لَوْ كَانَ ذِئْبًا
لَوْ كَانَ ذِئْبًا
تَحَسَّسَ طَرِيقَهُ فِي الظَّلاَمِ الحَالِكِ نَحْوَ الحُدُودِ المَمْنُوعَةِ . لَمْ يَكُنْ يَسْمَعُ سِوَى ارْتِطَامِ حِذَائِهِ بِالحِجَارَةِ وَ طَقْطَقَةِ دَوْسِهِ عَلَى النَّبَاتِ اليَابِسِ . ازْدَادَ انْتِفَاضُ خَافِقِهِ لَمَّا انْحَدَرَ فِي اضْطِرَابٍ بَيْنَ أَجَمَاتِ الوَادِي القَرِيبِ المُلْتَحِفِ بِالمَوْتِ وَ المَجْهُولِ . لَمْ يَكَدْ يَبْلُغُ بَاطِنَهُ حَتَّى نَدَّتْ مِنَ العَدَمِ خَشْخَشَةٌ مُفَاجِئَةٌ جَعَلَتْهُ يَرْتَدُّ مُرْتَعِبًا وَ قَدْ انْفَلَتَتْ مِنْ حَلْقِهِ صَرْخَةٌ فَزِعَةٌ شَقَّتْ السُّكُونَ وَ تَرَدَّدَتْ فِي كُلِّ الأَنْحَاءِ .
تَشَبَّثَ بِجُلْمُودٍ كَانَ إِلَى جَانِبِهِ وَ أَصَاخَ مُرْتَعِشًا ، فَتَنَاهَى إِلَى سَمْعِهِ ، عَبْرَ دَقَّاتِ الرُّعْبِ ، وَقْعُ حَوَافِرٍ مُتَبَاعِدَةٍ نَحْوَ الأَعْمَقِ . لَمْلَمَ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَوَاصَلَ المَسِيرَ العَشْوَائِيَّ . هِيَ مَرَّتُهُ الأُولَى التِي يَعْبُرُ فِيهَا هَذَا المَمَرَّ الخَطِيرَ بِلاَ دَلِيلٍ وَ لاَ مُرْشِدٍ ، فِي عَسْعَسَةِ اللَّيْلِ بِلاَ نُورٍ وَ لاَ قَمَرٍ .
اجْتَازَ شَقَّ الأَرْضِ بِسَلاَمٍ وَ انْبَرَى فِي السَّهْلِ المُمْتَدِّ ، وَ قَدْ لاَحَتْ لَهُ عَبْرَ الأُفُقِ أَنْوَارٌ خَافِتَةٌ مُتَرَاقِصَةٌ ، أَنْبَأَتْهُ بِصِحَّةِ وِجْهَتِهِ فَتَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ ، وَ سَرَى فِي مَفَاصِلِهِ النَّشَاطُ .
لَمْ يَدْرِ كَمْ مَرَّ عَلَيْهِ مِنَ الوَقْتِ ، عِنْدَمَا صَكَّتْ آذَانَهُ زَمْجَرَةٌ مُخِيفَةٌُ ، بَدَأَتْ فِي التَّعَالِي تَدْرِيجِيًّا . ارْتَبَكَ ، وَتَلَفَّتَ فِي كُلِّ الأَنْحَاءِ ، فَكَانَ السَّوَادُ كَسَدٍّ عَالٍ يَحْجُبُ عَنْهُ الدُّنْيَا . هَلْ يُوَاصِلُ نَحْوَ القَرْيَةِ التِي يَصْبُو لِبُلُوغِهَا وَ قَدَ صَارَتْ قَرِيبَةً ؟ أَمْ يَعُودُ لِلْوَادِي وَ يَخْتَبِئُ ؟وَجَدَ فِي الحَلِّ الثَّانِي مَلاَذَ السَّلاَمَةِ . فَكَرَّ عَادِيًا وَسَطَ الفَرَاغِ المُعْتَمِ ، وَ الهَدِيرُ مُمْعِنٌ فِي الإِقْتِرَابِ أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ .
بَغْتَةً ، غَمَرَهُ ضَوْءٌ قَوِيٌّ مِنَ اليَمِينِ ، وَ هَالَهُ انْكِشَافُهُ فِي قَلْبِ العَرَاءِ . ضَاعَفَ جَرْيَهُ المُتَعَثِّرَ بِيَأْسٍ ، نَحْوَ وِجْهَةٍ لَمْ يَعُدْ يَدْرِيهَا . اقْتَرَبَتْ مِنْهُ السَّيَارَةُ بِسُرْعَةٍ ، لَكِنَّهَا لَمْ تَبْلُغْهُ . وَ بَدَأَ الضَّوْءُ فِي الإِشْتِعَالِ وَ الإِنْطِفَاءِ بِانْتِظَامٍ ، فَأصَابَهُ العَمَى ، وَخَرَّ نَحْوَ الأَرْضِ ، يُعَانِقُهَا فِي اسْتِسْلاَمٍ ، وَ انْتَظَرَ المَجْهُولَ .
