ والفاسدين:

الويل لك

ياخائن الشعب الجريح

لن أستريح

حتى تموت... سأقتلك

باسم الوطن

باسم الجراح الراعفة

باسم الجموع الزاحفة

سأقتلك

وينبثق صراخ الأديب في وجه الفساد بكل ألوانه من عشقه العظيم للوطن الجميل الذي يستحق التضحية بالغالي والرخيص، كما فداه أولئك الشهداء الأبرار... ومن ثم تغدو الأزمة النفسية أشد مرارة على لسان كل أديب ملتزم بالجمال والصلاح والتقدم والتطور.

ويعد الشاعر الراحل محمد الماغوط واحداً من الأدباء المتقدمين في هذا المجال؛ حين راح يجرّب على تشكيل قصيدة الرؤيا الحُبْلى بالأفكار السياسية والاجتماعية؛ دون أن ينسى لغة الإثارة والإدهاش في العلامات اللغوية المحمولة على رؤى فكرية سياسية واجتماعية يتداولها العامة قبل الخاصة، وربما بلغتهم أحياناً، ولا شيء أدل على هذا من قوله الذي يعبر عن رؤية الأمل بالحرية؛ ومنه:

فأنا أسهر كثيراً يا أبي

أنا لاأنام

حياتي سواد وعبودية وانتظار

فأعطني طفولتي

وضحكاتي القديمة على شجرة الكرز

لأعطيك دموعي وحبيبتي وأشعاري

أما الشاعرة فادية غيبور فقد عبّرت بمزيد من رهافة الحس عن أزمات شتى حين تحدثت عن شهيد ضحى بنفسه ليعيش وطنه سيّداً حراً، يسعى أبناؤه إلى بنائه وطناً من أحسن الأوطان. ثم تخيلت هذا الشهيد يعود ليرى وطنه؛ فإذا به وطن غير الوطن الذي عاش فيه؛ إذ صار أكثر شقاء وبؤساً، وفقراً وجهلاً، لأن اللصوص والمرتشين والفاسدين عاثوا فيه دماراً؛ فما كان إلا أن يعود حزيناً باكياً، إذ قالت في قصيدتها (الشهيد):

لم يكنْ يحمل ورداً يومَ عادْ

كانَ في كفيهِ نارٌ ودخانٌ ورمادْ

وأغانٍ شاحبة

وعلى عشبِ ذراعيه تقاسيمُ حدادْ

وحكاياتُ البلاد الطيبة

لم يكنْ يحملُ ورداً

فهْوَ وردُ الأرضِ في هذا السّوادْ

***

حدّثوه عن قلوبٍ ماتت الأحلامُ فيها

عن عيونٍ فاتناتٍ لم تجدْ من يفتديها

عن غيومٍ مُثقلاتٍ بينابيعَ وألوانِ غلالٍ

لم تجدْ من يرتديها

حدّثوه عن عصافيرَ وأطفالٍ جياعٍ

عن قرى تخلعُ قمصان البراري

ثمّ تذوي ألماً من ساكنيها

حدّثوه عن حدودٍ مستعاره

عن جوازاتِ سفرْ

حدّثوه عن لصوصٍ ورعاةٍ

سرقوا ضَوْءَ القمرْ

حمَلَ العائدُ عينيهِ بعيداً...

وبكى..

ثمّ بكى..

وتوارى ذات يأسٍ

بينَ أشجارِ المطرْ

فالشاعرة مارست الكتابة الجمالية في صميم الرسالة التي تنبع من عملية الهدم والبناء لقضية من أهم القضايا التي يتعرض لها الوطن. ومن هنا ندرك أن النص الجيد يبرز نفسه في قوة حضوره المعبّر عن الانحياز إلى قضية الحرية والحق والتقدم والارتقاء... وفي صميم ذلك فإن الكاتب بما يملكه من ذائقة أدبية وحساسية مرهفة، ووعي متوفز يبصر ما لا يبصره غيره، ما يجعله يصوغ المألوف بطريقة غير مألوفة؛ إمعاناً في الفرادة والإثارة... وهو ما حرصت عليه الشاعرة فادية غيبور في قصيدتها السابقة.

وقد يتخذ الكلام عند أدباء آخرين وسائل شتى في مواجهة ذلك كأزمة اضطهاد المرأة ــ مثلاً ــ وطالما تناولها الأدباء قديماً وحديثاً.

ويعبر الأدباء والكتاب في معالجة ذلك عن صوت الشعور بفقدان العدالة والمساواة... حتى غدت الأزمة الاجتماعية ثم السياسية من أكثر ما تردد على ألسنتهم... على حين نجد الأدباء ــ غالباً ــ يبتعدون عن معالجة أزمات أخرى كالأزمة المالية التي تواجه العالم اليوم؛ إذ اقتصرت مواجهتها على المحللين الاقتصاديين وبيان مؤثراتها الاجتماعية والسياسية والثقافية....

