مشهد من الحياة .... هدية في عيد الأم
مشهـــدٌ من الحيــــاة
أُهديهِ في عيد الأمّ
بقلم : عبد المنعم (محمّد خير) إسبير
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالميّة
أيّتها الأمّ النبيلة ..والمدْرَسة الفاضلة
تلك التي تعلّمت وعمِلت بماعلِمت وعلّمت،وجاهدَتْ في سبيل إصلاح ذاتها وصلاح أولادها،
.فزرعت فأنبتت وأوفت، وجمعت شتاتهم على الحق والخير والإيمان ووحّدت
إنّا نترقب محفل عيدك السنوي الدوري الدائم ، لنسعى فيه الى تمجيدك، فنجمع الأزاهير من رياض أمومتك الحقّة، لنصنع منها أطواق محبّة وتقدير نطوّق بها عنقك ، وننحني لنطبع على يدك البيضاء قبلة احترام وإجلال .
أمّا أنت أيتّها الأمّ
التي أسرَفت على نفسها فقصّرَتْ ، وزرعَت فما أنبتَتْ ، وأهدَرَت فما وفّرَت ، وحملتِ الأمانةَ فما أوفَتْ ، أقدّم لك مشهداً حزيناً رأيته في حياتي ، وكم رأيت منه الكثير ، علّ ذلك المشهد يكون ، هدية تذكير وتبصير وتحذير ، لك ولمن أنبتَكِ في الحياة أمّا قاصرة مقصّرة فلربّما كنت أنت أيضاً قبل أولادكِ ضحية القصور والتقصير من قِبَل أولياء أمرك .
في العام المنصرم ، كنتُ أقف قرب باب مدرسة ثانويّة يدرس فيها حفيدي ، أنتظرُ خروجه ومعه نتائج الإختبارات السنويّة النّهائيّة رغم ثقتي بأنّه من النّاجحين ، وإذ بي ألمحُ ابنَ أحد أصدقائي خارجاً من المدرسة يبكي بصمتٍ ، وما إن رآني حتّى أسرعَ في خطاه باتّجاهٍ آخرَ ليتجنّبَ لقائي ، وكنت أعلمُ بأنه كسولٌ في دراسته ، فكثيراً ما كنتُ أنصحه وأحرّضه على الإجتهاد خلال السنة الدراسيّة ،وأُبصّرهُ بعاقبة الكسل والّلهو وإضاعة الوقت في اللّعب والتسكّعِ في الطريق،فأسرعتُ نحوهُ لأخفّف عنه بكلماتٍ طيبة يقتضيها الموقف ، إذ من الحكمة ألاّ تعاقبَ إنساناً عاقب نفسه بالبكاء والخجل والنّدامة قبل أن يُعاقَب من قبل غيره، فذلك كافٍ لنضعه على طريق الهدى والصّلاحِ والإصلاح بالحكمة والموعظة الحسنة ، بدلاً من تأنيبه وتقريعهِ على انفرادٍ أو على مرأى من النّاس ، وحينما فعلْتُ ذلك ، ركَنَ إليَّ وقال وغصّةٌ في حلقه :
ــ أعلمُ سبب رسوبي ياعمي، أعلم سبب رسوبي . لعنَ الله الشيطانَ ورفاق السّوء.
ــ لاشيطانَ يعمل في نفسك، ، حينما يغشى الرّحمانِ فؤادك ، ذِكْراً وأداءً وإيماناً . فلا تُلْقِ الّلومَ على شيطانِ الجِنّة ، فقد يكون من النّاس أيضاً ، منك ومنّي ، فاستعذ بالله ( من الوسواسُُ الخنّاس، الّذي يوسوسُ في صدور النّاس ، من الجنّةِ والنّاس ) . أليس هذا ماورد في القرآن الكريم ؟. تعال معي لأوصلك الى بيتك .
ــ لاأستطيع أن ألتقي أمّي وأبي مع رسوبي ؟ دعني هنا على رصيف الشارع ، فلن أذهب إلى الدّار ، أرجوك.
ــ كيف تقول ذلك؟! هل الشارع سوف ينجّيكَ مما أنت فيه ؟
ــ كثيراً ماقضّيتُ فيه أوقاتاً طويلة حتّى أصبحتُ جزءاً منه لاجزءاً من بيتي .
ــ كانت غلطتك يابنيّ .
ــ بل غلطة أمّي في الأساس .
ــ كيف تقول ذلك ؟!
ــ كانت تفضّل أن أخرج إلى الشارع في كثير من الأوقات ، إمّا حينما تعود من وظيفتها الحكوميّة متعبة ،فلاتحتمل منّي ومن أختي أيّ خطأ فتضربني وتخرجني ، أو حينما لاتطيق أصوات لعبنا معاً ، أو حينما تدعو صديقاتها إلى ( استقبالاتٍ) في بيتنا ، أوحين يصيبني القلق ليلاً فلا أستطيع النّوم ، فكانت تفضّل أن أخرج إلى (الحارة) لأتلهّى مع أصحابي قبيل منتصف الّليل لتنفرد هي في مشاهدة برامج خاصّة تفضّلها !! وتقول لي لاتعد سريعاً !!
سكت طويلاً ثمّ أجاب:
ــ ليت لي أباً وأمّاً مثلك ، ولو كان لي ذلك لما رأيتني على هذه الحال ... على رصيف الشارع.
