البحر
[align=justify] البحر
حين توقفت السيارة بمحاذاة الطريق الفرعية المؤدية إلى الشاطئ ، كانت الشمس ترسل آخر أشعتها في الأفق عند قمة الجبل الذي بدا قاتما وموحشا . وران سكون عميق على الربي عندما توقف المحرك عن الهدير. أطللت من النافذة مستكشفا المكان بينما كان أبي ينزل الأمتعة من سطح السيارة بمعية السائق .. كانت الطريق الرئيسية تمتد طويلا قبل أن تنحرف إلى اليمين لتتوارى خلف أشجار العرعر، ثم تبدو هناك بعيدا كخط رفيع مائل يقسم الجبل الجاثم فوق البحرالساكن. أحسست برعشة تسري في جسدي حين لفحني نسيم المساء العليل . تثاءبت ثم أخذت أتطلع ناحية الشاطئ مستعجلا الوصول إليه ، فلاحت لي زرقة المياه وقد شابها بياض ، بينما تناثرت هنا وهناك أكواخ ومنازل ودارات تتوسط الحقول الصفراء المترامية الأطراف . شملني شعور بالغبطة . هنا يمكنني اللعب دون ردع أو زجر . سأذرع الحقول جريا وأتسلق الأشجار و أتمطط على الرمال الدافئة و أغطس من أعلى الصخرة الناتئة . و حين أتعب ، أعتليها ممسكا القصبة والصنارة لأصطاد ... هاهو قطيع من المعز قادم من سفح الجبل . كم هم لذيذ وقع حوافرها ، مثله مثل حفيف الشجر... تمتزج المأمأة بمناداة الراعي ونباح الكلب . في تلك اللحظة ، تناهى إلي صوت أمي تدعوني لحمل إحدى الحقائب في حين احتضنت هي أخي المستغرق في سبات عميق . ولاحظت الإعياء والشحوب على وجهها وآثار القيء على أذيال جلبابها . لقد اضطر السائق للتوقف مرارا لتفرغ ما في جوفها حتى تحتبس أنفاسها ، فيحتقن وجهها وتند عنها حشرجة كأنها تختنق. انطلقنا بأحمالنا مثيرين نقعا عبر الممر المتفرع من الطريق الرئيسية بعد أن أدى أبي أجرة السائق الذي انطلق لا يلوي على شيء . وما هي إلا لحظات حتى تلاشى هدير السيارة وعاد السكون كما كان . ونظرت إلى حيث أشار أبي . هناك فوق تل صغير يربض بيت منعزل تحيط به ثلة من أشجار التين . تأملته وخطواتي تتثاقل فالتفت إلي أبي مبتسما :
- أسرع... فالظلام بدأ ينزل ويجب أن نصل قبل أن تصعب الرؤية ونتيه في الحقول .
وأخيرا ، وبعد معاناة مع الأحمال ، وصلنا إلى البيت الذي لفه غبش عجيب جعلني أحس كأنني في حلم ، ومددت يدي أتحسس زر الكهرباء ، ولاحظ أبي ذلك فضحك رغم الإعياء وسألني عم أفتش فأجبت محتارا :
- ألا يوجد زر الكهرباء ؟ -
ليس هنا كهرباء ... سنستعمل قناديل زيتية وشموع ... ما رأيك في هذه المفاجأة ؟
- ولن يكو ن لنا تلفاز ؟
- هذا أفضل ... لقد جئنا إلى هنا لنعيش جوا مغايرا... ألا تعجبك المغامرة؟
- بلى ...- أجبت ساهيا .
- إذن دونك وإياها ... الجبل والبحر والغابة . كل في ملكك الآن .
أطرقت لحظة مبتسما وأنا أفكر في ما ستكون عليه حال أمي التي ترعبها الحشرات في النهار، فبالأحرى ليلا . ثم انتبهت إليها تستلقي على السرير جنب أخي وهي تقول متثائبة:
- هل أعد العشاء ؟
- أنا لا أريد شيئا... سأكتفي ببعض الفواكه- قال أبي وهو يتطلع إلى الخارج عبر النافذة .
