يعاود الغراب الإغارة على أقنان الدجاج.. فينهش صيصانها ويعبث ببيضها.. يتسع نهمه وتتفتح شهيته أكثر فأكثر وكأن حوصلته بئر لا ينضب..ذات مساء نقنقت دجاجة في وجه ديكها بصوت حزين، يكسوه الألم والغيظ والغضب، وقد تهدل عرفها وبهت لونه: ماذا تنتظر يا سيد القوم لعقد اجتماع طارئ ؟ ثم زادت من حدة نقنقاتها متسائلة: أم انك تنتظر حتى تأتى الغربان إلينا، بعد أن تقضى على كل صغارنا.. فلا تُبقى لنا أثرا على الوجود .. باستهزاء ومرارة أكملت: أم انك تنتظر كي يسجل التاريخ بأحرف مزورة سبب انقراضنا؟ فيعزونه إلى اختلاف درجات الحرارة، وثقوب في طبقات الأوزون ! حينها تكون الجريمة اشد وطأة وفظاعة، فتتعذب أرواحنا جراء تزوير التاريخ للحقيقة، في عالم أصبح فيه الكذب والافتراء غاية الأقوياء .. بينما الصمت والنفاق سمة الضعفاء ..
تدب الحمية في أوصاله .. ينطلق كالسهم إلى مئذنة الجامع، يطلق صيحات متتالية وقد انتفخ عرفه، واشتدت حمرته .. توافدت على أثرها ديوك البلدة إلى مقر زعيمهم .. فكلف كل واحد منهم بنشر دعوة عامة في كافة أحياء البلدة والمناطق المجاورة .. تدعو إلى اجتماع عاجل ظهيرة الغد، تحضره جموع الدجاج بكافة اتجاهاتها وألوانها ومسمياتها..
كان زعيم الديوك من الكسالى .. لولا زوجته الفصيحة، التي تسانده وتشور عليه في أغلب الأمور .. تزوده بخطاباته التي يلقيها في الاجتماعات أو الندوات المتعددة .. فيحتار الجميع بأمر ثقافته وذكائه.. بالرغم من علامات الغباء والكسل التي تستحوذ على تصرفاته، وتطفو على وجهه في اغلب الأحيان .. فيبتلع كل منهم لسانه، فلا يطالبونه بالاستقالة أو التنحي..
تقاطرت جموع غفيرة من الدجاج ، فجاء دجاج البيض واللحم، ومنكوش الريش وكثيف الفرو وصاحب السيقان الممشوقة والبحري زاهي الألوان، والحمرا والبيضاء، والحدباء والسيفان والمدبجة .. حضروا جميعهم دون استثناء .. استهل الزعيم حديثه بهز عرفه ذات اليمين وذات الشمال .. مبديا فصاحة لسان وحكمة في القول .. كانت مقدمة منه، مستبقا نقاشاتهم وأفكارهم وتوجهاتهم، كي يستطيع اتخاذ قراراته المصيرية لاحقا..
انبرت من بين الحشود دجاجة، شقت طريقها بصعوبة وسط الجموع ، كانت تتمايل بمؤخرتها قبل وصولها إلى المنصة الرئيسية.. وقفت منتصبة القامة، أزبدت وعفرت بأرجلها .. فتناثرت أوراق الزعيم وأقلامه .. انفجرت نقنقات صاخبة من الجالسين في السطور الأولى، ثم ساد الصمت، بعد أن دق الزعيم بشاكوشه الخشبي على المنضدة .. حدقت صوب الجموع بعينين دائريتين تقدحان شررا، ثم قالت: غراب أسود، يحيل حياتنا إلى جحيم؟ يقتل أولادنا، ينهش بيضنا، يستوطن بين أقناننا، يستولى على أرضنا! ثم تساءلت: وانتم جميعكم في سبات وعدم اكتراث؟ كانت تشير بجناحها إلى السطر الأول من الحضور، الذي كان مخصصا لقادة الديوك المجدولة لحاهم، وقد تدلت بحمرتها الداكنة، وانتصبت عروفها مسننة كالمناشير، قبل أن ترتخي، وتميل كسوفا وخجلا من حيائها !!على اثر سيل الاتهامات والتقصير والتوبيخ الذي كالته لهم.
وقف قائد الجيش ببزته ونياشينه التي تملأ صدره، مدافعا عن زملائه من مسئولي الأجهزة، أمام اتهامات صريحة وجريئة من المتحدثة باسم الدجاج، مبررا ضعفهم بعدم امتلاكهم صفاته في التحليق والطيران .. التي تؤهله للتفوق، فيكر ويفر بسهولة ويسر، فلا نستطيع مجابهته أو مقاومته، ثم جلس مستسلما، وقد تهدل عرفه واصفر لونه..
