التسجيل قائمة الأعضاء



 
القدس لنا - سننتصر
عدد مرات النقر : 137,825
عدد  مرات الظهور : 162,232,517

اهداءات نور الأدب

العودة   منتديات نور الأدب > مـرافئ الأدب > هيئة النقد الأدبي > نقد أدبي
إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 27 / 08 / 2010, 34 : 11 PM   رقم المشاركة : [1]
د.حسن حميد
قاص وأديب

 الصورة الرمزية د.حسن حميد
 




د.حسن حميد is on a distinguished road

قصيدة.. سالت أحزانها عن حدود أسطرها ـــ د.حسن حميد

[align=justify]
بدءاً،
وآخذاً بالعتبات، لابدّ لي من القول في نقطتين ارتكازيتين اثنتين هما، الأولى: إن نشأة الرواية الفلسطينية هي نشأة شبيهة بالنشأة التي اعتمدتها وقامت عليها الرواية العربية في (مصر، وسورية، ولبنان)، فقد ارتبطت هذه النشأة بالجهات الآتية:
1 ـ الصحافة، إن نشوء الصحافة وانتشارها في المدن العربية الكبرى، وتأييدها للنصوص الأدبية، ومنها النصوص السردية المكتوبة على شكل قصة قصيرة، أو رواية مسلسلة، أيدّ الذات المبدعة لدى الأدباء، فنهضوا إلى تأثيث المدونة السردية العربية التي صاغت القضايا السياسية والمشكلات والظواهر الاجتماعية صياغة أدبية، أوجزتها في نصوص قصصية وروائية أخذتها الصحافة بين تضاعيفها بكل التقدير والاعتبار.
2 ـ الترجمة، انشغلت الترجمة العربية، منذ بدايات القرن العشرين، بنقل أدبيات الشعوب المتقدمة حضارياً، وكان من بين هذه الأدبيات: الفلسفة، والأدب بأجناسه المختلفة، وقد سعى الكاتب العربي إلى تثقيف نفسه ونصه ليس من أجل محاكاة النص الأجنبي والاقتداء به وإنما من أجل صياغة قصصية وروائية نابعة من الطبيعة العربية. وبذلك صارت الترجمة مدونة إرشاد وليست مدونة محاكاة، ومدونة وعي فني وليست مدونة اقتباس عشوائي.
3 ـ الأحزاب السياسية: شكلت الأحزاب السياسية يداً داعمة للقراءة، والانفتاح على الحوار مع الآخر، والمثاقفة مع الشعوب، وبوابة لبلورة الوعي الطبقي، والوعي الفني، إذا ما عادت كتب التاريخ هي (المصدر الوحيد لمعرفة الحراك الاجتماعي لأي شعب من الشعوب ذلك لأن التاريخ في أغلبه الأعم. مادة كتبت بأنفاس الساسة، وجالت هنا وهناك بمباركة أيديهم، وقرّت برضا نفوسهم عنها.. لذلك نهض الأدب لمهمة كتابة تاريخ اجتماعي آخر للشعوب والبلدان من جهة، وللقضايا السياسية والمشكلات والظواهر الاجتماعية من جهة ثانية.. لهذا لا غرو أن يقول زعيم كبير هو لينين، إنه عرف تاريخ فرنسا من المدونة السردية التي كتبها بلزاك، وليس من التاريخ الرسمي الذي رضي عنه السادة وأهل الحكم في فرنسا.
4 ـ النقد، لقد زامن النقد الأدبي النصوص الأدبية عبر قولات، ونظرات كان هدفها تصويب خطأ الكاتب المبدع، وترشيداً للصياغة الفنية الناجزة، ذلك لأن كتباً نقدية كثيرة طالتها يد الترجمة فأتت عليها وبسطتها في الساحات الثقافية العربية؛ الأمر الذي شكل كينونة فلسفية نقدية لدى نفر ليس بالقليل من النقاد العرب، خصوصاً أولئك النقاد الذين لم تصبغ أرواحهم بالصبغات السياسية، لأن مثل تلك الصبغات جعلتهم يمشون في مسالك محددة، ويجولون في جزر محددة ثقافة، ورؤية، ومعنى.