فالكتاب الشرفاء يقفون ــ اليوم ــ في مجتمعاتهم كالأنبياء والرسل وهم يدعون إلى التمسك بالحياة الجميلة ثقافياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً و... ويدعون إلى التشبث بالأرض التي تمتلئ بالحرية والديمقراطية والعدل والمساواة... أي إن الكتاب والأدباء الأحرار يمثلون لحن الحياة الأبهى حين يدافعون عن كرامة الإنسان وسعادته وتقدمه وارتقائه، أو عن الإرادة الحرة والقيم الفاضلة والأخلاق السامية؛ أما أولئك الذين يقعون أسرى مصالحهم الضيقة، أو يسقطون في تبعية الحكام والخوف منهم أو من كل مستبد ظالم فإنهم لا يستحقون منا إلا الابتذال والسخرية... ولا يوجد أسوأ منهم إلا أولئك الذين وقفوا إلى جانب العدو خوفاً وجبناً، أو مراعاة لحساب الربح والخسارة فصمتت ألسنتهم صمتاً مخزياً، علماً أن بعضهم يضطلع بمسؤوليات كبرى... ويزعم أحدهم أنه من المبدعين العظام... فأمثال هؤلاء وأولئك يتراجعون إلى الظل حتى تنتهي الأزمة مع المحتل المعتدي أو الظالم... لأنهم ما عاشوا إلا على الانتهازية والارتزاق والتسلق، والادعاء والمتاجرة بالانتماءات الوطنية الفارغة... صحيح أن صمتهم يمثل أزمة لنا وللأمة لكن صمتهم أيضاً هو الذي كشف مواقعهم ما يفرض على الأدباء الأشراف التصدي لهم قبل الناس جميعاً.

فالكتاب حين يتحدثون عن الانعتاق من سجن الأزمات والنكبات الرهيب المجسَّد بالجهل والتخلف والفقر، والفساد والإفساد، والاستبداد والظلم؛ والتفرقة والتمزق والادّعاء، والنفاق و... فإنهم يتمردون على واقعهم القاسي، لينطلقوا إلى رحاب الإرادة الخيرة... وهم في ذلك يتحدون الأزمات التي تواجههم، مهما تعرضوا للأذى والضرر... لأن أي أزمة من أي نوع يمكن أن تغدو تدميراً لحياتهم وحياة أوطانهم وأمتهم وقتلاً للآمال والأحلام التي يحلمون بها في بناء الأوطان الحرة المستقلة العزيزة ولا سيما تلك الأزمات التي تتعلق بالحرية والديمقراطية...

فالأدباء يواجهون بالكلمة والموقف معاً مختلف الأزمات التي تهدد الحياة والوجود والانتماء والهوية والثقافة المتجذرة في الأمة وتراثها على الصعيدين الفردي والجماعي؛ فيتحركون بكل ثقة للتعبير الحضاري والثاقب عن هموم مجتمعهم وأمتهم وينحازون إلى قيمها، أياً كان المستوى الفني الذي يعبرون فيه عن مواقفهم... وتبقى أزمة الحرية بكل أنماطها من أعظم الأزمات التي تصدى لها الأدباء والكتاب... وحين فجر الثوار مقاومتهم للاحتلال الأجنبي كانوا ينشدون الكرامة والسعادة في أوطانهم... فلما رفعوا منارة الانتصار لكرامة الأوطان واستقلالها وسيادتها بدماء الشهداء الزكية من كل الشرائح بما فيها شريحة الكتاب والمثقفين والأدباء، كان على هذه الشريحة قبل غيرها أن تتصدى لجبروت الظلم والاستبداد والاحتلال كيفما وقع؛ ومن أي جهة جاء، وفق ما حدث لشهداء السادس من أيار عام (1916م).... وقد برهن الكتاب والأدباء في كل مرة على قبس الروح الثائرة المتوهجة لديهم... فقد أسهموا في حركة النضال الوطني والقومي، واستحضروا صور الماضي المشرق لاستنهاض أبناء الأمة... وهم الذين امتزجوا بمفهوم القلق الوجودي الحر الذي ينشد الحق والكرامة دون أن تقع غالبيتهم في إطار المنافع الضيقة والمحدودة. وبهذا تعد أزمة الاحتلال للأرض والدول من أبشع الأزمات والنكبات التي تهدد الوجود والحياة والحرية والاستقلال والسيادة و... ولذلك لا بد من مواجهتها بقوة، بالكلمة والموقف. ففقدان الأرض والكرامة مفتاح لكل الأزمات التي يعاني منها الأفراد والأوطان؛ ما يعني أن الأزمات التي تحدث بفعل العامل الخارجي أكثر خطراً وأعظم بشاعة من أي أزمة داخلية، مهما قيل عن ظلم ذوي القربى... ومن هنا نفهم نداء توفيق زيّاد في قصيدته (أناديكم): الثورة 24/ 1/ 2009م العدد
(13822)


أناديكم

أشد على أياديكم

وأبوس الأرض تحت نعالكم

وأقول: أفديكم

وأهديكم ضيا عيني

ودفء القلب أعطيكم

فمأساتي التي أحيا

نصيبي من مآسيكم

أناديكم

أشد على أياديكم

أنا ما هُنْت في وطني... ولا صَغَّرتُ أَكتافي

وقفت بوجه ظُلاَّمي

يتيماً عارياً حافي

حملت دمي على كفي

وما نكَّست أعلامي

وصُنت العشب فوق قبور أسلافي

أناديكم... أشد على أياديكم!!