أمسكْتُ بيده ،وقبّلت رأسه قائلاً :
ــ بقاؤك في الشارع ليس حلاّ .
ــ وما الحلّ؟
ــ الحلّ يكون بالعزم على التصحيح ، تحمله إلى السنة الدراسية المقبلة ، سنة التصحيح إن شاء الله ، فكلّنا نُخطئ ، ولاعيب إن أخطأنا ولكن عيبٌ علينا إن تمادينا في أخطائنا ، وانحنينا أمام نتائجها بيأس واستسلام . قم ياولدي قَومةَ رجل يملك نفسه ولاتملكُه ، يتحدّى الخطأ ويتصدّى للفشل با لعزم والتوكّل على الله .
بينا نحن في غمرة التّحادث ، خرج حفيدي من المدرسة ضاحكاً مستبشراً ، فلحظ زميله معي ، فأشرت إليه إشارة فهم معناها ، فاقتصدَ في إظهار فرحة نجاحه ، وأقبل على زميله يعانقه وهما يبكيان ، فأحسن حفيدي صُنعاً بذلك إذ ليس من الرّحمة وحسنِ الخُلُق ، أن يستعرض المرءُ فرحتــــه( أية فرحة ) و نعمتهُ ( أيّة نعمة) أمام من افتقد الفرحة والنّعمة ، ويرقص على أسى الآخرين ؛ وما أكثر الخاطئين في تلك المواقف الإنسانيّة.
سألتُ حفيدي بعد إشارة خاصّة مني فهمها :
ــ هل تذكر ياوضّاح حديثاً للرسول الكريم يصف فيها القويّ ؟:
ــ نعم . فقد قال رسول الله : ليس الشديدُ بالصُّرَعة ، ولكن الشديد الّذي يملك نفسه عند الشدائد .
ــ هل سَمعْتَ ياولدي؟ ، هيا قم إلى بيتك ، وكنِِ الشديدَ الّذي عناه الرسول الكريم .
وغادرني إلى بيته ، لأجده في نهاية السنة الدراسية التالية يخرجُ من المدرسة ضاحكاً يقفز في الهواء من فرحة نجاحه ، ثمّ أقبل عليّ يبكي.
ــ أتبكي ثانية ياولدي ؟!
ــ من الفرحة ياعمّي ، شكراً لك على نصيحتك في السنة الماضية ، فالفضل لك بنجاحي .
ــ أستغفر الله ياولدي ممّا تقول، فاستغفرْهُ أنت أيضاً ، فالفضل لله أّولاً ، ثم لعزمك وتوكّلكَ عليه .
وأمسكت بيده لأنتهز الفرصة للمقاربة والمقارنة بين امتحانين ، فقلت :
ــ كيف رأيتَ نفسك بينَ الأمس واليوم؟
ــ الحمد لله فسعادتي الآن لاتوصف .
ــ أتسمح لي ياولدي أن أُذكِّرَكَ بامتحانٍ آخر ينتظرنا ، وكلّنا مقبلون عليه لامحالة؟
ــ تفضّل .
ــ في امتحانِ الماضي كنت على قارعة الطريق تبكي ألماً ، والآن أنت عليها تبكي فرحاً ، ألم تفكّر يوماً في مصيرك عند رسوبك في الإمتحان الأعظم ؟
ــ بدهشة بالغة سأل : وما هو ياعمّي أما اكتفينا من الإمتحانات ؟
ــ لا ياولدي ، هناك امتحان أعظم ينتظرنا .... أعني الإمتحان الإلهيّ ، امتحانك أمام الله ، يومَ الحساب ، يوم تشيب فيه الوِلْدان ، ألا يستحقّ منك التّفكّرَ والتدبّر والعمل من أجله ؟
سكت طويلاً ... ثم أدركَ مقصد كلامي ، فأطرق .... ثم أدمعَتْ عيناه .....
ــ أرى في دموعكَ خيراً وأملاً ياولدي ، وهذا أمْرٌ يُغنيك عن الجواب ويُسعدني.
أطرقَ ثم رفع رأسه تجاهي فلمحْتُ دموعه تتلالاً تحت أشعة الشمس كقطع الألماس ، وتتدحرج على خدّيه كقطر النّدى على أوراق زهر، ونظر إليّ بحسرة يغالب فيها نحيب بكاء غمر صوته :
ــ كم أتمنّى أن تكون أمّي وأبي ، كم أتمنّى .
ــ لا ياولدي ، أنت تخطئ ، فلأبويك فضل كبير عليك ، وسوف تُُحِسُّ به في المستقبل.
فهزّ برأسهِ كمن لمْ يقتنع بكلامي وقال :
ــ كن معي دائماً ياعمّي ...... فأنت أبي وأمّي .
تركتهُ يتّجه إلى بيته ، ومضيت ساهماً في طريقي ، أسترجع بيتين من قصيدة لي نظمتها في بداياتي:
تاللهِ لونِعَـــــمَ الإلهِ فقدتهـــــا وأبي يعيشُ ، فلاشقاءَ ولا غُمَمْ
جُرحُ البنوّةِ لا يُضمّده سوى أيدي الأبوّةِ في الدّنا وفـــؤادُ أمّ
********
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|