النقطة الثانية التي أود الوقوف عندها هنا وضمن أحياز هذه العتبة، تتمثل في النص الأدبي المكتوب داخل الوطن الفلسطيني المحتل، فكما هو معروف، فإن الأدب الفلسطيني كان بادياً ومنتشراً، وله أعلامه، ومطابعه، ودور نشره وملتقياته، وصحفه، ونقاده، ومنابره.. قبل نكبة عام 1948، لكن بدءاً من عام النكبة تغيّرت وجهات هذا الأدب، كما تغيرت فلسفاته، وأطروحاته، والغايات التي سعى إليها.. فقد نُكب الفلسطينيون في معيلهم الرئيس (الأرض)، ونكبوا في تاريخهم، ومقاومتهم، وفقدهم لديارهم المقدسة، ودروبهم المباركة، وبياراتهم، وملاعب طفولتهم... ناهيك عن فقدانهم للطمأنينة والأمان وحلاوة العيش، وكذلك ناهيك عن أن حياتهم الجديدة استنبتت قضايا، ومشكلات، ومسائل، ومعاني لم تخطر ببال أحد منهم.. فقد كان اليتم الوطني ولوداً في المنافي، ولوداً للخيام، وقلة الحيلة، والأمراض، والتضييق على الحريات، والعجز الاجتماعي، والقلق الروحي، والاضطراب النفسي، والشكيات المؤبدة، والجروح الاجتماعية، والسياسية، والثقافية في آن معاً.. وقد صار لأرواح الفلسطينيين أمطارها الخاصة بها.. أمطار ساخنة، وموجعة، وجالدة، أمطار ذاكرة، وحنين، وأشواق، وفقد، وغياب، كما صار للفلسطينيين أمكنة جديدة (مخيمات، مقابر، قواعد فدائية) ودروبٌ جديدة (مقاومة عسكرية ومقاومة أدبية في البقاء، والحضور، والثقافة، والمستقبلية..)..
لكل هذا ظلت الذات العربية عطشى للارتواء من النص الأدبي المكتوب داخل الوطن الفلسطيني العزيز.. (قصة، شعر، رواية، مسرحية، أدب أطفال، مقالات..)
لكأن تلك النصوص صارت نبعة تذهب إليها الأرواح الأدبية طلباً للرواء، وتدور حولها لكي ترى أمكنة فلسطين، وأسماء قراها ومدنها، وغدرانها، ودروبها، وأشجارها، وتلالها، وجبالها، وأنهارها، وبحيراتها، ودور عبادتها، وأسواقها، وساحاتها، ومقاهيها، ومدارسها، وبياراتها، وحقولها، ونباتاتها، وأزهارها..
لهذا كنا في المنافي كفلسطينيين، وعرب في آن معاً نحتفي بالنص الأدبي المكتوب داخل الوطن الفلسطيني بوصفه كتابة مقدسة لأن الروح القدسي الفلسطيني مسها أو غمرها بالضوء المبارك.. عشنا هذه الحال مع كتابات إميل حبيبي السردية، وأشعار محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زيّاد، وسالم جبران، وراشد حسين، .. ولاسيما أن المناهج الدرسية، في المدارس الثانوية، باركت هذا الأدب فأخذته بكل الحفاوة إلى مدونة الكتب المدرسية التي يقرؤها الطلبة العرب، ومن بينهم طلبة فلسطين في المنافي، ليس لأن هذا الأدب يحكي عن فلسطين مكاناً وقضية وأزماناً آتية، وإنما لأن هذا الأدب يقوم على ركيزة المقاومة، وبعث الحياة الفلسطينية الجديدة التي لم ترضَ بقوانين الواقع الظالمة...
الآن أتذكر، وأنا طفل في الصفوف الأولى من مدرستي الإعدادية، كيف كنا، أنا وأترابي، نهرّب تلك النصوص تحت ثوبنا الوحيد، ملاصقة بجلودنا، من مخيم إلى مخيم، ومن حارة في المخيم إلى حارة أخرى.. ليس بوصف تلك النصوص مادة سرانية، وإنما بوصفها مادة مقاومة ولابدّ لها من أن تظل طيَّ السرانية، كذلك كنا نفعل مع أدبيات الثورة (الصحف، المناشير، الكتب..) وأزعم أن جلدي مازال يتحسس تلك اللُحمة ما بين النص الأدبي الفلسطيني.. ودمه عبر نوافذ الجسم.. أي لحمة الحبر ولحمة الدم ناهيك عن المخاوف والقلق، ثم ناهيك عن لذة الانتصار حين تصل النصوص والأدبيات إلى عناوينها المهدوفة..
من بين النصوص الأدبية التي قابلناها بالترحاب والمحبة والثناء، رواية سميح القاسم (الصورة الأخيرة في الألبوم) والتي صدرت عن دار ابن رشد في بيروت هذه الدار التي نشرت الكثير الكثير من الأدبيات الفلسطينية، أذكر أن ثمنها الغالي جداً في مستهل الثمانينات (ست ليرات لبنانية) حال دون اقتنائها بنسختها الأصلية، لذلك عملت بعض جهات م. ت. ف على تصويرها، فصارت بين أيدينا أشبه بكراسة سياسية ممنوعة رحنا نبدد حضورها المشع بين كتبنا المدرسية.
(الصورة الأخيرة في الألبوم) رواية متفلتة من ذات شعرية، تقف عند الأمكنة توصيفاً لا أبدع منه ولا أجمل، وعند الطرق والدروب والبيوت والقرى والمدن.. فتجول فيها مثلما تجول طيور الحمام في صفحات السماء، وتبدي من الوعي الفلسطيني، والحضور الوطني ما يفيض عن حدود حوضتها.. تماماً مثلما تمشي الأنهار إلى البيوت، والغابات، والدروب، والطرقات، وسفوح التلال والجبال، والمنحدرات.. حين تمسها كفُّ السماء بالرضا العميم..