– وأنا كذلك . أريد أن أنام . وبعد لحظات أطفأ أبي قنديل الغاز، فساد الظلام واستسلمنا للنوم... وقبيل الفجر ، استيقظت موفور النشاط ، يقظ الذهن ، لكني لم أتعرف على المكان بسرعة فأخذت أحملق في الظلام الدامس :" أين هو سريري ؟ والنافذة المطلة على الشارع ؟"...ثم تذكرت أني في منزل غير منزلنا، وعادت إلي ذكريات الأمس ، فنهضت وفتحت الباب الذي أحدث صريرا مزعجا...كانت حلكة السحر تلف ما يحيط بي . حتى السماء بدت سوداء إلا من نذف صغيرة لا تحصى ... أما البحر فكان بدوره غارقا في الظلمات ، لكن هدير أمواجه المتلاطمة كان يسمع بوضوح . تسللت خارجا وانحدرت صوب الشاطئ وأنا لاأزال مرتديا منامتي . تمشيت قليلا منتعشا برذاذ الموج وصوت انكساره الشجي على الرمل المبلل، ثم وقفت أتأمل الأفق الذي بدأ يضيء... وفجأة لفت سمعي وقع مجداف . التفت لأجد قاربا خشبيا يمخر عباب الماء بمحاذاة الموج المتكسر ثم يتوقف قبالتي . كان على متنه شيخ نحيل الجسم ، محدودب الظهر وهو يدندن بلحن يعلو تارة ويخفت تارة أخرى بفعل الموج : في بحار تئن فيها الرياح ضاع قيها المجداف والملاح أعجبني غناء العجوز الذي توقف عن التجديف ونزل من القارب ، ثم اقترب مني مبللا حتى الركبة وقال بصوت فيه بحة : - السلام عليك يا ولدي . – وعليكم السلام . نظرنا إلى بعضنا البعض دون أن نضيف شيئا . شعرت بدبيب الخوف يسري في فؤادي... "أيكون جنيا ؟ لكن... لا خوف منه مادام ألقى التحية ، كما روت لي جدتي ...هل يضمر لي شرا ؟ " دق قلبي بعنف لكني تظاهرت بالهدوء وتشاغلت بجمع بعض الصدف و أنا أسترق النظر إلى ناحية الشيخ ، فرأيته يجذب شبكة ..." آه ، يا لجبني . هذا صياد يبحث عن رزقه . كيف غاب ذلك عن ذهني ؟
- هل أساعدك ؟ - قلت متشجعا بما استنتجته ، خجلا مما اعتراني من خوف .
– الله يرضى عنك... إذا كان ذلك ممكنا . وبعد شد وجذب ، انفرجت الشبكة عن أشياء جعلتني أرنو مذهولا إلى وجه الرجل ثم إلى الماء ، غير مصدق ما تراه عيني... كانت الصدف تملأ الشبكة ، متلألئة بشكل يبهر الأبصار، كأنها ماس أو بلور. وبجهد جهيد حلت عقدة لساني وسألت الشيخ مبهورا:
- ما هذا يا سيدي ؟
- ألا ترى ؟... إنه كنز- قال مبتسما- متع عينيك به قبل أن يختفي .
– ولماذا وكيف سيختفي ؟ أليس ملكك ؟ ألن تأخذ هذه اللآلئ معك ؟
- لا... هذه ليست ملكي. صمتت قليلا قبل أن أسأل : - وما فائدة تعبك وشقائك ؟
- لم أتعب ولم أشق.. بالعكس ، لقد حصلت عليها بسهولة ويسر. ثم إن هذا يعوضني عن رؤية أكوام القمامة هنا وهناك..انظر حواليك.
كان نور الفجر يسمح بتمييز الأشياء من حولي فوجدته محقا ، لكني سألته :
- يعني أنك ستلقي هذه اللآلئ في اليم مرة أخرى ؟
- طبعا... بعد أن أكون قد استمتعت بالنظر إليها ."
أوجست في نفسي خيفة من كلام الرجل.." لاشك أنه مجنون . أيعقل هذا ؟ يحصل على كنز ثم يلقيه في البحر؟" ولاحظ الآخر وجومي فقال ضاحكا :
- لا شك أنك تخالني مجنونا ، أليس كذلك ؟
لم أرد ولكن سكوتي كان أبلغ من أي جواب . عندئذ جلس الشيخ على الرمل ونظر مليا نحو الأفق قبل أن يقول متنهدا:
- اسمع يابني ولا تدع الخوف أو الوساوس تسيطر عليك ، فأنا أريدك شجاعا و أرجو أن تصدق ما سوف أقوله لك رغم أن حكايتي قد تبدو لك غريبة.. فأنا غادرت هذه الدنيا منذ زمن بعيد...غرق مركبنا وسط عاصفة هوجاء ، ولم ينج من ركابه أحد سواي . لكني أفقت لا لأجد نفسي على اليابسة ولا على مركب... من حقك أن تعجب ، فما حدث لي لا تصدقه أذن ولا يستوعبه عقل...