فالشاعر أدرك قيمة فداء الأرض، واستشعر عظمة المقاومين من أجلها ما جعله يسعى إلى مقاسمة أولئك الأبطال كل ما يبوح به.

فالأدب ــ بهذا المعنى، ووفق ما وجدناه في النص السابق ــ هو العمق الحر للمشاعر الفياضة المتأججة بحب الوطن والأمة المغروس في التكوين الوجداني المستمد من تواصل العطاء النبيل بين الأديب والأرض. وفي صميم هذا الاتجاه كنا نستشعر موقف الأدباء ودورهم المميز في الحديث عن أرض الشتات، وحياة اللجوء بكل مراراتها وقسوتها ما جعلهم يضعون حق العودة إلى فلسطين نصب أعنيهم.

وحيثما تكن الجريمة واضحة تكن النكبة فاضحة؛ وحيثما تكن الإرادة المقاومة ثابتة تكن الشهامة والعزة متألقة.. وفي صميم ذلك يكمن عمل المبدعين من الكتاب والأدباء في الوسط الداخلي أو الخارجي وعلى أي مستوىً وصعيد... فكل أديب أو كاتب يوزع كلماته صرخة في حالكات الليالي، وظلام المسافرين على خيبة الأمل... فكل حرف يصبح منارة للسالكين وأنشودة يغردها بلبل في فروع الأيك... ومن ثم ظهر الكتاب والأدباء ــ أينما كانوا في الوطن العربي ــ شركاء في حيوية البحث عن الآمال الكبرى، والأحلام العظيمة للمصير المشترك للأمة ــ وقد دعونا جميعاً للوقوف بصدق ووعي لرؤية الواقع العربي المأزوم بأنماط شتى من المصائب داخلياً وخارجياً... فهم يتكلمون لغة واحدة في هذا الشأن؛ ويعتدون بتاريخهم النضالي الواحد ما يجعلهم ينادون بوحدتهم ووحدة أمتهم في مواجهة الأزمات والنكبات.

ولما كان أثر مواجهة الأزمات الداخلية ــ على أهميتها ــ ضعيفاً في أدب الأدباء والكتاب ــ وإن برز في إطار النقد السياسي ذي الأهداف النظرية والفكرية والحزبية ــ كان علينا أن نركز على طبيعة المواجهة ووظيفتها خارجياً ولاسيما في عُرف بتبني ثقافة المقاومة والتغني بها. وإبراز ذلك من خلال الأزمات الخارجية الممثلة بالاحتلال والهيمنة المباشرة وغير المباشرة بوصف الأدباء يمثلون ضمير مجتمعاتهم ويصنعون لها درب الحياة الشريفة المتحررة من الذل والخنوع والاستسلام والظلم والقهر والغطرسة...

3ــ طبيعة المواجهة ووظيفتها
1ــ طبيعة المواجهة:

يمكن للمرء أن يقتفي حركة الموجات الأدبية في الوطن العربي، وأن يستشعر أثير الحق فيها على جناح الكلمة المحمولة على الأحلام المفعمة بالحياة والمرتدية لثوب المجد والكرامة في إطار مفهوم ثقافة المقاومة... ولو تعقب ذلك لملُئت مجلدات في هذا الشأن أو ذاك، وكل كاتب أو أديب تجاوز طبيعة البكاء على الأطلال، أو الخوض في أبواب التنظير... فقد كان الجرح يكبر في الذات الإبداعية، ويطوّق مشاعر الأديب ليفيض كلمات شفّافة معبرة ومثيرة للنفوس من مراقدها ابتداء من استنكار مجازر كفرقاسم ودير ياسين ووصولاً إلى مذابح صبرا وشاتيلا، إلى محرقة بيت لاهيا ومخيم جباليا...

لهذا انحاز الأدباء والكتاب إلى قضايا أمتهم، وطفقوا يقدّمون الهدف من الأدب والكتابة الملتزمة، في صميم الأزمة أو الحدث الذي ترك في نفوسهم ندبات عظيمة.

ويمكن للمرء ــ أيضاً ــ أن يتتبع مع كل كلمة عتمة النفوس المتأرجحة على عتمة الذل والقهر والاحتلال؛ وهي ترنو إلى ضوء صغير يلمع في نهاية النفق المظلم... فيعيش بين وجع الجسد وعشق الروح في انتمائها إلى عمق الصفاء والألق الحر... ومن ثم يعيش في أمل الخلاص من أي نمط من أنماط الإذلال، و... فإذا كان حمام الدم في ساحات الصراع يقف في وجه الجلاد القاتل لترفع الضحية هامتها في ليل العتمة وتعلن انبثاق الفجر الساطع... فالدماء تغسل أصحاب النفوس الضعيفة، وتطهر ذهنية الخونة العملاء، وتتجه إلى البحث عن جدلية النصر بدل الهزيمة، مهما كان الخطر الداهم في حياتهم ووجودهم... ويظل الشعراء قنديلاً يشع بنوره الوضاء ليغسل درن النفوس؛ وهو يبحث عن الأمل الآتي مهما ازداد العرب تفسخاً؛ وحوصروا بالهزائم والنكبات، والخوف من كيان صهيوني مزروع في قلب الأرض العربية وقد تحصَّن بالسلاح والمال... فالأدباء يضعون أيديهم على العلة والمعلول بأسلوب واضح ودقيق، لأنهم أدركوا قبل غيرهم سبب الهزيمة في ساحة القتال، وأشاروا إليه. فالهزال المريض للأنظمة الرسمية ضعفاً وانقساماً وخوفاً وتردداً في اتخاذ المواقف الجريئة لمواجهة العدو الصهيوني كان وراء التوجه إلى الأطفال الذين طردوا الفزع والخوف والتردد من نفوسهم وراحوا يتصدون لآلة الفتك الصهيونية. وهذا ما وجدناه في قصيدة نزار قباني التي تحدث فيها عن بطولات الأطفال في الانتفاضة الأولى عام (1987م) وعنوانها (الغاضبون) ومنها قوله:

يا تلاميذ غزة

علمونا

بعض ما عندكم

فنحن نسينا

علمونا

بأن نكون رجالاً

فلدينا الرجال

صاروا عجينا

علمونا

كيف الحجارة تغدو

بين أيدي الأطفال

ماساً ثميناً

.....

قد لزمنا جحورنا

وطلبنا منكم

أن تقاتلوا التنينا

قد صغرنا أمامكم

ألف قرن

وكبرتم

خلال شهر قرونا

يا تلاميذ غزة

لا تعودوا

لكتاباتنا ولا تقرؤونا

نحن آباؤكم

فلا تشبهونا

نتعاطى القات السياسي

والقمع

ونبني مقابراً وسجونا

حررونا من عقدة الخوف فينا

واطردوا من رؤوسنا الأفيونا

علمونا فن التشبث بالأرض

يا أحباءنا الصغار سلاماً

جعل الله يومكم ياسمينا

.......

امطرونا بطولة وشموخاً

إن هذا العصر اليهودي وهم

سوف ينهار لو ملكنا اليقينا

فنزار قباني صرخ صرخة مدوية تقلب كل مفهوم تعلمناه؛ إذ لملم جراحه التي آلمته من مواقف الأنظمة العربية العاجزة والشعوب المقهورة بالخوف، والتردد و... وراح يتمرد على الواقع المرّ الذي يشاهده من أولئك الرجال الذين انكسروا أمام الخوف والتردد، وانتكسوا إلى ذواتهم يتأوّهون ويتمنون... من هنا كان توجه نزار قباني إلى أطفال الحجارة هي الذين هزموا الخوف من آلة القهر الصهيوني؛ ليندفعوا صواريخ قاتلة بأجسادهم وحجارتهم، وليهزموا فكرة العقلانية التي ميزت الحكام العرب.

فصرخة أطفال الحجارة لغة الأرض وإرادة التشبث بها؛ وجوهر الوجود الحي والكريم، ما جعلوا الشاعر يعلن للملأ كله بأن العصر الصهيوني الذي أرعب الأنظمة العربية الرسمية وَهْم، وسوف ينهار.

ولعل تحليل الأدب المقاوم في مواجهة الأزمات والنكبات ينتهي بنا إلى تحليل الشكل والمضمون على السواء؛ فإذا كان مواجهة مباشرة في التعبير عن اللحظة الآتية لجريمة من الجرائم فإن النص ــ فنياً ــ يتجه لحساب الشكل على المضمون، ولحساب المشاعر الجياشة على الرؤى العميقة... وليس هذا عيباً لأنه ينتمي إلى الأدب العاطفي النبيل، والأدب الإنساني النظيف في صدقه وحبه لوطنه، والتزامه بقضاياه وهمومه... ما يعني أن الأدب المقاوم في ساعة المعركة يتميّز عنه فيما بعدها... فالنص في المرحلة اللاحقة سيؤكد عملية معنى المعنى، على حين أن الأدب في المرحلة الشعورية لحالة الصراع العسكري سيؤكد الشعور الصادق والمعنى المباشر معاً.

ولذلك فلكل مرحلة آليات وصيغ مختلفة تتمخض عن الموقف زماناً ومكاناً وتفسح المجال عظيماً للمعالجة ذاتياً وموضوعياً.

ثم إن القراءة النقدية للأدب في حالة المواجهة المباشرة تتناول إعادة تشكيل النص وموقف الأديب من خلال التشكيل الشعوري الدلالي الصادق، لا من خلال الخيال الفني وإلا وقعت القراءة في البعد عن الموضوعية... وعلى الناقد أن يملأ الفراغات الكثيرة بين العبارات المشحونة بالانفعال والصدق الإنساني، ولا سيما حين يلجأ الأديب إلى التكرار وتمثيل الواقع المأساوي، والجرائم الفظيعة بحق الإنسانية لأن أي قارئ لا يمكنه أن يوقف الزمن عند لحظة ما فالنص ابن ذاتية منفعلة بالحدث في زمانه وبيئته الاجتماعية والثقافية، ولا بأس علينا في هذا المجال أن نشير إلى نص (ريتا والبندقية) للشاعر محمود درويش... فهو نص مقاوم من الدرجة المتميزة بما يحمله من الرموز الدالة على الكفاح والنضال (الأرض، الإنسان، الحرية، السجن، الجرح، المقاومة، السنديان، الزيتون و..) وكلها موظفة للارتباط بالانتماء إلى الهوية والأرض. فالشاعر كان محمولاً على سيف الحق المتعب بالتآمر وظلم الدول الكبرى للحق العربي في فلسطين. ومما قاله في هذا النص: (ديوان آخر الليل 1/92)