رواية، لا أدري كم قرأنا، وكم تحدثنا عنها، وكم كرّزنا لها، وكم طبعناها، وكم أورثنا ما بها من روح وطني للآخرين، فلسطينيين وغير فلسطينيين، وكم تهاديناها في أعياد الميلاد،.. ومن النوادر والطرائف أن بعضاً منا، وقد أحس بسرانيتها وقدسيتها، فهي كتابة أدبية آتية من الناصرة بلد سيدنا المسيح عليخ السلام..، أخذها ليقرأها في دور العبادة (الإسلامية، والمسيحية)، وقد يكون السبب في هذا عائد أيضاً إلى ازدحام البيوت واكتظاظها في المخيمات...
الرواية (الصورة الأخيرة في الألبوم) تنهض بها شخصيات عدة، أكثرها بدواً شخصية (أمير) الطالب الجامعي الذي حاز شهادة الماجستير في العلوم السياسية، من جامعة القدس، والحائر حيرة المكان والزمان، فلا الشهادة تأخذه إلى ما يأمله ويتوق إليه (وظيفة، مكانة، سمعة..) ولا أهله (في البيت) يطيقون قعوده دونما عمل (أي عمل).. لهذا فإن الحيرة، والقلق، وضبابية المستقبل، والخوف، والأذى،.. كلها علامات صارت ندوباً بادية في ذات (أمير)، مثلما هي بادية في حواراته وأحاديثه وهواجسه الداخلية.. الأمر الذي يقوده إلى العمل في مطعم يهودي في تل أبيب، حيث يعمل ابن قريته (إبراهيم) فيه، إبراهيم الذي يشكل سنداً معنوياً لـ (أمير) لكي يبقيه في دائرة العمل، بعيداً عن (دائرة الانتظار).. في المطعم يتعرف (أمير) إلى (روثي) الفتاة اليهودية التي ترتاد المطعم مع أسرتها (الأب الذي يعمل ضابطاً كبيراً في الجيش، وأمها)، وفي أثناء تقديم الطعام للأسرة في المطعم، يندلق صحن الحساء على رتبة الضابط، فيغضب غضباً شديداً، وينعت العرب بأنهم لا يجيدون حتى هذا العمل البسيط لأنهم أغبياء، جهلة.. لا يصلحون لشيء، فما يكون من (أمير) إلا أن عاد إلى داخل المطعم ركضاً، فسحب شهادة (الماجستير) في العلوم السياسية ورماها في صحن (الحساء) وهو يقول:
"أجل يا حضرة الضابط. أنا لا أصلح لمهنة الغرسون، لكنني أصلح معلماً للعلوم السياسية‍ أنتم فرضتم عليَّ أن أصبح غرسوناً، ويجب أن تتحملوا النتائج، يجب أن تصمتوا حين يسقط الحساء على رتبكم العسكرية".
بدت هيئة (أمير) هيئة من يشرف على الجنون، فقد انشقت روحه عن غضبها كله، وعن معاناتها كلها.. أمام صمت الضابط الغاضب، وزوجته التي تبعته وقد أمسكت بحقيبة يدها إعلاناً منها لترك المكان، في حين مدت الابنة (روتي) يدها إلى الشهادة وسحبتها من صحن الحساء، وقد ابتل جزء منها.. ويظل (أمير) جامداً في وقفته لا ينقذه سوى إبراهيم الذي هرع إليه كي ينقذ المشهد من عقابيله، وكي يسترضي الضابط وأسرته الصغيرة، لكنه يخفق.. فقد نهض الضابط ولحقت به زوجته، وتلكأت ابنته الشابة وهي تنظر إلى (أمير).. وخرجت الأسرة من المطعم، وصوت الأب، الضابط الكبير، يهمهم:
ـ "تعالوا نبحث لنا عن مكان إنساني"..
ومن حسن حظ (أمير) أن صاحب المطعم (البالابوس) لم يكن موجوداً، وإلا فإن الطرد كان مصيره لا محالة.
ويلوم (إبراهيم) صديقه (أمير) على فعلته.. ويوصيه بأن عليه أن يكون هنا، في تل أبيب (مجرد لا شيء) أمام الزبائن وأمام صاحب المطعم، صفة (اللا شيء) هي التي ستكتب له الاستمرارية في العمل.
في اليوم الثاني، تحضر ابنة الضابط (روتي) وتسأل عن (أمير)، فقد أعجبها الشاب بعدما أحست بأنه صاحب كرامة وموقف، وأنه ليس عامل مطعم، وإنما الظروف (ظروف الاحتلال)، وظروفه كونه عربياً.. هي التي جعلته ينهض بأعباء نادل في مطعم. لقد أعطى كل ما لديه في الدراسة والتحصيل، وحاول أن يكون ملازماً لاختصاصه وشهادته، غير أن الظروف (العنصرية) قادته إلى هذا العمل كي يحمل الأطباق إلى الآخرين، وكي يغسلها، وكي يدرب جسده على عمل يدوي، كما يدرب عقله على الضمور والتلاشي، والغيبوبة الفكرية..