نَزَلَ رَاكِبُوا العَرَبَةِ مُتَصَايِحِينَ ، وَ قَدْ أَشْهَرُوا نَحْوَهُ أَسْلِحَتَهُمْ المُرْعِبَةَ ، وَهُوَ إِزَاءَهُمْ أَعْزَلٌ مَشْلُولٌ . تَقَدَّمُوا فِي حَذَرٍ وَ انْقَضُّوا عَلَى الفَرِيسَةِ الخَاضِعَةِ ، كَالكَوَاسِرِ . جَرَّدُوهُ مِنْ كُلِّ مَا لَبِسَ مَعَ التَّفْتِيشِ . أَقَامَهُ ، بَعْدَهَا ، أَحَدُهُمْ وَ دَفَعَهُ إِلَى الآلِيَّةِ دَفْعًا ، وَ هُوَ يَسُبُّهُ وَ أَهْلَهُ . أَحْكَمُوا شَدَّ وَثَاقِ يَدِهِ إِلَى أَعْلَى نُقْطَةٍ فِي الهَيْكَلِ الحَدِيدِيِّ . تَنَاوَلَهُ أَضْخَمُهُمْ ، وَ طَفِقَ يَنْقُرُ جَبْهَتَهُ المُعَفَّرَةَ بِمُؤَخَّرِ المُسَدَّسِ ، وَ هُوَ يُمْطِرُهُ بِسَيْلِ أَسْئِلَةٍ دُونَ انْتِظَارِ الإِجَابَةِ . تَحَوَّلَتْ النَّقَرَاتُ إِلَى طَرْقٍ تَجَاوَزَ مَرْحَلَةَ الأَلَمِ إِلَى أُخْرَى مَمْزُوجَةٍ بِالدَّمِ . انْحَدَرَ السَّائِلُ الدَّافِئُ إِلَى عَيْنَيْهِ ، وَوَاصَلَ مَسِيرَةَ التَّحَرُّرِ إِلَى أَسْفَلِ وَجْهِهِ ، مُنْسَابًا ، بَعْدَ تَزَاوُجِه مَعَ التُّرَابِ وَ العَرَقِ ... وَ الدَّمْعِ . حَاوَلَ التَّكَلُّمَ ، فَتَكَسَّرَتْ الحُرُوفُ عَلَى صَخْرَةِ ارْتِعَاشِهِ ، وَ ذَابَ صَوْتُهُ فِي صَدَى التَّرَدُّدِ . كَانُوا ثَلاَثَةً مِنْ عَنَاصِرِ الجَيْشِ الحُدُودِيِّ ، شَبَابًا يَافِعًا ، رَأَى فِيهِمْ وَلَدَهُ الوَحِيدَ . كَانَتْ تَفُوحُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ نَجَاسَةُ الخَمْرِ ، وَ مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ بَذَاءَةُ الظُّلْمِ ، وَ مِنْ قُلُوبِهِمْ سُمُومُ التَّشَفِّي ، وَمِنْ أَفْعَالِهِمْ بَشَاعَةُ الإِنْتِقَامِ . اسْتَجْدَى مِنْهُمْ الرَّحْمَةَ ، فَاسْتَمْتَعُوا . أَقْسَمَ عَلَى بَرَاءَتِهِ ، فَكَذَّبُوا . طَلَبَ السَّتْرَ ، فَامْتَنَعُوا . هَدَّدُوهُ بِتَقْطِيعِ الأَوْصَالِ إِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ . أَرَادُوهُ أَنْ يُبَرِّرَ غَايَتَهُ مِنْ زِيَارَةٍ غَيْرِ مَرْغُوبَةٍ لِبَلَدِهِمْ . نَاوَرُوهُ لِيَكْشِفُوا مُعَاوِنِيهِ ، وَ المُنَظَّمَةَ الإِرْهَابِيَّةَ التِي تُحَرِّضُهُ عَلَيْهِمْ ...
مَزَّقَهُ مَا سَمِعَ ، وَ لَجَأَ إِلَى البُكَاءِ الذَّلُولِ الأَخْرَسِ .
لَمَّا يَئِسُوا مِنْهُ ، بَدَؤُوا يَكِيلُونَ لَهُ الإِهَانَةَ وَ القَبَضَاتَ وَ الرَّكْلَ ، وَتَفَنَّنُوا حَتَّى أَحْجَمَهُمْ التَّعَبُ . تَرَكُوهُ مُتَوَعِّدِينَ ، وَ انْحَشَرُوا فِي الدَّاخِلِ ، لِيُتْرِعُوا الكُؤُوسَ وَ يَنْعَمُوا بِدِفْءِ المُكَيِّفِ . بَقِيَ مُعَلَّقًا فِي الصَّقِيعِ المُتَضَاعِفِ ، الذِي رَحَّبَ بِنَهْشِ جَسَدِهِ العَارِي ، المُضَرَّجِ . غََرِقَ فِي دَوَّامَةِ الحَيْرَةِ وَ الوَجَعِ وَ الغُصَّةِ .