بين ريتا وعيوني بندقية

والذي يعرف ريتا ينحني

ويصلي لإله في العيون العسلية

فاستحضار البندقية رمز للمقاومة والوجود الحر، لهذا تحول النص من التعلق بالمرأة إلى التعلق بالبندقية لأنها تصون الوطن والمرأة معاً؛ ما يعني أنه نص يتميّز كثيراً عن نصه المعنون (وعاد في كفن). فهو في هذا النص يتحدث عن معاناة الشعب الفلسطيني من الاحتلال الصهيوني الذي أراد اقتلاعه من أرضه، بيد أنه أصر على التشبث بها على الرغم من أنه يلعق جراحه؛ ما يئس ولا استسلم... يفديها بروحه ويقاوم الغاصب المحتل بكل صلابة، فقد أيقن بأنه مشروع شهادة؛ ولهذا فنص شاعرنا محمول على عرش التضحية والفداء، ونضارة الغد الآتي الذي يفيض من شفافية الكلمات الشعرية التي تهفو إلى الحرية... ومنها قوله: (ديوان أوراق الزيتون ــ 10)

يحكون في بلادنا

يحكون في شجن

عن صاحبي الذي مضى

وعاد في كفن

ما قال حين زغردت خطاه خلف الباب

لأمه: الوداع!

ما قال للأحباب... للأصحاب:

موعدنا غداً،

ولم يضع رسالة كعادة المسافرين

تقول: إني عائد... وتسكت الظنون

ولم يخط كلمة...

تضيء ليل أمه التي...

تخاطب السماء والأشياء

فمحمود درويش مسكون بأمل العودة إلى جناح النضال والفداء؛ ملقياً وراء ظهره كُلَّ أشكال الضعف والعجز، وقد تسلح بالصبر والمقاومة، في جوهر العشق للسماء وشمسها المتألقة.

ومن هنا فما إن يرحل شاعر ما حتى يترك لمن بعده ذخيرة أدبية نضالية في مواجهة النكبات التي عانت منها أمته إبان حياته... لذلك فإن الأجيال بعده تتفيأ بخيمته الدافئة، وتنام في ظل أدبه المشحون بالعاطفة الصادقة والمحمولة على رؤى متميزة... فما زال (محمود درويش) الغائب الحاضر ينادينا إلى فلسطين إلى سيدة الأرض، أم الأرض. وما زال (غسان كنفاني) يسعنا في (خيمته)؛ الوطنية المليئة بعذابات الألق الوجودي عما آل إليه أبناء وطنه من مرارة وأحزان؛ ولا سيما حين سرقت أوطانهم أمام أنظارهم بالقوة والقهر... ومن هنا ننتقل إلى وظيفة الأدب.

2ــ وظيفة المواجهة:

يتجلى الأدب في مواجهة الأزمات والنكبات سيفاً قاطعاً لكل ألوان القيود، لأنه ينتشل النفس من الحزن والآهات والدموع والحسرة، والندم والقلق، والعدم والموت وينطلق بها إلى انعتاق كامل للمجتمع والأمة من هذه الحالات الضعيفة ليرتقي بهما إلى ألق المجد والعزة والاستبشار بالنصر أو نيل الشهادة العظيمة.

فوظيفة الأدب المقاوم للنكبات والأزمات وظيفة مقدسة نبيلة تسطع في مواجهة عالم الحقد والجريمة الوحشية والإبادة لبني البشر... ما يعني أن الأديب المقاوم يصبح لغز الألغاز في التعبير عما يشاهده ويشعر به بلغة الانزياحات الفنية والفكرية بعد أن تفاعل بالدهشة المقاتلة والصدمة المروعة لذلك.. فهو لم يقع في الخيبة والمرارة والبكاء كعامة الناس، لأنه ليس مثيلاً لهم بما يحمله من حساسية مرهفة ووعي شمولي عالٍ وفكر وقاد يتربع على عرش الثقافة الفنية والأدبية، ما يشي بأنه يتنبه على كل ما يجري، وينفتح عليه ليعبر عنه برؤية شعورية جادة وأصيلة... وليس مثيلاً للسياسي الذي حسب كل شأن بحساب الربح والخسارة سياسياً واقتصادياً، على الصعيدين المحلي والدولي... فحين يتبنى الأديب ثقافة المقاومة في مواجهة الحزن الوجودي من القهر والظلم والعنجهية؛ والحقد الذي تمارسه الصهيونية يمكن لبعض السياسيين أن يتبنوا خيارات أخرى...