تأتي (روتي) كمفاجأة صباحية لتتعرف إلى (أمير) الطالب الجامعي، فهي جامعية أيضاً، تدرس الآداب، وتود أن تعتذر له لأن والدها أساء إليه، فيقابلها (أمير) بدفع من صديقه إبراهيم الذي تخوّف من مجيئها، وتقول له:
"تضايقت جداً مما حدث أمس، وأريد تنقية الجو".
فيقول (أمير) لها:
"ما حدث أمس يا آنسة ليس مسألة سياسية، بل مسألة اجتماعية إنسانية، مسألة سلوك وأخلاق ليس أكثر".
فتصر (روتي) أن المسألة كانت سياسية. تمييز، عنصري، وتنتهي المقابلة الأولى بأن يشرب الاثنان (روتي، وأمير) القهوة في المطعم.. كما تنتهي بأن تكون عتبة لمقابلات أخرى، تقود الفتاة إلى قرية (أمير) فتتعرف إلى أمه وأخيه (علي)، وصديقه الشيوعي (عبد الرحيم)..
أما الأب فقد كان غائباً لأن الموت التهمه حين زلت به قدمه من فوق (سقالة) في الطوابق العليا من بناء في مدينة (نتانيا).. فانقسم جسده إلى نصفين.. فذهب طي عمله، وصارت الأسرة طي اليتم.
(عبد الرحيم) شخصية تمثل المثقف السياسي، ابن الحزب الشيوعي الذي ينادي الجميع بتوصيفه الجميل (رفيق) حتى (روتي) الإسرائيلية يناديها بـ (رفيقة)، و(أم أمير) يناديها بـ (الرفيقة). ينهض عبد الرحيم بأعباء التكريز للحزب الشيوعي، يوزع المناشير، ويثقف الناس، يجلس في المقهى طويلاً يقضيه في النقاش والحوار، ويجول في القرية.. فيبدو كائناً متحركاً على الدوام.
و(علي) أخو (أمير) طالب متفوق في الشهادة الثانوية الإسرائيلية (بجروت)، لكن الجامعات الإسرائيلية ترفض قبوله، لذلك فهو يرى أن لا مستقبل له، وأن الضياع مصيره، وفي النهاية يعزم على مواصلة دراسة الطب في سورية. لكن قوات والد (روتي) الضابط الإسرائيلي الكبير، تضبطه وهو يتحرك شبحاً ليلياً، فتقتله مباشرة قرب الحدود السورية، وبذلك تنتهي رحلة البحث عن المستقبل وراء الحدود بخمود جسده، وانطفاء روحه.
(الأب) والد (روتي) ضابط له قناعة بأن قتل الفلسطينيين هو السبيل لحماية أمن (إسرائيل)، وأن ما من طريقة للتفاهم معهم سوى تصفيتهم، لدى هذا الضابط ألبوم كبير للصور تعرفه ابنته، وهو يحتوي على جميع صور ضحاياه التي يؤرخ لها باليوم، والساعة، والحادثة.. الصور كلها للضحايا الفلسطينيين الذين أجهز عليهم.. والألبوم تعرفه (روتي) الابنة كما تعرفه أمها، فالأب يعده مدونته الوطنية، بينما الابنة تعده مدونة عاره..
عبر تلك المداخلات والاختلاطات والعلاقات بين (روتي) اليهودية، و(أمير) الفلسطيني، وقناعة كل منهما أنهما حبيبان، أحدهما يحب الآخر ويتمنى صبحته المديدة، لكن الظروف الإسرائيلية، والتمييز العنصري بين (اليهودي) و(الفلسطيني)، ونظرة الاحتقار والانحطاط التي يصوبها الإسرائيليون إلى الفلسطينيين تحول دون استمرارية العلاقة... ثم إن استشهاد (علي) شقيق (أمير) يصير دماً جديداً عائقاً مضافاً للظروف، يحول دون مواصلة العلاقة بين الطرفين (أمير) و(روتي)..
وكذلك العلاقة المتعددة في تشعباتها التي ينهض بها (عبد الرحيم) مع (إبراهيم) و(روتي) و(أمير) و(علي)، و(أم أمير).. تجعله مثل الضوء كيفما تحرك فهو يكشف عن العلاقات، والأمكنة، والأحاديث، والآراء، والتوجهات..
عبد الرحيم هو الذي يذهب إلى المطعم في تل أبيب كي يخبر (أمير) بأن أخاه (علي) استشهد على الحدود السورية، وأنه موجود الآن في المشفى، وسيصلى عليه ويدفن في هذا النهار، وعليه أن يحضر جنازته..
