الآخر
[align=justify]فازت هذه القصة بالمرتبة الثالثة عشرة، في مسابقة (مجلة العربي) للقصة القصيرة، للعام 1997، ونُشرت في (كتاب العربي) رقم /31/ الصادر في 15 يناير 1998.. وقَدَّم لها وعلَّق عليها في الكتاب المذكور القاص والناقد (أبو المعاطي أبو النجا)، الصفحة /143/... ثم أُعيد نشرها في مجموعتي القصصية الأولى (ميت في إجازة) الصادرة عن (دار المسبار) بدمشق، عام 2004...
لن تشرق الشمس على الجميع، كعادتها، بعد اليوم.. لأنها اضطرت للعمل في القطاع الخاص شمسا لا تشرق إلا لمن يدفع أكثر، بعد أن اكتشفت أن إشراقها المجاني الرائع كل صباح لم يعد يأتيها بما يسد جوعها وجوع صغارها، فضلا عن مصاريفهم الأخرى مثل أجور المدارس وثمن الألعاب والملابس.. بل إن جميع الذين يحبونها، من النجوم والكواكب والبشر نصحوها كثيرا بالانضمام إليهم في عملهم الجديد المربح، أي خدماً للأغنياء وذوي النفوذ.
قال لي ذلك، ثم امتزج الانكسار بالعتاب في الابتسامة التي طفت على شفتيه، وهو يمدُّ إليَّ يديه لأضع فيهما، بكثير من الحب والرفق، قيدا حـديديا صدئا أعطونيه وأنذروني إن أنا لم أضعه في معصمه بقتلنا معا، جوعا وذلا وقهرا.
استأذنته قبل أن أقيده راجيا منه أن يقدر موقفي ويسامحني.. ففعل.. وابتسم، بينما كانت السماء، في تلك اللحظة، امرأة ثكلى خرجت مشعثة الشعر تبكي إلفها الذي قتله شخص ما لا تعرف اسمه ولا شكله، ولا تعرف لماذا قتله...
بكثير من التردد والإحراج قلت له بصوت لم يَبِنْ، محاولا تعليل ما أَقْتَرِفُ بحقه: يجب على أحدنا أن يختفي ليعيش الآخر.. إما أنا أو أنت، أما كلانا معا فلا...
لماذا؟ لا تسألني، لأنني حتى الآن لا أعرف، ولكن التجربة المريرة التي عشناها معا أكدت لي كما أكدت لك أنه من الأفضل لكلينا أن نختار بقاء أحدنا طليقا في شِعَب الحياة وفجاجها، والآخر أسيرا في كهف بعيد كل البعد عن الأعين، في الكهف الذي أرادوا...
أنا أعلم أنه خيار مروع، بل هو خيار من لا خيار له بين أمرين أحلاهما مرُّ، خيار القسر. ولكن لا مفر، فالذين اضطرونا إلى هذا الخيار لا يقبلون نقاشا، ولا يقتنعون بأي حجة تتعارض مع ما يرونه صوابا..
أعلم أنك تحبني كثيرا، وأنا أحبك مثلما تحبني وأكثر... وأهون عليَّ أن أموت من أن أبتعد عنك طرفة عين، ولكن ماذا أفعل، لقد حُكم علينا بالموت بُعداً عن بعضنا، وإذا أصررنا على البقاء معا وخالفنا الأمر، فالبديل الذي هددونا به هو حياة يبدو الموت معها أمنية بعيدة المنال وحلما مستحيلا.. لا تخشَ أن أنساك مهما ابتعدتُ عنك، فمن يستطيع أن ينسى نفسه؟
والآن، أستميحك عذرا، وأرجوك أن تتقبل تقييدي لك بروح طيبة، بروح رياضية كما يصفون اليوم الطريقة العصرية لتقبُّل الهزيمة بابتسامة... ابتسامة من لا إحساس له في عرفي وعرفك.. أستميحك عذرا.. مدَّ يديك اللتين أحبهما كثيرا لأضع القيد فيهما، فذلك أفضل لأجلي ولأجلك.. أتستغرب أن أقبلهما قبل أن أقيدهما؟ آه منك أنسيت أنهما يداي مثلما هما يداك؟ حسنا. لا تبتئس هكذا فسأحاول في أوقات الفراغ التي سيسمحون لي بها أن أزورك وأفهمك كل شيء وبالتفصيل الممل..