وعليه فإن الأديب والمثقف أو الكاتب الملتزم يتبنى إيقاظ المشاعر الوطنية والقومية والخلقية للالتزام بقضايا مجتمعه؛ دون أن يعطّل مفهوم العقل في هذا الالتزام... فصور المآسي والنكبات تلح على القلب والعقل فتثير التوتر فيهما، ولا سيما إذا تلاحقت أمام عيني المبدع ما يثير لديه حساسية عالية لنبذ كل أشكال الصور المرعبة والمؤذية... ومن ثم يغدو الأدب شفاء للجراح والآلام الكثيرة التي تعاني منها الأمة في إطار المواجهة لا في إطار الهروب وهذا كله ما عبر عنه محمود درويش ذات يوم حين غنى للوطن الحر السيد فقال: (الديوان ــ 110).

وطني ليس حزمة من حكايا

ليس ذكرى، وليس حقل أَهِلَّهْ

وطني غضبة الغريب على الحزن

وطفل يريد عيداً وقبلهْ

ورياح ضاقت بحجرة سجن

هذه الأرض جلد عظمي

وقلبي

فوق أعشابها يطير كنحلهْ

علقوني على جدائل نخلهْ

واشنقوني فلن أخون النخلهْ

وقد شهد التاريخ العربي والإنساني حضوراً فاعلاً للكتاب والأدباء كلما ألمت النكبات والمآسي بأمتهم... وانبرى الكتاب يتتبعون حركة صراع الأحداث التي تجري بين ظهرانيهم...

هذا ما تأسس منذ العصر الجاهلي في الافتخار بمولد الشاعر المدافع عن أحساب القبيلة وأنسابها وأيامها، والمنافحة عن الهوية الواحدة إذا ألمَّت بها الأزمات وهذا ما مارسه شعراء الدعوة في عصر النبوة، واستمر إلى يومنا هذا.

فالأدباء والكتاب يسعون إلى تأكيد حقوق أمتهم الخلقية والثقافية والسياسية والاجتماعية بوصف هذه الحقوق حقوقاً حضارية ووجودية تؤكد المروءة والوفاء والحب والانتماء... ما يعني أن الدفاع عنها يعدّ رسالة إنسانية في إطار الانتماء الحي والفاعل لإرساء الوعي في النفوس. لهذا فإن كل واحد منهم يرسم الآفاق التي تؤكد ذلك كله، ما يثبت أن السلطة الأدبية والخلقية تمنح الأدباء قيادة الجماهير وتدعم موقفهم في إرساء وعي الإرادة العربية بالتمسك بالثوابت الوطنية والقومية، في الوقت الذي تسعى هذه السلطة إلى الإمساك بزمام تغيير الحياة نحو مبادئ الخير والجمال، أي إن الأدباء والكتاب يسعون إلى الارتقاء بالمجتمع إلى مشروع حياتي وطني خلقي وإنساني جميل... فهم يؤمنون بأن رسالتهم ليست مجرد رسالة فنية وأدبية وإنما هي رسالة تحمل وجوهاً كثيرة، وفي طليعتها تنوير مجتمعاتهم بالمحافظة على مصالح أوطانهم وأمتهم... أي إن أدبهم يغدو القوة الضاربة مادياً ومعنوياً لترتيب حياة الأوطان والأمة...

فالكتابة ــ أياً كان نوعها ــ إنما تعدُّ ضرباً من التحدي والمواجهة لكل صنوف الأزمات والفوضى والعنف والقتل والتدمير و... وهي تتأصل في النفس نتيجة استجابات، ومشاعر ورؤى متنوعة... فالوطن ــ مثلاً ــ ليس كلمة تلاك في الأفواه؛ وإنما هو شعور بالانتماء إلى أرض وثقافة ولغة وعادات وتقاليد و... بنمو ويرتقي ليصبح معادلاً موضوعياً للذات والوجود ... ما يجعله يغدو على لسان الأدباء قصيدة مرهفة تتغنى بها الشفاه، وهذا ما نستشفه من شعر محمود درويش في (أغنيات إلى الوطن) ومنها: (ديوان محمود درويش ــ 109).

وطني... يا أيها النسر الذي يغمد منقار اللهب

في عيوني

وطني إنا ولدنا وكبرنا بجراحك

وأكلنا شجر البلوط

كي نشهد ميلاد صباحك

ولهذا يظل الأدباء مشاعل نور على طريق الحرية والتضحية في سبيل الوطن، ويحاولون أن يمنحوا شجرة الحرية قامتها الباسقة والواضحة... لا أن يختبئوا في تلافيف الكلمات المهادنة والمستسلمة..

وبهذا يمنحون المجتمع القدرة على الثبات والنضال؛ وينشرون بحبر أقلامهم إرادة الشعب الذي لا يقهر ولا يذل مهما كانت حمامات الدم التي ترتكب بحقه قديماً وحديثاً. فالدماء والجراحات التي زكمت الأنوف، وغسلت الأجساد من أوضارها فتحت العيون على الأعداء الذين استخدموا آلة الفتك السوداء المتوحشة بحق الأبرياء.