لم يقنعها قوله، فنقنقت بعصبية قائلة: إن كنا لا نستطيع الطيران للحاق به في السماء، فالأجدر أن نتعامل معه حين يهبط على الأرض، متجولا بخيلاء بين الاقنان، دون رادع، مباغتا أولادنا مهشما بيضنا .. كما نستطيع ابتياع أسهم وأقواس تلاحقه في السماء .. فلا حجة ولا منطق لمبرراتك الواهية أيها القائد الهمام .. ثم أردفت قائلة: صمتكم ومصالحكم الشخصية، جعل الغراب هاجسنا، يعيش على خوفنا وخيراتنا، يهدد بانقراضنا .. وقد سمعنا بأنه التجأ إلى من يفبركون التاريخ للبشرية، وقد صاغوا مسبقا أسباب انقراضنا؟ بكل استهزاء وسخف بنا.
احتدم النقاش .. وبدأ عراك بين مساند ومعارض .. مؤيد ومخالف .. تطاير الريش والزغب في الأجواء .. تعالت صيحات الديوك في السطر الأول، اشتد نقيق الدجاج مزمجرا حتى صم الآذان، فوصل صداه إلى ما وراء الوادي .. فجأة، صمت الجميع على نعيق حاد يأتي من أعلى الشجرة ؟ التي تتوسط جموعهم المحتشدة ! كان الغراب بلحمه وشحمه ينهال عليهم شتما وسبا، ينهاهم عن إثارة الضجيج الذي يمنعه من استكمال نومه وراحته، لاسيما ولديه مواعيد كثيرة في الصباح الباكر .. هذا استهزاء فاق الحدود، استهتار كامل بكل الحشود الغفيرة والقيادات الحاضرة ! نقنقت دجاجة إلى زميلتها والحزن يفطر كبدها..
وقف زعيم الديوك مسرعا، يمتص غضب الغراب وامتعاضه، مطالبا تعليق النقاشات حتى يكمل راحته ونومه .. وأن يلتزموا بالهدوء منتظرين البيان الختامي، بعد أن يستكمل قادة الديوك اجتماعهم فورا في غرفة مغلقة، بعيدا عن الصحافة والإعلام، حفظا لماء وجوههم المسفوك على التراب.. خرج البيان على عجالة، يطالب الحشود الهادرة بأن تتحلى بالهدوء، لعدم تقديم الغراب الذرائع ليبطش ويدمر أقنانهم ويفنيهم .. كما نص على استحياء بتبني ثقافة المقاومة السلمية، مثل الاحتجاجات والاعتصامات .. مذكرا الجميع بالمحرقة التي صنعها بين صغارهم وكبارهم على السواء، مما هدد وجودهم بالانقراض .. كما اتفقوا على تشكيل وفد يلتقي به لاحقا للتوسل إليه .. بأن يعتق حدباءهم لتعميم الفائدة.. حتى يستطيعون العيش والتزاوج بمثنى وثلاث ورباع، لزيادة وتكثيف تفقيس البيض، ليتمكنوا من الإيفاء بكل احتياجات أكله ووجباته الدسمة من البيض والصيصان .. هكذا تحول الغراب إلى الحاكم الفعلي لهم .. يستشيرونه في كل صغيرة وكبيرة.. يتوسلون رضاه، ويتمنون ابتسامته الصفراء.
مع بزوغ يوم جديد، يبشر بالأمل والرجاء .. بدأت تعلو نقنقات من النشء الجديد.. محتجة، متذمرة، ساخطة على واقع مذل مهين ..تصر على إلغاء تلك الاتفاقية الجائرة المخزية، وتنسج من خيوط الشمس بيارق الحرية، ففي ليلة مباركة، حين سكنت الكائنات إلى مضاجعها .. كانت مجموعة من أفراخ الدجاج الثائر، تعقد اجتماعها الأول بسرية تامة..
مع خيوط الفجر الأولى كانت النيران تلتهم تلك الشجرة التي اختارها الغراب تتوسط أقنانهم، بكل غطرسة وتحد وطمأنينة .. فتطاير عشه محترقا .. تذريه رياح الثورة العاصفة، وهبة جماهير الدجاج العاتية ..فطار هاربا، واختفى مدحورا عن الأنظار...
إلى اللقاء.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
التعديل الأخير تم بواسطة خيري حمدان ; 09 / 01 / 2011 الساعة 19 : 10 AM.
سبب آخر: تعديل إملائي وتصحيح آخر بطلب من الكاتب
** اتمنى من الادارة المشرفة على زاوية القصة ان تصحح الفقرة الاخيرة فى النص الاتية:
بدل: هبة الجماهير العاتية.. ان تصبح: هبة جماهير الدجاج العاتية
ولكم الشكر وذلك لعدم وجود ايقونة التعديل عندى للاسف فهى لا تظهر.