الحوارات الأغنى والأهم في الرواية، والتي تصور نظرة الفلسطيني إلى البلاد تاريخاً، ومكاناً، ومستقبلاً، ونظرة اليهودي إلى البلاد تاريخاً، ومكاناً، ومستقبلاً.. هي الحوارات التي تدور بين الطالبين الجامعيين (روتي) اليهودية، و(أمير) الفلسطيني، يحدثها (أمير) عن أرض فلسطين البالغة 27 ألف كم2، والتي لم يكن لليهودي من نصيب فيها سوى ما يقارب الألفي كم2، في حين، وبعد عام 1948 صار اليهود يمتلكون 26 ألف كم2، ويحدثها عن الانشقاقات القومية، والطائفية، والمذهبية، والعائلية، التي تفتعلها السلطات الإسرائيلية، وعن سياسة التجهيل التي تمارس عليهم وعلى كل الصعد، وعن التمييز في مجالات التطوير، والعمل، والصحة، والفنون، والرياضة.. وحين تود (روتي) المغادرة وقد فاضت الحوارات عن حدودها وحارت بما تجيب، وطال عليهما الوقت.. تقول لـ (أمير):
"هيا يا أمير، لقد تأخرنا، وآن لي أن أعود وإلا، فإن أبي سيضع صورتي في ألبومه الرهيب).
ولم يكن (أمير) يفهم أو يعرف شيئاً عن (ألبوم) والدها الضابط.. لكن في النهاية يعرف ويفهم ماذا تعنيه الابنة (روتي) بألبوم والدها، حين توضع صورة شقيقه فيه.. كضحية من آخر ضحاياه..
وعندما يقتحم الطلبة اليهود، هدأة (روتي) في المكتبة، وهي تكتب مقالة عن (هاملت) شكسبير، يرمون لها بالجريدة التي تصور والدها (البطل) وأخبار قتله لـ (علي) آخر ضحاياه.. ترى (روتي) الجريدة؛ ترى صورة والدها، وترى صورة (علي) شقيق (أمير) فتشهق، لأن هذا الدم، هذه الضحية، هذا الفعل الإجرامي سيكون جداراً بينها وبين أمير.. ترى الصورة وتتمعن فيها وثناءات الطلبة تسقط فوق رأسها.. وهم يبجلون عمل والدها الذي يدافع عن أمن (إسرائيل).. وما بين الصورة والثناءات تغيب روح (روتي) عن الوعي.. فتحمل إلى المشفى وترقد فيه، وهي التي حرقت كل مراكبها لكي تكون لحبيبها (أمير)، فهي لم تقبل فكرة والدها المرغبة لها بالضابط (يورام) الذي تقدم لخطبتها.. ترفضه لأنه صورة جديدة منسوخة عن صورة والدها القاتل، إنه مجرد إعادة إنتاج لفعل أبيها في ثوب (يورام) الجديد.. تكره الجيش والضابط.. وتصرح بذلك جهاراً، عندئذٍ يقول لها والده:
"الدولة هي الجيش، والجيش هو الدولة.. لولا الجيش لما كنت هنا الآن تتناولين فطورك بأمن وطمأنينة، لولا الجيش لكنت الآن سبية في حريم الأمراء العرب..".
في المشفى، يهرع الأب والأم كي يلتحقا بالابنة (روتي). وهي بين الحياة والموت، وطي طيوف الغيبوبة.. تمد (روتي) يدها نحو حقيبتها، تخرج هويتها، تنتزع صورتها، وتمدّها نحو والدها الضابط الكبير كي يضعها كصورة أخيرة في إلبومه الرهيب.
"يتململ جسد (روتي)، الومضة الأخيرة قبل أبد العتمة، تحول عينيها ببطء وقسوة نحو حقيبة يدها، تهرع أمها وتدفع إليها بالحقيبة، الومضة الأخيرة قبل أبد العتمة.. ببطء وقوة تخرج (روتي) بطاقة هويتها، ببطء وقسوة تنزع صورتها من الهوية، الومضة الأخيرة، يتجمع كل ما ظلَّ فيها من طاقة في ذراعها النحيلة.. ترفع ذراعها وقد أمسكت صورتها بأطراف أصابعها، الومضة الأخيرة، توجه الصورة نحو والدها كأصبع الاتهام، تحاول أن تقول شيئاً ما، إنها تقول شيئاً ما، وقبل خمود الرمق الأخير، كانت (روتي) قد أتمت عبارتها: لتكن هذه الصورة الأخيرة في الألبوم". وتنطفئ مثل شمعة.
(الصورة الأخيرة في الألبوم)، رواية قليلة الصفحات، كبيرة المعاني، قصيدة سالت أحزانها عن حدود أسطرها.. كي ترسم لنا مشهدية الأذى، والعنصرية، والقلق، والظلم في شقها الأول.. والصبر، والصمود، والعمل، والجولان الروحي، والثبات على المبدأ والهوية في شقها الثاني..
قصيدة فرّت من يدي سميح القاسم الشاعر.. مثلما تفرّ طريدة نجت من قوس صيادها.. نحو ضفة البحيرة الثانية.[/align]