وإذا كانت هذه الآلة قد فتكت بالجسد العربي ونثرت أشلاءه قطعاً وشظايا فإن الأدباء والكتاب استطاعوا أن يعيدوا الحياة إلى هذه الأشلاء المنثورة لتصرخ صرخة المقاومة المدوية بالنصر القادم... فالموت ليس مصير هذه الأمة الحضارية العظيمة، بل موعدها مع الحياة الكريمة والحرة بوصفها هدفها ومصيرها؛ لهذا رأوا أن منهج المقاومة وحده هو الذي يحقق ذلك لهذه الأمة...

وقد أكدت رواية (الأمانة)(1) لجمال جنيد هذا الخيار؛ فهي تروي حكاية عائلة هُجِّرت من مجدل شمس بسبب الاحتلال... الذي واجهته بعزيمة واقتدار؛ وضحت بالغالي والرخيص من أجله فاستشهد أبو عساف وراحت روحه تطوف في سماء بلدته لا تفارقها، فتراه يتابع كل صغيرة وكبيرة عنها... أما أم عساف فقد تمسكت بتراثها الشعبي الذي يؤصل انتماءها إلى التراث والثقافة التي نشأت عليها؛ فضلاً عن أغانيها الشعبية الدالة على حب الأرض والهوية الثقافية العربية. ثم إن أبناء الجولان لا ينامون على ضيم، فما زال الشباب ينضمون إلى مقاومة المحتل الصهيوني بدءاً من استشهاد عساف عام 1967 ومروراً بكل من انضم إلى المقاومة وفي طليعتهم ابن عمه فياض.. والأمانة ليست إلا البندقية التي خبأها الشهيد عساف تحت شجرة زيتون، لكي يستمر نضال أخيه زياد وغيره...

وهذا كله ينقلنا إلى (غزة) وبطولاتها وتضحياتها بوصفها النموذج الحي والحاضر.

4ــ غزة أنموذجاً:
ما حدث من العدوان الصهيوني الوحشي على غزة خلال (23) يوماً بدءاً من ظهيرة (السبت 27/12/2008م) حتى يوم الأحد (18/1/2009م) يفرض على كل إنسان قراءة نقدية وموضوعية عميقة ودقيقة.... قراءة توظف كل ما نملكه لرؤية الحقيقة، ومعرفة دور الكتاب والأدباء في حركة الصراع العربي ــ الصهيوني عامة، والعدوان على غزة خاصةً... فقد تأبَّت غزة على نعش الموت؛ إذ حبست دموعها، وواجهت نكبتها الدامية على درب المقاومة الحرة الأبية الشريفة من أجل أن تعيش الأمة كريمة عزيزة. لهذا ضحت بما يزيد على (1400) شهيد و(5700) جريح، جراحات كثير منهم خطيرة؛ ولا سيما أولئك الأطفال الأبرياء والنساء الماجدات اللواتي علقت أجسادهن بأديم تراب غزة...

فالصهاينة ــ لعقة الدم ــ لم يهدأ لهم بال حتى أخذوا يمعنون في ذبح الشعب العربي عامة والفلسطيني خاصة؛ وقد وصل الأمر ببعض قادتهم إلى حلم التخلص من هذا الشعب ولا سيما أهلنا في غزة... فاسحق رابين ــ رئيس الوزراء الأسبق ــ كان يتمنى أن يصحو ليرى أن البحر قد ابتلع غزة أما (أفيغدور ليبرمان) رئيس حزب (إسرائيل بيتنا) فقد حاضر في طلبة جامعة (بار إيلان) وخاطبهم قائلاً: (الحل موجود... كما فعلت الولايات المتحدة مع اليابان في الحرب؛ يجب إلقاء قنبلة نووية على القطاع وتدميره بالكامل، والانتهاء من هذه المشكلة نهائياً. وبذلك لا يكون من داعٍ لاحتلال غزة؛ ونتخلص من وصف العالم لنا بأننا قوة احتلال).

فشعب غزة كتم غيظه، وصمد صموداً أسطورياً كان معجزة للدنيا في التاريخ الحديث؛ وهو يواجه آلة الفتك الهمجية التي تسلحت بكل أنواع الأسلحة المحرمة والمدمرة...

فغزة مثلت إرادة الحياة والانتصار لها في مواجهة الصهاينة الذين تغنوا بصياغة مخططات الإبادة وتنفيذها... مخترقين كل مبادئ حقوق الإنسان والشرعة الدولية... وأرادوا تصفية القضية الفلسطينية برمتها من خلال القضاء على قوى المقاومة في غزة، مدعومين بالقرار الأمريكي والنفاق الأوروبي والانقسام العربي وضعفه المستمر.