وبعد لحظة صمت استطرد قائلا :
- حين استرجعت وعيي ، وجدت نفسي في أعماق البحر ، تحيط بي حوريات من أجمل ما خلق ربنا تتقدمهن ملكتهن التي عرفت منها أنني نجوت من الموت بأعجوبة لأن التيار الجارف للأمواج لم يبتلعني كما ابتلع رفاقي ، وهذا ما ساعد بعض الحوريات اللواتي كن ، صدفة ، مارات من هناك ولفت نظرهن جسدي العائم . ثم أخبرتني أنني لم يعد بإمكاني العيش فوق اليابسة لأن جسدي انتفت عنه كل خصائص أهل الأرض . لقد قالت لي بالحرف :" أذا اشتقت إلى هناك ، فما عليك إلا الصعود ليلا ، واحذر أن يراك أحد أو تبوح بسرك لأي كان ، وإلا كانت نهايتك المحتومة ... هذه كنوز في ملكك ، خذها أنى شئت ولو على الشاطئ ، فهي كفيلة بحماية جسدك من كل الأدران التي تملأ الرمال ."
سكت الشيخ هنيهة ثم تنحنح وأردف :
- حقا ، لحد أحاطتني الحوريات بعطف لا مثيل له وأحببتهن كثيرا، لكن حنيني لموطني الأصلي صار يؤرقني ، وشوقي لأهلي يقض مضجعي ،فلم أعد أبالي بما قد يصيبني .
كان العجوز يتكلم وأنا أنظر إليه مبهورا بسرده ، حتى أني لم أنتبه إليه وهو يتوقف عن الكلام إلا حين هب واقفا فقلت :
- ربما كنت تحلم... فها أنت حي ترزق رغم صعودك إلى البر.
فتنهد وقال وهو ينظر من جديد إلى الأفق الذي صار وردي اللون :
- لقد لاح الفجر... علي بالذهاب .
- لكن ... ألن تعود ؟
- مع السلامة... لقد شفيت غليل شوقي من الأرض والأهل ، وسوف أرحل راضيا ."
تسمرت رجلاي في الرمال وغلبني الذهول ، فلم أتمكن من اللحاق بالرجل الذي تلاشى في ضباب كثيف غطى الشاطئ فجأة ولم أعد أميز شيئا. ارتعدت فرائصي رعبا وتيقنت أني فريسة كابوس أو مس ، فانطلقت أعدو نحو المنزل كأن أرواحا تطاردني وتجد في اللحاق بي ، واندسست في فراشي متدثرا باللحاف ، ثم ما لبثت أن استسلمت للنوم . ولم أستيقظ حتى لامست أشعة الشمس وجنتي وهي تتسلل عبر النافذة العريضة لتنفث نورا وهاجا ودفئا مرطبا بنسيم البحر المنعش . هببت واقفا مغمض العينين ريثما أتعود على ضوء النهار. ثم ، شيئا فشيئا، تفتحت جفناي لتبدو لي زرقة السماء وتلألؤ مياه البحر الصافية . غمرني شعور طاغ بالبهجة والحبور وانطلقت منحدرا التلة . المكان لا يزال خاليا . نظرت حوالي فلاح لي أبي يشير إلي ، فجريت أنط في كل خطوة .
- ما أجمل أن يتناول المرء فطوره هكذا .
ابتسمت أمي وهي تصب الحليب وقالت :
- أين منك ذاك الصباح الباكر ؟
أدرت ببصري في أنحاء الشاطئ المترامي الأطراف وأجبت شاردا:
- ما أحوج هذا المكان للتنظيف .
- إذن... همتك يا رجل ، ولا تنس أن تنظف وجهك أيضا.
ضحكت من تلميح أبي وقلت :
- طبعا يا أبي ... ألم ندرس أن النظافة كنز ؟
- كنز ؟ أنا أعرف أنها من الإيمان ، ولكنك لم تخطئ .
- من يدري ؟... كم من كنز قد تكون وارته هذه الرمال .
تبادل أبواي النظرات مبتسمين ثم نظرا إلي وأنا أنزع عني منامتي فسألتني أمي :
- ماذا ستفعل أيها المجنون ؟
لكنها لم تكد تتم السؤال حتى كنت أعدو نحو الماء وأغطس . كم هو بارد . لكنه صاف كالبلور . أشرت إلى أمي وأنا أرتعش فلوت رأسها . إنها غاضبة مني ، لكني مطمئن إلى أن أبي سيقنعها بعدم خطورة ما أقدمت عليه.
جففت جسدي وجلست أتناول فطوري بشهية . ثم ما لبثت أن نهضت وأنا أمسح شفتي .
- إلى أين ؟
- سأبحث عن كيس أضع فيه تلك الأشياء الفظيعة... انظرا هناك... بقايا بطيخ... خرق رضيع... علب سردين ؟
سهمت أمي وهي تتمتم :
- مثل جده رحمه الله... كان مهووسا بالنظافة .