وَدَّ لَوْ كَانَتْ لَهُ إِرَادَةُ الذِّئْبِ ، فَيَنْقَضُّ عَلَى مِعْصَمِهِ الذِي يَشُدُّهُ لِلْفُولاَذِ الصَّدِئِ بِأَسْنَانِهِ ، وَ يَنْهَشُهُ حَتَّى يَفْصِلَهُ ، فيَمْنَحُ لِبَقِيَّتِهِ حُرِّيَّةً أَمْسَتْ عَزِيزَةَ المَنَالِ ... أَمِلَ أَنْ تَكُونَ مِحْنَتُهُ مُجَرَّدَ كَابُوسٍ ، قَدْ يَزُولُ فِي أَيَّةِ لَحْظَةٍ ... تَخَيَّلَ إِطْلاَلَةَ الفَارِسِ المُنْقِذِ مِنْ ثَنَايَا أَمْجَادٍ انْدَثَرَتْ ... لَكِنَّ وَاقِعَهُ كَانَ أَبْشَعَ مِنْ أَطْيَافِ الأَمَانِي المُتَفَائِلَةِ ، وَ أَبْلَغُ مِنَ الأَوْهَامِ الحَالِمَةِ .
لَمْ يَسْتَمْتِعْ بِصُحْبَةِ اللَّيْلِ الطَّوِيلِ ، الثَّقِيلِ ، الذِي أَشْرَبَهُ كُلَّ يَأْسِ الأَرْضِ وَ عَذََابَهَا . لَكِنْ دَبَّ فِيهِ بَعْضُ الرُّوحِ بِتَنَفُّسِ الصُّبْحِ ، وَ تَشَكَّلَتْ المَعَالِمُ مِنْ حَوْلِهِ دَاكِنَةً ، جَامِدَةً ، غَيْرَ آبِهَةٍ بِهِ أَوْ بِهِمْ . وَ صَعَقَتْهُ رُؤْيَةُ الوَادِي ، قَرِيبًا مِنْهُ إِلَى حَدٍّ كَادَ مِنْهُ قَلْبُهُ أَنْ يَتَوَقَّفَ !!! كَانَتْ نَجَاتُهُ أَكِيدَةً لَوْ اسْتَمَرَّتْ خَطَوَاتُهُ المُتَعَثِّرَةُ العَمْيَاءُ . مَزَّقَهُ النَّدَمُ وَ لَمْ يُجْدِهِ التَّحَسُّرِ عَلَى فُرْصَةٍ وَمَضَتْ وَلَمْ تُنْتَهَزْ .
هَالَهُ مَنْظَرُ الدَّمِ المُتَيَبِّسِ عَلَى جَسَدِهِ ، وَ لَمْ يَنْتَبِهْ لانْفِرَاجِ بَابِ السَّائِقِ ، الذِي نَزَلَ مُتَرَنِّحًا وَقَدْ فُوجِئَ بِوُجُودِ أَسِيرِهِ الذَّاهِلِ . الْتَقَتْ الأَعْيُنُ لِثَانِيَةٍ ، ثُمَّ أَشَاحَ عَنْهُ وَ بَصَقَ مُمْتَعِضًا . أَيْقَظَ الحُرُّ مَنْ مَعَهُ ، بِعِبَارَاتٍ تَنْقَبِضُ لَهَا الضُّلُوعُ ، وَ تَسْتَدِرُّ الرِّثَاءَ عَلَى أَخْلاَقٍ وَلَّتْ .
أَفْطَرَ حُمَاةُ أَرْضِهِمْ بِلاَ عَجَلٍ ، وَ خَرَجُوا لِجَوْلَةٍ جَدِيدَةٍ مَعَ صَيْدِهِمْ الثًَّمِينِ ، الرَّخِيصِ .
مَدَّدُوا الخَيَالَ الوَاهِنَ عَلَى غِطَاءِ المُحَرِّكِ ، وَ شَدُّوا وَثَاقَ رِجْلٍ وَ يَدٍ فَقَطْ إِلَى الجَانِبَيْنِ . انْدَفَعَتْ السَّيَّارَةُ ، بَعْدَهَا ، بِسُرْعَةٍ جُنُونِيَّةٍ وَ انْعِطَافَاتٍ خَطِيرَةٍ فِي المَسْلَكِ الوَعِرِ .
تَأَرْجَحَ البَدَنُ العَاجِزُ بِعُنْفٍ ، مُحَاوِلاً مُفَارَقَةَ المَعْدَنِ القَاسِي ، لِيَعُودَ لِلإِلْتِحَامِ بِهِ فِي ارْتِطَامٍ سَاحِقٍ .
أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ اللَّتَيْنِ تَفَجَّرَتَا دَمْعًا وَ رُعْبًا وَ يَأْسًا ، وَ تَشَهَّدَ ...
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|