وقد أذكت غزة مشاعر الأدباء والكتاب، وفتحت ذاكرتهم وعيونهم على الأبرياء الذين نذروا حياتهم للأرض، ورووا ذراتها بدمائهم الزكية... وطفقت غزة تنبت البطولة والقصائد التي ترود آفاقاً وصوراً للتضحيات والمجد والكرامة... فكل حرف في أدبياتهم كان يتوقدُّ بدم أولئك الأبرياء؛ في الوقت الذي كان يعبِّر عن ثقافة الموت والدمار والوحشية التي اتصف بها العدو الصهيوني الهمجي... إنه عدو لا يعيش إلا على القتل والدمار والاغتصاب؛ إنه يتلذذ برؤية الضحايا والأشلاء المنثورة هنا وهناك... فأحداث غزة الدامية تجذرت في مشاعر الأدباء وطفقوا يستشعرونها بكل أمل وحرقة، وينطلقون بها إلى آفاق الثأر... وهاهو ذا هارون هاشم رشيد يقول من قصيدة له: (الثورة ــ الأربعاء 7/ 1/ 2009م ــ العدد 13805)

دعيهم يعيشون في خسة





ويرمون بالنار ما يقدرون



دعيهم يصيدون أطفالنا





وأشياخنا إنهم مجرمون



مدينتنا لن تسيل الدموع

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
د.حسين جمعة غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 08 / 07 / 2010, 33 : 12 AM   رقم المشاركة : [2]
عادل سلطاني
شاعر

 الصورة الرمزية عادل سلطاني
 





عادل سلطاني has a reputation beyond reputeعادل سلطاني has a reputation beyond reputeعادل سلطاني has a reputation beyond reputeعادل سلطاني has a reputation beyond reputeعادل سلطاني has a reputation beyond reputeعادل سلطاني has a reputation beyond reputeعادل سلطاني has a reputation beyond reputeعادل سلطاني has a reputation beyond reputeعادل سلطاني has a reputation beyond reputeعادل سلطاني has a reputation beyond reputeعادل سلطاني has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: الجزائر

رد: دور الأدباء والكتاب في مواجهة الأزمات والنكبات ــــ أ.د.حسين جمعة

السلام عليكم ورحمة الله تعاللى وبركاته
ما أحوجنا أستاذي الفاضل الكريم لمثل هذه الدراسات الجادة الأكاديمية العلمية التي تسعى إلى إرساء الفعل الثقافي الفاعل وها أنت تعلن من خلال هذه الإطلالة أن المثقف "الفاعل" لم يمت من خلال شخصك الكريم وها أنت ذا ترجعه إلى ساحة الصراع وإلى المشهدية المبتغاة لتعانق جرح غزة وتعانق بالتالي القضية فما قيمة الإبداع إن لم يغير السياقات الواقعية ويحدث ثورة متمردة على البنى الجامدة في المجتمع وعلى الذاتي والموضوعي وعلى السائد المهيمن فالإبداع في المطلق إن لم يكن سيدي صنوا للتغيير وكشف الحقيقة وتعرية واقع النحن المتردي الغثائي الرازح تحت وطأة التخلف القاتلة حتى يتبوأ الريادية المثلى المبتغاة وإذا لم يكن الإبداع رساليا في ظروفنا المأزومة فمتى سيكون
بارك الله فيك سيدي الفاضل الكريم على هذه الدراسة الأكاديمية الجادة التي ترسي في الواقع المعيش هذا الفعل العلمي الإنساني الذي نحن في أمس الحاجة إليه لننهض من وهدتنا ونخرج من راهننا الغثائي ونتبوأ مكانة لائقة في الكون
دمت ودامت دراساتك التي تعري الواقع لمقاربة الحقيقة ولا شيء سوى الحقيقة
تقبل تحيات أخيك عادل سلطاني
عادل سلطاني غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 18 / 09 / 2010, 51 : 07 PM   رقم المشاركة : [3]
سها شريِّف
كاتب نور أدبي مشارك

 الصورة الرمزية سها شريِّف
 





سها شريِّف is on a distinguished road

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: سورية - حلب

رد: دور الأدباء والكتاب في مواجهة الأزمات والنكبات ــــ أ.د.حسين جمعة

الأديب الراقي والفاضل سيد الأصالة الدكتور حسين جمعة - رعاك ربي وحماك
ما أجمل النور المنبعث من جمال فكرك وجمال قلمك . كم نحن بحاجة إلى روحك الكبيرة منهل النور والحكمة كلما استقينا منها معرفة وضياء ازدادت تدفقاً وتوهجاً وإخلاصاً .
لا حرمنا الله من تواجدك
وزادك الله رقياً وحكمة وإبداعاً
سها شريِّف غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مواجهة الأزمات, د.حسين جمعة, دور الأدباء, والنكبات, والكتاب


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
اللغة العربية إرث متصل ـــ أ.د.حسين جمعة د.حسين جمعة اللغة العربية و قواعد الكتابة 1 27 / 07 / 2012 23 : 03 PM
معجم الأدباء والكتاب العرب طلعت سقيرق جمهورية كلّ العرب 1 28 / 07 / 2011 53 : 08 PM
طبيعة الثقافة الصهيونية ـــ أ.د.حسين جمعة د.حسين جمعة المقالة السياسية 1 28 / 09 / 2010 29 : 02 PM
أردوغان وسلَّم الارتقاء ـــ أ.د.حسين جمعة د.حسين جمعة المقالة السياسية 1 18 / 12 / 2009 27 : 09 PM
الشباب والوقت طريق الخلود ـــ أ.د.حسين جمعة د.حسين جمعة المقــالـة الأدبية 0 12 / 08 / 2009 04 : 01 PM


الساعة الآن 04 : 05 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى

|