- جدي ؟... حقا ؟
- نعم... وكان يعشق البحر ، لكن البحر لم يرحمه .
قالت ذلك بصوت متهدج ، فنظر إليها أبي بعتاب وقال :
- لا تفتئين تذكري ذلك الحادث المشؤوم .
توقفت عن عملي وسألت :
- كيف ؟ وماذا حدث له ؟
- الله يرحمه – أجابت أمي متنهدة- غرق مركبه ولم يعثر له على أثر .
- وأين كان ذلك... ومتى ؟
- هنا... كان هذا الشاطئ دنياه والبحر رفيقه ومصدر رزقه... حدث ذلك قبل مجيئك إلى هذه الدنيا .
- هل كان يحب الصدف ؟
التفتت إلي مستغربة ثم سألت وهي تلتفت إلى أبي بارتياب :
- من قال لك ذلك ؟ لعله أبوك ؟
- أنا ؟ - قال أبي منكرا – لم أحدثه قط بذلك .
- ألم أقل لك إنه صورة من جده ؟
ابتسم أبي وقال محاولا إضفاء جو من المرح :
- هيه ... أين سرحت أنت الآخر ؟
- أنا ؟... لا شيء... لقد أخذني سحر البحر .
تغيرت سحنة أمي فابتعدت قليلا لألتقط بعض أعقاب السجائر وقشور البندق وتناهى إلي صوتها :
- إسمع ... لقد نطق الولد بأشياء غريبة... خلت نفسي وأنا أسمعها ، مع أبي الله يرحمه... كنز ؟ صدف ؟ سحر البحر ؟
- أنت متوترة ، لكني أعذرك ... لقد حاولت مرارا تغيير مكان الاصطياف ، لكنك أبيت . هذا الشاطئ يثير أشجانك .
- لكنه يقربني من أبي – قالت بحدة ثم أجهشت بالبكاء – ليته دفن فأزور قبره مثل سائر الناس .
- لا عليك ... يرحمه الله ... لكن ما عسانا نفعل و الحادث مر عليه أكثر من عشرين سنة ؟
- ولو... ذكراه لا زالت حية في قلبي وفكري ... كأنه اختفى بالأمس فقط .
- حسنا... حاولي ألا يتأثر الولد بما قلته ، فلربما نالت منه الوساوس ... هاهو قادم... امسحي دمعك .
في بحار تئن فيها الرياح //// ضاع فيها المجداف والملاح
في هذه المرة انتفضت أمي من مكانها ، وكبحت جماح نفسها كي لا تصرخ ، فهمست باكية :
- ألا تسمع ؟ نفس الترنيمة... نفس الأغنية . كأني به يشير إلي من زورقه وهو يدندن بأغنيته المفضلة... ما معنى كل هذا ؟
أطرق أبي لا يحير جوابا ، وتسمرت أنا في مكاني مذهولا وكأني أفيق من حلم ، بل وأعود لأنغمس في حلم أفقت منه منذ بضع ساعات فقط . في البداية لم أكن أعير ملاحظات أمي وتساؤلاتها أدنى اهتمام ، بل كنت أشعر بالزهو لكوني موضوع الحديث . وكم من مرة حاولت عصر ذاكرتي لآفرغ كل ما رأيته سحر تلك الليلة ، دون جدوى . ثم إن قرار أسرتي المفاجئ بالرحيل لم يمكنني من تركيز ذهني . فقد ألمت بأمي وعكة صحية و سرعان ما شدت الأحمال من جديد لنأخذ طريق العودة بأمر من أبي ، بل وبإلحاح من أمي التي صار كلامها هذيانا . أما أنا فقد فضلت الصمت على البوح بما يعتلج في صدري من رغبة في البقاء ، واكتفيت بالرنو إلى وجه أمي الساهمة وهي تتطلع عبر نافذة الناقلة ، من أعلى الجبل ، إلى القرية الوديعة ، المنبطحة هناك في الأسفل ، وتمتمت قائلا :
حين أكبر ، سوف أعود ، وأقتني مركبا ، وأعيش هنا طول عمري ، ولن أغادر المكان ماحييت...
كان إحساسي أننا لن نعود للاصطياف هنا مرة أخري ، بل كان هذا شعور الجميع ، باستثناء أخي الصغير طبعا . فقد كان طيلة الرحلة يضحك ببراءة مهونا على أمي كآبتها . أما أنا فقد عدت لأترنم من جديد بالبيت الذي همت به غير آبه لدمع أمي المنتحبة في صمت .[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|