أديب وقاص وروائي يكتب القصة القصيرة والمقالة، يهتم بالأدب العالمي والترجمة- عضو هيئة الرابطة العالمية لأدباء نور الأدب وعضو لجنة التحكيم
رد: ثورة الدجاج ( قصة قصيرة)
الأديب المتفائل الصديق العزيز زياد صيدم
لا شك بأن جيل الشباب قادر على التغيير وتعديل معادلة الهزيمة دون شك.
نص متفائل يبشر بغد واعد .. مودتي
ملاحظة: أجريت التعديل الذي طلبته لكني أجريت تعديلات أخرى أيضًا - إملائية وغيرها - أرجو أن تعتمد في أرشيفك النص المعدل إذا لم تكن لديك ملاحظات على ما قمت به من تعديلات.
قصة مسيسة لكن بغض النظر عن توجهها إلا أنها نسجت بمتانة و نسق فكانت لها دلالاتها وإسقاطاتها الواضحة على واقع مؤلم .
الأكثر جمالا هو النهاية التي جاءت بانتصار للأمل و الإرادة.
تقديري لقلمك أخ زياد و صباح جميل أتمناه لك.
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب
رد: ثورة الدجاج ( قصة قصيرة)
قصة لها دلالات واضحة وهي تحكي الواقع الأليم لهذا "التابوت" الذي يحتضر ذلا ..
تحياتي لإبداعك اخي الأديب زياد . فقصصك دائما ما تحمل مغزى يضيف المتعة للقراءة .
محبتي لشخصك الكريم .
كاتب نور أدبي متألق بالنور فضي الأشعة ( عضوية فضية )
رد: ثورة الدجاج ( قصة قصيرة)
رائع جدا أستاذ زياد
فقد استطاعت القصة التى نسجت بإحام فنى جميل أن تنقل الواقع ورؤية القاص فيه إلى عمل فنى جيد اعتمد على السخرية المريرة ويتقع مستقبل أكثر جمالا وإشراقا
كل محبتى لك
عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ]
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خيري حمدان
الأديب المتفائل الصديق العزيز زياد صيدم
لا شك بأن جيل الشباب قادر على التغيير وتعديل معادلة الهزيمة دون شك.
نص متفائل يبشر بغد واعد .. مودتي
ملاحظة: أجريت التعديل الذي طلبته لكني أجريت تعديلات أخرى أيضًا - إملائية وغيرها - أرجو أن تعتمد في أرشيفك النص المعدل إذا لم تكن لديك ملاحظات على ما قمت به من تعديلات.
==========================================
** الاديب المتميز الراقى خيرى...........
يا عزيزى بداية شاكر لك تعديلك .. وقراءتك الراقية كما دوما..
واعتاز بمرورك الجميل.
نعم انا متفائل جدا بشباب الامة الاكثر وعيا هذه السنوات ورغم القهر والاستئصال من طغاة بنى جلدتهم.. والنصر قادم باذن الله.. والشرارة قد انطلقت يا صديقى.
عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ]
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نصيرة تختوخ
قصة مسيسة لكن بغض النظر عن توجهها إلا أنها نسجت بمتانة و نسق فكانت لها دلالاتها وإسقاطاتها الواضحة على واقع مؤلم .
الأكثر جمالا هو النهاية التي جاءت بانتصار للأمل و الإرادة.
تقديري لقلمك أخ زياد و صباح جميل أتمناه لك.
===========================
** الاديبة المتميزة نضيرة.........
شاكر لك قراءتك الراقية ومرورك الجميل.
بلا شك الامل فى شباب الامة المنتفض على القهر والطغيان وسيحقق النصر باذن الله وعزيمة لا تلين.
عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ]
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالله الخطيب
هبة صيصان دجاجنا، لا بد أن تفتك أولاً بزعيم الديوك و قادته الذين ينادون بتبني المقاومة السلمية و نبذ المقاومة المسلحة.
بيارق النصر قادمة بأذن الله.
تحية و أحترام، لك و لقلمك أخي الأستاذ زياد صيدم
=====================
** الاديب الراقى ابن البلد..........
فى زمن نحن باشد الحاجة الى موازين رعب تعيد خلط الاوراق نجد انبطاحا كليا من الجميع ؟؟!! بالرغم من حصار وانكسار وتراجع لكل شىء وخيبة كبرى !!
لكن يبقى الامل فى جيل الشباب القادر على التغيير ولابد من شحذ الهمم يا صديقى ورأب الصدع الحاصل فى الامة ..