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
د.حسن حميد غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 19 / 10 / 2010, 59 : 01 PM   رقم المشاركة : [2]
نصيرة تختوخ
أديبة ومترجمة / مدرسة رياضيات

 الصورة الرمزية نصيرة تختوخ
 





نصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond repute

رد: قصيدة.. سالت أحزانها عن حدود أسطرها ـــ د.حسن حميد

رائع أن نتعرف على رواية سميح القاسم من خلال قارئ مميز ومحب لها.
وضعتنا د. حسن أمام مشاهد الرواية بامتياز و قبلها في جو المخيمات و بين الفلسطينيين الشغوفين بأرضهم و أدبهم .
تقديري لما قدمت،
تحيتي
نصيرة تختوخ غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
نشأت الرواية الفلسطينية, نقد قصيدة سميح القاسم, د.حسن حميد, سالت أحزانها


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الشاعر الإسرائيلي يوناتان يهدي التّميمي قصيدة!! محمد الصالح الجزائري إسرائيليات 8 24 / 01 / 2018 30 : 09 PM
نعمتا تخزين الماء و إيصالها د. محمد رأفت عثمان الإعجاز.القرآني.والمناسبات.الدينية والمناظرات 1 23 / 10 / 2015 44 : 07 AM
حوار صامت زاهية بنت البحر الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. 3 01 / 05 / 2010 42 : 04 PM
ترجمة قصيدة "عذابي لا حدود له " للأستاذ طلعت سقيرق رشيد الميموني Talaat Skairek-Translate his poems, and various of Literary texts 0 19 / 05 / 2008 38 : 01 PM
قصيدة لحسان بن ثابت يمدح من خلالها رسول الله صلى الله عليه وسلم كنان سقيرق الشعر والنشيد الإسلامي 1 25 / 01 / 2008 38 : 04 AM


الساعة الآن 02 : 05 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى

|