لا لا أرجوك لا تبكِ هكذا، فمنظرك هذا وأنا على وشك الرحيل عنك سوف يسبب لي كثيرا من الألم، نعم ابتسم في وجهي ولو رياء وكذبا، إذ يكفيني ما سألقاه من الآلام بعيدا عنك.
نعم نعم هكذا. لكم تبدو لي جميلا ورائعا وأنت تبتسم، رغم اختلاط ابتسامتك بدموعك ومخاطك. ابتسم، ولن أقرف من تقبيلك وأنت على هذا النحو..
ها قد بدأ الدمع يضرب عينيَّ أنا أيضا، يريد الخروج منهما، ولا أريدك أن تراني أبكي وأنا أودعك، لذلك سأرحل فورا قبل أن أبكي أنا الآخر.. فوداعا.. وسامحني.. أنا أعرف أنك أقوى من الملل في غيابي فلا تخيِّب ظني... ثم إنني لم أتركك وحيدا تماما، فها قد أبقيتك بجانب ما تبقى من مكتبتي التي بعتُ معظم كنوزها لتوفير ثمن الخبز لأطفالي. أنت تذكر هذا، أليس كذلك؟
بالمناسبة منذ اليوم لن يجوع أحد من أفراد أسرتي، لا أنا ولا زوجتي ولا أطفالي، بل ثمة ما هو أكثر من عدم الجوع، أتدري ما هو، لقد وعدوني بأن أنتقل إلى بيـت فخم ونظيف في أحد الأحياء الراقية بالمفهوم المادي المعاصر طبعا، وليس بمفهومك البالي، وأن أركب سيارة خاصة بي من الطراز الحديث، وأن.. وأن.. ماذا أقول لك؟ مقابل تركك وعدني الذين أنا ذاهب إليهم الآن أن أنسى الفقر وكل ما يُذكرني به من دين وشرف وضمير وغير ذلك مما تسميه فضيلة وأخلاقاً حميدة ومبادئ هي عماد الجوع في كل عصر ومِصر. كل ذلك النعيم ينتظرني وينتظر زوجتي وأطفالي، مقابل أن أتخلى عنك، فتصور!!
لكن، آه.. نعم نعم أنا أفهم ما تعنيه نظرتك المعاتبة هذه لي، تقول إنك الوحيد الذي سيجوع حتى الموت في هذه الحالة، وهو مصفد مكمم الفم في هذا الكهف. نعم للأسف، لقد وضعوا حياتك في كفة، وحياتي أنا والأولاد وأمهم في الكفة الأخرى، فماذا أفعل؟
أكثر من ذلك وضعوا كرامتي ورجولتي في كفة وتصفيدك في كفة أخرى.. لماذا؟ ماذا فعلتَ لهم كي يكرهوك إلى هذه الدرجة؟ على أي حال أنا أرى من المنطقي والواقعي والصحيح أن أنفذ شروطهم.. يكفيني مكافأة على تنفيذها أن تكفَّ زوجتي عن احتقاري وتعييري بمناسبة وبغير مناسبة بأنني شحاذ ابن شحاذ، وأنها تتمنى لو تزوجت أجربَ أو أكتع أو أعور أو زير نساء يكون غنيا حتى لو اضطهدها صباح مساء بدلا من أن يكون حظها العاثر قد أوقعها في شباكي.. هي بالمناسبة تحقد عليك كثيرا، بل أكثر من الآخرين الذين سأتركك وأذهب إليهم، أتعرف لماذا؟ لقد سألتها هذا السؤال ذات مرة فقالت لي، لأنها اكتشفتْ أن الشِباك التي اصطدتُها أنا بها هي من صنعك أنت، وأنك لو لم تصنعها لي لكانت هي نجت بجلدها مني ومن حظي العاثر بسببك، فتصور!! تبتسم أيها اللئيم؟ أنت توافق على اتهامها لك بهذه التهمة إذن؟ على أي حال تصور أن أصبح رجلا محترما في نظرها... ياه، لن تقول لي بعد أن أصبح غنيا أنني غبي.. أتعرف لماذا؟ لأن الغني والغبي ضدان لا يلتقيان أبدا، أما من له صاحب مثلك فهو غبي حتما لأنه من المستحيل مادمتَ ترافق أحدا أن يشم رائحة إبطه ولو عاش ألف عام. أرجوك لا تؤاخذني، فهذا ليس رأيي فيك، أنت تعرف هذا جيدا، أليس كذلك؟ هو رأيها ورأي أصحاب العقول المنطقية والعملية الذين أجبروني أخيرا على أن أتركك.
