نساء مترو الأنفاق
نساء مترو الأنفاق
* * *
قلق
أنظر إلى الساعة كل صباح، التاسعة إلا عشرة دقائق، مترو الأنفاق يأكل الفضاء الباطني، بعد قليل سيتوقف عند محطتي لأستقل حافلة أخرى نحو مقر العمل. أصيغ السمع إلى خطواتها بعد أن يفتح القطار أبوابه، ثوانٍ معدودات ثم أسمع وقع خطوات امرأة صغيرة الحجم تركض حثيثًا نحو السلالم المتحركة، تركض حتى أثناء تواجدها فوق السلالم تجاه الحافلة المقدر لها أن تحضر في التاسعة تمامًا. أعرف مسبقًا بأن جميع من هبطوا من قطار مترو الأنفاق سيضطرون للانتظار على الأقل خمس دقائق قبل حضور الحافلة.
في اليوم التالي، المرأة ذاتها تتأهب لمغادرة القطار قبل المحطة الأخيرة بدقائق، أعرف وقتها بأن علي مغادرة القطار قريبًا، كأنها ساعة المنبه الخفي، أبتسم لأنني أعرف ما سيحدث بعد لحظات كأنّي صاحب كرامة إلهية، أغمض عيني لوهلة بعد مغادرتي القطار، الخطوات الصغيرة تركض بقلق ومثابرة، تركض فوق السلالم المتحركة نحو الحافلة التي لن تحضر قبل مضي خمس دقائق أخرى. تلهث فوق الرصيف، تتأهب بقلق محاولة أن تقدّر مكان وقوف الحافلة لتهرع إلى أحد أبوابه العديدة. أخذت لاحقًا أختبئ داخل باحة المترو العليا، لم أعد أراقب حضور الحافلة، لأن حالة القلق الدائمة فوق قسمات وجهها كانت قادرة على إخباري بلحظة وصولها، عندها كنت أتوجه بهدوء إلى مقدمة الحافلة لأصعد بهدوء، كنت أعرف بأنها ما تزال مستمرة بالبحث والركض داخل الحافلة للجلوس في أحد الأماكن الشاغرة وما أكثرها في الصباحات الباردة في أثناء هذا الشتاء القارص.
* * *
بين يدي امرأة الأنفاق
ليس من عادتي التحديق في أوجه ركاب المترو إلا ما ندر، معظمهم منشغلون بقراءة الكتب، بيانات العمل وصحف الصباح، أحيانًا أحاول قراءة عناوين الكتب فقط لأعرف اهتمامات فئات الشعب المختلفة لأغراض تتعلق بعملي الصحفي والأدبي. جلست إلى جانب امرأة في الثلاثينيات من العمر، كانت منهمكة كالآخرين بقراءة كتاب ما، بدا لي الكتاب مألوفًا للوهلة الأولى، غلافه أزرق هو لوني المحبّب، على الصفجة الأخيرة رأيت لدهشتي صورتي! إنها روايتي التي أصدرتها قبل سنوات باللغة البلغارية وكتبتها لاحقًا بالعربية تحت عنوان "أرواح لا تنام". ابتسمت، شعرت بالدفء مع أن درجات الحرارة في الخارج في ذلك الصباح الشتوي قاربت ثماني عشرة درجة تحت الصفر المئوي. أشحت بعيني بعيدًا عنها، كانت في تلك اللحظة تمتلك صدى روحي وظلّ قلمي، كان حضوري مزعجًا، حتى أنها تضايقت من نظراتي التي وجهتها لغلاف الكتاب، كأنها تريد أن تقول لي "يمكنك شراءه من المكتبة إذا أردت!". وقفت بعد دقائق لمغادرة القطار متوجهًا نحو مكان عملي، لاحت مني نظرة أخيرة لصاحبة الكتاب، كانت غارقة بالقراءة، وكنت أعرف بحكم الزمن الذي قضيته في كتابة هذه الرواية الحدث الذي يشغلها، الألم الذي اعتصرها بمعية بطل روايتي، الحب الذي عصف بقلب بطلة روايتي، البؤس الذي عانى منه أحد رجالات روايتي المدمنون على المخدرات والحبّ. كنت أنا في تلك اللحظة أقف ما بيني وبينها، لهذا سارعت بمغادرة القطار.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|