تعلم أنني لم أقبل فورا، ولم أستسلم لضغوطهم فورا، وأنني قاومت تلك الضغوط أكثر من عشرين عاما، لكن ماذا أفعل الآن، الأولاد كبروا، وهم يسـألونني كل صباح لماذا أنجبتنا إن كنت تحب هذا الأبله إلى تلك الدرجة التي تجعلك تضحي بنا وبمستقبلنا من أجله؟ لقد أجمعوا أمرهم على أن أستسلم، وأن أدعك للموت أو للشيطان، لا فرق، أو أن أبيع لحمك رخيصا في سوق النخاسة المعاصر الذي لم يبق شيء لم يُعرض فيه ابتداء من الجنة والنار ولفة الأولياء، مرورا بالوطن والأهل، وانتهاء بأجساد النساء والخبز والدعوات الصالحات.. أنت تعرف كل هذا أليس كذلك؟ وتعرف أيضا أن أولادي سيتركونني إن لم أتركك تنفيذا لرغبتهم.. هم أيضا سيصبحون أكثر تهذيبا معي وأكثر احتراما...
لا لا أرجوك لا تنظر إليَّ بهذه الضراوة، أنا أفهم أنك حانق عليَّ إلى درجة لا تصدق، تريد أن تقول لي أنني رضيت بتصفيدك وتركك تموت وحيدا في هذا الكهف، وأخذت كل أدواتك الثمينة الطاهرة لأستخدمها في عملي الجديد عند الذين سأذهب إليهم، وأن ما أفعله ليس أخلاقيا ولا صحيحا.. أنا أعترف لك بأنني مخطئ، وأنني سوف أستخدم كل الأدوات التي أعطيتها لي وعلمتني فن استخدامها على نحو مدهش في ما لا يرضيك على الإطلاق، ولكنني مضطر لهذا، لماذا لا تقدر موقفي.
لقد شبعت ذلا وحاجة وفقرا... شبعت. لقد صبرت طويلا على الذل من أجل أن لا أفقدك فماذا استطعتَ أن تفعل لي؟ لاشيء سوى مزيد من الذل والإهانة حتى من زوجتي وأولادي. حرام عليك يا أخي دعني أعشْ حياتي كباقي خلق الله البسطاء الذين لم يُبتلوا بمثلك، دعني، أرجوك، أجرب حظي في سوق نخاستهم، أنا أذكى منهم كما تعلم، خصوصا إذا استخدمت أساليبك الرائعة الطاهرة والشريفة في الاحتيال عليهم. لا تخف لن أفشل فقد تدربت على ذلك طويلا قبل أن أقول لرؤسائي الجدد إنني موافق على تركك، بل هم الذين نصحوني بذلك. لقد قالوا لي إن ما علمتني إياه بعيدا عما تسميه مبادئ يمكن أن يرفعني إلى القمة، قمة المجتمع، في وقت قصير جدا.. إذن أرجو أن تسامحني على اقترافي جريمة تركك هاهنا وحيدا مع هذه البقية غير الشهية من الكتب التي لم أجد من يشتريها مني رغم حبك وتقديرك لها، حسنا، هاأنذا أتركها لك استمتع بفراغك معها..
أنا آسف لهذا كله، ولكن لا مفر، ولا بدّ مما ليس منه بدّ، و... وداعا مرة أخرى...[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|